ماذا يقولون وفاطمة ليست غريبة وغريب ليس غريبا؟! فاطمة أخت فرج، وغريب ابن عبدون، والحكاية ليست تائهة؛ فالعزبة صغيرة، والناس فيها عائلة واحدة، ولا يعرفون بعضهم البعض معرفة دقيقة فقط، ولكن كل واحد يعرف عن الآخر أدق دقائقه وأخص أموره، حتى النقود القليلة التي قد يكتنزها أحدهم، يعرفون مكانها بالضبط وعددها والطريقة التي يمكن أن تسرق بها، ولكن أحدا لا يسرق من أحد، هم إذا سرقوا يسرقون من محصول العزبة، وحتى هذه مجرد سرقات صغيرة لا تتعدى ملء عب قطن أو حجر كيزان دره، أو يساهي أحدهم خفير الزراعة وينضح مصرف أرز ويأخذ سمكه له وحده دون أن يورد نصفه للناظر كما جرت العادة.
وفاطمة معروفة، وكل شيء عنها معروف، ولم تكن أبدا ذات سيرة خبيثة أو سلوك معوج، كل ما في الأمر أنها حلوة، أو على وجه أصح كانت أحلى بنت في العزبة، وليس هذا هو الوجه الصحيح للمسألة أيضا، فإذا كانت الحلاوة تقاس في الأرياف بالبياض، ففاطمة كانت سمراء، المسألة لها وجه آخر خاص بفاطمة وحدها، فلم يكن في استطاعة أحد في العزبة أن يعرف ماذا في هذه البنت بالذات دونا عن بقية البنات، خدودها صحيح كانت حمراء سمراء شديدة الاحمرار تظن معه أنها لا بد تفطر كل يوم بعسل نحل وتتعشى بفراخ وحمام، ولكنك تدهش إذا عرفت أنه احمرار قد صنع من صحون المش والفلفل المخلل وعروق البصل والفجل والسمك الصغير المحروق في الفرن، وعيونها كانت سوداء، غامقة السواد، ذلك السواد اللامع الذي لا تراه إلا مشعا ومضيئا ودائم الحركة لا يستقر، العيون التي لا تحتمل أن تنظر إليها أو تنظر إليك لحظة، وحتى إذا قلنا إن شعرها كان أسود ناعما، وثوبها الحبر الواسع الذي ترتديه لا يفلح في إخفاء بروز صدرها ورفع وسطها وامتلاء ساقها، حتى إذا قلنا هذا قتلنا فاطمة قتلا، فآخر ما كان مهما فيها هو جسدها، أهم من هذا كله كانت أنوثتها، أنوثة حية نابضة دائمة التفجر والتدفق، أنوثة لا تدري من أين تنبع وأين تكمن، ابتسامتها ابتسامة أنثى، لفتتها إلى الخلف لفتة أنثى، الطريقة التي تخبط بها على كتف زميلتها، إطراقها وهي تدعو أحد المارة ليساعدها في رفع بلاص الماء على رأسها، طريقة قضمها للقمة وإمساكها للرغيف، القلة في يدها، الماء حين ينسكب في فمها نصف المفتوح، الزاوية التي تميل بها البلاص، قرطتها الخضراء الكرومبية الوحيدة حين تتعصب بها معوجة قليلا إلى اليمين، مبينة بعض شعرها المسبسب الأسود، غمازتاها حين تظهران فجأة وتختفيان فجأة وتحددان أجمل ابتسامة يفتر عنها ثغر، ضحكتها وكيف تبدأ ثم بقاياها حين تنتهي، صوتها المصنوع من أنثوية سائلة وكيف تخرجه بمقدار، وكيف تحيله أحيانا إلى قطرات، كل قطرة كلمة أو نبرة، نبرة أنثوية مصفاة، تكفي وحدها لتروي ظمأ عشرات الرجال.
وكانت فاطمة تثير الرجال أو على وجه الدقة تثير الرجولة في الرجال، وكأنما خلقت لتثير الرجولة في الرجال، حتى الأطفال كانت تثير الرجولة الكامنة فيهم، فكانوا إذا رأوها قادمة من بعيد أحسوا برغبة مفاجئة في تعرية أنفسهم أمامها، وكثيرا ما كان بعضهم يقدم على تنفيذ الرغبة، فيرفع ذيل جلبابه ويتعمد المبالغة في رفعه، ولا يفلح ضرب أو زجر في نهيهم عن إتيان هذا الأمر، فهم أنفسهم لا يدرون لماذا يعرون أنفسهم إذا رأوها.
لذلك ما كان أشد محنة فرج! كان فرج أخاها، وكان مزارعا وحدانيا فقيرا لا يملك سوى بقرته، ولا يعطيه الناظر إلا ثلاث فدادين ليزرعها، ومحاولاته كل عام ليزيد حصته نصف فدان كانت تبوء بالفشل الذريع، ومع هذا فقد كان فرج رجلا في عز نعنعة رجولته، يأكل في الطقة ثلاثة أرغفة إن وجدت، ويأتي على قلة الماء في نفس واحد، وسمانة رجله في حجم الفخذ، وكان حائرا منغص العيش، والسبب أخته، فقد كانت تحيا معه ومع امرأته، وامرأته ذات الأنف الفاطس والوجه الأصفر كانت طيبة، وإن لم تكن طيبتها تمنعها أحيانا من لفت نظر فرج إلى صدر أخته الذي تدعي أنها تتعمد هزه حين تمشي، أو إلى الكحل الذي لا يفارق عينيها، واللبان الذي توصي عليه كل ذاهب إلى السوق، ولم يكن فرج في حاجة إلى لفت النظر؛ إذ هو يرى ويسمع ويفور دمه كلما رأى أو سمع، ولم يكن يستطيع تأنيب فاطمة على شيء، كانت ترتدي نفس ما ترتديه البنات، وتتكحل كما يفعلن وتمضغ اللبان كما يمضغن، ولم يلمحها أحد في موقف مريب، ولا ضبطت مرة متلبسة بخطأ، وحتى حين ادعت زوجته أن السبب في احمرار وجنتيها أنها تحكمها بالورق الأحمر الذي تصنع منه صناديق الدخان الفرط بلل عمامته يومها بلعابه وظل يدعك وجنتي فاطمة حتى كاد يدميهما، ولم تحمر العمامة ولا حدث لها شيء، ولم يفعل شيئا يومها أكثر من أن صوب إليها نظراته المحمومة المملوءة بالشك وراح يعنفها ويزجرها، وفاطمة لا تعرف سببا لنظراته تلك، فهي تعرف العيب تماما، وطالما حدثها فرج عنه وعنفها، وهي لا تفعل العيب، وليس في نيتها أن تفعله، بل هي تفضل الموت على فعله، كل ما في الأمر أنها كانت تحس بالناس يدللونها ويحبونها، فكانت تفعل كما يفعل أي محبوب، تتصرف بحرية وبساطة وبلا تعقيد، إذا أرادت أن تبتسم ابتسمت وإذا ابتسمت كان هذا عن رغبة حقيقية في الابتسام، وإذا أرادت أن تضحك ضحكت، وخرج ضحكها بريئا نابعا من القلب، وكانت تعرف أن الناس يحبون جمالها فكانت تحرص على هذا الجمال، فلا تخرج من عتبة دارهم بوجه غير مغسول أو بشعر مشعث منكوش، وإذا اشتغلت في الغيط لبست الجوارب التي تقترضها من أم جورج زوجة الناظر، والتي تصنعها على هيئة قفازات تقي بها يديها من الأفرع وحز الشوك والأغصان، وإذا تكلمت حرصت على أن يخرج كلامها جميلا ليس فيه كلمة نابية أو تعبير قبيح، والناس جميعا أحبابها وأصحابها، كلهم يحبونها، وهي تحبهم كلهم، ويدللونها وتتدلل عليهم، ويريدونها غير عابسة فلا تعبس، ويريدونها ضاحكة فتضحك، وكل أملها أن يضحكوا لضحكها ويسعدوا بابتسامتها ودلالها، فلماذا يعنفها أخوها ويزجرها، ولماذا هذه النظرات المشبعة بالسم منه؟!
والحقيقة أن فرج لم يكن يدري لماذا، كل ما في الأمر أنه مسئول عن أخته وأنوثتها الصارخة، وكل عين تمتد إلى أخته إنما تغور في لحمه هو وتدميه، وكل أمله أن تتزوج فاطمة، وتنزاح بمسئوليتها بعيدا عنه، بل بعيدا عن العزبة كلها، ولكن فاطمة لم تكن تتزوج، فخطابها قليلون، بل تكاد تكون بلا خطاب، فمن هو المجنون الذي يجرؤ على امتلاك كل تلك الأنوثة وحده؟! وإذا تزوج ماذا يفعل بها؟! والناس في العزبة وما جاورها لا يتزوجون ليستمتعوا بالجمال ويقيموا حوله الأسوار؛ إذ هم أولا لا يحيون لكي يستمتعوا بالحياة، هم يحيون فقط لكي يبقوا أحياء، ويتزوجون لكي تعمل الزوجة وتنجب أولادا يعملون؛ ولهذا ففاطمة باقية بلا خطاب.
والعزبة مليئة بالرجال والشباب، وفاطمة كأي بنت فيها تعمل كالرجال تماما، وتسرح إلى الغيط، وتروح مع الأذان، وهي - دونا عن كل النساء والبنات - تثير الزوابع أينما حلت، ولهذا فإن قلب فرج مملوء بالخوف، وخوفه يجعله يضحك؛ إذ هو الذي يملأ العزبة برجولته الفارعة وطيبته ضحكا، وهو الذي يملؤها حياة، يبرطع وراء الرجال ويهزر معهم رغما عنهم ويعلمهم التنازل عن وقارهم الكاذب والنزول له في «الباط»، ويسابق الشبان في العوم، ويخطف القفف من فوق رءوس النساء، حتى أكثرهن تحفظا، ويجري ويضحك، ولا تشكو النساء، وفي الأفراح يلبس جلبابه الأبيض، ويلف على رأسه الحزام السكروتة ويحلق شعره وذقنه بالمكنة الزيرو ويرقص للعريس، وينقط للعروسة وللناظر، وللخولي وأهل العزبة، ينقط بالفلوس التي باع بها قطنا سرقه من المخزن أو جوالا اختلسه وهو في طريقه إلى الشحن، ويصرف، ويفنجر، ويملأ العزبة صخبا وضجيجا، والكل رجالا ونساء وشبابا يحبونه ويعزونه، وتعتمل أشياء داخل صدورهم وأشياء، فأخته تكاد تثير طوب الأرض فتنة وأنوثة، والرغبات في صدورهم تكاد تتفجر، وفرج يأسرهم بطيبته وصداقته وضحكه، فإذا مرت فاطمة خفضوا البصر، وإذا لم يحتمل أحدهم وتأوه لكزه جاره.
ولذلك ظلت فاطمة كالفاكهة الناضجة المحرمة، لا يقربها أحد، ولا أحد يدع الآخر يقترب منها، والقلوب تذوب حسرة، وأعصاب الرجال وحتى العواجيز ترتجف رغبة كلما مرت، ولكن فرج دائما هناك، لا بد يتردد في أذنك صدى ضحكة عريضة تأتيك من بعيد وتذكرك أنه هناك، وأنه عيب، وتعود حينئذ إلى صوابك، فتذهب لتخطف العصر، أو تتمشى لتشرب شايا عند الدكان.
واليوم ضبطوها في الدرة مع غريب.
والحقيقة أنها لم تضبط يومها فقط، ما أكثر ما ضبطت فاطمة! في الدرة، ووراء إسطبل الوسية، وتحت ماكينة الدراس مع رجال، ولكنه ضبط مع إيقاف التنفيذ، فالأيام كانت تثبت أنها شائعات، مجرد شائعات كان لا بد أن تنطلق وراء فاطمة إذا مرت كما تنطلق الحسرات، وسكان العزبة لم يكونوا أشرارا، ولا حاقدين، كانوا في الواقع أناسا طيبين، يحرص كل منهم على الآخر مثل حرصه على نفسه، حتى إوزهم كان طيبا لا خبث فيه، تخرج جماعاته من كل بيت في الصباح مكاكية مزغردة، وتتجمع قريبا من الجرن، وتأخذ طريقها إلى الترعة في قافلة ضخمة، ويظل الإوز يلعب ويستحم ويعلم أولاده العوم حتى تئوب الشمس إلى المغيب فتأخذ مئات الإوزات طريقها إلى العزبة، تدخل من البوابة، ويتوجه كل إوز إلى بيته من تلقاء نفسه، وحتى لو أخطأت إوزة غريرة طريقها، وذهبت مع إوز الجارة فما أسرع ما تجد بابك تطرقه الجارة ومعها الإوزة الضالة، حتى قبل أن تكتشف أنت أنها ضلت وضاعت.
وأمام فاطمة، أهل العزبة رعايا جمالها، مدلهون بحبها، إذا كان الفرح حظيت باهتمام يفوق ما تحظى به العروسة، ولعل هذا كان السبب في خوفهم الشديد على فاطمة، كانوا خائفين عليها من العيب وكأنهم لا يصدقون أن أنثى جميلة مثلها ممكن أن توجد ولا ترتكب العيب، بل إنهم من كثرة خوفهم عليها، حددوا الشخص الذي يمكنه أن يرتكب العيب مع فاطمة، حددوا غريب بالذات، وغريب كان ابن عبدون، وعبدون مع أنه كبير في السن إلا أن أحدا لا يقول له: يا عم، فقد كان رجلا عصبي المزاج يدمن «المضغة» والقهوة السادة، وكلمة والثانية وتجده طابقا في خناقك، حتى الناظر كان يخاف منه ومن خلقه الضيق ويتجنب إثارته، وعمره ما قال لأحد كلمة حلوة، ولكن شطارته كلها تظهر إذا حلت بالعزبة كارثة ما، حينئذ يقف كغراب البين على الترعة وقد أمسك بذيل جلبابه من الخلف ويمضي يشتم ويسب ويبصق مضغته ويشبع أهل العزبة لوما وتأنيبا وكأنهم هم المسئولون عن وقوع الكارثة، غير أنهم كانوا لا يقيمون لعصبيته وسبابه وزنا، فقد كانوا يعرفون أنه من الداخل أبيض، فقط طبعه هو الذي يغلب.
অজানা পৃষ্ঠা