وحاولت أمه «جرترود» وحاول الملك - دون جدوى - أن يسلياه ويذهبا عنه الحزن، وظل لا يرى في القصر إلا في ثياب حالكة السواد حزنا على موت أبيه الملك، ولم يبدل هذا اللون في يوم من الأيام حتى ولا في اليوم الذى تزوجت فيه والدته مجاملة لها، ولم يستطع أحد أن يقنعه بالمشاركة في حفلات ذلك اليوم الشائن في نظره ولا في مسراته.
وكان أشد ما يكربه ما خامره من الشك في موت أبيه، وقد قال «كلوديوس» إنه مات من لدغة أفعى، ولكن «هملت» الشاب الفطن كان يظن أن هذه الأفعى لم تكن إلا «كلوديوس» نفسه، وأن عمه قد قتله ليرث ملكه، وأن الأفعى التى لدغت أباه تتربع الآن على عرشه.
وتحير «هملت» في أمره فلم يدر ما هو نصيب هذا الظن من الصواب أو الخطأ، أو ما يقول في أمر والدته، فهل كانت مطلعة على سر هذا القتل؟ وهل حدث برضاها أو علمها أو بعدم رضاها وعلمها؟ هذه هى الظنون التى فتئت تقلق بال «هملت» وتنغص عليه حياته.
وترامت إلى «هملت» إشاعة فحواها أن بعض الجنود شاهدوا في أثناء حراستهم في منتصف الليل طيفا شبيها كل الشبه بأبيه الملك المتوفى، واقفا على الطوار أمام القصر ليلتين متواليتين أو ثلاث ليال متوالية. وقالوا: إن الطيف كان في كل مرة يأتى مدرعا من قمة رأسه إلى أخمصي قدميه كما كان يفعل الملك، ولم يختلف أحد ممن رأوه، ومن بينهم «هوراشيو» (Horatio) - صديق «هملت» الحميم - عن سائر زملائه في وصف هيئته أو ساعة مجيئه، فقالوا: إنه كان يقبل عليهم عندما تدق الساعة الثانية عشرة، وإنه كان يبدو شاحب اللون ينم وجهه عن حزن أكثر مما ينم عن غضب، وكانت لحيته مربدة سوداء تتخللها شعرات فضية كما كانوا يرونها في حياته، وقالوا إنهم لما خاطبوا الطيف لم يرد عليهم، وخيل إليهم مرة أنه رفع رأسه وتحرك حركة كأنه يريد أن يخاطبهم، ولكن ديك الصباح صاح في تلك اللحظة فتراجع الطيف مسرعا واختفى عن أنظارهم.
ودهش الأمير الشاب من هذه القصة التى لم يكن فيها شيء من التناقض يحمله على إنكارها، واعتقد أن الطيف الذي رأوه طيف أبيه، واعتزم أن يشترك مع الجند في الحراسة في تلك الليلة حتى تتاح له فرصة رؤيته، وقال في نفسه: «إن الطيف لم يجئ عبثا، وإنما جاء لأن لديه سرا يريد أن يفضي به، وإنه سوف يتحدث به إلي وإن ظل صامتا حتى ذلك الوقت»، وأخذ يترقب مجيء الليل وهو على أحر من الجمر.
فلما جن الليل وقف مع «هوراشيو» وحارس آخر يدعى «مرسلس» (Mercellus)
على الطوار الذي اعتاد الطيف أن يمشي عليه، الليلة قرة وكان الهواء قارس البرد فوق عادته، وشرع «هملت» و«هوراشيو» وزميلهما الثالث يتحدثون عن بردها حتى قطع عليهم حديثهم بقوله: إن الطيف مقبل عليهم.
فلما رأى «هملت» روح أبيه ارتاع ودهش لرؤيته، ثم أهاب بالملائكة وأهل السماوات أن يقوه الشر هو ومن معه؛ لأنه لم يك يعرف ما إذا كان هذا الروح طيب أو خبيث، وما إذا كان يبغي خيرا أو شرا، ثم سكن روعه شيئا فشيئا، وخيل إليه أن أباه ينظر إليه نظرة الحزن والأسى، وكأنه يريد أن يتحدث إليه، وبدا له أن الطيف لا يختلف في شيء عما كان عليه والده قبل موته، فلم يستطع «هملت» أن يظل صامتا بل تقدم إليه وناداه باسمه قائلا: «هملت»! مليكي! أبي! واستحلفه أن ينبئه عن سبب خروجه من قبره، وقد رأوه يوارى مطمئنا فيه، وعودته إلى هذا العالم مرة أخرى ليرى الأرض ونور القمر. وتوسل إليه أن يخبره ما إذا كان يستطيع هو ومن معه أن يفعلوا شيئا يريحه ويهدئ روحه المضطرب. وأشار الطيف إلى «هملت» أن يصحبه إلى مكان منعزل لا يراهما فيه أحد، وحاول «هوراشيو» و«مرسلس» أن يقنعا الأمير الشاب بألا يسير وراءه لئلا يكون من الأرواح الخبيثة، فيذهب به إلى البحر القريب، أو قمة صخرة عالية، ثم ينقلب شبحا مرعبا يرتاع منه الأمير ويفقد صوابه، ولكن نصحهما ورجاءهما لم يثنيا من عزم الأمير فقد كانت الحياة لديه هينة رخيصة، لا يعبأ بها ولا يخشى فقدها، أما روحه فماذا يستطيع الطيف أن يفعل به وهو شيء خالد أبدي كالطيف نفسه؟ وأحس «هملت» بأنه قد أوتي شجاعة الأسود، فانتزع نفسه من صاحبيه وهما يبذلان جهدهما في أن يمسكا به، وأخذ يتبع الطيف حيث أراد.
ولما انفرد الطيف به نطق وقال: إنه طيف أبيه «هملت» الذي اغتيل ظلما وغدرا، ووصف له طريقة اغتياله، فقال الذى فعل به ذلك هو أخوه «كلوديوس»، - عم «هملت» الصغير - الذي حامت حوله ظنونه من قبل - لكي يجلس على عرشه وينام في فراشه، فبينما هو نائم في حديقته، كما كان يفعل دائما وقت الظهيرة، إذ تسلل إليه هذا الأخ الغادر وصب في أذنيه عصير الشيكران السام، وهو نبات بينه وبين الحياة عداء، فإذا وصل شيء منه إلى جسم الإنسان انساب في عروقه انسياب الزئبق، وجمد دمه ونشر على جلده كله طبقة شبيهة بالجذام. وهكذا جاءه هذا الأخ وهو مطمئن في نومه، وانتزعه في غمضة عين من تاجه وملكه وحياته، ثم استحلف الطيف «هملت»، إذا كان في قلبه حب لأبيه، أن يثأر به ويقتص من قاتله الأثيم. وأظهر الأب شديد أسفه لولده؛ لأن أمه حادت عن سبيل الفضيلة، فلم تستمسك بحبها لبعلها الأول وتزوجت بقاتله، ولكنه حذره من أن يسلك سبيل العنف مع والدته، مهما كانت الوسائل التى يتخذها للقصاص من عمه الشرير، وطلب إليه أن يترك هذه الأم للعدالة الإلهية ولعذاب الضمير، ووعد «هملت» أن يطيع الطيف في كل ما أمره به، ثم اختفى الطيف عن الأنظار.
ولما خلا «هملت» إلى نفسه أقسم أن ينسى لساعته كل ما انطبع في ذاكرته، وكل ما عرفه من كتبه أو مشاهداته، وألا يحتفظ في عقله إلا بما نبأه به الروح وما أمره بتنفيذه. لم يفض «هملت» بتفاصيل ما دار بينه وبين روح أبيه إلا لصديقه العزيز «هوراشيو»، وحذره هو و«مرسلس» من أن يبوحا بشيء مما شاهداه في تلك الليلة.
অজানা পৃষ্ঠা