এভাবে সৃষ্টি করা হয়েছিল: একটি দীর্ঘ গল্প
هكذا خلقت: قصة طويلة
জনগুলি
انتهت الحرب العالمية الأولى في منتصف الخريف، وخيل إلي عند ذلك أن الجو أصبح مهيئا لأسافر مع زوجي إلى أوروبا ننشر في ربوعها الجميلة عبير حبنا، ونستنشق مع نسمات جبالها الرفيعة الذرى أريجا منعشا يضاعف متاعنا بالحياة، ونجتلي في أم المدائن باريس ما تهوي إليه كل أنثى، وما يتفتح له قلب كل مشغوف بالفن وكل مولع بالجمال، وأشرت في حديثي مع زوجي إلى رغبتي هذه، فلم يلبث أن ذهب من بكرة غده إلى مكاتب السياحة يعد لسفرنا العدة، فلما عاد لموعد الغداء أخبرني في أسف أن السفر فيما وراء حدود مصر لا يزال محظورا بأمر السلطة العسكرية البريطانية، وأنها تأبى إباء تاما أن ترخص به لأحد، وأنه يؤثر إذا رغبت وجاء الشتاء أن نقضي أسبوعين أو ثلاثة بمشتى الأقصر نزور هناك آثار الفراعنة، وأحسست أنه يريد إرضائي ولو على حساب عمله، وقدرت ما لعل زوج أبي أو بعض صديقاتي يتقولنه علي، فلم يكن سائغا إلى يومئذ أن تنزل مصرية فندقا في بلد مصري، لهذا وذاك أبديت الرغبة عن مغادرة العاصمة، وقبلت زوجي شاكرة إياه من كل قلبي.
ولم يكن حديثي مع زوجي يتعدى حياتنا الخاصة، وكان هو يذكر لي مشاهداته في عمله، وأحاديثه مع أصدقائه، وقلما يجري على لسانه شأن من الشئون العامة، وكنت أقص عليه ما أراه في زياراتي لصديقاتي، وما يجري في زياراتهن لي، ثم ينقضي الوقت بعد ذلك، ولا نحس كيف انقضى ولا نشعر بمروره، وكانت رغبة زوجي عن الخوض في الشئون العامة طبيعية بحكم عمله، وبحكم الظروف المحيطة به؛ فهو طبيب متصل بالناس على اختلاف ميولهم وألوانهم، فلا بد له أن يحتفظ بحسن صلاته بهم جميعا، والجو الذي كان مخيما على مصر يومئذ كان الحكم العرفي البريطاني، وكان ما حدث إبان الحرب من اعتقالات يشيع في النفوس الحذر والخوف.
على أن انتهاء الحرب آذن بنشاط سياسي عام أخذ زوجي يحدثني عنه كل يوم، ويروي لي طرفا من أخباره، وبعد أشهر قبضت السلطة البريطانية على الزعماء المصريين المطالبين باستقلال وطنهم، ونفتهم إلى جزيرة مالطة. هنالك قامت في البلاد كلها، من أقصاها إلى أقصاها، ثورة كانت العاصمة روحها ومصدر الوحي بها، وخاف أبي أن تتطور الثورة إلى عنف قد يصيبنا شرره، فاقترح أن تذهب السيدات إلى العزبة، فرارا بهن من مصير لا يعرفه أحد.
وسافرت مع زوجي وزوج أبي وأخي الطفل في سيارة زوجي، ولشد ما كان عجبي حين رأيت مظاهر هذه الثورة منتشرة في كل مكان، ورأيت الفلاحين والفلاحات فرادى وزرافات لا يكادون يروننا حتى يهتفوا بحياة مصر واستقلالها، هي ثورة شاملة إذن، أترانا نكون أكثر أمنا في العزبة منا في العاصمة؟ لكنا ما لبثنا حين تخطينا أسوار المنزل إلى الحديقة واجتزناها إلى داخل البناء أن رأينا فيه حصنا آمنا، يبعدنا عن مظنة العدوان، ثم ما لبثنا أن رأينا أهلنا وذوي رحمنا أقبلوا علينا، يهنئوننا بسلامة الوصول، وبالنجاة مما علموا أن القاهرة تعج به من أسباب الاضطراب، عند ذلك سكنت نفوسنا جميعا، واطمأننا إلى حكمة والدي في مشورته علينا.
وأقمنا أسابيع عدة بالريف، وكان زوجي يذهب إلى القاهرة في أثناء الأسبوع ثم يجيء إلينا في نهايته يقص علينا ما يجري هناك، ولم يكن يجد في الانتقال مشقة؛ لأن الأطباء كانت لهم حرية التنقل بتصريح عام خاص بهم، وقد قص علينا يوما في حماسة أن سيدات القاهرة خرجن في مظاهرة مرتديات براقعهن وحبراتهن، وأن الجيش البريطاني لم يجرؤ على التعرض لهن بأذى، وأن هذه المظاهرات أثارت العاصمة كلها، وتركت في النفوس أثرا أعظم من كل ما سبقه.
وتولاني لسماع هذا النبأ ألم وأسف أن لم أكن هناك لأشارك المتظاهرات، ولأبدو أمام سيدات العاصمة في مظهري الحق، ولم أستطع أن أكتم ما دار بنفسي عن زوجي، فلما سمعه نظر إلي في ابتسام وقال: أوكنت تستطيعين؟ لا تنسي أنك حامل، وهذا الحمل هو الذي دفعني للموافقة على مجيئك إلى هنا إشفاقا عليك من أن يصيبك اضطراب العاصمة العصبي بأذى.
ولكن هذه العبارات لم تشف غلتي، فقد تصورت السيدات سائرات في مظاهرتهن، ورأيت صديقاتي في مقدمتهن، وشعرت بمكاني خاليا بينهن، وخيل إلي لو أنني كنت معهن أشغل هذا المكان لكانت المظاهرة أتم روعة، وأشد لفتا للأنظار، أترى تعود السيدات إلى تنظيم مظاهرة أخرى، بعد عودتي إلى القاهرة، فأشترك فيها؟! ولكن هبني عدت، وهب السيدات فكرن في تنظيم مظاهرة أخرى، فما عساي أستطيع أن أفعل وأنا حامل؟!
ولمح زوجي ما يدور بخاطري، وخشي أن يطول تفكيري فيه فرأى أن يصرفني عنه بالحديث فيما هو أحب إلى نفسي ونفسه، ولهذا سألني: أتراك فكرت في اسم طفلنا العزيز ولدا كان أو بنتا؟ وحرك سؤاله غريزة الأمومة في دخيلة كياني، وحرك الطفل الجنين أحشائي، وابتسمت كأنني في حلم سعيد، ونسيت المظاهرة والمتظاهرات، وارتسم في خيالي هذا الطفل العزيز حين مولده، وبعد لحظة نسيت الطفل واسمه كما نسيت المظاهرة والمتظاهرات، وتعلقت بعنق زوجي وقبلته بكل ما في من حرارة الأنوثة والشباب والأمومة المرجوة وقلت: أحبك.
ولم تنطق شفتاي بهذه الكلمة عن إرادة مني، بل دفعها إليهما قلبي دفعا، لم يكن لهما من الاستجابة إليه بد، فهذا الزوج العزيز هو مصدر هذه الأمومة التي أخصبت أحشائي، وجعلتني أسعد في يقظتي وفي نومي بانتظار ثمرتها، وهل تراني أو ترى كل امرأة تبتغي في الحياة أشهى من هذه الثمرة؟ ولم أكن أعلم إلى يومئذ ما تحمل الأمومة معها من تضحيات وآلام، ولم أكن إلى يومئذ أقدر الأعباء التي يحتملها الآباء والأمهات في صمت وإذعان، ولم أكن أستشف الغيب فأرى خلاله ما سأتجشمه وما سيتجشمه زوجي العزيز اليوم، الشقي غدا، بسبب هذه الأمومة وهذه الأبوة، لم يكشف لي في تلك اللحظة عن شيء من هذا، بل صور لي الشباب والحب حياة معطرة بشذا الورود والرياحين وبمنظرها البديع البهيج، وسمت غريزة الأمومة فوق التفكير في متاعبها، وزينت لي أحلامي أن الحياة طريق معبد وثير تتدلى على جوانبه الأغصان الخضر تكسوها الأزاهير العطرة، وفاضت عني السعادة بهذا كله، فازددت حبا لمن آمنت بأنه مصدر هذه السعادة، ودفع قلبي إلى شفتي كلمة «أحبك».
انقضت على مقامي بالعزبة أسابيع أفرجت السلطات البريطانية في أثنائها عن الزعماء المطالبين بالاستقلال الذين نفتهم إلى مالطة، بذلك هدأت النفوس الثائرة، وإن لم تنطفئ ثورتها، وأتاح لنا هذا الهدوء أن نعود إلى العاصمة، وأن أستقر فيها، وهناك انقضت أشهر الحمل، وأثمرت أمومتي طفلة أنساني بكاؤها ساعة مولدها ما تجشمت في حملها تسعة أشهر من مشقة، وشغلت بهذه الطفلة عن كل شيء آخر، حتى عن أبيها الذي كان يحبها من أجلي كما أخذت أحبه من أجلها.
অজানা পৃষ্ঠা