وألقى نظرة أخيرة على الوجوه الأخرى فلم يعرف عنها شيئا إلا الدكتور المعروف «حنا عبد السيد»، وإلا هذا الذي يتوسط الصف الأول، كان من أنبغ التلاميذ جميعا، وكان أول الابتدائية ثم أول البكالوريا، والتحق بمدرسة الحقوق كبير الهمة سخي المواهب، ولكنه أصيب أول عهده بداء الصدر فاضطر إلى ترك المدرسة والكف عن التحصيل، واشتغل بعد ذلك بعامين كاتبا في الصحة .. فلا يقل حظه شذوذا عن حظ الوزير نفسه.
نال كل منهم نصيبه وخضع لحكم حظه وسعيه. كانت تجمع بينهم جدران واحدة، لا يكاد يتميز وراءها إنسان إلا بجده وخلقه، ففرقت بينهم الحياة، فرفعت وخفضت، وأحيت وأماتت، وأذاقت الفقر، ومتعت بكرسي الوزارة، وكل بما قسم له غير راض ولا قانع.
ونظر جلال أفندي عند ذاك في الساعة فوجدها تدور في الرابعة، فعلم أن موعد الصغار آن واقترب، وأنهم عما قليل يملئون البيت حياة وقلبه نورا، فرمي المجلة بعيدا وطرد من عقله الوسواس ليستقبلهم أجمل استقبال، وقال لنفسه متعزيا: من الخطأ أن يفكر الإنسان في شئون الناس ما دام هذا لا يورث إلا الضيق، وحسبي أن معاليه قال لي «اطمئن».
إصلاح القبور
قضى من بيده القضاء أن يكون ليل 16 أغسطس تاريخا فاصلا تهتز له جوانحها ويتصدع به فؤادها، فلم يعد مجرد وحدة من الزمان الذي لا ينتهي، ولكن شيئا من ذكريات سود يجمع بينها غشاء من الحزن واللوعة، وشاهد ذاك الليل صدرا ضعيفا يعلو وينخفض ورأس صاحبه مسندا إلى صدرها، وسمع حشرجة ما يزال صداها يمزق مسمعيها، وفي لحظة رهيبة كأنما جفت فيها ينابيع الرحمة في السموات والأرض صارت أرملة في نضارة الصبا وشرخ الشباب، فأغمضت عينان ألفت أن تطالع في نظرتهما الحنان والمودة، وسكت لسان جعل يناغيها عاما وبضع عام المناغاة الحلوة السعيدة، ويدللها فيناديها نعومة مرة ونعمات أخرى، وجمد الساعدان اللذان كانا يضمانها إلى مرتع الوداد والهوى. انتهي تاريخ وبدأ تاريخ على عجز منها ورغم؛ لأنه كان قد قدر لها أن تلقي نصيبها الكثيف من الحزن والبكاء والحسرة، وأن تجلل شبابها النضير بسواد الحداد أو سواد اليأس، ثم هجرت البيت الذي كانت سيدته وربته فأخليت لها حجرة وعاشت عيشة لا تجد فيها أسباب الترحيب إلا ما تقضي به تقاليد المجاملة الظاهرية.
استوحشت دنيا الأحياء، ولاحت لها معالمها غارقة في ظلال الكآبة والقنوط، فأغلقت دونها نفسها، وولت عنها بقلب يأبى حبه أن يستسلم للموت، ورمت بناظريها بعيدا إلى حيث ترقد القبور في سكون الأبدية ووحشة الفناء؛ فعند ذاك القبر سحت عيناها دمعا غزيرا ساخنا فروت جفاف قلبها ورطبت حرارته، ولكن أي قبر كان ذلك القبر؟
قبرا قديما انتبذ ركنا من فناء واسع موحش خال، وعلاه البلى فتهدم «شاهده» وتشقق بنيانه .. وا أسفاه كان المرحوم في نضرة الشباب فلم يعن يوما بهذا القبر الذي لم تمد له يد بإصلاح ما يقرب من نصف قرن من الزمان، حتي تواري بين ركامه شبيبة ناضرة في حفرة شائخة .. فكانت إذا رأت الفناء المعفر والشاهد المهدم راحت زائغة البصر مكلومة الفؤاد، وأفحمت في البكاء. ووجدها التربي يوما تندب القبر المهدم وتبكي بكاء مرا فانتظر حتى رآها تهم بالانصراف، فدنا منها وقال لها برقة ولباقة: ألا ترين يا سيدتي أن هذا الفناء مترامي الأطراف، فهلا بعت نصفه أو بعته كله وجددت بماله القبر وأصلحت حجرته؟
واستهواها قوله فأصغت إليه برغبة ولهفة، وقد تفتحت لها سبل الأمل، ولكنها ذكرت أن مكافأة زوجها لم تصرف بعد، فما الداعي إلى التفريط في الفناء؟ .. كلا، لتبق المقبرة على ما هي عليه، وحين تأخذ المكافأة - ولو بعد ستة أشهر كما قيل لها - تجدد القبر وتصلح الفناء وتغرس في أرضه شجيرات يانعة تستدر الرحمة وتطرد الوحشة. وعادت يومئذ وقد تخايل لعينيها في الأفق حلم من أحلام العزاء؛ فغدا عندما يجدد القبر وتطلى الجدران ويفرح المكان بشذا الريحان يتنسم قلبها المحزون نسائم العزاء البارد، وتجد في الأنس بالوفاء سلوى عن وحشة الوجود.
ومضى يوم ويوم وأسبوع فأسبوع وشهر ثم شهر والقبر غايتها وسلوتها وأجمل موعد يتيحه لها الزمان، إلا أنها كانت تتغير - بطبيعة الحال - ككل شيء في الحياة في بادئ الأمر، كانت تبكي ليلا ونهارا، ثم مضت تبكي سحابة النهار وتهدأ بالليل، ثم صارت تبكي كلما خطرت ذكراه على فؤادها الحزين، ثم انشغلت بالحياة طوال الأسبوع، واستأثر بها الحزن كل صباح جمعة. وكانت أول عهدها تمضي إلى المقبرة لا تلوي على شيء فلا ترى من الدنيا شيئا، أما بعد الأشهر الأولى فلم يمنعها الحزن من أن تسير كبقية الخلق بعينين مفتوحتين، وفي ذاك الهدوء النسبي استطاعت أن تري - في ذهابها إلى المقبرة وعودتها منها - رجلا يجلس عادة كل صباح جمعة أمام الفيلا التي تشرف على مبدأ الطريق الصاعد إلى المقابر يرتدي جلبابا ومعطفا، ويقطع الوقت بقراءة الجريدة وتدخين غليونه. كانت تراه دائما بمجلسه هذا؛ فإذا مرت به صعد إليها عينين ثاقبتين وحدجها بنظرة يلوح فيها الاهتمام الشديد. هكذا يستقبلها وهكذا يودعها، ولعله كان يطاردها بنظراته منذ أول عهدها بهذا الطريق الموحش. وعلى أية حال لم يغير من عادته ولا وهنت مثابرته، وبرمت بعينيه، وكرهت تفحصه لها .. لماذا ينظر إليها هكذا .. وهل هو يتابع كل زائرة لهذا الطريق بهذا النظر العنيد .. أيتسلى الرجل بهذا النظر الوقح إلى الثاكلات والأرامل؟ .. إلا أنها وجدت نفسها - بمضي الأيام - كلما شارفت مبدأ الطريق مضطرة إلى تذكره وتمثل نظراته العابرة التي سيلقاها بها .. بل جعلت تتذكره بعد ذلك صباح كل جمعة وهي تتلفع بسوادها وتأخذ أهبتها لمغادرة البيت؛ فقد صار هذا الرجل العنيد وكأنه جزء لا يتجزأ من طريق القبر، ولم ينفعها الغضب ولا أغنى عنها السخط ولا وجدت عن سبيله حولا. ويوما رأته مرتديا فحسبت أنه مزمع المسير إلى بعض شأنه، وأملت ألا تجده عند إيابها، ولكنه كان بمجلسه حين عودتها كأنه ينتظر في صبر وأناة، وما كادت تجاوزه بخطوات حتى نهض قائما وتبعها متمهلا .. وحسبت أنها أخطأت الظن ولكنه انعطف وراءها إلى شارع البراد .. ثم إلى شارع الجميل .. ودخلت البيت مضطربة لاهثة، فمر به في خطاه الوئيدة وألقى عليه نظرة جامعة .. تبا له .. ماذا يبغي من وقاحته هذه .. أما يحترم السواد الحزين الذي يجلل وجهها؟! وفي الزيارة التالية لم تجده بمكانه المعهود! وكانت توعدت وجوده بما شاءت من السخط المكتوم .. فلما لم تجده لم تر بدا من الارتياح والسرور .. لكنها تساءلت: ترى هل اختفى لأن شاغلا قطعه عن رؤيتها أم إنه عدل عن سيرته الأولى؟!
وجاءها شقيقها وزوجه يوما، وكان مضى على تاريخ الوفاة - 16 أغسطس - خمسة أشهر، وقال لها الرجل برقة: أرى أنه ينبغي أن ينتهي هذا الحزن بمشيئة الله.
অজানা পৃষ্ঠা