فابتسمت السيدة وقالت: إذن أصاب ظني!
فقال علي أفندي: إنك يا سيدتي آية في الذكاء.
ولم يأذن الوقت بالاسترسال في الأحاديث؛ إذ دق الجرس معلنا انتهاء الاستراحة، فاضطر علي أفندي أن يستأذن في طلب الانصراف، وقالت السيدة وهي تودعه: أرجو أن تشرف قصري بزيارتك.
فقال وهو ينحني على يدها: لي عظيم الشرف يا سيدتي. - يوم الأربعاء الساعة السابعة مساء .. شارع خمارويه رقم 10 بالزمالك.
وتنهدت المرأة ارتياحا، وظنت أنها نالت أمنية من أعز أمانيها. وكانت مخلوقة سعيدة الحظ كأن الأقدار تتوخى راحتها؛ تزوجت من رجل من رجال مصر القانونيين المعدودين، فتمتعت برجولته، وكفاها الموت شر شيخوخته، وترك لها مالا وجاها واسما عظيما، ولكن ضايقها ظهور منافسة خطيرة لها هي أرملة الدكتور إبراهيم باشا رشدي، يجري ذكر جمالها - مثلها - على الألسن، وتتحدث بثرائها المجتمعات، وقد وضعتهما المصادفات في حي واحد، وأغرت بينهما العداوة والبغضاء؛ فكلتاهما تتمتع بأنوثة ناضجة وجمال فتان وثروة طائلة، وتملك قصرا فخما يتيه على قصور الأمراء. وكانت كل منهما تعتز بنفسها، وتود لو يغلب نورها نور الأخرى، فتنافستا في اقتناء السيارات الثمينة والتحف النادرة والثياب الأنيقة، وتسابقتا في ميدان الظهور تعرضان حسنهما وتنثران حديثهما، واتخذت كل منهما بطانة من كرائم الأسر والآنسات المثقفات. وقد علمت حرم عاصم باشا يوما أن منافستها دعت إلى تأليف جمعية المرأة الحديثة، فلم يرتح لها جانب حتى كونت جمعية تعليم الأميات. وسمعت يوما بأن الأخرى تبرعت بمبلغ كبير من المال مساهمة في إنشاء مدرسة كبيرة، وأن الصحف أثنت عليها جميل الثناء، فأمرت بتشييد جامع كبير في عزبتها، ودعت لالتقاط صوره مصور أكبر مجلة في مصر، وطلبت إليه أن يثني على ورعها وتقواها!
وكان آخر ما نمى إلى مسامعها من أخبار منافستها ما لاكته الألسن من أن الموسيقار المعروف الأستاذ الشربيني قد شغف بها حبا، وأنه لا يفتأ يتردد على قصرها، وأن الدور الذائع الصيت «حبيت يا قلبي»، الذي يتغنى به المصريون جميعا وتهفو إليه نفوسهم؛ لحن بوحي جمالها! وما علمت بهذه الأخبار حتي التهبت نفسها التهابا واحترق قلبها احتراقا، وتلفتت يمنة ويسرة تبحث عن عاشق «شهير» تصير بحبه حديثا ممتعا، وتغدو له وحيا ملهما، فذكرت شاعر مصر محمد نور الدين؛ فهو المصري الوحيد الذي له ما للشربيني من الشهرة والمكانة، وهو أجدر الناس بتخليدها في قصيدة كما خلد الشربيني منافستها في أسطوانة. وفي تلك الأثناء رأت الشاعر مصادفة في التياترو، وكانت تفكر في وسيلة تصل بها إليه، فهل كنا مغالين إذ قلنا إنها نالت أمنية من أعز أمانيها؟ •••
أما علي أفندي جبر، فقد رجع إلى مقعده وهو يلقي على الحاضرين نظرة فاحصة خشية أن يكون الشاعر الأصلي بين النظارة! وقد ساءل نفسه: «ألا يجدر بي أن أفر؟» ولكنه لم يكن جادا في سؤاله؛ لأنه لم يعتد الفرار من ميدان النساء.
ولم يأل جهدا في التأهب والاستعداد ليتقن تمثيل شخصيته الجديدة، فطبع بطاقات باسم محمد نور الدين، ورأى عن حكمة أن يلقي نظرة سطحية على مؤلفات الشاعر؛ فذهب إلى مكتبه وطلب مؤلفاته، فسأله الكتبي: كلها؟
فقال: نعم.
فقال الرجل: الطلب غير ممكن الآن يا أستاذ؛ لأن بعضها نفد، والبعض غير موجود في المكتبة؛ فإذا انتظرت إلى الغد ...
অজানা পৃষ্ঠা