مقدمة الكتاب
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
অজানা পৃষ্ঠা
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
অজানা পৃষ্ঠা
الفصل العشرون
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
الفصل الثالث والعشرون
الفصل الرابع والعشرون
الفصل الخامس والعشرون
خاتمة وعبرة
مقدمة الكتاب
الفصل الأول
الفصل الثاني
অজানা পৃষ্ঠা
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
অজানা পৃষ্ঠা
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
অজানা পৃষ্ঠা
الفصل الثالث والعشرون
الفصل الرابع والعشرون
الفصل الخامس والعشرون
خاتمة وعبرة
هذا التاج
هذا التاج
تأليف
واصف البارودي
مقدمة الكتاب
نحن الأساطير والتاريخ حكاية
অজানা পৃষ্ঠা
لست من الذين تهون في نظرهم وتصغر في نفوسهم كلما تقدمت بهم الحياة أهمية تلك الحكايات، حكايات العجائز؛ وهي كانت تغذي نفوسنا، وتساعد في نمو شعورنا وتفكيرنا في الصغر، ولست من أولئك الذين يستخفون بالأساطير ويهزءون بها، والواقع يثبت أننا لا نزال نحيا في أجوائها، وسنظل ما دمنا نجهل الكثير من حقائق هذا الوجود، وما دمنا نخشى مواجهة الحياة في حقيقة واقعها، وفي اكتناه أسرارها، واكتشاف الخفايا في زوايا التكوين.
فتلك الحكايات - حكايات العجائز - إنما هي وديعة الأجيال، تحملهن إياها الحياة أمانة إلى النشء النامي في صغره؛ ليتمتع بها أولا ويسر، ثم لتتبلور مغازيها في نفوس أولئك الأبناء الأحباء مع تطورهم ونموهم، حكما خالدة تندمج في كيانات أفئدة الشباب، فتهز قلوبهم، وتسير سلوكهم، وتهيئ رشد الكهولة في الأفراد وفي الأمم.
وما الأساطير سوى تعبير دقيق مغلف عن حقائق الوجود، وعن تطورات الحياة وأحوالها، وعن تصور الإنسان لتلك الحقائق والتطورات، وعن تفهمه لبواعثها ولما ترمي إليه بأسلوب رمزي خاص، تداركت به اللغة عجزها عن التعبير عنها بأسلوب واضح صريح.
ففي هذه الأساطير وفي تلك الحكايات أعمق ما في معاني الحياة من فلسفة وتفكير وحكمة، وأبلغ ما في اللغة المعبرة عن تلك المعاني من أدب وتعبير، فهي متعة الصغار والكبار معا، مهما اختلفت درجات التفكير وميادين التأمل، ومهما تنوع التأثير، فإذا كانت تؤثر في الصغار كنوع من السلوى، تجتذبهم وتستهويهم، فإنها كثيرا وكثيرا جدا ما تدعو الكبار، ولا سيما الواعين المثقفين إلى كثير من التأمل الهادئ والتفكير العميق في وحدة الحياة، على تعدد ظواهرها، وتنوع مراميها، وتبدل مظاهرها!
فهي الحياة، تدرك النفس أسرارها بفاعلية خبرتها الذاتية بشكل أشد وأعمق مما قد تمنحها إياها العلوم وكتبها، وهذه لا تزيد عن أن تكون محتويات، تستمد النفس منها غذاء لفاعليتها وقوة، كما يستمد الجسم غذاءه وقوته من الأطعمة والأشربة والعلاج، وأروع تعبير عن فاعلية الخبرة في الشعوب إنما تجده في تلك الأساطير وهذه الحكايات، فلا جرم إذا عادت الشعوب إليها كلما زحمتهم الحياة؛ لأنها إرث تكمن فيه عناصر الانبعاث وبواعث انبثاق ما هو إنساني من القيم التي يتميز بها الإنسان.
فإذا وجدت في حكايات العجائز وسيلة من أقوى وسائل التعبير عن أسرار الحياة؛ فلأنني أعتبرها أبسط سلك موصل، تبلغ به الحقائق أعماق الأفئدة دون جدل ولا تعقيد، ولعل اعتماد الحضارة على القصة كتعبير في الآداب الرفيعة مستمد من هذا الواقع الحيوي في تكامل الثقافة والحياة.
ولعلك - يا قارئي العزيز - تفكر، وأنت تقرأ هذه النظرة في أهمية حكايات العجائز وأساطير الأقدمين، فيما تحويه الأسطورة من خرافة، ولعلك تتأمل فيما تتزين به الحكاية من تخيل وأكاذيب! فتستخف بهذه النظرة، مستغربا أن تكون الخرافة وأن يكون التخيل والكذب من أسمى أنواع التعبير عن أسرار الحياة، ومن أنجع وسائل إيصال حقائق هذه الأسرار إلى الأفئدة! إنك على صواب في استغرابك، ومن حقك أن تشك، والشك عند العلماء المفكرين أصل اليقين، ولكن عليك في شكك هذا، ونحن نقرك عليه ما دام شكا علميا يستهدف الحقائق، والشك الهازئ سطحي لا قيمة له ، عليك أن تفكر في أمرين، وأن تتأمل في ملابساتهما: (1)
هل تلك الأسطورة أم هذه الحكاية هي خرافة أو تخيل أو كذب بالنسبة إلى ثقافتك وعصرك، أم بالنسبة إلى العصر الذي قيلت فيه؟ فإن تكن بالنسبة لعصرك، فأنت لا تدري ما هو حكم المستقبل على ما سينقل عن عصرك من حكايات وأحاديث ومن صور وتعبير! فلطبيعة التعبير في تلك الأساطير والقصص أهميتها الخاصة في عصرنا هذا، وهو عصر انتبه لسوء تأثير التصنع، فلذا ينادي بالعودة إلى طبيعة الأشياء. وإن تكن بالنسبة إلى تلك العصور، فعندئذ تكون هي تصنعا، ولا يجوز أن نعيرها هذه الأهمية. (2)
هل في هذا العالم حقيقة مطلقة وخير لا تشوبه فاعليات الشرور؟ الخير والشر متلازمان، والحق والباطل لا يفترقان، والإنسان بفاعليته الذاتية هو الذي يميز ويختار، وهو الذي يخدع أو ينخدع، ولولا تلازم الخير والشر واتصال الحق بالباطل، لما كان للحياة معناها ولما كان للإنسان أي مطمح في كفاح، ولا أي افتخار في ظفر، وهل الإنسان في هذه الحياة سوى مجاهد يكافح الخير والشر معا؛ ليستقر ما يختار منهما في نفسه على الشكل الذي يتخيله والصورة التي يرسمها؟! وهل هو سوى عامل تائه يجد ويكد، سائرا في طلب الحق؟ فإذا هو في نزاع عنيف مع الحق والباطل معا، إلى أن يستسلم لأحدهما فيكون سعيدا أو شقيا، عظيما أو حقيرا، سيدا أو مسودا.
وما تلك الأساطير وهذه الحكايات مع ما ينضم إليها من وقائع وحوادث يتكون بها التاريخ، ومن تعابير وأساليب ينبثق عنها الأدب، سوى مثيرات ومحفزات تثير النفس وتحفزها؛ لتستمر في كفاحها المتصل بكفاح الإنسان منذ حاول أن يحقق إنسانيته، فتتحقق بذلك الصلة بين الأجيال في تقدم الثقافة والحضارات.
অজানা পৃষ্ঠা
فلا ضير علينا إذن، إذا عدنا إلى بعض تلك الحكايات والأساطير، مع الاعتماد على الحوادث الراهنة والوقائع المشاهدة الملموسة - تصريحا أو تلميحا - في أحاديثنا في هذه «الجريدة» الغراء، ومن أهدافها وأهداف كل صحيفة تدرك حقيقة رسالتها أن تصل بالحقائق إلى أعماق النفوس، وهذا هو هدف الأهداف في انبثاقات المدرسة الحديثة التي ندعو إليها، وفي تطورات مفهوم التربية فيها في تجليات روح المجتمع وثقافته.
المؤلف
الفصل الأول
يحكى أنه كان في قديم الزمان ملك عادل، كان ملكا عظيما مسيطرا في الأرض، ولا أذكر أن جدتي - رحمها الله - ذكرت لي اسمه، على كثرة ما رددت علي هذه الحكاية، ولا البلاد التي كان يحكمها، ولا الزمن الذي أظله بوقائعه. زمنه قديم، وسيطرته على جميع ممالك الأرض، وهو ملك عظيم تعنو له الرقاب، وتخضع لهيبته جميع الآفاق، هكذا كانت تصوره لي بعباراتها الفخمة ولهجتها القوية، وكانت عباراتها تزداد وضوحا بوضعها الذي تتخذه منسجما مع معاني القصة، ومتفقا مع حركة اليدين وبنظراتها المشعة، وكأني بها كانت ترسل تلك الأشعة لتنير لكلماتها طريقها إلى الفؤاد، فقد كان لكلماتها تأثيرها القوي في نفسي؛ ولذلك تراني أذكر الكثير منها، ومما كانت تقص علي من قصص، وأعترف بما كان لها في نمو ذاتي من أثر كبير.
ولعل في إهمال ذكر اسم الملك، وفي ترك تعيين بلاده وزمنه، مغزى بعيدا أراد واضع القصة أن يجعل منه صورة رمزية لكل ملك عادل، في أي قطر من الأقطار وفي أي زمن، ولو أن جدتي كانت تعرف كلمة الإمبراطور وتدرك معانيها لقالت - ولا ريب - إنه كان إمبراطورا عظيما؛ لأنه كان عادلا.
وعلى كل، فقد كان هذا الملك العظيم محبا لرعيته، يريد لكل فرد منهم الخير والطمأنينة والسعادة، وكان يؤلمه كل الألم أن يظلم أحد من الناس، فلم يكن يترك وسيلة لدفع الظلم، وما كان ليتساهل في الانتقام من الظالمين، اعتقد أن العدل أساس الملك، فاتجه لتحقيق العدالة بكل شعوره وبكل تفكيره، فالضعيف المظلوم هو القوي في نظره حتى يأخذ له حقه من ظالمه، والكبير صغير عنده إذا ما اعتدى على صغير أو احتقره. أحبته الرعية وتعلق به الناس، حتى كادوا يعبدونه من دون الله، كما عبدوا نمرود وفرعون، ولكن، وآه من ولكن.
ولكن أمرا ضاقت به نفوس الناس على الرغم من وجود مستلزمات الراحة والطمأنينة، بفضل نعمة العدالة التي يتصف بها الملك ! وقد ضاقت نفس الملك ذاته بهذا الأمر، على الرغم من كرم أخلاقه وحكمته، هي فكرة سيطرت على عقله حتى أصبحت عقيدة ملأت نفسه، فهو يدين بها لدرجة الوسوسة، فلا مناص من أن يتحمل هو، ومن أن يحمل الناس ما تستدعيه محاولة تحقيقها من تدابير تتجاوز أحيانا الحدود التي يطيقها البشر.
قد استقر في ضمير ذلك الملك أن العدل يأبى أن يكون شيمة لأبناء الحرام، فابن الحلال وحده هو الجدير بأن يتصف بالعدالة، وأن التبعة لا تقع عليه وحده في تحقيق العدالة، بل هناك الحكام والقضاة والموظفون، ولا قيمة لحبه للعدل، ولمحاولاته في تحقيقه إن لم يكن هؤلاء جميعهم عادلين، وما كانت فكرة مساهمة هؤلاء في تحمل تبعة تحقيق العدالة في المملكة لتخفف ما يجد من حرج في نفسه، بل زادت في قلقه؛ لأنه يدرك أن التبعة تعود كلها عليه ما دام هو الذي يعينهم ويوافق على اختيارهم، ولعله كان يردد في نفسه هذه المعاني التي قصدها الشاعر في قوله:
ومن يربط الكلب العقور ببابه
فكل بلاء الناس من رابط الكلب
অজানা পৃষ্ঠা
فلا مندوحة له إذن من أن يختار موظفيه من أبناء الحلال! فلا يقبل بتعيين من لا يكون من ظهر أبيه زوج أمه! ولما كان يأخذ الفكرة على معناها الحقيقي الحسي، شرع يفكر بالحصول على الأدلة الحسية في ولادة الأبناء، وهل لتحري ولادة الأبناء من وسيلة غير التجسس على خفايا الحياة الداخلية في البيوت وفي خارجها؛ أي في كل ما يتصل بالحياة العائلية الصميمة بسبب؟!
وهكذا فقد ضاق الناس ذرعا بنوع من التجسس، اعتمد عليه ذلك الملك في اختيار الأكفاء العادلين من القضاة والحكام والموظفين، فعيونه التي كان يبثها في جميع أنحاء المملكة لتتجسس أمور العائلات في صميم حياتها الداخلية، ولا سيما في تصرفات الزوجات ليتحقق ولادة أبناء الحلال، فيدون أسماءهم في سجل خاص يرجع إليه عند الاختيار، أقلق الناس وأزعجهم، وشوش عليهم راحتهم واطمئنانهم، وقد أدرك الملك أنه يزعج رعيته من حيث يريد راحتها، فارتبك واضطرب، وأخذ باستشارة المقربين إليه .
وما أن انتشرت أخبار الملك وأحواله في تشوشه واضطرابه بين خاصة الناس، حتى وصلت إلى دجال مشعوذ من السحرة كان يسكن في أطراف المملكة، وكانت له شهرته في جميع الأرجاء. وجد الدجال في هذه الجهة من ضعف الملك فرصة مؤاتية لإشباع شهواته، وبلوغ أغراضه من مال وجاه وتحكم؛ فشد الرحال وقصد العاصمة، معتمدا على ما كان للسحرة من مكانة عظيمة وشأن كبير في تلك العصور، ولا سيما إذا كانوا ممن يتقنون فنون التغطية والتدليس، ويحسنون القيام بأنواع المهارات في الدعاية والتمويه والتلبيس.
لم يصل الساحر إلى العاصمة حتى أثار حول اسمه ضجة مفتعلة، استعان على إثارتها بالمال وبأتباع موعودين، إنه ذكي فطن، يعلم أن كل معروض مهان، فأراد أن يكون مطلوبا، يطلبه الملك فيصطفيه، لا طالبا يعرض نفسه فيتهم ولا يثق به أحد، وقد حصل له ما أراد، فما وصل اسمه إلى الملك مقرونا بضجة الدعاية والتمجيد، حتى استدعاه إليه يستنير بعلمه، ويستعين بقدرة اطلاعه على الغيب، والتكهن بما يخبئ المستقبل له ولرعيته من حوادث وتقلبات؛ عله يجد لديه وسيلة تنقذه وتنقذ الشعب من ذلك المأزق، وقد أوقعته فيه عقيدته المستقرة في أعماق فؤاده.
دهش الملك مما وجد عند ذلك الساحر من علوم وفنون ومهارات تحير الأذهان والعقول، ومن بيان يزخر كالبحر، وطلاقة لسان تسابق الرياح في أعصارها، ولا غرو، فالسحرة لا يكونون من البلداء المغفلين، ولا تجد المشعوذ بين الجهلة الأغبياء الأعياء، وطلاقة اللسان عند المشعوذ وسهولة البيان عند الساحر مضرب مثل عند الناس.
فلم يكن من الغريب إذن، وقد أدهش الملك الطيب أن يؤخذ بسحر الشعوذة، وأن يثق بمن يمثل هذا السحر بين يديه، فيفضي إليه بذات نفسه وبما يجد من حرج وضيق.
الفصل الثاني
قال الراوي: لم يكد الملك الطيب القلب يفضي بما في نفسه، حتى بدت على وجه ذلك الدجال المشعوذ أمارات الارتياح والاهتمام، ارتاح ارتياح الظافر الداهية، بعد أن استسلم إليه الملك وأطلعه على كثير من أسراره الخاصة ومن أسرار الدولة، فأصبح بين يديه كالطفل يطلب العون من والده، أو كالتلميذ يلتجئ إلى أستاذه؛ ليساعده على إزالة ما في نفسه من قلق، وليرشده لما يصلح شئون الدولة لتنقذ مما هي فيه من اضطراب، وكثيرا ما كان ضعف العظماء أمام بيان مثل هذا المشعوذ من السحرة الدجالين سببا لمصائب ونكبات منيت بها الأمم في مجموع كياناتها وفي أفرادها.
نجح الدجال المشعوذ وقد بلغ ما أمل، فأصبح مطلوبا، وزاد في أهمية نجاحه استسلام الملك إليه، استسلاما كان فوق ما أمل وانتظر، فلا غرو إذا أظهر التواضع والخضوع والتذلل، وأبدى كثيرا من اهتمام من يفاجأ بالمشكلة، فلا يستطيع أن يرتجل طريقة حلها؛ فيطرق متأملا مفكرا، يثبت نظره في الأرض حينا، ويغمض عينيه إغماضة تامة، أو نصفها حينا آخر؛ حتى تتقد القريحة فترسل شعاعا من نور نورها يضيء له الطريق ليجد الحل الملائم.
أتقن مشعوذنا تمثيل دوره هذا، وقد سبق وهيأ في نفسه كل شيء قبل أن اجتمع بالملك، وقبل أن فاز باستسلامه، فلا حاجة به للتفكير ولا للإطراق، ولكن الشعوذة فن كله تغطية، وكله تدليس وتلبيس، وكله تصنع وافتعال. أطرق الساحر طويلا وإنه ليطيل زمن إطراقه مسترقا النظر إلى وجه الملك؛ حتى إذا ما ظهرت على هذا الوجه أمارات نفاد الصبر تشوقا إلى استماع درر الحكم، وإلى التأمل فيما ينبثق عن ذلك العقل العبقري في صفاء تفكيره من نصائح وتعاليم وإرشاد، تحرك برأسه وبأعلى جزعه حركات خفيفة، رفع على إثرها رأسه، وعيناه ذابلتان كمن يستفيق من نوم عميق أرهقه بأحلامه، فتنهد ثم التفت إلى الملك وقال: يا صاحب الجلالة، أتسمح لعبدك الذليل الحقير أن يكون صريحا في حديثه وعليه الأمان؟ فاضطرب الملك وقدر لهذا الحديث أهمية عظيمة، وقال له: أنت أمين مهما كان في قولك من تجاوز. - أنحن في نجوة من آذان الناس وأعينهم حتى من أقرب المقربين؟
অজানা পৃষ্ঠা
ما سمع الملك همسه هذا حتى أصدر أوامره بأن توصد أبواب القاعة، وألا يؤذن لأحد بالاقتراب منها مهما كان شأنه.
أظهر الساحر ارتياحه لاهتمام الملك بحديثه، فعدل جلسته وأخذ يحدد نظراته في وجه صاحب الجلالة، ويثبتها بعد أن كانت تائهة مضطربة حائرة، وما لبث أن أصبح في وضع أشبه ما يكون بمن يتحفز للاقتناص، وقد كان هدفه في الحقيقة اقتناص قلب الملك وعقله، ثم أخذ يهدر متمتما مهمهما مدمدما، كالغضب الخائف الذي يتردد بين الإقدام والإحجام؛ ليوهم مراقب أوضاعه أن الأمر خطير، وما شعر بأنه لم يبق في صدر الملك للصبر مجال - وهو الوضع الذي يستدرج إليه المشعوذ فريسته؛ لتصبح في أقصى حدود الاستعداد لقبول ما يقول وما يطلب - حتى أنهى همهماته ودمدماته بقوله: لن يبلغوا مقاصدهم الخبيثة، الله موجود، وهو الإله الحق الذي يكلأ العادلين، ويحفظهم من الأشرار، يا ملك الزمان! إن الله قد منحك العقل والحكمة، وأنعم عليك بأعظم ما ينعم به على الملوك، إذ تطيب نفسك بإقامة العدل بين الناس، ولكن بطانة السوء وأشرار المشيرين سيعود كيدهم إلى نحرهم، لم يرد بك ولا بالمملكة خيرا من أشار بالتجسس على الناس، وإذا أحب الناس العدل فإنما يحبونه لما يحقق من حريات، وما كانوا يرغبون في العدل لولا أنه يردع الناس عن أن يتعرض بعضهم لحرية بعض. لا شيء أثمن من الحرية على الإنسان؛ إنها هي ذاته، فلا يكون إنسانا إلا بها، والحرية يا صاحب الجلالة هي ميزان العدل، فكل عمل يحجز على الناس حرية من حرياتهم، دون مسوغ إنساني يقضي به المجتمع في حرصه على حرية الجميع، هو ظلم تنتج عنه أوخم العواقب، ويكفي الناس أن يشعروا بأنهم مراقبون ولا سيما في أعراضهم؛ حتى يجدوا لفقد الحرية في نفوسهم لوعة من يفارقه حبيبه، وألم من تبتر أعضاؤه عضوا عضوا، ماذا أراد من أشار بإيقاع هذا الحيف بالرعية؟ أراد أن يخدم بذلك أجنبيا رشاه؟ أم أراد أن يساعد أحد الطامعين بالعرش، وقد غره بوعوده؟
ما بلغ الساحر في حديثه حدود هذا الاتهام الغامض، حتى افتر ثغر الملك عن ابتسامة رضى، ثم أخذ يتأمل في نفسه تأمل المعجب بما سمع، فتوقف الساحر عن الكلام مبتهجا ببوادر الصيد، ولا تخدعن يا عزيزي القارئ كما خدع الملك؛ فساحرنا عالم خبير، لا يبدأ إلا بما هو معقول، تشع منه أمارات التكهن والإخلاص، شأن كل مشعوذ محنك، فانتظر.
سكت الساحر احتراما لتأملات الملك، ولكن هذا لم يلبث أن استفاق من تأملاته هذه، وأجاب على الأسئلة بقوله: بل للسببين معا؛ فهناك سر لم أبح لك به؛ لما هو عليه من خطر أولا، ثم لأنني لم أستكمل الأدلة كلها بعد، فشداد ملك البلاد المجاورة هو ممن وفقني الله لإخضاعهم من الملوك، بعد أن كان يسيطر على سياسة مملكتي ويسيرها كما يشاء، فهو يعمل على استرجاع سيطرته، وعلى الانتقام ممن انتصر عليه، ولم يجد وسيلة إلا في إفساد ضمائر بعض الخاصة من وزراء ومشيرين، وفي إطماع ابن أخي في العرش، وهو شاب مستهتر مسرف ضيق التفكير، فهؤلاء الخاصة في دفعهم لي لاتخاذ هذا التجسس على الرعية، إنما كانوا يعملون للأجنبي وللطامع في العرش معا، فهم أبناء حرام ولا شك، والتجسس ذاته خدعني حين سجلهم في سجل أبناء الحلال، فالأمر خطير، واعتمادي على عملك وبعد نظرك، وقدرتك على الاطلاع على الغيب في تدارك هذه الأمور، ففكر مليا، فإنني أثق باطلاعك كما أثق بنفسي، وإلى الغد، وقد حان موعد اجتماعي بمن وعدني باستكمال الأدلة الجرمية اليوم.
الفصل الثالث
قال الراوي: خرج الساحر من خلوته بالملك وهو يكاد يشعر أنه يطير في الهواء ولا يسير على الأرض؛ لشدة ما أثر في نفسه فرح النجاح، وقد زاد في انبساط نفسه وابتهاجه، ما لاحظه من التملق البارز في تحيات رجال القصر، وفي انحناءات الأتباع والخدم، حتى أوشك أن يرى نفسه وقد أصبح صولجان الملك في يده يقلب به قلوب الناس. سار من باب القاعة وقد أحاط به بعض رجال البلاط وموظفيه، يشيعونه بقلوبهم وعيونهم وجميع جوارحهم، حتى بلغ رتاج القصر، فوجد مركوبه حاضرا، وكان حصانا أصهب فارها، عليه مظاهر خيلاء الخيول العربية الأصيلة ونفورها، وله مرحها وصهيلها ونشاطها، وما كاد يدنو من ذلك الحصان حتى وجده يضرب الأرض بقوائمه ضربا موقعا، له لحن خاص يعبر به عن زهو الخيول الأصيلة وتيهها، وعن تمردها على الحياة، فهي ترى أنها إنما تسام خسفا في سيرها على الأرض، وهي الجديرة بأن يكون ميدان جريها أجواء السماء.
امتطى الساحر ذلك الجواد الكريم بعد أن أعانه بعض الأتباع، شأن المزيفين من العظماء متى أرادوا الركوب، فبعض الناس يمسكون بالركاب تذللا، والآخر يقبض على اللجام تملقا، وآخرون يحيطون بهم تمويها في زيادة الاحتياط، والعظماء العظماء يأبون هذه المظاهر الكاذبة، ويخجلون منها ما دامت قد تدل على الكسل والعجز، واسترخاء الترف أو كبرياء الصلف! وهذه الصفات وما يماثلها لا تليق بالعظيم الأصيل في عظمته المعتد برجولته، ولم يشعر ذلك المشعوذ بأنه أصبح على متن ذلك الحصان الجواد مالكا لقياده، حتى انتقلت إليه عدوى الخيلاء زيفا، فكان مظهرها غطرسة ممقوتة، كما كان زيف النفور والمرح والنشاط والصهيل، وهي كلها صفات محببة في الخيول، وفي غيرها ما دامت طبيعية أصيلة، سماجة وكبرياء، وزهوا وتصنعا، وهديرا يشبه هدير البعير.
أما الشعب، ذلك الشعب الساذج المغفل الغارق في أحلام أوهامه، ولا سيما أوهام السلطة والعزة والنفوذ، والمأخوذ ببريق مظاهر التمويه والزركشة، وبأكاذيب سراب العز ووهم الأمجاد، وبخداع التدجيل بشكلياتها وظواهرها، إن ذلك الشعب المسكين ما كاد يسترق السمع، بباعث حب الاستطلاع، أو أنه سرق سمعه بفعل الدعاية والتغرير، فعلم بما كان للساحر عند الملك من حظوة ورعاية، حتى أخذ يبث العيون مستطلعا عن موعد انتهاء هذه الزيارة؛ ليتمتع بنفحة الملك والسلطان تتصل بأحد الرعايا السوقة العاديين، فكأن الإنسان يكفيه في نظرهم أن يتصل بالملك وبذوي السلطان ليخلق خلقا جديدا، ويكفيه أن يستقبل في تلك القصور ليستعير قبس نور المجد ويلبس رداءه، وهل للإنسان أية قيمة ذاتية إذا لم يتصل بظل الله على الأرض، أو بمن والاه واتصلت به نفحة من نفحاته؟ إنها صوفية الشعوب الجاهلة كيانها، الذاهلة عن ذاتها والمستسلمة لظواهر الحياة، ولمظاهرها وشكلياتها، ماذا تريد من شعب يغفل عن ذاته، وينسى أنه هو مصدر السلطة والعظمة والمجد، وأنه هو الذي يرفع ويخفض ، وهو الذي يعز ويذل، وهو الذي يسدد الخطى أو يضل، بفعل ما أودعه الله في كيانيه الفردي والاجتماعي من قوى وإرادة وتفكير؟
لم يعلم ذلك الشعب المضلل المستسلم بخروج الساحر من قصر الملك على الشكل الذي وصفناه، حتى ترك أعماله ووقف صفوفا متراصة على جانبي الطريق، فمن الناس من كان يحيي المشعوذ عند مروره بالانحناء، ومنهم من حياه بالهتاف والصراخ، ومنهم من اكتفى بذهول غيبوبة التأمل والإعجاب، مأخوذا بصوفية عبادة المظاهر والشكليات، وما كانت هذه الحفاوة إلا لتزيد في غرور الخيلاء، إذا ما بعثها في نفس المغرور استسلام الشعب إليه، إنها تنقلب لاستخفاف يحتقر معه بغروره ذلك الشعب المنعم، وهذا ما ظهر على وجه ذلك المشعوذ، وقد كانت ابتسامته الصفراء الهازئة تنم عن احتقاره لهؤلاء السوقة السذج، وتعبر عن استخفافه بهم، وقد عبر عن سخريته هذه لمن بجانبه من الأتباع بقوله: إنهم حقا طيبو القلوب هؤلاء الناس.
وكان في هذه الصفوف شاب تطل الحياة جديدة من عينيه، وهل الشباب في حقيقة معناه سوى إطلالة جديدة للحياة على الوجود، تريده مستمرا في تجدده؟ وكان هذا الشاب - ولم يكد يبلغ الموكب نصف طريقه - قد شعر بما يرتسم على وجه ذلك الساحر المشعوذ المغرور من استخفاف وهزء واحتقار، وبما تفتر عنه شفتاه من سخرية وخبث ولؤم، فالتفت إلى ذلك الجمع، وصرخ قائلا: ما هذا الحمق الساذج الأبله؟ مر بكم هذا الرجل على أتانه قبل ساعات فلم تأبهوا له ولم تكترثوا لمروره، وأعلم أن كثيرين منكم كانوا يرمونه بالكذب والدجل والتمويه، فما بالكم وقد فتنتم به الآن؟! هل للسلطة عصا سحرية لا تلمس أحدا إلا ويصبح أهلا لأن يفتتن به الناس سواء أعمل أم لم يعمل؟! وسواء لديكم أكان ضارا أم نافعا؟ شريرا أم خيرا؟ ماذا عمل هذا الرجل؟ أفتح لكم بلادا جديدة أم أمنكم من خوف؟! أأنقذكم من مجاعة أم حفظ لكم أرواحكم وأموالكم وأخصب أرضكم؟! أية نهضة حققها في ميادين العلم والسياسة والاقتصاد؟! ما هو أثره في المجتمع حتى يفتتن به المجتمع ؟! يا مغفلون! إن عملكم هذا سخف وحمق إن لم أقل نفاق وجنون! إنها الشعوذة تفتك بالمجتمع.
অজানা পৃষ্ঠা
وما كاد يصل الشاب في حديثه الصارخ إلى ذكر الحمق والنفاق والجنون والشعوذة، حتى انتفخت أوداج الساحر، واصفر وجهه من الغضب، فثار الناس على ذلك الشاب، وأخذوا يكيلون له الشتائم، فبعضهم أخذ يقول: إنه وقح قليل التهذيب، وآخرون كانوا ينعتونه بالحمق والسفه، وجميعهم قرروا أنه مجنون يجب أن يعالج في مستشفى المجانين، ولم تهدأ ثائرة الناس، ولم تسكن ضجتهم إلا عندما أخذ الجند هذا الشاب، وقد امتنع عليهم فجروه على الأرض جرا دون رحمة ولا شفقة، وكانوا يضربونه بهراوتهم ويركلونه بأرجلهم بعنف وقسوة وجفاء افتر لها ثغر الساحر عن ابتسامة عريضة وزفرة عميقة، عبرتا عن الرضا والقبول وعن التشفي والانتقام، وقد زادت ابتسامته عرضا وطولا وعمقا في مبناها وفي معناها، عندما ألقى الجند القبض على شاب آخر أراد أن يدافع عن رفيقه متمردا على الدجل والشعوذة والنفاق، ومنددا بجهل الشعب وحمقه وانهيار أخلاقه وحقارته.
هذا هو جو الموكب بعد أن اعتقل الشابان، ولا أدري، أكان السبب عدم وجود شبان آخرين، أم أن الخوف والذعر أسكتهم؟ لم يذكر راوي الحكاية شيئا عن هذا، ولكن باستطاعتنا أن نفترض أن الكهول والشيوخ، وهم من تتجسم فيهم روح المحافظة على التقاليد ولو كانت فتاكة، ومهما كانت سخيفة، وهم الذين تأخذهم شعوذة صوفية في عبادة الشكليات والمظاهر وإن كانت سببا للتذلل والانحطاط وقبول الاستعباد، نعم، باستطاعتنا أن نفترض أن هؤلاء وربما انضم إليهم كثير من الأولاد كانوا وحدهم المتظاهرين، وأن وجود هذين الشابين كان صدفة عارضة، كما يمكننا أن نفترض أنه كان هناك شباب من نوع آخر، فسدت تربيته وبكرت شيخوخته، فلم تتحقق فيه معاني الشباب، ولم تتفتح في نفسه أزاهره، مالي أشتط؟ فعفوا يا قارئي العزيز، كان الأجدر أن أقول: ربما كان سائر الشباب في تلك المظاهرة من الشباب الهادئ العاقل الرصين، ومن الذين لم يتذوقوا طعم الجنون، جنون الشباب، وربما كان من الشباب المكبوت أو ممن أرعبه الذعر من تصرفات الجنود.
ومن يدري؟!
وكيفما كان الأمر، فإن الموكب استمر بهدوء وسكون، وعادت له روعته بعد أن ارتاح الناس من جنون الشباب وطيشه، حتى وصل إلى دار الساحر، فترجل هذا وحيا الناس مبتسما ابتسامة الظافر، وحيا الأتباع الذين رافقوه وكانوا في ركابه، وأرسل إلى الملك العظيم تحية الشكر والعبودية والخضوع والتذلل، ودخل داره مطمئنا آمنا.
الفصل الرابع
قال الراوي: لم يتجاوز الساحر عتبة باب الدار حتى بادره الخادم بقوله: القاعة مزدحمة بالزائرين يا سيدي، ويظهر أنهم من الكبار الكبار، وكان الخادم يقول ذلك والدهشة تعقد لسانه.
إنه تعود أن يرى في دار سيده أناسا من السوقة، وأكثرهم من الفقراء، يأتون لمعرفة بختهم أو لكشف الغيب أو المستقبل، وقد يقصدونه لمحاولة استهواء حبيب أو للإيقاع بعدو إذا لزم الأمر، أو للحصول على رقيات وتمائم وتعاويذ وأحراز، يعتقدون أنها تقيهم من العين أو المرض، أو تشفيهم من الأدواء والعلل، أو تحفظهم من السحر ومن تعديات الناس، ومن الأحراز ما يكون للمحبة، فيصبح حاملها محبوبا لدى الآخرين، إلى غير ذلك من أغراض ومطامع قد تواجهها بعض المصاقبات أو تلائمها بعض المصادفات في بعض الحوادث، أو في وهم بعض الناس ممن في نفوسهم ضعف ومرض، وممن في تفكيرهم التواء، فيبنون من الحبة قبة، ويصلون لخوارق العادات بخوارق الانحراف في الفكر وفي الشعور، فتستقر في نفوسهم صور الشعوذة حقائق راهنة يؤمنون بها، ولا يقبلون فيها أي تأويل، والغريب أنهم ينسون أو يتناسون في إيمانهم هذا العدد الكبير، وهو الأكثر حكما، مما لم تواجهه مصاقبة أو تلائمه مصادفة أو وهم من الرقى والتعاويذ والأحراز، وقد أعمى المشعوذون قلوب الناس بإلقاء هذه العبارة الساحرة ونفثها في الصدور: من لا يؤمن لا يشهد. فإذا لم تواجهك مصاقبة أو صدفة اتهموك في إيمانك، وكفى الله المؤمنين القتال، فأنت في حلقة مفرغة ليس لها أول ولا آخر.
وكان إذا ما جاء الكبار فإنهم كانوا يأتونه فرادى ومتنكرين في أكثر الأحيان، أما الكبار الكبار فإنهم كانوا إذا أثر سخف الشعوذة في نفوسهم، يستقدمونه خفية إلى قصورهم أو دورهم، وفي الانخداع بالشعوذة صغار، وفي الاعتقاد بها عار وأي عار، وقد لا يشعر بذل ذلك الصغار وبحقارة هذا العار إلا من ارتفع مستواه عن السوقة من الناس وجاهة أو علما أو خبرة، فإذا ما انطلى سحر الشعوذة على أحد هؤلاء التجأ إلى التغطية والتلبيس، وإلى التنكر والتدليس، وفي ذلك كله، سواء كان ذلك في السوقة أم في الكبار أو الكبار الكبار، دلالة واضحة على ضعف في النفس وخئور في العزيمة، وجبن عن مواجهة الحوادث بتفكير ذاتي واستقلال في التأمل.
ولا تكون هذه الظاهرة إلا في عصور الانحطاط في الأمم، وهي من أولى أمارات التأخر والانهيار.
فلا تستغربن - أيها القارئ الفطن - دهشة الخادم، وقد رأى الكبار والكبار الكبار يغشون الدار بهذه الكثرة دون تنكر ولا استخفاء.
অজানা পৃষ্ঠা
ولم يسر الساحر بضع خطوات حتى هرع إليه تلميذه، وقد كان في القاعة يؤانس الزائرين، وأسر في أذنه أن بعضا من رجال الدولة ومن الوجهاء والحكام أتوا للسلام عليه، وهم في انتظاره منذ وقت طويل، فابتسم الساحر ابتسامة خبيثة ماكرة وخاطب تلميذه بقوله: أي منذ شرفني جلالة الملك بالخلوة معه، أيوه، إن هؤلاء هم الشمامون، فاستغرب التلميذ الكلمة، وسأله: ما معنى كلمة «الشمامون»؟ وردت في كلامه، فابتسم الساحر وقال: سأعلمك عن معناها في جلسة السهرة، أما الآن فقل لهم: إن الأستاذ قد دخل غرفته ليؤدي صلاة الشكر لله تعالى، ثم يعود إليكم. وانتبه لكل ما يقول هؤلاء لتنبئني خبرهم بالتفصيل، فإنك ستشاهد العجب العجاب، فلا تعلق أنت على كلامهم بشيء مطلقا.
عاد التلميذ إلى مقعده في القاعة، وأبلغ من كان من رجال الدولة ووجهاء العاصمة وحكام المملكة بأن الأستاذ سيجتمع بهم بعد أن يؤدي صلاة الشكر لربه، فما سمع هؤلاء هذه العبارة، حتى اهتز المجلس وجدا وإعجابا، وقالوا بصوت واحد: الله الله! نفعنا الله ببركته، ومتعنا بطول حياته، ثم استولت على المجلس لحظات صمت وقور قطعه أحدهم ويظهر أنه كان أعظمهم مكانة بقوله: إن رجال الله يشغلون بربهم فلا يقدمون على عبادته أي عمل، فأكد آخر بأنهم مشغولون بالله عن الناس، فثبت من بجانبه هذا الرأي بقوله: إنهم أحباب الله يا أخي، وهل يشغل قلب الحبيب بسوى حبيبه؟ فإذا في آخر القاعة رجل يتواجد فيهتز طربا ذات اليمين وذات الشمال ويردد ما عناه الشاعر بقوله:
ما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا
وأقبح الكفر والإفلاس بالرجل
ولكن الجالس في الزاوية المقابلة رد عليه بقوله: ما لك وللدنيا الآن؟ فهل لرجال الله بها أي مأرب؟ إن أستاذنا الجليل أعظم من أن يفكر فيها، أو أن يخدع بسراب مظاهرها، فوالله لولا وجود هؤلاء ينصرفون لعبادة الله أمثال أستاذنا الجليل لما رزقنا الله في هذه الحياة، فنحن إنما نرزق ببركتهم. نعم نعم، أحسنت والله يا أخي. بهذا عبر الجار عن استحسانه لقول جاره وهو يهز رأسه هزات متزنة متوالية إشارة للتصديق على كل ما قيل مع الإعجاب الشديد، فانبرى لهم رجل كان يتصدر القاعة بجانب ذاك الذي افتتح الحديث، وأخذ يتكلم بصوت أجش عريض، ودون أن يفارقه سمت الوقار قال: إن أهل التقى والورع هم السعداء وحدهم، وإنما يسعد غيرهم بتقربه إليهم، فوجود أستاذنا الجليل التقي الورع القديس في هذه العاصمة سيكون، ولا شك مصدر سعادة للجميع.
وهنا تطور أحد الحاضرين تطورا صوفيا، فأخذه الحال وأنشد يقول بعد تنهد عميق، وكأنه في حالة الغيبوبة ما معناه:
لي سادة من عزهم
أقدامهم فوق الجباه
إن لم أكن منهم فلي
في حبهم عز وجاه
অজানা পৃষ্ঠা
وما بلغ الحديث هذا الحد مع ما فيه من انجذاب وغيبوبة وتواجد، حتى أوشك التلميذ وهو من الشبان الواعين أن يختنق من الغيظ والغضب، وقد اشتد حنقه لدرجة انقلب معها في نفسه سخرية حانقة كادت تتفجر ضحكا هازئا صاخبا، لولا أن دخل الأستاذ على سمت خاص ووضع مفتعل، فأنقذ الموقف وأوقع الرهبة والوقار في نفوس الجميع، فوقف الجميع إجلالا وكادت انحناءات بعضهم تبلغ الركوع أو السجود، وما أشد ما يتقن هؤلاء المراسيم الملكية، وما أعظم مهارتهم في تحقيق شكلياتها على أتم وجه.
أما التلميذ الحانق فقد اغتنمها فرصة خرج فيها لوقت قصير فثأ فيه عن نفسه حدتها، وعاد ليقدم إلى أستاذه هؤلاء الذوات بأسمائهم يعاونه بذلك أكبرهم منصبا، مبينا رتبة كل منهم وعمله.
كان هذا التلميذ شابا لم يتجاوز العشرين، وكان ذكيا واعيا وفطنا، صحب الساحر منذ سنوات بأمر والده، وقد كان مأخوذا بعلم الأستاذ وفضله، فأراد أن يفيد ولده من مهارته وخبرته وقوة عارضته. اطلع هذا التلميذ النشيط بفطنته ووعيه على أسرار المشعوذ ومآسيه، وأدرك أساليب الشعوذة وأضرارها، وكاد يترك أستاذه حانقا ثائرا لولا أن هذا قرر الانتقال إلى العاصمة ليتصل بالملك، فأراد الشاب أن يشاهد أدوار هذه المأساة الجديدة علها تكون مصدر ثورة للإصلاح.
إن هذا التلميذ يعرف إذن حقيقة أستاذه، وهو يعلم أن مزج الشعوذة بمظاهر الدين وشكلياته، وهي الطريقة التي يستخدمها هذا الساحر، هو من أشد أنواع الشعوذات ضررا وخطرا، إنه واثق أن أستاذه لا يصلي ولا يتعبد الله إلا رياء ونفاقا أمام الناس، فهو إذن لم يدخل غرفته للصلاة كما ادعى، بل لاستكمال عناصر طريقته في شعوذته؛ لتتخذ شكلها الديني ذا الأثر العميق في نفوس السذج من الناس وغيرهم على ما شهدنا في الفترات السابقة، ولكن هل تأثر هؤلاء الكبار والكبار الكبار بشعوذة هذا الدجال؟! أم هم شعوذوا عليه بدورهم؟! هذا ما ستظهر لنا حقيقته في ما سيأتي.
أما الآن، فإن الراوي يؤكد أن الساحر حين دخل إلى غرفته لم يقم بأي واجب في عبادة الله، إنما انتقل منها إلى غرفة صغيرة أخرى بجانبها، وهي غرفة خاصة حرام، لا يدخلها غيره حتى ولا تلميذه، وقد اصطنع فيها وسائل تمكنه من مشاهدة ما يجري في القاعة ومن سماع ما يقال، وإنه كان يود أن يستمر الحديث لولا ما لاحظه من تميز تلميذه من غيظه، فوجد من الحكمة أن ينقذ الموقف، ففعل.
الفصل الخامس
قال الراوي: وقف الجميع إجلالا عند دخول الأستاذ الجليل - هذا هو اللقب الذي أطلقه عليه الشمامون من الأعيان فلا مرجع عنه بعد الآن - وسبحته الطويلة في يده، ثم حيوه بالطريقة المألوفة في مراسم ذلك الزمن، ولا سيما في تحية الرجال العظام، وهو قد أصبح في نظرهم من هؤلاء، فأسدل كل منهم يده اليمنى إلى الأرض، وهي منفرجة الأصابع انفراجا طبيعيا بارتخاء وأناة، مفتوحة إلى فوق مع شيء من التقعير ومع انحناءات تختلف باختلاف مكانة المنحني وحاجته؛ فمنهم من اكتفى بإحناء الرأس، ومنهم من ضم في انحنائه أعلى الجذع، ومنهم من بلغ درجة الركوع أو السجود، ومنهم من أسدل مع انحنائه اليدين معا، أما الأستاذ الجليل فرد عليهم التحية شأن العظماء، وقد أبدع في تمثيل الدور برفع يده قليلا مبسوطة إلى جهة الصدر نوعا، ومضمومة الأصابع ما عدا الإبهام مع إمالة رأسه إمالة خفيفة كادت ألا يشعر بها أحد، وأنعم عليهم - مع تحية العظمة - بابتسامة ناعمة هي علامة الرضى عن دهشة الإجلال والإعجاب، وقد أخذوا بها في تحيتهم له حين دخل على تلك الهيئة المهيبة الرصينة.
جلس الأستاذ الجليل، فجلس الجميع، وساد المجلس سكون رهيب بانتظار التحية الثانية تحية الجلوس، يبدأ بها الأستاذ الجليل، لتكون بعد الرد عليها مفتاحا للحديث، فكأنها كناية فعلية عن الإذن بإدارة الحديث في حضرته، فسبحان ربي الحكيم ما أكرمه وما أحلمه! فقد أراد لحكمة خفية عنا أن يمر البشر بهذه الترهات من الشكليات في تقدم الحياة، وكأني بنا لا نزال ننخدع بها أو نحاول أن نخدع، وسيستمر البشر على الاهتمام بمثل هذه الترهات ما دامت التربية عاجزة عن استئصال جراثيم السخف والحمق من النفوس، فإن هذه الترهات ليست أصيلة في طبيعة الإنسان وفطرته، وإنما هي من مستحدثات المجتمع وبدعه، تدخل في النفوس على الشكل الذي تتسرب به إلى الجسم جراثيم الأوبئة والأمراض، اللهم احفظ شبابنا واحمهم من جراثيم الترهات، آمين آمين.
وأخيرا، وبعد صمت عميق وقور استمر بضع لحظات، التفت الأستاذ الجليل رافعا رأسه وابتسامته الماكرة تتغامز فيها عيناه بارزة على ثغره، ورحب بهم رافعا يده على الصورة التي سبق وصفها، وقال: أهلا بكم، شرفتم. فتهللت الوجوه ، وانطلقت الألسنة تردد: تشرفنا يا سيدي الأستاذ الجليل، زدتنا عزا وشرفا يا مولانا، أهلا بكم أيها الولي القديس، أهلا بالتقي الورع، أطال الله عمر مولانا صاحب الفضل والمنة، أهلا بالعلم والدين يجتمعان، متع الله الأمة بحكمتكم وحسن تصرفكم في الأمور، نفعنا الله بمكانتكم السامية وببركة قداستكم، ولعل هذا كان أصدق الداعين لما في قوله من صراحة الرغبة في الانتفاع، فكان أقل تغطية من غيره، ولكن، أكان ذلك لسذاجته أم لذكائه وخبثه؟! لم يستطع الراوي التحقق من واقعية إحدى الحالتين، فكلتاهما تصلحان سببا لمثل هذه التورية القريبة من التصريح.
وعلى كل فما استنفد الحاضرون هذه العبارات في تزلفهم وتملقهم، حتى تضرع الأستاذ الجليل إلى الله العلي القدير أن يحفظ الملك العظيم العادل، ويكلأه بعين عنايته وينصره على أعدائه أجمعين، وقد عبر عن ذلك بدعاء طويل، ألقاه بخشوع خادع بعد أن نهض قائما، ووقف الجميع، وما استقر بهم الجلوس ثانية حتى بدءوا يستفسرون عن راحته وعن حصوله على جميع حاجاته، وكل يعرض نفسه لخدمته مظهرا استعداده القوي للتضحية بوقته وبما يملك في سبيل رفاهية الأستاذ الجليل وراحته؛ لأن رجال الله جديرون بأن يضحى في سبيلهم بكل غال ونفيس، وهنا أتم العبارة أحدهم، ويظهر أنه كان من الخبثاء الأذكياء بقوله: لا سيما إذا شملتهم بالعناية والرعاية عين المليك الساهرة، فشكرهم الأستاذ جميعا مؤكدا لهم بأن رعاية جلالة الملك وعنايته لم تتركا مجالا لأية حاجة لأي شيء، فكرروا جميعا الدعاء بطول حياة الملك العظيم، وباستمرار إقبال الخير عليه، فإنه خير للجميع.
অজানা পৃষ্ঠা
عندئذ تحرك الرجل الذي في الزاوية، ولم يكن قد نطق ببنت شفة، ولعله كان من الأذكياء الخبثاء، فأراد تغيير مجرى الحديث فقال: نرجو ألا يكون حادث الشابين قد أزعج مولانا، ولم يتم كلامه هذا حتى انبرى من كان أمامه، وأظهر استخفافه بذلك الحادث بقوله: ومن هما هذان المأفونان حتى يكترث لهما مولانا الأستاذ؟! إنهما من السوقة، وسينالان جزاءهما بقسوة لا تعرف هوادة، يجب أن ننقذ المملكة من هؤلاء الغوغاء ومن شرورهم، فرد عليه ثالث قائلا: علمت أنهما أرسلا إلى مستشفى المجانين لاعتقاد الناس أنهما مجنونان، إذ لا يقدم على ما أقدما عليه عاقل، فتنحنح الأستاذ وقال: إن في الأمر سرا، فما تعودنا أن نسمع من صبية الغوغاء ولا من غيرهم مثل هذه العبارات، إنها لقضية حرية بالاهتمام والدرس، نعم، إنها ظاهرة جديدة في هذه المملكة، وهي جديرة بالانتباه والدرس والتفكير، بهذا صدق كبير الحاضرين على رأي الأستاذ، وطلب إلى الجالس إلى جانبه أن يوضح لهم الأمر، وكان هذا عينا من عيون وزير الميمنة، والكبير رئيس ديوانه وأمين سره.
فالتفت العين (أي الجاسوس) إلى الأستاذ، ووضح الأمر على الوجه الآتي: بلينا منذ بضع سنوات برجل من السوقة يدعي أنه يعرف العلوم، ويتظاهر بالفلسفة والزهد والتقشف، ومنذ سنتين بدأ الشبان يلتفون حوله ويتأثرون بأقواله، وقد اتصل بي أن بعض الشابات أيضا يجتمعن إليه سرا، ويتلقن منه مع الشبان آراء سخيفة ما سمعنا بها، ولا طرقت على آذان أبنائنا ولا أجدادنا الأولين، منها: أن الناس متساوون في الحقوق، ولا يحق لأحد أن يستعبد أحدا، والشعب في نظره هو السيد، ولا يجوز أن يحكم إلا بإرادته ولمصلحته، وهناك كلمة كثيرا ما يرددها وهي جديدة علينا، آه مالي قد نسيتها؟! إنها ... إنها على رأس لساني، إنها الديمو ... قرا ... طية، ويقول: هي حكم الشعب بإرادة الشعب لمصلحة الشعب، وهو يتوسع في أحاديثه في بيان معانيها وأهميتها وعلاقتها بكرامة الإنسان، لدرجة يدوخ بها سامعيه، فتدور رءوسهم ويفقدون حواسهم، فما قولكم بالشباب حين يسمعون هذه الأفكار المدوخة؟ ألا يكفيهم ما فيهم من دوخة الشباب ودواره؟ سمعته مرة يتكلم فدار بي رأسي، وما عدت أعرف إذا كنت على الأرض أم في السماء أم بينهما، إنه خطيب قوي العارضة، فصيح اللسان، جريء الجنان، صريح لدرجة الجنون، ولا أنكر عليكم أنني كدت أفتتن به، ولكن حبي للمليك ولوزير ميمنته حفظاني، والشكر لله ولحبهما من هذا السخف الذي يؤدي - ولا شك - إلى الجنون، فهذان الشابان هما دون ريب ممن فتنهم رجل السوء وأفسدهم، أما أنا فلم أعد إليه بعدها أبدا، وصرت أستقي أخباره من الناس ولا سيما من الشباب.
وما انتهى الجاسوس من حديثه حتى شهق الجالس أمامه، وكان يستمع إليه بدهشة وجزع، وهو فاغر فاه، واستعاذ بالله من هذا الضلال المبين، وإذا الأستاذ الجليل قد انقبض وجهه، وتربد لونه، وأخذ يتمتم بعبارات وكلمات لم تفهم، ثم أفصح غاضبا حانقا فقال: إنها الشعوذة المضللة والدجل المجرم، أسيادة الشعب يريد هذا الكذاب الجاهل؟ وهل يعني هذا سوى سيادة السوقة والغوغاء؟ وهل بلغ الغرور في الشباب حد الانهيار حتى يسقط في هوة هذه المفاسد وهذا الضلال؟ سيادة الشعب! سيادة الرعاع! وهل من سيادة صحيحة لغير صاحب الجلالة، وهو إنما يحكم بالحق الإلهي، ويستمد القوة من ربه، ولا فضل عليه لأحد، ولا يسود بعده من الناس إلا من يريد هو له هذه الرتبة من الأشراف والحكام، وهو ينزعها عنهم متى شاء، إن للكون إلها يدبره، وهو ملك الملوك ورب الأرباب، ولكل مملكة ملك يدبر شئونها، وهو ربها بإرادة الله لا بإرادة الناس، وهذا هو ولي النعم، ومالك رقاب العباد. الشعب، السوقة، الرعاع، الغوغاء، متى كان لهؤلاء حق الكلام؟ إنهم جميعا عبيد الملك ورعيته، وليس لهم إلا ما يمنحون من قبله من خير وحقوق، والله لولا التقى لقلت بما قال به الأقدمون: إن الملوك من أبناء الآلهة، بل هم آلهة بالفعل، أستغفر الله العظيم.
وهنا وقف الأستاذ الجليل، والغيظ آخذ منه مأخذه، والتفت إلى الحاضرين متكلفا الابتسام والهدوء وقال: اطمئنوا، فلن يطول أمر هذا الدجل، وسيكون لهذه الشعوذة الضالة نتائجها المخزية، نعم، يجب أن نتعاون جميعا للقضاء على الدجالين المشعوذين، حفظا لنظام الدولة، وصونا لهيبة السلطة والحكم، فانفرجت الأسارير، وكان وقوف الأستاذ إشارة إلى انتهاء المجلس، فودعوه على الشكل الذي به استقبلوه، وأخذوا يسيرون القهقرى، إذ لا يليق أن يديروا ظهورهم لهذا الجليل، إلى أن بلغوا باب القاعة، ومنه انصرفوا مأخوذين وفي نفوسهم أشياء وأشياء، بعد أن انقلبت الشعوذة حقا والحق شعوذة، وتبدل الكفر إيمانا والإيمان كفرا، فسبحان محير العقول!
الفصل السادس
قال الراوي: خرج الناس سكارى من لدن ذلك الأستاذ الجليل وما هم بسكارى، ولكن تضارب المتناقضات واصطدام الحق بالباطل والحقيقة بالشعوذة، ثم انتصار الباطل على الحق وفوز الشعوذة، كل هذا بالحقيقة في تلك الجلسة، جلسة الإفك والرياء والنفاق، أضاع صوابهم، فشعروا بخلل توازن التفكير في نفوسهم، وضاقت بهم بؤرة الشعور.
فالإنسان مهما بلغ به السخف والحمق والجهل، ومهما بعدت في منازعه الغايات والمآرب والأهواء، يظل أمينا على نزعة الخير في إنسانيته ولو في سر فؤاده، وإلا كان استمراره على السير بغرائزه الحيوانية أقرب لواقعه من سير إنساني يدفعه لبناء الحضارات والمدنيات، ولولا هذه الخميرة في فطرة الإنسان لما اختمر في ثورة الحق على الباطل أي عجين.
والإنسان كائن عجيب، إنه غامض في نموه وفي تكوناته، وحياته في تعقد يستمر تزايد العقد به، وفيه باستمرار تقدم الحضارة في مناحيه، فإن لم تتداركه الثقافة في أدق معانيها رجع القهقرى، وانحرف في كل أموره وفي توازنه، فقد يتوازن في ذاته مع مجتمعه، وهذا هو التوازن المستقيم المنقذ، وقد يتوازن في ذاته لذاته فيكون توازنه منحرفا، وهذا ما وقع للخارجين سكارى مضطربين من دار الأستاذ الجليل، فإنهم في حين شعروا بخلل التوازن في تفكيرهم، لم يحاولوا بلوغ التوازن المستقيم مع المجتمع الذي يحيون به وفيه، بل استقروا على توازن منحرف، وهم لو حاولوا الاستقامة في توازنهم لاجتمعوا إخوانا يتعاونون على نصرة الحق والحقيقة وخذلان الباطل والشعوذة، ولكنهم توازنوا مع فردية أنانيتهم، فتفرقوا زمرا متباعدة الأهداف ومختلفة المنازع والغايات، فكان رئيس ديوان وزير الميمنة وجاسوسه زمرة انفصلت عن سائر الصحب، بعد أن أجريت مراسم التوديع حسب الأصول، وكون المشدوه الذي شهق واستعاذ بالله زمرة ثانية مع بعض الرفاق سارت في زقاق يتفرع عن تلك الطريق، ولم يكن رجل الزاوية وحيدا عندما انصرف ورفاق له من زقاق آخر، وهكذا تعددت الزمر، وافترق الأصحاب وفي نفوسهم أشياء وأشياء، عبروا عن بعضها في سيرهم، وهاك مقتطفات من تلك الأحاديث: لم يعلق أي منهم بكلمة على ذلك المجلس عندما خرجوا مجتمعين، بل اكتفوا بابتسامات لها معانيها، وبتحيات تنم أوضاعها عن الحذر، فلم يكونوا يثقون بعضهم ببعض لاختلاف المآرب والغايات، ولكن لم ينفرد الرفاق المتحدة أهدافهم نوعا، حتى ظهر كثير مما تكنه هذه النفوس.
التفت رئيس الديوان عندما أحس بخلو الطريق، وسأل رفيقه عن رأيه بالأستاذ الجليل. - إنه ذكي ولا شك، ولكني لا أستطيع تقدير درجة علمه، لأنني لست من العلماء، ولست من الأتقياء الورعين ليتيسر لي الحكم على تقاه وورعه، فمثلنا ينخدع بهذه المظاهر، وبها قد تؤخذ الشعوب، ولا سيما عامة الناس فيها. - ليس هذا ما أردت يا غافل، أنسيت المهمة التي جئنا من أجلها؟ - عفوا، إنك تقصد ما أوصانا به مولانا الوزير، إن الرجل ولا شك مشعوذ ذكي ودجال خطر، يمكن استخدامه لمصلحة الوزير ولكن على حذر، ويجب أن نتصل حالا بمولانا الوزير لنعلمه بكل شيء حتى يهيئ نفسه للاجتماع به صباح الغد، ولعلك أبلغته عن نية الوزير بزيارته؟ - نعم، همست في أذنه بما أمر به مولاي الوزير.
وقد استمر حديثهما التحليلي الناقد حتى بلغا قصر وزير الميمنة، وسيكون له شأنه.
অজানা পৃষ্ঠা
أما المشدوه الذي شهق فقد كان مأخوذا بتقى الرجل، وبحسن سمعته وبرصانته وبجهورية صوته، وكان بعض رفاقه يوافقه ساخرا والبعض يبكته حانقا، ولم يكن بينهم من مخدوع غيره على ما ظهر، ولكن الراوي يؤكد: إن اشتداد المناقشة كشف عن أن هذا المشدوه كان أخبثهم، وكان يحاول أن يخدع رفاقه، حتى يتهيبوا الرجل فلا يطمعوا فيه، ليحتكر وحده نفوذ الأستاذ في مصالحه، إن هؤلاء الرفاق كانوا جميعا من رجال الأعمال، وقد أثروا عن طريق تملق رجال الدولة وأتباعهم وبإفسادهم، فهم يعرفون كيف تؤكل الكتف، وقد أسر كل من هؤلاء في نفسه خطة يستغل بها نفوذ ذلك الأستاذ الجليل عند سنوح الفرص.
ولم يكن رجل الزاوية أقل خبثا من المشدوه، فإنه ما كاد ينفرد برفاقه في الزقاق الثاني حتى قهقه طويلا قهقهات مختلفة الجرس، أتبعها بقوله: أتعرفون قصة الحق مع الباطل؟ فقالوا: وهل للحق مع الباطل قصة؟ فأجاب: نعم، هي قصة لا يفتأ الناس يشقون بتمثيل أدوارها المفجعة ما داموا في غفلتهم تائهين، وفي ضلالهم يعمهون، فاسمعوا إذا كانت لكم آذان البشر: كان الحق تائها في البيداء، فخطر له أن يقصد مدينة من المدن العامرة عله يستقر فيها، فامتطى حصانه الأبيض، وهو حصان مضمر لا شبيه له في الخيل قوة ونشاطا وجمالا، وبينما كان في الطريق صادف إنسانا أغبر أشعث ذا طمرين، يوشك الضعف أن يقعده، ويكاد البؤس أن يتمثل به، فرق قلب الحق لذلك الرجل العاجز الذليل المسكين، فسأله عن الجهة التي يقصدها، فإذا هي المدينة ذاتها التي يتجه إليها الحق، فنزل عن حصانه وساعد الرجل على امتطائه شارطا عليه، ولم يبق للوصول إلى المدينة سوى ساعتين، أن يركب ساعة واحدة، يترك بعدها الحصان لصاحبه، فشكره الرجل ووعده بإنجاز ما اشترط.
مرت الساعة، لم يشأ الرجل النزول عن متن الحصان مدعيا أنه حصانه، وأنه ورثه عن أبيه، واستغرب الحق أن يرى ذلك الرجل العاجز المسكين قد أصبح على ظهر الحصان قويا نشيطا متمردا، وقد آلمه أن يسمع منه كلمات جارحة، يتهمه بها بالبغي والعدوان، وأوجع الحق في صميم فؤاده أن ينهره الرجل طالبا إليه أن يرتدع عن محاولة اغتصاب ما ليس له.
تحير الحق في أمره، وسأل الرجل عن اسمه وعن حقيقته، فأجابه بزهو وكبرياء وصفاقة: أنا الباطل، أعيش في كنف إبليس وبحمايته ورعايته، وليس للحق أن يدعي ما دمت حاضرا أي وجود بله التملك، فما لك يا هذا تدعي أن هذا حصانك؟! إن الحصان لمن يمتطيه، خدعة حصل عليه أم اختلاسا، وعلى كل، ألا ترى هؤلاء الناس الجالسين تحت الشجرة عند مدخل المدينة؟ فمد الحق بصره وأومأ بالإيجاب، فصاح الباطل آنئذ: إنني رضيت بهؤلاء حكما بيني وبينك، فهل تقبل؟ ارتاح قلب الحق لهذا العرض آملا في الناس إنصافا وخيرا، فأعلن القبول، وما كادا يبلغان مجلس جماعة الناس حتى نادى الباطل بأعلى صوته: أفتونا أيها الناس المنصفون دون مواربة ولا محاباة، وما سمع الناس كلامه حتى رفعوا إليه رءوسهم بآذانها وعيونها منتظرين النص، فقال: من الذي يجب أن يمشي بين الناس؟ أهو الحق أم الباطل؟ فأجابوا جميعا دون تلكؤ ولا تمهل: الحق هو الذي يجب أن يمشي. - وهل يجوز أن يمشي الباطل؟
فأجابوا بلهجة قوية جازمة: لا يجوز للباطل أن يمشي مطلقا. فالتفت الباطل إلى الحق، وقال: أسمعت فتوى العادلين؟ لم يجد الحق للجواب مجالا، فصمت شاكيا إلى الله ظلم الناس، وتقصيرهم في البحث عن حقائق الأمور واستهتارهم بالحق أينما وجد، فابتسمت الحياة، وطيبت خاطره بقولها: سأنتقم لك فلا تحزن.
وهنا التفت رجل الزاوية إلى رفاقه وقال: أكنا في مجلسنا الأخير سوى ممثلين لوقائع هذه القصة الفاجعة؟ ألم نؤخذ باللعب على الكلمات حين حكمنا على ذينك الشابين بالجنون، وعلى ذلك العالم الناهض الباذل ذاته بالشعوذة والدجل تبعا لأستاذنا الجليل، صورة الباطل المجسمة؟
فاغتاظ الرفاق، وقالوا له: إنك تعلم أننا موظفون من أرباب المناصب، لا نستطيع إغضاب من ينتمي للسلطان، ونحن إنما جئنا نزور الأستاذ الجليل لنتملقه طمعا باستغلال نفوذه، ولكنك أنت أيها الواعظ العبقري ما لك سكت ولست من الموظفين؟ فابتسم ابتسامة صفراء وقال: إنني أحاول أن أجد منصبا أعين فيه أحد المقربين.
الفصل السابع
قال الراوي: كانت هذه الزمرة - زمرة الموظفين وأرباب المناصب - أوفر الزمر عددا؛ لأن أصحاب المصالح من الناس يدورون في فلك الموظف، ويتملقونه نفاقا ورياء ما دامت لهم مصالح ترتبط به، أو ما داموا يتوهمون إمكان الاحتياج إليه يوما، إنهم شمامون بارعون، لا تفوتهم الروائح مهما لطفت، فيتجهون إلى حيث تقودهم روائح تلك المصالح، لا يلوون على شيء، ولا يراعون للحياة ناموسا ولا للمجتمع حقوقا، إنهم يهزءون بالحقوق وبالنواميس وبالمثل وبالقيم، فلا غرابة إذا ما كثر العدد في هذه الزمرة.
وقد كان بين هؤلاء رجل كهل ممن تعودوا الدوران في فلك الموظفين، ظل هذا الكهل صامتا كل الوقت في مجلس الأستاذ الجليل، وفي أثناء المناقشة في الشارع، ولكنه لم يسمع تعليل رجل الزاوية لسكوته باهتمامه بتعيين أحد المقربين، حتى ظهرت عليه بوادر الحدة، وقال: إنك تشبه في موقفك هذا أبا حمشو، ذلك المرائي المداهن لا يفتأ محاولا استغلال سذاجة الناس، هنا حملق الجميع بالرجل الكهل وقالوا: من هذا الأبو حمشو؟ فاستدرك أحدهم قائلا: يظهر أن لهذا الرجل قصة، تشبه قصة الحق والباطل، فليروها لنا الصديق العزيز إذا شئتم وأراد، فأنصت الجميع واقفين، وبدأ الرجل الكهل يروي القصة عن ابنه الشاب، عن أستاذه الحكيم، وهو الفيلسوف العالم الذي ألصق به الأستاذ الجليل نعت الشعوذة وصفة التدجيل على الوجه الآتي: يحكى - والله أعلم - أنه كان في إحدى القرى فلاح اشتهر بالتحمس والشهامة، وبالشجاعة والكرم، وبالغيرة والنجدة، لكثرة ما يروي عن نفسه من حوادث غريبة ومن أفعال عجيبة، وكان يفتعل أوضاع الفتيان (القبضايات) وطرق أحاديثهم، ويصطنع لهجاتهم وحركاتهم برشاقة ومهارة وعنفوان، فهاب أهل تلك القرية، وكلهم من السذج البسطاء، الذين يصدقون كل شيء، ويؤمنون بكل شيء، أبا حمشو هذا، وخشوا سطوته، ورجوا نجدته وكرمه، فاختاروه شيخا للضيعة، لم يكن أبو حمشو غنيا ولكن الاعتقاد السائد في القرية هو أنه لو كان غنيا لكان أكرم الناس.
অজানা পৃষ্ঠা
قصد القرية جماعة، انتدبتهم إحدى الجمعيات الوطنية الخيرية لجمع التبرعات باسمها؛ لتحقيق مشروع وطني جليل، فكان من الطبيعي أن يقصدوا دار الشيخ أبي حمشو، وقد أصبح مشهورا في المنطقة؛ ليجمعوا فيها وجوه الضيعة وأغنياءها، وهكذا كان.
اجتمع الأهلون في تلك الدار المتواضعة، وأراد أحد المندوبين ممن يعرفون أبا حمشو، أن يحمسهم بإثارة حماسة شيخهم ونجدته؛ فوجه إليه الحديث سائلا: عرفت - أيها الشيخ أبا حمشو - بالكرم والنجدة والشهامة وبالغيرة على المصالح الوطنية، فلو كنت تملك ألف ليرة ذهبية، وكان هناك مشروع وطني جليل، أفلا تتبرع لهذا المشروع بنصفها؟
لم يسمع أبو حمشو كلام السائل حتى تواجد متمايلا والدموع تكاد تطفر من عينيه رقة وحنوا، ثم قال: بل أتبرع بها كلها، ألسنا للوطن؟ وأي خير ننتظر إذا لم يكن الوطن بخير؟! وما فائدة المال إذا كان الوطن متأخرا؟! حياتنا للوطن، يحيا الوطن.
صفق الجميع لأبي حمشو، وأخذوا يهزون رءوسهم، وشفاهم تفتر عن ابتسامة الإعجاب، وكأنهم يقولون متباهين: لم يخب ظننا بالشيخ.
أثر جواب أبي حمشو بالمندوبين فتحمس مندوب آخر، وسأل أبا حمشو بقوة وشدة: ولو ملكت قصرين عظيمين واحتاج الوطن لأحدهما فماذا تفعل أيها الوطني الغيور؟ - أقدم القصرين، وهل لنا عز إلا بعز الوطن؟! ومن يقدم حياته لوطنه لا يبخل بالقصور.
فازداد الإعجاب، وازداد التصفيق، واشتد الهتاف بحياة أبي حمشو الشهم الجواد.
وما زالت الأسئلة المماثلة تتوالى، وأجوبة أبي حمشو لا تتبدل بل تزداد قوة بنسبة ازدياد الإعجاب والتصفيق والهتاف، إلى أن خطر لأحدهم، ويظهر أنه لم يكن من المؤمنين بما يبذل الشيخ، ولعله كان خبيثا من الأذكياء، فسأله: ولو كنت تملك عشر دجاجات سمان، واحتاج الوطن لدجاجة منها، فهل تمتنع عن العطاء؟
هنا وقف الشيخ أبو حمشو حانقا، وقال: والله لا أتبرع ولا ببيضة من بيضها، يا هؤلاء، أرى أنكم لصوص تحاولون سرقة أموال الناس، فتعجب الحاضرون لا سيما عندما رأوا أبا حمشو يزداد انفعالا وغضبا، وسأله أحدهم قائلا: كيف تبرعت بالليرات الذهبية وبالقصور والضيع والكروم، ولا تتبرع ببيضة دجاجة من عشر دجاجات؟
ابتسم الشيخ أبو حمشو ابتسامة صفراء مرة، وأجاب: إنني لا أملك الليرات ولا القصور ولا الكروم ولا الضيع، فأتبرع لكم منها بقدر ما تشاءون، أما الدجاجات العشر فإنني أملكها وأستفيد منها، فهل أنا مجنون حتى أتبرع ببيضة من بيضها؟
لم يصل الكهل إلى موقف أبي حمشو على الوجه المبين آنفا حتى التفت إلى رفيقه الواعظ قائلا: وهل من فرق بينك وبين أبي حمشو هذا في موقفك منا؟! إنك تتألم لانخذال الحق وانتصار الباطل، ثم لا تتورع عن السير في ركاب الباطل عند أول بادرة تتعلق بفائدة ترجوها لأحد المقربين؟ وأبو حمشو تبرع بكل ما لا يملك على وفرته، ثم تراجع تراجعا مخزيا عندما توهم إمكان التبرع بما يملك على ضآلته، فما هو الفرق بينكما؟
অজানা পৃষ্ঠা
فاندفع آخر من الرفاق، وقال: لا تختلفا فيما بينكما، ولنكن منصفين، فكلنا أبو حمشو، نتاجر بالكلمات، ويخدع بعضنا بعضا بسحر الألفاظ والحروف، وكل يفتش عن صيده.
كل من في الوجود يطلب صيدا
غير أن الشباك مختلفات
هذه هي الحياة، وهذا هو الإنسان الحي.
فلم يقبل الكهل الصامت كلام هذا الأخير على علاته، فأوضح المشكلة بقوله: صدقت في قولك: «كلنا أبو حمشو»، ولكنك أخطأت في اعتقادك أن هذه الحالة هي ناموس الحياة على إطلاقها، وأنها هي التي تعبر عن إنسانية الإنسان في مطلق وجوده؛ إن للحياة نواميس، بها تتم النهضات، ونواميس بها يتحقق الانهيار، ونحن الآن في دور انهيار مخيف، مظهره هذه السجايا والصفات، والخطر محدق بنا إذا استمرت هذه الحالات مسيطرة، نتلهى بتعليلها لنجد مبررا لها، وشداد على الأبواب.
ما لك لا تذكر حالنا عندما نزعنا عن أعناقنا نير هذا الملك؟ أكنا نتاجر بالكلام، ونخدع الناس بتزويقه، ونأخذهم بسحر ألفاظه وحروفه؟ والله، لو كان أمر الأمة في ذلك الدور كما تقول لما نزع عنا نير، والآن نحن مهددون بعودة هذا النير إذا لم نعد لسجايا النهضة وأخلاقها، ولا منفذ لشداد إلينا إلا بسجايا أدوار الانهيار.
لم يخلق الإنسان عبثا، وللحياة فينا أهداف، لا تطمئن نفوسنا إلا بها، إنها تستهدف مثلا عليا وقيما سامية ما خلق الإنسان إلا لتحقيقها في تفاعله مع مجتمعه؛ لسعادة ذلك المجتمع، فتتحقق سعادته بسعادة الآخرين، هذه هي غاية الغايات في تطورات الحياة، وهذا هو الهدف الذي يجب أن يرمي إليه الإنسان في استكمال إنسانيته وحضارته، فإذا ما انحرف عنهما، انتقمت منه الحياة، فيبتلى بالاضطراب والبلبلة في تفكيره وشعوره، وتتكون في نفسه وفي مجتمعه أزمات يختل معها التوازن، ولا ينقذه منها سوى اختمار نفسه الإنسانية بخميرة مجتمعه ليستعيد توازنه، وإلا اضطر لإعلان إفلاسه، فيكون كالساعي إلى حتفه بظلفه.
وإنني أرى أننا بين تيارين: تيار صالح باستطاعته إنقاذنا، وهو التيار الذي يدفعنا به ذلك الأستاذ الحكيم لننهض، وتيار فاسد نخشى أن يعيد النير إلى أعناقنا، هو تيار الشعوذة، ينضم لتأييدها وتقويتها هذا المشعوذ الذي تلقبونه بالأستاذ الجليل، وما هو إلا دجال مكار، أنقذنا الله من شره وبلائه!
وهكذا تفرق الرفاق كل إلى منزله بعد نقاش وحوار وجدال، لم تسفر نتائجها عن أية خطة مشتركة أو تصميم جدي، سوى ما قرره كل فرد في نفسه ولنفسه.
فسبحان من أودع في كل قلب ما أشغله!
অজানা পৃষ্ঠা
الفصل الثامن
قال الراوي: لم يخرج المجتمعون من دار الأستاذ الجليل حتى تنفس التلميذ الشاب الصعداء بتنهد عميق، قهقه له الأستاذ قهقهة طويلة داوية، ثم التفت إلى تلميذه قائلا: ما لك تتخذ وضع من ألقى حمله الثقيل عن عاتقه؟ ألهذه الدرجة ثقلت على نفسك هذه الأحاديث؟ فما أشد ما أزعجك مجلس هؤلاء الوجهاء الكبار! قال الأستاذ ذلك، وأثر القهقهة لا يزال مشعا على وجهه بابتسامة عريضة شجعت التلميذ على أن يلقي عليه هذا السؤال: قل لي بربك: أي باب من أبواب السحر ألقيت اليوم على هؤلاء الناس، حتى تبدلت السماء غير السماء والأرض غير الأرض؟! عهدي بك قبل اليوم تبذل الجهود الجبارة، وتستخدم وسائلك السحرية على اختلافها؛ لتتصل بواحد من هؤلاء، وقد تنجح وقد لا تنجح، وإذا نجحت فكنت تتملقه أكثر مما يتملقك حتى تستولي عليه بعد طول زمن، فتستبد به، وتبتز ماله وقلبه وضميره، فماذا حدث في أقل من نهار فارقتني فيه، حتى جاء كل هؤلاء يتسكعون على أعتابك، ويحرقون لك بخور التذلل والإعجاب والإكبار دون حساب؟
هنا أرسل الأستاذ الجليل قهقهة ثانية كانت أشد دويا من الأولى، ثم جلس على مقعده المتواضع مفرشخا رجليه، مسترخيا في وضع جسمه ويديه، شأن من يستريح استراحة الظافرين بعد الجهاد والكفاح والعناء، ثم التفت إلى تلميذه المشدوه وقال له: يا لك من غر جاهل! أنسيت مقدرة أستاذك وخبرته الواسعة في العلوم الروحانية، وما يستخدمه من جنود العالم التحتاني وملوكهم؟ ما لك! ألا تذكر عوالم الأفلاك، وقد حدثتك أنها تساعدني بما أستحضره من أرواحها؟ أتتناسى شمشريخة وشمشروخ، وبخبخانة وبخبخون، والزوبعانة والزوبعون، والزعزعانة والزعزعون، وتلك الداهية الحيزبون، والمارد المأفون وشياطين الجنون؟ ما لك تتباله؟ هل تستعظم ما رأيت على من يسيطر بسحره على ملوك الجان جميعا من أحمر وأصفر وأبيض وأسود وأزرق وأخضر ومن سائر الألوان؟ ألم أسمعك يوما صوت الملك الأصفر وحديثه، واعدا إياك بأن أجمعك يوما بكل هؤلاء؟
ارتبك التلميذ واضطرب، وأكد لأستاذه أنه لم ينس شيئا من كل تلك الدروس التي تلقاها، وأنه على أحر من الجمر، في انتظار اتصاله بعوالم الأفلاك والجان والمردة والشياطين والأرواح، ولكنه مدهوش من تلك السرعة؛ سحر بها هؤلاء الناس، فهو يتساءل عن أبواب السحر التي ألقاها ليستفيد ويتعلم، ولا ينكر على أستاذه قدرته وسلطانه.
ولم يتم التلميذ حديثه هذا حتى ظهرت عليه بوادر الخوف، وأمارات الاضطراب خشية من غضب الأستاذ، وهو لا يريد إغضابه لأمر يخفيه، فليس من مصلحته إذن أن يقوم بما يجافيه، على الرغم من شدة معرفته بسوء مآتيه، وستبدو الحقيقة في سياق هذه الحكاية لمن يلقي سمعه، ويفكر بتأمل وشعور، لذلك كله أخذ التلميذ يعتذر، والأستاذ يزور عنه حينا ويلين حينا آخر، ثم يتجهم ويزبد ليبتسم ابتسامة صفراء يعقبها بتأمل مريب، وهي أحوال تعودها التلميذ، وتبدو من الأستاذ كلما توهم في تلميذه ترددا أو ارتيابا، إنه يريد منه إيمانا صادقا لا شائبة فيه، وهذا ما أكده الشاب مقسما الأيمان على إيمانه بمآتي أستاذه، وأنه إنما يريد الإفادة من علومه بأسرع ما يمكن، فإن الشوق لمعرفة تلك الحقائق يكاد يحرقه ويضنيه.
فافتر ثغر الأستاذ الجليل عن ابتسامة اطمئنان ورضى. وربت على كتف تلميذه مشجعا، وأنبأه عن تلك الأبواب التي سأل عنها بما يأتي: قلت لك: إن أبواب السحر كثيرة، نستعمل منها ما يقتضيه الحال، وقد ألقيت اليوم على الناس وعلى مليكهم أبواب الدهشة والغفلة والانجذاب، فأصبحوا على ما سمعت ورأيت يصفقون ويهتفون، ولا يعلمون شيئا عما تنطلق له حناجرهم، ويجهلون كل شيء عما يستخدم في العوالم الخفية لتحريك أيديهم وتوجيه عيونهم وقلوبهم، إنها الغفلة، وهم تائهون لا يستطيعون لحماستهم هذه دفعا، وهم بذلك كله وبأبواب غيرها من السحر أستعملها بعد حين، يهيئون للباب الأعظم في سحرنا وهو باب الصرعة،
1
باب يغيبهم عن ذاتهم، فيستسلمون به لإرادة الساحر استسلاما كليا، فلا يخالفون له أمرا، ولو أدى بهم ذلك إلى الهلاك، وسأرسل للملك في هذه الليلة شياطين الوهم؛ فيصبح في خلوة الغد أطوع من بناني برفق وحكمة، إذ يتعذر صرع الملوك لهيبة السلطان، ولكن الوهم أشد فعلا في نفوسهم، وأقوى تأثيرا في قلوبهم من باب الصرع في السوقة، إلا أنه يتطلب كثيرا من الحنكة والذكاء، وسترى إذا صبرت وتريثت العجب العجاب.
قريبا وقريبا جدا ستتبدل هذه المقاعد الخشبية القاسية المتواضعة، فتصبح وثيرة من الأبنوس والذهب، وسترى عليها وعلى أرض الدار والغرف مساند الديباج وطنافس الحرير الموشاة بالفضة والذهب، شأن الملوك العظام، نعم، سأصبح الملك غير المتوج في هذه البلاد، وهنا تحرك صدره بتنهد الجشع الطماع، ينتظر لمآربه الفوز والنجاح، وغرق في تأمل عميق تهيبه التلميذ، ثم رفع رأسه بتؤدة ووقار، وثبت عينيه في عيني تلميذه وقال: نعم، سأكون ملكا غير متوج، وستكون إذا صبرت وصدقت من وارثي مغانم هذا الملك، وستنتقل أمجاده فيك وفي أولادي وسائر تلاميذي إلى الأحفاد إلى الأبد، إنني لا أرغب في التاج، فسأتركه للملوك وأبنائهم، سأتركه على رءوسهم وسيلة أتلاعب بها بعقولهم، وأسيطر بها على قلوبهم، إنهم يتعشقون التيجان، فليهنئوا بها، ولتظل قلوبهم متعلقة بها؛ لتشعل نفوسهم بها، فنتمتع نحن بالخيرات، وننعم نحن باللذات والمسرات، نجمع الثروات والأعوان، ونخضع الناس، ونسخرهم لمتاعنا على حساب خوف الملوك على تيجانهم، إنهم يحبون التيجان حبا جما، فليحتكروها، فإنها من أشد القوى التي تستخدمها شياطين الوهم، وبها تهيئ الملوك لسائر أبواب السحر، ولباب الصرعة في كثير من الملابسات، إنني لن أزاحم الملك على تاجه، ولعلي أقدم له تاجا آخر أرسله مع الوهم، لم تكن التيجان تتعلق بها قلوب الملوك سوى وسيلة قوية من وسائل نجاح أمثالنا، ممن يعرفون كيف يغتصبون متع الحياة اغتصابا على رفاة المغفلين من الناس والمغرورين المخدوعين من الملوك، اصبر وآمن، واصدقني الخدمة تكن أسعد الناس، فكن مطمئنا. قامت في نفس التلميذ هواجس وهواجس، ولكنه التفت إلى أستاذه، وقال: آمنت وصدقت بجميع ما تقول، ولكن لم تنبئني عن شأنك مع شداد، ذلك الملك الجبار الواقف على الأبواب، والمتربص شرا بالملك، وبما في مملكته من رعية وعبيد؟ فقهقه الساحر قهقهات متقطعة قوية، قه، قه، قه، قه، ثم قال لتلميذه: إنك لغبي مغفل، وهل لمن له طموحي ومآربي أن يفكر في من يملك على البلد؟
ما الفرق عندي بين ملكنا وبين شداد؟! ليحكم البلد من شاء وكيف شاء، فالمهم أن أتسلط على قلوب الناس، ومتى أصبحت قائدا لعقولهم موجها لقلوبهم، يحتاج إلي صاحب التاج سواء أكان ملكنا هذا أم شداد أو غيره، لا تخش من الملوك من يتعلق بالتاج، ما دمت ذكيا تعرف كيف تتلاعب بالألفاظ، وكيف تلقي في السحر أبوابه، وتخضع السوقة من الناس بصرعهم، إنما يخشى أمثالنا الملوك الزاهدين ببريق جواهر التيجان المحبين لرعيتهم العاملين على مصالحهم بالعدل والإنصاف، فإذا ما ارتبطت الرعية بملكها بروابط تبادل الحب واحترام المصلحة العامة، وتحقيق الحرية والعدل بطل السحر والساحر، ولم يعد لأرباب المطامع والمآرب منا أي ميدان للجولان.
অজানা পৃষ্ঠা
دهش الشاب، فلم يستطع صبرا، فسأل أستاذه عن السبب الذي يمنعه من إصلاح حال الملك، ومن العمل على إعادته لما كان عليه من عدل وتحرر، بإنقاذه من آفة تلك الوسوسة؛ فيرتاح وترتاح رعيته، ويعود لسابق عهد زاهر، يمكنه من الظفر على خصمه ومن إسعاد رعيته، ألا تذكر يا مولاي، كيف كان الناس في ذلك العهد؟ فإن آباءنا يخبروننا بما سعد به آنئذ الناس، ونحن الشباب لا نزال نتذوق تلك الغبطة والطمأنينة التي كانوا يتمتعون بها في تلك العهود، فلم لا تعود؟ أتعجز عن القضاء على الفساد لإصلاح العباد، وأنت العالم النحرير، والخطيب القدير، والمعلم الخبير، أليس للعلوم الروحانية اتجاه لخير الناس؟ ولما لمح بوادر الغضب على وجه أستاذه، تدارك الأمر حالا، وقال: اعذرني، فإنني طالب علم، يحاول أن يفهم دون أن يكون لهذه المحاولة أي أثر في إيمانه بأستاذه، وأي تأثير في خضوعه لسلطانه، فابتسم الأستاذ دون أن يتبدل اربداد لونه، وأجاب تلميذه بقوله: ألهذا جئنا يا أحمق؟ إنك أبله مغفل حقا. فلم يجد التلميذ مهربا من أن يؤيد أستاذه في قوله، فاعترف بحمقه وغفلته، وأنه إنما هو بمعيته ليكشف له عن بصيرته.
فارتاح الأستاذ الجليل لقوله، وأمره بأن يساعد الخادم بتحضير العشاء؛ لأن الجوع أخذ منه مأخذه، فلا يستطيع إكمال الحديث، فلينتظر إلى ما بعد العشاء.
الفصل التاسع
قال الراوي: لم يكن في منزل الأستاذ الجليل غرفة خاصة للطعام، فأحضر إليه طعامه وهو في القاعة على طبق من قش، وضع الخادم الطبق على أرض القاعة وفي وسطها، ثم نظر إلى الأستاذ نظرة المتسائل عما يأمره به بعد، فأومأ إليه بالانصراف بعد أن تحقق بنظرة ألقاها على الطبق، بأن كل ما يحتاج إليه لعشائه حاضر أمامه، انصرف الخادم بعد أن رد الباب وأحكم إقفاله؛ إن الأستاذ يتأذى من أن يراه أحد حين يأكل، فهو شره نهم يتناول الأكل بعينيه وبفمه ويديه، ويكاد يأكل بحواسه جميعا وبكل جسمه، ليتك كنت تراه يمضغ الطعام ويتلمظه ساهبا، يوشك أن يغفو على الطبق، لولا أن يوقظه فراغ فمه ... أطنب الراوي في وصف إفراطه في شهواته وملذاته، في أكله وشربه، وفي أطماعه واستشراف نفسه لدرجة تجعلني أذكره كلما ذكر راسبوتين، وكلما فكرت في أمر الكثيرين من ذوي الأطماع المتكالبين، أولئك هم الذين لا يحللون ولا يحرمون في محاولات سعيهم لتحقيق موضوع الطمع في نفوسهم، إنهم لا يأبهون لما يلحق الآخرين بجريرتهم من أذى، ولا يكترثون لما تمنى به الأمة من نكبات بسبب ما يعملون على تحقيقه من مآرب ذاتية وأطماع، ومن أهداف شخصية وشهوات، إنهم أشرار مجرمون، يتمثلهم عامة الناس عندنا، وقد ابتلاهم بهم الزمن، بمن لا يتورع عن أن يلهب البلد ليشعل سيكارته، والشره في الجاه كالشره في الأكل والشراب، بل هو أشد فتكا في الأمم، ونهم المال والمناصب أدعى إلى النكبات في المجتمع من نهم البطن وشهواته.
وكأني بالحياة في نقمتها على المجتمع الغافل عن ذاته، وعلى الأمة الغائبة عن حقيقتها، وعلى الإنسان الهازئ بإنسانيته وبمثلها تنتقم، فتسلط على الغافلين والغائبين والهازئين شرورا، تتمثل بالشره والنهم على أنواعها وفي مختلف الأشكال، ولعلها اجتمعت كلها في هذا الأستاذ الجليل.
بهذه المعاني وبما يشابهها كان التلميذ يناجي نفسه وهو في انتظار أستاذه، بعد أن تناول طعام العشاء مع خادم المنزل، إنه شاب متوثب، ديمقراطي الروح، وعميق التأمل، يؤمن بآراء ذلك الرجل الحكيم وأقواله، وقد تغذت بها نفسه، حتى أصبحت في صميم فاعليته تفكيرا وشعورا وسلوكا، وهو إذا ما دارى الأستاذ الساحر وواربه؛ فلأنه صمم على أن يرد كيده إلى نحره، آمن بدهاء أستاذه وبسعة اطلاعه وذكائه، كما آمن بخبثه وفساد طويته ونواياه؛ فأصبح يخشى على الأمة من مناوراته الخائنة، ومداوراته الماكرة، ومؤامراته الدنيئة، وما علم بعزمه على الاتصال بالملك في عاصمة ملكه، حتى أدرك كل شيء، فتوسل إليه أن يصطحبه، آملا أن يرد عن الأمة تلك النكبات، وقد يبيتها لها ذلك المشعوذ إشباعا لشرهه وتحقيقا لمأربه وجشعه. وللشباب وثبات، كثيرا ما أنقذت المجتمع من ويلات، ونجت الأمم من مهالك، وكم كان لهذه الوثبات من فضل في إنقاذ الأمم من مزالق الانهيار، وفي إعادتها إلى ميادين التقدم، لتستمر في ارتقاء سلم الحياة، ناهضة مستبشرة، لا تخشى الدجل، ولا تخاف الشعوذة، فهنيئا لأمة تتحقق فيها وثبات شبابها، وتعسا لمجتمع تكبت فيه تلك الوثبات الخيرة.
غاب الشاب في تأملاته عما حوله حتى أيقظه دفع الأستاذ لباب القاعة، وخروجه خروج الظافر، يتلمظ بقية طعام في فمه، ويسرع إلى غسل يديه، عاد الساحر بعد ذلك كله إلى مقعده الأول، ونادى تلميذه، وابتسم ابتسامة من يتذكر استخفافا يريد أن يدفعه فقال: سألتني عن أبواب استخدمتها اليوم، ولم أكن لأستخدمها في استمالة أفراد أتملقهم، وهل التملق سوى باب من أبواب السحر، يستخدم في استمالة السذج؟ وهم ليسوا جديرين بتلك الأبواب القوية لأنهم سخفاء. إن استحضار الجن والأرواح والشياطين وإلقاء ما اشتد وقوي من الأبواب، إنما يكون في هذه الأحوال المعقدة والأطماع الكبيرة، وإلا فتجارة الساحر خاسرة، وليس من السهل أن يجمع الساحر كل قواه في جميع الأوقات.
هنا تنهد الشاب، وقال: ومتى تفي بوعدك، فأرى تلك الأرواح والعفاريت وأكلمها؟ فأجابه الأستاذ: لم يكتمل إيمانك بعد، ومتى اكتمل ترى العجائب، وتخضع لك القوى. وليتخلص الأستاذ من إلحاح تلميذه وإحراجه حول حديثه إلى موضوع آخر، فسأله عما لديه من أخبار ذلك الفيلسوف وأحاديثه وأحواله؟ - إنني ما زلت أواظب على حضور دروس هذا الأستاذ كما أمرتني، وهو لا يزال يتوسع في مباحث المساواة بين البشر مفضلا مناقشة الشباب بإثارة المواضيع لينمي فيهم أصالة التفكير.
الأستاذ :
ألا يزال ينشر فكرة مساواة السوقة بالأكابر وبالملوك؟ يا له من وقح يجب تأديبه! ويريد فوق ذلك أن يجعل للغوغاء تفكيرا أصيلا، وشعورا ينبثق عن الذات، وسلوكا يختاره عامة الناس، فلا يوجهون ولا يقيدون بتقاليد وعادات، فرضها علينا التاريخ، وأوجبها ما بين طبقات الناس من فروق وامتيازات، إنه لمجرم خطر، يستحق أقسى أنواع العقاب، وسيكون لي معه شأن وأي شأن. قل لي، أيكثر مريدوه أم يقلون؟
অজানা পৃষ্ঠা
التلميذ :
إنهم يزدادون باطراد.
س :
هل هم من الجيل الطالع الجديد؟ أم من الجيل السابق القديم؟
ت :
ليس بينهم شيوخ، وقلتهم من الكهول، وكثرتهم من الشباب، شابات وشبانا.
س :
وهل لا يزال يجمع بين الجنسين؟ يا ويله من عذاب أليم! إنه يفسد على الأمة شبابها، وسيناله جزاء المفسدين، الآن وجدت نقطة الضعف في دعوته، وسأضرب فيه موضع الضعف، ولن تقوم له قائمة. قل لي، أترى أن للشابين الوقحين صلة به وبتعاليمه؟
ت :
إن يكونا من انصرف إليهما ذهني في أثناء البحث في شأنهما في جلسة من عبرتم عنهم بالشمامين، فهما من ألمع شباب حلقة الفيلسوف ولا شك.
অজানা পৃষ্ঠা