وكان شعره يقف كلما حسبها، ويعود وينظر إلى فاطمة نظرات تغور بها في سابع الأرض، وها هو الحادث قد حدث، وأصبح عليه الآن أن يأخذ موقف الرجل الأخ، عليه الآن أن يقتلها ويقتل غريب، يقتل فاطمة أخته التي حملها وهو يعدي بها المصارف حين كانت صغيرة والتي قالت له أمه وهي تموت: «وصيتك فاطمة يا فرج!» ويقتل غريب، الكلب الذي طالما آواه وسقاه على حسابه واحتضنه، والذي طالما توقع أن يخونه، وقد خانه.
أجل، الموقف ليس في حاجة إلى كلام، إنه في حاجة إلى دم، كل ما في الأمر أنه لا بد من التثبت حتى لا تلتف خطيتهما حول رقبته، إنه قادم على إضاعتهما وإضاعة نفسه وامرأته وأولاده، فلا بد أولا أن يتأكد، فليعب الدخان وليسكت ولينتظر قبل أن يمسك السكين، والقرار بارد لا رحمة فيه ولا أمل، ففرج من أهل العزب، وأهل العزب متهمون أنهم متساهلون في أخلاقهم عن أهل القرى، ولكنه سيريهم أن أهل العزب لهم هم الآخرين أصول، وأنهم أعدى أعداء العيب!
أما فاطمة فسرعان ما أهلت من بعيد على العزبة وحولها سرب من نسائها وبناتها في أثوابهن القديمة السوداء، ورقعهن الملتفة حول رءوسهن، مكونات كتلة غامقة من السواد لها عشرات الأذرع والرءوس، تتحرك صوب العزبة في تصميم خطير، وتثير سحابة واطئة من الغبار.
وجرى الأطفال يستقبلون الموكب، كانت فاطمة في الوسط وكان وجهها أبيض، لأول مرة انقلبت سمرتها الجميلة إلى بياض شاحب، ولم تكن تبدو فاتنة كعادتها، وكانت تعقد رأسها بشالها الأسود كالحزانى، وملامحها لا تتحرك وكأنما هي ميتة أو حالا ستموت.
وحدثت ضجة لدى اقتراب الموكب من العزبة، وراحت النسوة يتناقشن في أصوات رفيعة حادة كما يتناقش الرجال، والبعض يشير بتحويدها على بيت الخولي، بينما الأخريات يتحدثن عن الأصول، وعن أن مكانها الطبيعي هو بيت أخيها، وحدث الشد والجذب والصراع وأخيرا أدخلنها في بيت الخولي القائم في ركن العزبة، وبقي الأطفال في الخارج ينتظرون.
أما غريب فقد قالوا إنه طفش واختفى في المزارع، وأنه قد لا يعود.
ولم يكن أحد في العزبة يدري ما يحدث بالضبط، كان جو العزبة قد تعكر فجأة، ولم يعد أحد يرى في جوها العكر شيئا، الرجال جميعا كانوا صامتين، والنساء دعواتهن كانت تنهال على غريب ابتداء من: «يجيله ويحط عليه» إلى طلبهن الملح من الله أن يختصه بداء لا يبرأ منه، ولكن، حتى دعوات النساء الرفيعة هذه لم تستطع أن تحرك قليلا أو كثيرا من الوجوم الثقيل الذي حط على العزبة وكل من فيها، الوجوم الذي جعل حتى كلابها تكف عن النباح.
وفي بيت الخولي كانت الحلقة مستحكمة حول فاطمة، والنساء ينهلن عليها بالأسئلة، وطبعا قبل أن يسألنها كن واثقات أنهن لن يصدقن شيئا مما تقول.
قالت إنها كانت ذاهبة تحمل الفطار إلى أخيها فرج في الغيط، وحين مرت على القناية الكائنة في حقول الذرة خرج لها غريب على حين بغتة وحاول أن يمسك يدها ويجذبها فقاومت وصرخت، وتسكت فاطمة عن حديثها التائه، وتستحثها النسوة على المضي، فتقول إن الناس جاءوا على صراخها وهرب غريب، ولكنهن لا يقتنعن ويطلبن المزيد فتقول: لا مزيد، فيهززن رءوسهن محاولات أن يترجمن حكاية اليد الممسوكة هذه بكل ما يتسع له خيالهن، بينما حمى لا ترحم قد ركبت كل واحدة فيهن لتعرف ما قد جرى وتتأكد، وكلما سكتت فاطمة، وكلما شحب وجهها وبهت، ازدادت حدة الحمى واشتدت، حتى الرجال الجالسون حول فرج بعيدا عن فاطمة وحلقتها كأنما أصيبوا هم الآخرين بنوع خفي من تلك الحمى، تلمحه في كلمة طيبة خارجة من فم طيب تقول: «صبركم بالله يا جماعة! ما يمكن ما فيش حاجة حصلت.»
وشيئا فشيئا بدأ الشيء الذي حاول الجميع كتمانه قدر طاقتهم يظهر، وكان سهم الله قد نفذ، الأذهان كلها كانت معبأة ومهيأة ومتوقعة كلها أن يحدث ما حدث، إذا انفرد رجل أي رجل بفاطمة فعليه العوض فيها! فما بالك والذي انفرد بها غريب؟! من يعمل هنا حسابا لفاطمة أو لرأيها والمقاومة التي قد تبديها؟ إذا انفردت بغريب انتهى كل شيء، والمهم الآن هو التأكد من أن كل شيء حقيقة قد انتهى، حتى فرج، كان وهو يقرأ ما يعتمل في ضمائر الناس الخفية كان هو الآخر يريد أن يعرف النتيجة، لا ليعرفها، ولكن ليتأكد أن فاطمة حقيقة لم تعد أخته، وأنه أصبح حرا يستطيع أن يفعل بها ما يشاء.
অজানা পৃষ্ঠা