تلقى موجة مترعة بنشوة الفرح. اليوم عيد ميلاده أو تاريخ ميلاده على الأصح. ولكنه يوم يمر كالأيام، ربما تذكره قبل حلوله بأيام أو بعد انقضائه بأيام أو حتى في ذات اليوم دون أن يكون لذلك أي أثر اللهم إلا مضاعفة الجزع على المستقبل. لم يحتفل به أبدا. لم يعرف ذلك التقليد. ولم تعرفه حارته العتيدة. ها هي أنسية تبشر بتقاليد جديدة، وجديدة أيضا مناورتها الطاهرة في التودد وقدرتها البارعة في فتح أبواب الرحمة. - الحق أني لا أعنى بتذكره .. - شيء غريب! - ولم كلفت خاطرك بذلك؟ - تحية متواضعة جدا. - إني عاجز عن شكرك. - لا داعي لذلك مطلقا. - كم أنك رقيقة مهذبة ولكن كيف عرفت تاريخ ميلادي؟
وضحك ثم قال مستدركا: آه .. نسيت .. اطلعت على ملف خدمتي الإداري وفضحت سني؟! - إنه سن العقل والنضج ..
مد لها يده فتصافحا. ضغط على يدها الرقيقة كغشاء من حرير. انثالت عليه الأفكار المعذبة طيلة الوقت. سيرد الهدية بأحسن منها في عيد ميلادها الذي سيعرفه من ملفها الإداري أيضا. ورغم سعادته المشرقة تمنى لو أنها اختارت وسيلة للتحية لا علاقة لها بالنقود، فإنفاق النقود يؤلمه ويخل بميزان حياته. ولكنه لم يهتم طويلا. إنه ينزلق في هاوية، يطير نحو المجهول، مفعم القلب بالمسرة والحنين. وقد ضغط على يدها فتلقت ذلك بابتسامة واعية راضية ومشجعة أيضا. وماذا بعد ذلك؟ هل يتفق وطريقه الأوحد؟ إنه يواجه ما هو أعظم من موقف دقيق عابر مفعم بعبير ساحر، إنه يواجه المجهول والقدر. إنه يطرق الباب الذي يوقفون وراءه الزمن أو يرجعونه خطوة إلى الوراء. وثمة نداء تردد أن ارجع وإلا هلكت! ولكن لم تستجب له أذن ولا قلب.
وقفت في اليوم التالي قبالته تراسله بنظرات تفيض بالطاعة والعذوبة. حرقت الحرارة رأسه وعنقه. انجذبت أصابعه إلى ملامسة أصابعها فوق الدوسيه المبسوط بينهما. أفضى إليها بتوجيهات مدغمة لا معنى لها. وفتشت عيناه المكان بحذر. مال رأسه حتى لثم فاها. تراجع إلى مقعده وهو ينتفض، يرتعش، يحترق، ثملا بخمر الحياة والخوف من المجهول.
23
وكان لقاء قبيل عصر الجمعة. تم نتيجة لتيار من الاستسلام لا يقاوم وبأمل في النجاة آخر الأمر. سماه تدهورا ولكنه كان محفوفا بالسعادة. ولم تكن له خبرة بأماكن اللقاءات السعيدة فاقترحت هي حديقة الأزبكية ولكنه اعترض قائلا إنها مكان مكشوف تحدق به الأعين من جميع الجهات. أما حديقة الحيوان فهي بعيدة بما فيه الكفاية، مهجورة، خارج العمران، ممتنعة عن الرقابة، يخوض الترام إليها حقولا وخلاء. ومشيا جنبا لجنب يستمتعان بحياة «حقيقية» في الساعات السابقة لميعاد الإغلاق. لم يكن رأى الحديقة منذ زارها في رحلة مدرسية. ولم تكن لديه فكرة عن أصول اللقاء، ما يقال وما لا يقال. ما يفعل وما لا يفعل. سارا صامتين سعيدين ولكن ثمة إحساسا غير مريح ناوشه، بأن اللقاء حدث شاذ وخطأ، بأنه ما كان ينبغي أن يستسلم. ودفعا لارتباكه ولمشاعره المحبطة أبدى إعجابه بالأشجار والقناطر والجبلاية والجداول والبحيرات وبأنواع شتى من الحيوان. ولبث مقتنعا بأنه لم ينطق بكلمة مفيدة بعد، وبأنه يحاول الهرب بعد فوات الأوان. وسارت إلى جانبه تسيل عيناها بنظرة حالمة وظافرة، مرفوعة الرأس، مسددة النهدين، يوحي منظرها بأنها مندفعة في مجرى من المطالب لا أفق له، وأنها تلتهم في نفسها أجمل أسرار الحياة. وتلاقت عيناهما فقرأ في ألقهما البراءة الناصعة والمكر العذب وسيالا من الرغبات المجهولة. قالت محتجة: حتى وأنا موظفة لا أستطيع أن أخرج إلى مثل هذا اللقاء بسهولة ..
فندت عنه نبرة أبوة مضحكة وهو يقول: لا تغضبي من أجل ذلك يا عزيزتي .. - ولكنه غير طبيعي ومهين .. - ترجمة غير دقيقة لعواطف الأمهات والآباء. - لا أعتقد أنك تؤمن بذلك .. - حقا؟!
فضحكت في ثقة كاملة ثم قالت مستدركة: لو عرفت ماما أنني سألقاك لما مانعت فيما أعتقد.
فقال بقلق: ولكنها لم تعرف؟
فعادها الضحك، وسكتت قليلا حتى جف ريقه تماما، ثم قالت: اللقاء سر كما اتفقنا. - طبعا يا عزيزتي. - الحق أني غير مقتنعة ..
অজানা পৃষ্ঠা