" أهل الجنة عشرون ومائة صف ثمانون من هذه الأمة وأربعون من سائر الأمم "
. رواه الترمذى عن يزيد بن حصيب وقال حديث حسن. { تجرى من تحتها الأنهار } الضمير عائد إلى الجنات بتقدير مضاف، أى من تحت أشجارها، وخصت الأشجار بالتقدير لأنها المحتاجة إلى الماء فى الجملة، ولدلالة الجنات عليها، ولك أن تقدر من تحت أشجارها وقصورها، إشعارا بأن قصورها أكمل وأهلها أنعم، إذ كانت الأنهار تجرى من تحتها. وكيفية تقدير القصور أن يقال إن الآية حذف فيها المضاف وهو أشجار، والمضاف والمضاف إليه، وهما قولك وقصورها، وحذفها من باب حذف العاطف والمعطوف وما يلتحق به. ولك أن تقول لما حذف المضاف الأول، استغنى بالمضاف عن المضاف الذى قبله والذى بعده، من حيث الاشتمال والمعنى، لا الإعراب. ولك تقدير مضاف غير منون ومضاف معطوفا. أى من تحت أشجارها وقصورها، كقولك بين ذراعى وجبهة الأسد، ولك أن ترجع المضمر إلى الأشجار أو إلى الأشجار والقصور بدلالة الجنات، وهى على الأشجار أدل بحسب اللغة. وأما بحسب عرف الناس فى جنة الآخرة فهى على القصور أدل. والأنهار جمع نهر، بفتح النون والهاء، جمع قياس. وأما النهر، بفتح النون وإسكان الهاء، فقياس، جمعه أنهر، بضم الهاء، استغنى عن جمعه بجمع النهر، بفتحتين، هو اللغة الفصحاء، ومعناهما المجرى الواسع فوق الجدول ودون البحر، فهو كالفرات والنيل فان مادة - ن ه ر - للوسع فنسمى النهر نهر لاتساعه، ولأن الماء يجفره للجوانب أو الأسفل، وذلك تطويل وتوسيع، يقال أنهرت الشىء وسعته.
قال صلى الله عليه وسلم
" ما أنهر الدم وذكر اسم الله فكلوه وما وسع الذبح حتى جرى الدم "
وذكر بعض فى معناه أنه ما وسع الذبح حتى جرى الدم كالنهر. واستنهر الشىء اتسع، والنهار ضد الليل، وواسع ممتد ويسمى الضور نهارا لامتداده من أول النهار لآخره، والإنهار، بكسر الهمزة، الإسالة بسعة وكثرة، وأنهر الطعن وسعه، ونهر أحدا، غلظ صوته عليه، والتغليظ فيه توسيع. والنهر فضاء يكون بين أفنية القوم يلقون فيها كناستهم، وأل للجنس أو للعهد من قوله تعالى
وأنهار من ماء غير آسن
الآية. لتقدم نزول سورة القتال على نزول سورة البقرة، وذكر فيها لفظة أنهار أربع مرات منكرة، فهن المراد هنا إذا عرفت، فالمراد هنا أنهار الماء، وأنهار اللبن، وأنهار الخمر، وأنهار العسل المصفى. كما ذكرت فى سورة القتال وهن جميعا تحت قصور أولياء الله، وحيث شاء الله، وزاد الماء بالجرى تحت الأشجار وكذا يشمل الأنهار ذلك كله إذا جعلت فيه أل للجنس. واعلم أن البحر والنهر والجدول ونحو ذلك أسماء للأرض التى فيها ذلك الماء ونحوه لا للماء نفسه أو نحوه، فإسناد الجرى للأنهار مجاز عقلى، من إسناد ما للحال للمحل فإن الجارى حقيقة هو نحو الماء لا الأرض. ولك أن تقول المراد بالأنهار الماء ونحوه تسمية للحال باسم المحل فيكون مجازا لغويا مرسلا، ولك أن تقول الأنهار الأرض، ويقدر مضاف أى ماء الأنهار ونحوه، فيكون الأنهار على هذا الوجه مجازا بالحذف، فعلى الوجه الأول تجرى حقيقة وأنهار حقيقة، والتجوز إنما هو فى الإسناد، وعلى الثانى والثالث يجرى حقيقة، والأنهار مجاز، وداعى ذلك كله هو أن الجارى هو الماء ونحوه. قال أنس خادم النبى صلى الله عليه وسلم أنهار الجنة تجرى فى أخدود الماء واللبن والخمر والعسل، وهو أبيض كله فطينة النهر مسك أذفر ورضراضه الدر والياقوت، حافتاه قباب اللؤلؤ. رواه عنه مسروق. والأخدود الشق والماء الجارى من النعمة العظمى واللذة الكبرى، والحنة ولو كانت مخضرة متزينة إنما يتم أبتهاج النفس بها إذا كان فيها ماء جار، وإلا كانت كصورة لا روح لها، ولذلك ما ذكر الله - سبحانه - الجنات إلا مقرونة بذكر الأنهار. { كلما رزقوا } كل ظرف زمان متعلق بقالوا، وما مصدرية، وإنما سوغ ظرفية كل المصدر من الفعل بعد ما لإضافة كل إليه، وقد علم أن المصدر ينوب عن الزمان. فهذا مصدر نائب عنه فاكتسب ما أضيف إليه الظرفية منه، وجملة قالوا مستأنفة مع ما يتعلق بها وتوابعه أو نعت لجنات أو حال منها، ولا حاجة إلى تقدير مبتدأ يخبر عنه بكل تقديره هم أو هى، لأن المعنى تم بدون ذلك، ولأن الزمان لا يخبر به عن جنة، وإن قدر المبتدأ مصدرا فتكلف.
وعلى الاستئناف فهو بيانى كأنه لما قيل إن لهم جنات، قال قائل أثمارها مثل أثمار الدنيا أم أجناس أخرى؟ ووقع فى قلبه ذلك، فأجيب بقوله { كلما رزقوا }.... ألخ. وفى كونها نعتا أو حالا أيضا كشفا لهذا الذى قد سأل عنه سائل. ومعنى رزقوا رزقهم الله أو رزقهم الملائكة، أى أتوهم بما يأكلون من الثمار. ويؤيد الأول قوله رزقنا من قبل أن جعل على رزق الدنيا. { منها } من الجنات. ومن للابتداء، أو بمعنى فى. { من ثمرة } من هذه للابتداء أما إذا جعلنا الأولى فى بمعنى، فلا إشكال. وأما إذا جعلناها للابتداء فإما يصح أن تكون الثانية للابتداء، مع امتناع تعدد الحرف لمعنى واحد، بلا واسطة التبعية، إذا كان عاملها واحدا، لأن الأولى متعلقة برزقوا، والثانية بمحذوف حال من { رزقا } أى رزقا ثابتا من جنس الثمرة، أو مبتدأ منه، أو قوله { من ثمرة } بدل بعض. من قوله منها، على حذف الرابط، أى من ثمرتها، أو من ثمرة فيها، ولا إشكال على هذا لأنه بالتبعية، وسواء فى الحكم تعدده لفظا ومعنى أو معنى أو تعلق الأولى بمحذوف حال من رزقا، الثانية بمحذوف حال من ضمير الاستقرار المستتر فى قوله منها، أى آتيا من الجنات أو ممتدا من الجنات، آتيا من ثمرة، أو مبتدأ منها، فقيد الرزق بكونه مبتدأ من الجنة آتيا منها بكونه مبتدأ من ثمرة آتيا منها، ويجوز كون الثانية للبيان، متعلقة بمحذوف حال من رزقا أى رزقا هو ثمرة، ويجوز أن تكون للابتداء على طريق التجريد البديعى، أى رزقا متولدا من ثمرة، أو رزقوا من الثمرة رزقا أكد الرزق وعظمة، حتى كأنه ينتج ثمرة، أو أكد الثمرة وعظمها، حتى كأنها ينتج منها رزق آخر غيرها، لكمال الثمرة فى الانتفاع، والرزق ما ينتفع به، أو لكمال الرزق. وقد قال القزوينى والطيبى التجريد أن ينتزع من ذى صفة آخر مثله فى إيهاما لكمالها فيه. واللفظ للطيبى. وسيأتى لفظ القزوينى - إن شاء الله - وإنما قال إيهاما باعتبار مبالغات الناس، وأما مثل الآية فلا إيهام فيه، ولم يذكر القزوينى لفظ إيهام، وتعليق يرزقوا. والأولى ظرفية أو تجل بدلا من الأولى مع مدخوليهما، أو بمحذوف حال من { رزقا } كما رأيت. كما أنك إذا بالغت فى شجاعة زيد قلت رأيت من زيد أسدا، وفى كرمه قلت رأيت منه بحرا. { رزقا } مفعول ثان لرزقوا، والأول هو الواو ونائب عن الفاعل.
{ قالوا هذا الذى رزقنا من قبل } فى الدنيا، والإشارة إما إلى نوع ما رزقوا حقيقة، لا إلى نفس الشىء الذى رزقوه، وحضر عندهم، وإنما ساغ ذلك لأن النوع فى ضمن فرده فبحضور الفرد تحضر الحقيقة وتشخص فى الذهن. تقول حين حضور الأسد هذا أجرأ السباع، ولست تريد خصوص هذا الأسد الحاضر، بل جنس الأسد، أما إلى نفس الشىء الذى رزقوه وحضر عندهم على التشبيه البليغ بحذف أداة التشبيه. والأصل هذا كالذى رزقنا من قبل، أو مثل الذى رزقنا من قبل، كقولك زيد أسد فالكلام على الأول حقيقة لا مجاز ولا حذف، لان المراد النوع، وعلى الثانى مجاز بالاستعارة، ومبالغة، إذ لا يكون فرد عين فرد آخر سواء من نوع أو نوعين واعلم أن الله - جلا وعلا - جعل ثمر الحنة من جنس ثمر الدنيا لتميل النفس اليه إذا رأته، لأن الطبع مائل إلى المألوف، نافر عن غير المألوف، وليتبين مزية ثمر الجنة على مثله من ثمر الدنيا، وهى مزية عظيمة لا يعلم غايتها إلا الله - تبارك وتعالى - ولو كان ثمر الجنة جنسا آخر غير معهود فى الدنيا، لظنوا أن ثمر الجنة لا يكون إلا كما ألفوه فى الدنيا، فلا يظهر التفاوت، فلا تتم اللذة تمامها فى اتحاد الجنس وتفاوت الطعم، فإنه إذا اتحد استحضر طعم الدنيا وطعم الآخرة، فيظهر التفاوت العظيم ويدوم الاستعظام والاستغراب { كلما رزقوا } لأنه كلما رأوا ثمرة الجنة حضر فى قلوبهم ثمرة الدنيا، لتشابه اللون فيسبق إلى النفس اتحاد الطعم، فيوجد متفاوتا بالغاية وكذا فى عظم اللون والجثة، كلما رأوا ثمرة الجنة فى أعظم لون وأصفاه. وأكبر جثة حضر فى قلوبهم نقص ثمرة الدنيا عن ذلك، ويجوز أن يكون المراد بقوله من قبل فى الجنة، إذا رزقوا المرة الثانية فى الجنة، قالوا هذا الذى رزقنا فى المرة الأولى فيها، وكذا الثالث والرابعة، إلى ما لا ينقطع كله على شبه المرة الأولى، وهكذا طعام الجنة متشابه الصور، كما حكى عن الحسن أن أحدهم يؤتى بالصحفة فيأكل منها، ثم يؤتى بأخرى فيراها مثل الأولى فيقول هذا الذى رزقنا من قبل، فيقول الملك كل فاللون واحد والطعم مختلف، وإنما قال الواحد رزقنا لأنه يأكل هو وأزواجه الدنيوية وأزواجه الحور. وعنه صلى الله عيله وسلم
" والذى نفس محمد بيده إن الرجل من أهل الجنة ليتناول الثمرة ليأكلها فما هى بواصلة إلى فيه حتى يبدل الله مكانها مثلها "
অজানা পৃষ্ঠা