وكأن السؤال أثار مكظوم شجون الغلام فاندفعت الدموع إلى مآقيه، قال وهو ينتحب: تيزة .. ضربتني، وتشاجرت مع بابا، وما زالا يتشاجران.
فسأله باقتضاب: من تيزة هذه؟ - امرأة بابا.
فدلته هاتان الكلمتان على معان كثيرة بغير حاجة إلى مزيد من السؤال. على أن الغلام تطوع من نفسه فسرد قصته الصغيرة الحزينة على مدرسه، قال: إن والدته ماتت لعهد ولادته، وأن أباه تزوج من تيزة بعد ذلك بعام أو عامين، وإنه يعيش بمفرده تحت رعايتها بعد أن تزوج أخواته الأربع في الأعوام الثمانية التي أعقبت وفاة الأم، وإن أسباب الخلاف لا تنتهي بين تيزة وأبيه، فلن يزالا يصطدمان ويشتجران، وأقسم أن الحق دائما مع أبيه، وأنه لا يشتبك معها حتى يضطر إلى ذلك اضطرارا، ثم لا يلبث أن يكف عنها يائسا قانطا، فلا تسكت هي عن الغضب والحنق والسباب. وأصغى المدرس إلى تلميذه بغير اهتمام ظاهر، وواساه بكلمة تافهة، ثم تناول الكراسة وبدأ عمله، ولم يطرقا الحديث مرة أخرى، ولا عادا إليه فيما أعقب ذلك من الأيام، حتى كانت ساعة درس فاقتحمت عليهما الغرفة بغير استئذان شابة حسناء في ريعان الشباب، فوضع الأستاذ الكتاب على المكتب وقام واقفا في تأدب واحترام، وألقى على الزائرة نظرة حيية، فراعه ما رأى - لا من حسنها وشبابها فحسب - ولكن من انطلاقها على سجيتها وعدم تكلفها، الأمر الذي أخرجها - بغير قصد طبعا - عن الاحتشام، فكانت ترتدي «روب دي شامبر» من نسج حرير رقيق يكشف عن ذراعيها ونصفي ساقيها وأعلى الصدر. وكان الأستاذ يظن أنه لا يجوز لشابة أن تبدو هكذا لعيني رجل غريب؛ ولذلك غلبه الارتباك والاستحياء، وحدس أنها إحدى أخوات تلميذه المتزوجات، وتأكد حدسه حين رآها تمد يدها في رفق إلى ذقن توتو تداعبه، ثم جلست باطمئنان تجاه المدرس وهي تخاطبه قائلة: تفضل بالجلوس .. هل يعجبك عمل توتو؟
فجلس أنيس وهو يقول: توتو مجتهد، وقد تقدم في هذين الأسبوعين في الآجرومية والمطالعة، ولا ينقصه إلا المثابرة على حفظ الكلمات.
فابتسمت ابتسامة حلوة وطلبت إليه أن يستمر في عمله، فعلم أنها ترغب في أن تشهد درسه، فلم ير بدا من متابعة الدرس متلعثما برما، واختلس منها نظرة فوجدها تنظر إليه بإمعان، فاعتقد أنها تتابع كلامه، فوجه انتباهه إلى ما يقول ليخرج صحيحا عذبا، ومرة أخرى وقع نظره على جيب الروب وقد انفرج عن أعلى الصدر فراغ بصره وارتد في اضطراب وذعر.
ولم تمكث الشابة طويلا فحيته وانصرفت، فشيعها بنظرة غريبة وقال لتوتو مستفهما: أهي أختك؟
فهز الغلام رأسه سلبا وقال بجفاء: تيزة.
فتملكت الشاب الدهشة وتساءل متعجبا: تيزة؟!
فنظر الغلام إليه بإنكار وقال: نعم.
فتمالك أعصابه ولم ينبس بكلمة، ولكنه لبث مشغولا دائم التفكير، وفي أثناء عودته إلى مسكنه بشارع ماهر بالجيزة استدعى صورة والد توتو - كما رآه يوم قدم إليه - ببدنه المترهل وكرشه الكبير ورأسه الصغير المستدير الأصلع قد علا المشيب قذاله، وقلق المنظار على أنفه الغليظ المجدور؛ ثم تمتم قائلا: «الآن فهمت كل شيء .. فرضوان بك حكمدار في المعاش جاوز الستين، وزوجته لا تعدو الرابعة والعشرين، وتوتو غلام بائس تضافرت عليه أسباب التنغيص الظاهرة والخفية .. ولكن لماذا تلطفت بالغلام أمامي؟! ولم يعتور أفكاره سوء؛ لأن أنيس كان طالبا - وإن كان أستاذا لتوتو - طاهر النفس. على أنه تأثر بحسنها وشبابها وخلاعتها غاية التأثر.
অজানা পৃষ্ঠা