এভাবে সৃষ্টি করা হয়েছিল: একটি দীর্ঘ গল্প
هكذا خلقت: قصة طويلة
জনগুলি
وأعترف، لقد بهت وتولتني الحيرة، حين أردت الجواب على هذا السؤال، وفي الحق كيف قبلت هذا التذكار؟ وكيف جرؤ الألماني على تقديمه لي؟ وما معنى هذا الصنيع من جانبه؟ ليس للتذكار قيمة مادية ذات شأن، لكن تقديمه إلي ساعة توديعي مشفوعا بالعبارات التي نطق بها كان يوجب علي أن أتدبر الأمر أكثر مما فعلت، وأن أشكر وأعتذر عن عدم قبول هذا التذكار، ولكن بماذا كنت أعلل اعتذاري، من غير أن أخل بواجب الأدب والمجاملة؟ إن الرجل لم تبدر منه في كل المرات التي جلس إلينا فيها أية بادرة لا ترضاها أدق قواعد الذوق، وعبارته الأخيرة أنه يقدم لي هذا التذكار لما يشعر به نحوي من إكبار وتقدير، عبارة مختارة أدق اختيار، فلو أنني اعتذرت ولم أقبل تذكاره لكان اعتذاري جافا لا يصدر عن إنسان مهذب!
لكن ما عساي أن أقول لزوجي حين يرى هذا التذكار؟ وهلا أقص عليه أنباء جولاتي، وكل ما رأيت في الأقصر، وأنا إنما سافرت إليها من أجل ابنتنا لتمام برئها؟ إن هذا التذكار ليفتح علي أبوابا ما أغناني عن فتحها، أفأخفيه عن زوجي تخلصا من كل سؤال وجواب؟ إن كبريائي وكرامتي لتأبيان ذلك علي؛ لأنني لم أرتكب إثما فأتستر عليه، ولكن هلا يثير هذا التذكار في نفسه من الغيرة ما قد يجني على مودتنا وعلى حبنا المتبادل، ثم يعذره كل إنسان عن غيرته، وإن لم يكن لي في ذلك ذنب ولا جريرة؟
جعلت أقلب هذه الأمور في نفسي، والقطار ينهب بنا الطريق إلى العاصمة، فلما بلغها ألفيت زوجي في انتظاري على المحطة، ولمحت في نظراته وهج الشوق العنيف، وخيل إلي أنه يريد أن يبتلعني ابتلاعا، لكنه اكتفى بتقبيل الطفلين وإظهار الرضا عن صحتهما، فلما دخلت منزلنا وأزلت عني غبار السفر ولباسه وتزينت للنوم، وأوى الطفلان إلى مضجعهما، ألقيت بنفسي بين أحضانه، وسكبت في فمه كل ما اجتمع في جسمي، وفي قلبي، وفي عواطفي، وفي وجودي كله مدى وجودي بالأقصر من مشاعر وإحساس، وتلقى هو قبلتي فزادته شوقا لي، وأذبت نفسي وروحي فيه، وانتشرت بذلك في كل وجوده، فلما آن لنا أن نتحدث لم نجد ما نقوله، إننا كلينا هنا وكفى، وبعد ألفاظ قليلة مبعثرة تبادلناها قال: أحسبك متعبة من مشقة السفر طول النهار، فليرد عليك النوم راحتك وطمأنينتك، ولنتحدث غدا عن الأقصر وما كان فيها.
واستيقظت صبح الغد في ساعة متأخرة فألفيته ذهب إلى عمله، وعدت أفكر فيما كان يشغلني وأنا بالقطار، فقلت: يجب أن أقص عليه كل شيء، ويجب أن أذكر له الألماني وتذكاره، إن ما شهدته منذ بلغت القاهرة ليدلني على أن لي عليه من السلطان ما كان لحواء حين أغوت آدم فأكل من شجرة الخلد، وسأرى ما يكون لذلك من أثر ثم أتصرف.
وعاد من عمله مبكرا، وقبلني قبلة شدت من عزمي، فلما جلسنا سألني وعلى ثغره ابتسامة الرضا عما رأيت في الأقصر، فذكرت له صديقتي التي مات زوجها، فاستولى أهله على تركته، وذكرت كيف كان يجتمع إلى مائدتها ب «ونتر بالاس» قوم أولو ظرف وكياسة، يتناولون الشاي ويتحدثون، منهم الأقصري الذي أهداني الزنبيل ساعة سفري، ومن هديته سنتناول طعامنا بعد هنيهة، ومنهم ألماني مهذب واسع الثقافة، كان قليل التردد علينا، وقد قضى عليه ظرفه ساعة ودعني أن يهديني تذكارا دقيقا من صنع يده، وفتحت العلبة الصغيرة التي احتوت التذكار وأريتها لزوجي، فلما رآها قليلة القيمة المادية لم يبد اهتماما بها. وذكرت الأثري الفرنسي المشرف على أعمال التنقيب بالكرنك، ثم ذكرت الكرنك وما تركه في نفسي من أثر عميق حين زرته مع صحبة في ضوء القمر، وبيبان الملوك، وقبر توت عنخ آمون، ومقابر الملكات، وذكرت ذلك كله، وذكرت النيل ومغارب الشمس البديعة، وأخذت أتحدث وأتحدث وهو يصغي إصغاء مأخوذا من سحر حديثي، ثم ختمت الحديث بأني كنت أغتبط بذلك كله، ثم أزداد غبطة حين أستيقظ في الصباح، فأرى طفلينا يزدادان نشاطا وصحة، ويزيدانني بذلك هناءة وسعادة، ويجعلان من مقامنا بالأقصر فلذة من نعيم، كان يضاعف لو أن والدهما كان معنا يستمتع بمتاعنا، ويزيدنا سعادة بمتاعه!
قبلني زوجي حين فرغت من حديثي، وشكر لي عنايتي بالطفلين، ثم قمنا وتناولنا غذاءنا، وخلوت بعد ذلك إلى نفسي راضية عن نفسي، هأنذي لم أخف شيئا عن زوجي، وها هو ذا مطمئن مغتبط، وهذا طبيعي؛ فلا جناح على امرأة إذا رأى الناس فيها جاذبية أدنتهم منها وحببت إليهم مجلسها، أو رأوا في حديثها ما أخذ بسمعهم وأبصارهم، فيم إذن كان ترددي وأنا بالقطار؟ وفيم كانت خشيتي أن أثير هواجس الرجل أو أثير غيرته؟ إننا كثيرا ما نجسم أمام خيالنا أمورا لا جسامة في الواقع لها، وكثيرا ما نضطرب أمام اعتبارات لا شيء فيها يوجب الاضطراب.
على أنني ابتسمت بعد هنيهة في نفسي، وتساءلت: أكان الأمر يتم بكل هذا اليسر لولا أنني سكبت في جنان زوجي كل ما اجتمع في جسمي وفي عواطفي وفي وجودي كله من حس ورغبة، ولولا أنني أذبت نفسي وروحي فيه، وانتشرت في كل وجوده لأول ما خلوت إليه بعد أن بلغنا القاهرة؟ وهل كان الأمر في مثل هذا اليسر لولا لواعج الشوق التي كانت تحرك كل روحه وكل عصبه، ولولا ما يكن قلبه من حب فرض عليه كل سلطانه؟ إن شوقه وحبه هما اللذان نصراني بعد أن أرضيتهما بكل ما ينطوي عليه وجودي من أسباب إرضائهما، وبعد أن تعاونت أسباب هذا الإرضاء في ذكاء ومقدرة فلا أغمط حق نفسي، ولا أهون من قدر سلطاني القاهر، فلولا هذا السلطان لواجهت اليوم موقفا ما أدقه وأعسره!
وتعاقبت الأيام وأقبل الصيف، وفكرت في السفر إلى أوروبا، ولم أكن في ريب من إجابة زوجي رغبتي، فقد رضي سلطاني وأقره وخضع لحكمه برغم ما كان يبدو أحيانا من تحكمه؛ لأنه رأى في هذا التحكم لونا من دل المحب يزيده إغراء، على أن أمرا حدث حال دون السفر، فقد مرض والدي واشتد به المرض حتى كان الأطباء يعودونه صباح مساء، وكان زوجي هو المشرف على تنفيذ العلاج الذي يقررونه، فلم يكن مستطاعا أن ندعه في علته ونسافر إلى ربوع الاصطياف والتسلية، فلما برئ كان الصيف في مولياته، ولم أكن أحب الإسكندرية منذ سافرت مع والدي إليها بعد موت أمي؛ لذلك استقر مقامنا بالقاهرة حتى إذا كنا في الأيام الأخيرة من شهر ديسمبر رأى زوجي أن من حقي أن أستريح، فاقترح أن أذهب مع الطفلين والمربية إلى الأقصر كما فعلت في العام الماضي، وحجزنا أماكننا في فندق الأقصر، وسافرنا بقطار الصباح اتقاء برد الليل، فلما بلغت الفندق وجدت الأقصري والألماني في بهوه، وأقبلا مع مدير الفندق وقالا: لقد أخبرنا المدير بمجيئك فانتظرناك لنقول لك: حمدا لله على السلامة. ثم ذكر أن صديقتي نزلت «ونتر بالاس»، وودعاني وانصرفا.
وذهبت مبكرة بعد ظهر الغد إلى «ونتر بالاس» فألفيت بهوها خاليا، فتخطيت إلى شرفتها أؤدي للنيل ولما وراءه في الجانب الغربي تحية إكبار وإجلال، ولم يطل وقوفي حتى رأيت الإنجليزية التي وقفت إلى جانبي في العام الماضي تقبل علي وتقول: «هاللو، أرأيت أنك لم تستطيعي مقاومة ما لهذا المنظر الساحر من سلطان؛ فجئت حاجة إليه هذا العام كرة أخرى؛ ذلك شأني معه من أعوام عدة، لا يكاد الشتاء يقبل حتى أشعر بدافع يجذبني إلى هنا لأؤدي لهذا المشهد الفذ فرضا، حاولت غير مرة أن أتنصل منه، ثم لم أجد مفرا من أدائه. وحدثيني بربك، أي شعور يملكك حين تهبطين مئات الدرج إلى قبر فرعون نقشت جوانبه بطلاسم «كتاب الموتى»، ثم ترين مكان تابوته أو بقية من آثاره؟ إن الرهبة التي تملكني في تلك اللحظات لتريني العالم الآخر، وتريني ملكوت السموات، ألا ترين أنت أيضا شيئا من ذلك؟»
وأجبتها: «إنني لم أتردد بعد على تلك المقابر ما ترددت لأرى فيها ما ترين، إنما ملكني شعور العجب كيف ينفق هؤلاء الملوك كل ذلك الجهد، ويسخرون في سبيله ألوف العمال وعشرات آلافهم؛ لينقروا في جوف الصخر قصور قبورهم!» قالت - وفي لهجتها شيء من الإنكار علي: «كلا يا سيدتي، لا تقولي هذا الكلام، فلو أنهم لم يفعلوا لما خلدوا للأجيال المتعاقبة على الدهر هذه الآثار البارعة الضخمة، التي تحدث عن حضارة روحية أضاعها عالمنا المادي الأحمق! إن هؤلاء الأقدمين في مصر والهند والصين قد هدتهم حكمتهم، وخلدوا من آثار علمهم وفنهم وحضارتهم ما لا قبل لعالم اليوم بمثله، إنهم كانوا يعيشون مطمئنين إلى خلد أرواحهم؛ فكانوا يقيمون لهذه الأرواح المقر اللائق بها، أما نحن فنعيش في عالم مضطرب سريع التغير لا نستطيع أن نمسك منه بمعنى من معاني البقاء، وحسبنا لذلك منه حياتنا على الأرض، وما أقصرها! وما أتفه ما تكسبه أرواحنا في أثنائها! وإني لأشعر يوم نلتقي بهؤلاء الأقدمين في ملكوت السموات أنا سنرى أنفسنا أقزاما إلى جانبهم، ونرى حضارتنا هباء إلى جانب حضارتهم.»
অজানা পৃষ্ঠা