ولما اشترك عمرو في إضراب الموظفين تساءلت بقلق: هل يسجنونه كما سجنوا الشيخ معاوية؟
واخترقت الشوارع المليئة بالفتن وزارت ضريح سيدي يحيى بن عقب، ودعت على الإنجليز وملكتهم - كانت تعتقد أن الملكة ما زالت على قيد الحياة - بالهلاك الأبدي. وساورها القلق لاشتراك عامر في المظاهرات، والعقاب الذي حل بحامد لاتهامه بالتحريض على الإضراب في مدرسة البوليس.
وأمام ضريح الحسين هتفت من قلب معذب: اللهم نجنا من شر هذه الأيام ... اللهم انصر المظلومين.
كانت تربي ذريتها بتراثها وإذا بالجميع يتكلمون عن الوطن وسعد، اتسع مجال الوجدان وأصبحت الحوادث هي المربى الأول. وصمدت راضية وعمرت مثل أمها حتى جاوزت المائة سنة. في أثناء ذلك تحول الأبناء إلى أسر، وشب أحفاد جدد. وسمعت بولي آخر اسمه مصطفى النحاس، وأخيرا آخر الأولياء الذين عاصرتهم جمال عبد الناصر الذي رفع أحفادا لها حتى السماء وخفض أعزة منهم إلى الحضيض أو السجن، فراوحت بين الدعاء له والدعاء عليه. وقد انقرضت من أسرتها في حياتها الأم والأخوات، وأحمد عطا وعمرو وسرور ومحمود عطا ، وآخرون لم تدر بهم. ولكن قلبها لم يعرف الرعب أكثر مما عرفه في زمانين ... وفاة عمرو الذي حزنت عليه عمرا كاملا. ومأساة قاسم وخاصة في أول العهد بها. غير أنها صمدت بقوة خارقة، وهزمت همومها بحيوية نادرة المثال، ولم تتقاعد في بيت إلا وهي تشارف المائة، وواظبت على الحركة في مداخله، ولم تعجز عن الحركة إلا في عامها الأخير، ولما حم القضاء طرقها الموت بلطف ودماثة. كانت صدرية متربعة على الفراش عند قدميها، وإذا بها تسمعها تغني بصوت ضعيف:
عودي يا ليالي العز عودي.
فضحكت صدرية وتساءلت: أتغنين يا نينة؟
فقالت: كنت أغني هذه الأغنية وأنا أرقص بين البئر والفرن.
ومال رأسها الناحية اليسرى لائذا بالصمت الأبدي.
رشوانة عزيز يزيد المصري
هي بكرية عزيز أفندي ونعمة عطا المراكيبي. ولدت ونشأت في مسكن الأسرة بالغورية حيث أقام يزيد المصري بالدور الأول وسكن الثاني عطا المراكيبي جد رشوانة لأمها. ولما ولد عمرو وسرور تبين أن الولدين أجمل من البنت، ولكنها كانت مقبولة ذات جسم ممتاز. وألقاها أبوها على أخيها ولكنها دربت خير تدريب على فنون البيت ومالت بطبعها وتأثرها بأمها إلى التدين فعرفت على مدى عمرها بالتقوى والورع. ولما بلغت الخامسة عشرة رغب في الزواج منها المعلم صادق بركات تاجر الدقيق بالخرنفش ... كان من المتعاملين مع عطا المراكيبي، ومنه عرف عزيز ناظر السبيل وزوج ابنته ... فطلب منه يد بكريته، وزفت إليه في بيت يملكه في بين القصرين على كثب من سبيل أبيها ... وكان صادق بركات قد سبق له الزواج مرتين ولم ينجب، ومرت أعوام على رشوانة دون حمل، ثم أنجبت ابنتها الوحيدة دنانير، فسر الجميع لذلك وخاصة صادق بركات نفسه. وكان مستوى الرجل المالي حسنا، وأفضل بكثير من عطا المراكيبي وعزيز يزيد المصري، فتمتعت رشوانة بحياة طيبة، مطبخها عامر وعروس برقعها من الذهب الخالص. وتزور والديها في الغورية أو أخويها عمرو وسرور في بيت القاضي محملة بالهدايا. واستوت دنانير على مثال أمها مقبولة أو أحسن درجة، وأثبتت نجابة في المدرسة فشجعها أبوها على الاستمرار رغم اعتراض محمود بك عطا المراكيبي. وأيدت رشوانة خطة زوجها لتتساوى ابنتها مع فهيمة وعفت كريمتي عبد العظيم داود ابن عمها، ولكنها كانت راسمة الزواج كنهاية سعيدة يقف عندها التعليم؛ ولذلك دربت ابنتها على فنون البيت في العطلة المدرسية الطويلة، وانتظرت على لهف ابن الحلال. ولما لزم صادق بركات الفراش نتيجة لمأساة مرضه سلمت باستمرار دنانير في التعليم كضرورة لا مفر منها، على الأقل حتى يتيسر لها الزواج، واشتدت الحاجة إلى ذلك عقب وفاة صادق بركات، وبعد أن أصبحت بلا مورد، ولم تجد بأسا في أن تتزوج دنانير على أن تعتمد هي في معاشها على خالها محمود بك لولا إباء دنانير وإصرارها على العمل حتى مع الحرمان من حقها المشروع في الزواج. وقد مات أبوها عزيز دون أن يترك لها شيئا تركن إليه، وماتت أمها نعمة فقيرة، إذ إن ثراء عطا المراكيبي جاءه من زوجته الجديدة التي تزوج منها بعد وفاة زوجه الأولى أم نعمة؛ وكانت تدعى سكينة وهي ابنة صاحب دكان المراكيبي الذي ورثه عطا عنه أو أداره نيابة عن سكينة صاحبته الأصلية، وقد صفى الدكان بعد وفاة سكينة. كرهت رشوانة فكرة التضحية بدنانير من أجلها هي، وحاولت إقناعها عبثا بعرض خالها محمود الكريم، والذي أبدى أخوه أحمد المشاركة فيه حبا وكرامة، ولكن دنانير أبت ذلك، وقالت لأمها: سنعيش بكرامتنا مهما كلفنا ذلك.
অজানা পৃষ্ঠা