نعم .. لأنك كنت دائما تؤكد لي أنك تحب اللحم العجالي والبقري .. وأنت تحتقر الوزن «الهايف»! .. وها أنت ذا تتملص من تبعاتك كما تفعل وأنت وزير! - ما شاء الله! .. هذا قول أعدائي السياسيين، وأرى أني أجحد في بيتي كما جحدت من قبل في ميدان السياسة الملعون، وأني خسرت الدنيا جميعا. - بل ربحت شيئا مؤكدا. - وما هو؟ - أنك صاحب مقام رفيع! - يا هانم أنت في سكرك كالحشاشين، والحق أنك تستأهلين رتبة .. ولكن لا أدري أي رتبة تناسبك .. فلأفكر قليلا .. ما رأيك في لقب الصدر الأعظم؟!
وهنا قطع حديث الزوجين طرق عنيف على باب القصر الخارجي ، وشق الصمت المخيم صوت منكر يصيح: يا بواب .. يا عم محمد.
فسكت الزوجان دهشة واعتدلا قليلا في جلستهما وأرهفا السمع، وخف السائق مسرعا إلى الباب ليرى ما هناك. •••
كان الشرطي المكلف بالحراسة الليلية يسير الهوينى في شارع العباس، ولما بلغ قصر الباشا سار بحذائه وعرج ملازما للسور إلى شارع الإلهامي، وانتبه من سهوه إلى حركة في أعلى السور، فنظر إلى مصدرها فرأى رجلا يقفز من الحائط ويسقط على بعد ذراع منه، وقد تولاه الذعر لظهور الشرطي المفاجئ، فتسمرت قدماه بالأرض .. وأسرع الحارس إليه وقبض على ذراعه بقسوة وهو يصيح به: يا ابن الملعون، أتحسب البلد بلا حكومة؟
وكان المقبوض عليه أفنديا أنيق الملبس، كشف نور المصباح الخافت في وجهه عن ملامح وديعة ونظرة أدنى إلى الرقة والجبن منها إلى الشر أو التحدي، ففحصه الشرطي بنظرة شديدة وهو يتحسس جيوبه، وقال له متهكما: إخالك لم تسرق سوى هذه البذلة!
فقال الشاب وهو يلهث من الاضطراب والخوف. - اتركني يا حضرة الشاويش، أنا لست لصا كما تتوهم. - عفارم عليك .. فمن تكون يا مولانا؟ - أقسم بالله العظيم أني لست لصا .. ولم أسرق في حياتي قط، وهاك جيوبي فتشها كما تشاء. - آه .. هل كنت في القصر زائرا إذن؟ - أنا .. من أهل القصر؟ - فهمت يا سيدي فهمت .. أنت ابن الباشا بلا شك، وما قفزك من السور إلا رياضة بدنية كنت تقوم بها في هذه الساعة المتأخرة من الليل! - بل أردت أن أخرج بسرعة. - وما الذي يدعو إلى الخروج بعد منتصف الليل؟ - سفر لا يقبل التأجيل. - أوليس للقصر باب؟ - لم أجد وقتا لإيقاظ البواب. - يا مغيث .. هذا حقا عصر السرعة .. وليس ببعيد أن أرى غدا من يقفز من نافذة الطابق الثالث أو الرابع؛ لأنه ليس لديه متسع من الوقت يهبط فيه السلم .. عوفيت يا سيدي عوفيت. - أراك لا تصدقني يا حضرة الشاويش .. أؤكد لك أني من أهل القصر .. غير أني استسهلت أن أقفز على هذا السور الصغير. - معلوم .. معلوم .. وليس الذنب ذنبك .. ولكن ذنب من يحتم تعليم الألعاب الرياضية والتدريب العسكري .. على أني أجد نفسي مضطرا إلى تأخيرك يوما أو عدة أيام وربما عدة أشهر.
قال ذلك ودفعه أمامه .. ولكن الشاب ألصق قدميه بالأرض وقال يتوسل: لست لصا .. لست لصا والله .. أنا من أهل القصر. - إذا كان ما تقوله حقا فما عليك إلا أن تدخل القصر مرة ثانية فأصدقك. - حسن، اترك ذراعي وسترى. - ادخل البيت من بابه .. تعال.
وساقه إلى باب القصر، وطرقه وهو ينادي البواب.
وأتى السائق على صوته مسرعا وأيقظ البواب، فقام الرجل ساخطا وفتح الباب، وأحدث ظهور الشرطي والمقبوض عليه دهشتهما، ونظرا إليهما متسائلين، فقال الشرطي: قبضت على هذا الشاب وهو يقفز من سور القصر، فادعى أنه من أهل الدار، فهل تعرفانه؟
فأضاء البواب المصباح الكهربائي، ونظر السائق إلى وجه الشاب الشاحب وقال مسرعا: هذه هي المرة الأولى التي تقع عليه عيناي.
অজানা পৃষ্ঠা