واقترب منها وقبل كتفها في حنان، وهو يهمس في أذنها: «أنا عارف يا هند إيه ...» ثم نظر في عينيها، وهو يسألها باسما ككل مرة: «وللا ايه؟» وهو يعرف أنها لن تنسى أن تقول له: «إيه.» وفعلا كان. وضحكا معا للمرة الألف على النكتة، حتى في هذه المواقف الخطيرة، لا تنسى هي هذه النكتة الصغيرة.
الدوسيه الضائع
دقت الساعة التاسعة صباحا، حينما كان الدكتور خالد يسير في الممر الطويل الضيق المظلم، الذي يقود إلى حجرة الأرشيف، وبين شفتيه سيجارة لم يشعلها بعد، وفي نظراته كآبة حبيسة، لم تجد طريقا إلى الانطلاق.
وأخرج من جيبه علبة الكبريت، وأشعل السيجارة ثم ألقى بعود الكبريت على الأرض الأسفلت، وهو يلعن هذا الممر المظلم الكئيب، الذي قاده إليه الحظ السيئ. منذ ثلاثة شهور، يأتي صباح كل يوم، ويتحسس بقدميه درجات السلم المتهدمة، حتى يصل إلى الممر الضيق الطويل، كأنه سرداب في بطن الأرض، ويرى «الدولاب» المعدني الذي يرتكن على الحائط اليمين، والنضد الخشبي الذي وضع إلى اليسار، ثم الباب المغلق إلى اليسار أيضا، ولا يعرف لماذا هو مغلق وإلى أي سرداب يقود.
وأخيرا يأتي الباب المفتوح عن اليمين، وعليه لوحة نحاسية صغيرة، كتب عليها «الأرشيف».
وتنهد الدكتور خالد وهو يدخل من الباب الصغير، إلى حجرة مظلمة رطبة، يبتلع نصف مساحتها تقريبا دولاب خشبي كبير، له أرفف كثيرة، تختفي تحت عدد لا يحصى من الدوسيهات، ويشغل النصف الآخر مكتب خشبي كبير، أسود اللون، ينوء تحت أكوام من الدوسيهات، ومن خلف هذه الأكوام يظهر رأس محفوظ أفندي، موظف الأرشيف بنظارته السميكة البيضاء وشعره الأبيض، يرتكن على جسد نحيل، يغرق في بدلة واسعة قديمة، كأنها صنعت له منذ عشرين أو ثلاثين عاما، حينما كان شابا ممتلئ الجسد، لم تنحل وبره السنون بعد.
وكان محفوظ أفندي كعادته يكتب شيئا حينما دخل الدكتور خالد. انقضت ثلاثة شهور بأكملها، والدكتور خالد يأتي إلى هذه الحجرة، صباح كل يوم، ولا يرى محفوظ أفندي، إلا وهو جالس يكتب، ونظارته البيضاء السميكة تتدلى على أرنبة أنفه، فيخيل إليك في تلك اللحظة، أنه لا يرى شيئا إلا أنفه، لكنه حينما يرفع رأسه، ويبربش بعينيه في الفضاء، ثم يقول بصوته الرفيع: أهلا دكتور خالد اتفضل؛ تعرف في هذا الوقت أنه قد يرى شيئا آخر.
وجلس الدكتور خالد كما تعود أن يجلس على الكرسي الخشبي الوحيد في الحجرة، باستثناء كرسي محفوظ أفندي بالطبع؛ إذ له ثلاثة أرجل فقط، تركه محفوظ أفندي جانبا لمن تسوقه المقادير لينزل ضيفا عليه.
وأسند الدكتور خالد الكرسي إلى الحائط، وجلس عليه بمهارة اكتسبها بعد خبرة ثلاثة أشهر، وقال لمحفوظ أفندي جملته التقليدية: «صباح الخير يا محفوظ أفندي، خير إن شاء الله، يا ترى لقيت الدوسيه؟» وتململ محفوظ أفندي في كرسيه، وهو يفرك يديه، وقال بصوته الرفيع: أبدا والله يا دكتور خالد، أنا مش عارف الدوسيه ده راح فين، كل يوم أفرز الدوسيهات اللي سيادتك شايفها دي، واللي في الدولاب الكبير ده، والدوسيه بتاعك مش باين أبدا، حاجة غريبة! زي ما يكون عفريت خده، بسم الله الرحمن الرحيم، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وأخرج محفوظ أفندي مسبحة صفراء من أحد أدراج مكتبه، وأخذ يبسمل على كل حبة من حباتها، ويصلي على النبي، ثم انتهى منها بعد دقائق، وأعادها في خشوع إلى الدرج، والتفت إلى الدكتور خالد وقال: «أنا رأيي يا بيه انك تيجي هنا بكرة، يمكن ربنا يكون سهل واعتر على الدوسيه هنا وللا هنا.»
وقال الدكتور خالد، وهو ينفث دخان سيجارته في أسى: «لا بكرة ولا بعده، خلاص ما فيش فايدة.»
অজানা পৃষ্ঠা