فابتهج الشاب وقال: أشكرك يا أخي .. وأرجو ألا تتوانى، فعدني أن نذهب غدا إلى مقابلة والدها، ولعلي لا أصدم هناك بما يخيب أملي. - حسن .. ولكن ما الداعي إلى هذه السرعة؟ - لا بد من السرعة؛ فليس أمامي سوى شهور قلائل ينبغي أن يتم في أثنائها الاتفاق والاستعداد للسفر إلى إنجلترا.
ثم ضحك الشاب وقال وهو يهم بالوقوف: ألا ترى أني سأمضي شهر العسل خارج القطر كالوجهاء؟
فابتسم الرجل وحياه الشاب وذهب إلى داخل البيت.
وتبعته عيناه حتى غيبه الباب، ثم عادتا تنظران إلى الدنيا المحيطة نظرة ذاهلة لا تعي التفاصيل، فأحس إحساسا غامضا بالسمرة التي أخذت تشوب الكون والسكون الساري في مفاصله، وضاق بجلسته فقام يتمشى في الحديقة الصغيرة بائسا محزونا مختنقا، ودار دورتين ثم رجع إلى الأريكة وارتمى عليها بشيء من العنف كأنه يسلم إليها حظه التعس لا جسمه المنهوك.
ووجد في تلك اللحظة رغبة خفية قاهرة في الفرار إلى الماضي .. فطار خياله في الزمان عشرين عاما في غمضة عين إلى تلك الفترة من العمر التي تبدو فيها الحياة كقطعة من العجين في يد الخيال يعبث بها كما يشاء، ويصنع منها ما يملي عليه هواه بعيدا عن قساوة الواقع. في ذلك الوقت البعيد كان هذا الرجل الممتلئ رزانة وهما وحزنا؛ صبيا مرحا مدللا يفيض قلبه بالأفراح والآمال؛ وقد ميزته الطبيعة منذ رأى النور، فكان أول من خفق له قلب والديه بالأبوة والأمومة من الأبناء، ثم كان من بعد ذلك غلاما مجتهدا تضيء حياته المدرسية استعدادات عالية ومواهب نامية تبشر بالنبوغ والتفوق والمستقبل البسام، ولكن الحقيقة أن ما خفي من فضائله كان أعظم، وأنه كان ينتظر الفرصة فقط للظهور في أبهي الحلل، وقد جاءت هذه الفرصة ولكنها لم تكن وا أسفاه سوى وفاة والده.
ترك الوالد المتوفى أسرة بائسة مكونة من أرملة وأربعة أبناء أكبرهم - عبد الرحمن - في مستهل الشباب، وأربعة جنيهات معاشا. وهكذا تصدت الحياة للشاب السعيد الواسع الآمال بوجه عبوس، استأدته الواجبات، وحتمت عليه أن يخلع رداء الطفولة ليحمل على عاتقه اللدن أثقل التبعات .. وكان عليه قبل كل شيء أن يتناسى أطماعه، ويدرج في الأكفان آماله، ويقبر مواهبه لكي يهيئ للأسرة حياة سعيدة، ويوليها بعض العناية التي كان يوليها إياها الأب الراحل، ورضي كارها بوظيفة بائسة لم يتصور قط أن تنتهي إليها آماله.
كانت تلك الأيام في بدئها مؤلمة شديدة المرارة تبعث في النفس الأسى والحسرة واليأس، ولكنها لم تبلغ به قط حد الثورة أو الغضب الهائل. لماذا؟ كان قلبه كبيرا ينضح بالحنان والأخوة، فوهبه أمه وإخوته، وهانت لذلك تعاسته، وخففت الأيام من وقع الخيبة في نفسه، وتحددت في قلبه آمال أخرى لا تتعلق بمستقبله هو، ولكن بسعادة إخوته ومستقبلهم، وذاق سعادة جديدة هي السعادة التي يحدثها بذل النفس والعمل من أجل سعادة الغير؛ وبذلك شغل الشاب مكان أبيه، ودخل في طور الرجولة الحق قبل الأوان.
وذكر هنا كيف أنه كان يشعر بالفراغ الأليم رغم امتلاء حياته بالآمال والأعمال، ولكنه كان ينجح دائما في إبعاد فكرة الزواج من قلبه حبا في أسرته وإيثارا لإخوته، واستوصى بالصبر، ولكن أثبتت له الأيام أن إخوته أقل صبرا وأعنى بنفوسهم منه، وربما كان للزمن في ذلك شأن وأي شأن، فما كاد أكبرهم يتخرج ضابطا في مدرسة البوليس حتى تزوج وترك العبء له وحده، وتبعه بعد قليل أخوه الثاني المهندس؛ فاضطر إلى البقاء أعزب حتى هذه السن.
ثم ذكر كيف أنه كاد يختار أخيرا ما يكمل به حياته، وكيف جاء الاختيار بعيدا عن التوفيق، وكيف أتته الطعنة النجلاء من يد طالما آثرها بالحب والعطف، وقد طعنه وهو يضحك ضحكة مشرقة بالأمل والسعادة كأنه ذاك الحكيم الذي يترنم بأنشودة السلام وقدمه تقتل عشرات الأحياء التي لا تراها العين.
وفيما هو في أحلامه إذ سمع صوتا ينادي قائلا: عبده، لماذا تبقى في الظلام؟
অজানা পৃষ্ঠা