قال الروبوت: «أجزاء كثيرة من محطة أثينا لا يمكن ولوجها من دون تصريح. أتود مني أن أرافقك؟»
هز جونزاليس كتفيه وقال: «رافقني إن شئت.»
من دون مفاوضات إضافية تبع الروبوت جونزاليس، متحدثا بين الفينة والأخرى عن بعض المعلومات التي يرددها على نحو آلي بصوته اللطيف الخافت. «كانت محطة أثينا فيما مضى أشد مغامرات الأرض جموحا ونجاحا. وفي هذا المكان جرى تطوير العديد من الأدوات الداعمة لسكان المنظومة الأرضية القمرية؛ كأساليب الإنشاء والتصنيع في الجاذبية الصفرية، وعمليات التنقيب الروبوتية المكثفة، وإجراءات صهر المعادن. والآن ثمة مشروعات مثل هالو تسترعي الاهتمام، غير أن ما مكنها من الوجود هو الأساليب التي جرى تطويرها على متن محطة أثينا ...»
ترك جونزاليس الروبوت يثرثر. وبينما كان الاثنان يقطعان الأروقة، تداعى إلى ذهنه منظر المطارات والفنادق ومراكز التسوق القديمة. رأى أن السواد الأعظم من المحطة قد صار باليا؛ بلاستيك مهترئ يغطي الجدران والأرضيات، وتركيبات معدنية صدئة وغير مصقولة. كان الهدف من وراء هذه المواد الباهتة والبالية أن ترى وتستخدم فقط وهي جديدة، فور خروجها من تصميمات المعماريين وأيدي البنائين، لكن ليس بعد أن تكون قد عانت من الإبلاء الحتمي الناتج عن الاحتكاك بالبشر. وفي كل مكان حوله كانت توجد شعارات شركات لم يعد لها وجود (ماكدونالدز وكوكاكولا) إلى جانب تلك الخاصة بالشركات الشهيرة المتعددة الجنسيات؛ مثل هلال شركة لونار-بيتشتل وشعاع سينتراكس الشمسي.
شعر جونزاليس بالرهبة المميزة لقصص الأشباح حين أدرك أن هذا المشروع بأكمله، وفي الحقيقة كل المشروعات التي على شاكلته، خرجت من رحم عجرفة الشركات والحكومات في أواخر القرن العشرين، ومن ثم ينبغي النظر إليه بالضرورة بعين الشك، كما ينبغي النظر إلى أي شيء يعود إلى الأيام التي بدا فيها أن البشرية انقلبت على كل الكائنات الحية وكأنها أب مجنون اقتحم غرفة النوم في وقت متأخر من الليل وهو يحمل بلطة.
كانت هذه القصص جزءا من التعليم العقلي والأخلاقي لكل طفل في سن المدرسة. لقد أخذت النفايات الكيميائية والإشعاعية تخرج من باطن الأرض ومياه البحار بينما انهارت محاولات الخلاص منها مع مرور الوقت. تغيرت المنظومات البيئية المستقرة أو دمرت من دون التفكير في أي شيء بخلاف الفائدة اللحظية، وانقرضت الأنواع بسرعة شديدة دفعت علماء الأحياء إلى تحديث سجلاتهم على الدوام؛ فلنخط كتاب يوم الدينونة الآن، ولنحزن في وقت لاحق. أخذت درجات الحرارة وتركيزات الغازات الحيوية في الغلاف الجوي تتقلب على نحو خطير، كما لو أن الطبيعة نفسها قد أصيبت بالحمى.
ميز علماء الأحياء «كارثة الدلافين» بوصفها نقطة التحول الحاسمة؛ تحديدا عام 2006 باعتباره وقت التغير؛ فقد طفا أكثر من عشرة آلاف دولفين على ساحل فلوريدا بالقرب من بوكا راتون. كانت عاجزة عن السباحة وتتلوى، واتجهت نحو الشاطئ أمام أعين المصطافين المذعورين، وماتت كلها، تحت نظر الأطباء والمتطوعين، الذين كانوا يبكون ويعبرون عن حنقهم على التسرب الكيميائي الذي كان يقتل الدلافين؛ إذ حملت تيارات خليج المكسيك ملايين الجالونات من النفايات السامة. وإلى جانب آلاف المتطوعين، الذين لم يستطع أغلبهم فعل شيء يذكر سوى رثاء الموتى، غطت شبكات المعلومات حول العالم المشهد، وشاهده المليارات وهم يتساءلون: «لماذا كلها؟ ولماذا الآن؟» وبدا في نظر الغالبية أن هذه الثدييات قد عبرت معا عن احتجاجها الذكي الصامت. وأخيرا بدأت البشرية، وقد شعرت بالخزي والذنب، في النظر إلى كوكبها كما لو كانت شخصا مخمورا استيقظ في غرفة فندق حقيرة وهو يسأل نفسه: «كيف وصلت إلى هنا؟» كانت النتيجة واضحة: فما لم تكن البشرية جمعاء قد فقدت عقلها، فسيتعين عليها في نقطة ما أن تتفق؛ وكفانا ما حدث.
كان جونزاليس يقف في رواق مظلم لمحطة فضائية تعلو سطح الأرض بأكثر من ثلاثين ألف ميل، وأخذ يفكر كيف كان من الصعب بقاء كل هذا؛ فرغم أن الدول التزمت بنصوص القانون الدولي التي وضعت صالح الأرض قبل مصالحها الخاصة، ورغم أن دعاة الحفاظ على البيئة جابوا أركان العالم - إذ كانوا يحظون بمكانة «مستشاري القضاء» في كل الدول وكانوا يدافعون عن الأنواع المهددة بالانقراض - رغم كل هذا فإن الحرب من أجل إنقاذ الأرض لم تكن قد انتهت؛ فالبشر، الجشعون الفاسدون الذين لا يهتمون إلا بأنفسهم، طالما مثلوا تهديدا لمواطنهم، بل وللبشرية ذاتها، نتيجة أفعالهم اللامبالية والعنيفة وجشعهم الخالص.
لكن رغم أن هذه المحطة، شأن غالبية المستوطنات البشرية في الفضاء - المستوطنات الموجودة على القمر وعلى المريخ وفي شبكة الطاقة المدارية ومدينة هالو - قد جرى التخطيط لها خلال القرن العشرين البغيض، فإنها ظلت باقية بفضل الشعور الذي ساد في الألفية الجديدة؛ شعور الندم والتطهر والحرص.
واصل جونزاليس السير. •••
অজানা পৃষ্ঠা