تهت، ولكني وصلت، وأصبحت خارج البلدة، ولم أجد الوسعاية، كانت قد تراكمت فيها بيوت أخرى مصنوعة من الطين، وكانت الجبانة هناك، تطل قبورها من بين البيوت.
وكم كنا مغفلين!
فها هي القبور أمامي وحولي، وقبور فقيرة مهدمة لا شيء يرعب فيها ولا يخيف، ترى ما سبب الفزع الذي كنا نحسه ونحن صغار حين نلمح الجبانة من بعيد؟! ترى أين قبر جدتي وأين قبر عمي وخالي؟ إن القبور مهدمة كلها ومبعثرة لا تكاد تفرق بين أحدها والآخر، وكل ما يميزها جريدة عند أولها وجريدة عند آخرها، جريدة جافة قديمة قد تآكلت أوراقها واستحالت إلى نسل.
جبت المكان بناظري، فلم أجد أحدا، لا ريب أنهم كانوا قد غادروا الجبانة وعادوا إلى البيت، ولم أجد عناء كبيرا في العثور على القبر، فقد كنت لا أزال أذكر أنه قرب شجرة الكافور، وها هي شجرة الكافور، لا بد أن هذا هو القبر، ووقفت أمامه، كان الأسمنت لا يزال أخضر، ولم يكن البناء جيدا، وأثر «المحارة» واضح، ومن الأمام لافتة مركبة كتب عليها: المرحوم ... وقرأت اسم أبي، وعدت أنظر حولي، القبور مهدمة، وأشجار الكافور طويلة وحيدة جرداء، والشمس خنقها العصر الضيق، والغربان تتناحر عن بعد، وسوادها كثير.
أبي هنا إذن، تحت هذا القبر، كل هذه الكمية من الحجارة والتراب والأسمنت فوقه، وهو الذي كان لا يحتمل إغلاق نافذة الحجرة ساعة! أبي هنا نائم! وملفوف بالكفن التيل المخطط وفوقه الكفن الأبيض، وحوله كل تلك الوحشة، وعيونه مغلقة، أبي هنا! لا يمكن أن يكون راقدا، فقد كان لا يحتمل الرقاد الطويل، لا بد أنه جالس، أجل، إنه جالس، جالس القرفصاء وكأنه يقرأ التحيات، وقدمه الكبيرة متنية تحته وإصبعه السبابة تتحرك، وعيناه إلى أسفل، وكأنه يصلي، ها هو قد ختم الصلاة.
وقلت: «سلام عليكم.»
ولم يرد، فقط نظر إلي، بعينيه الواسعتين، ورأيت رقرقة الفرحة في عينيه، ولكنه لم يرد، وكان حزينا، ويتمتم بختام الصلاة.
قلت له: «أنا هنا يا أبي، أنا حبيبك وقد عدت، لماذا لا تقول: «أهلا، أهلا»؟!»
لماذا لا تقول: «اخص عليك»؟!
وقلب كفيه حتى أصبح باطنها إلى أعلى، ورفع وجهه إلى السماء ودعا بشيء، ثم مسح بيديه على وجهه، وتطلع إلي، كان حزينا، ومتعبا، ولم يتكلم.
অজানা পৃষ্ঠা