فقد كانت أنباء زيارات الآلاف للضريح تقلقه وتجعله يكثر من ابتلاع سلفات المانيزيا، وكل ما فعله بقتل السلطان أن أوجد أمام المصريين شيئا ملموسا يجتمعون حوله، ويرددون اسمه في صيحات صاخبة تجلجل تحت قبة السماء.
وكان أولاد السلطان حامد قائمين بنشاطهم الحاد على قدم وساق، فكان الناس يقبلون لزيارة الضريح وهم لا يعرفون لماذا هم مقبلون! ويعودون وهم يعرفون كل شيء عن الحرب التي دارت بينه وبين الكفرة، وعن قتله غدرا ومصرعه، وعن الانتقام.
ولم ينتظر كليبر حتى ينفجر البركان، فقد هاجم الضريح بكل قواته وهدمه، وانتزع الجثة من مكانها، ولم تكد تمضي على وفاتها أيام، وألقاها في النيل.
وما كاد يستقر في ثكناته حتى كانت الجثة قد استخرجت من الماء بطريقة غير معروفة، وحتى كان قد اختير لدفنها مكان قرب الشاطئ، وحتى كان قد بدئ في بناء ضريح آخر فوقها، وفي أيام كانوا قد انتهوا من إقامة ضريح بدا أكثر ضخامة من الضريح الأول، وقبل أن يتم البناء، كانت جماهير الفلاحين وسكان المدن قد عرفت مكانه، وبدأت تفد بالآلاف المؤلفة إليه.
وقال كليبر لأركان حربه: إن عليهم أن يقضوا على هذه الخرافة قبل أن تقضي هي عليهم، وتشاوروا طويلا فيما يفعلونه، ولو لم يكن كليبر كاثوليكيا لوافق على حرق الجثة، ولكنهم وجدوا حلا وسطا في تقطيعها قطعا صغيرة وذرها في أنحاء البلاد، وليبحث المصريون حينئذ عن إله آخر يؤمنون به، أو خرافة أخرى يتمسكون بها ويتشبثون.
وفي الليل، وكان لا يمكنهم تنفيذ شيء كهذا إلا تحت جنح الظلام، تسلل الجيش الجمهوري إلى ضريح السلطان حامد، وسرق الجثة، وقطعها، ووزعت على فرق مضت تبذرها في طول البلاد وعرضها، ونام كليبر ليلتها أعمق نوم.
ولكي أكمل لك القصة لا بد أن أضيف، أن كليبر نام نومه العميق ذاك لليلة واحدة فقط، فقد بدأت الأنباء تترى بعد هذا بأن المصريين قد بدءوا يقيمون ضريحا فوق كل مكان سقطت فيه قطعة من جسد السلطان.
وبعد أن كانت مشكلة كليبر سلطان حامد واحد، أصبح لديه الآن مئات السلاطين، كل سلطان منهم تفد إليه الآلاف المؤلفة من الجموع، وتلتف حوله، وترتج السماء بذكر اسمه، ويتخذه أولاد السلطان مركزا للنشاط.
وهل تلومني بعد هذا حين بدأ أمر السلطان حامد يشغلني إلى درجة دفعتني أن أستبدل ثيابي الأوروبية بثياب وطنية، وأذهب لزيارة واحد من مئات الأضرحة المقامة له لأعرف سر هذا التعلق به وأعرف لم وقع اختيارهم عليه ليرفعوه إلى مصاف الآلهة!
لقد فعلت وكان ذلك بالأمس؛ إذ كان يوم الخميس، يوم زيارة الضريح ، يوم يقبل الآلاف من أركان الأرض البعيدة وعليهم غبار الحقول ولفحة الشمس ليلتقوا عند صاحب المقام، وما أغرب ما رأيت! ازدحام هائل وكأنه يوم الحشر! ورجال كثيرون في ثيابهم البيضاء المتسخة، ونساء كثيرات في أرديتهن السوداء، وأنوار كثيرة، أنوار المشاعل وأنوار الشوارع وأنوار لا تدري مصدرها، وكأنها تتولد من زحمة الناس، ودفوف كثيرة تضرب فينخلع لها القلب، وجباه يلمع فيها العرق، وعيون غامضة متطلعة، وأيد تلوح، وعشرات الآلاف من الحناجر تخرج عشرات الآلاف من النداءات المبحوحة المستغيثة الآمرة: يا سيدي حامد، كلمة واحدة مكونة من ملايين الكلمات الخارجة من الصدور المتضاغطة، كلمة كبيرة ضخمة تتجمع فوق الضريح كسحابة مقدسة من موسيقى ضوئية راجفة تهتز وتنبسط على قرع الدفوف.
অজানা পৃষ্ঠা