فلا بد أن يكون القارئ على علم بمكانة «أزرا باوند» في عالم الشعر الحديث؛ فهو الذي يكاد يجمع الرأي عليه، بأنه في ذلك عالم الشعر الحديث، فهو الذي يكاد يجمع الرأي عليه، بأنه في ذلك العالم الشعري إمام في طليعة الطليعة من رواده، ولقد عرف أزرا باوند بعداوته لليهود، حتى جعل هذه العداوة جزءا ظاهرا في شعره، ولعله لم يهجر وطنه أمريكا، ليقيم في إيطاليا، إلا ليجد فرصة أوسع للتعبير عن كراهيته لهم، ولقد أقام تلك الكراهية على مسلكهم في دنيا الاقتصاد، مما لا يتفق مع كرامة الإنسان، كما يتصورها هو، وكما ينشدها للإنسان في حياته المثلى.
فقد حدث منذ عامين، وكان ذلك قبيل وفاة الرجل بقليل (مات في خريف 72) أن رشح عند «الأكاديمية الأمريكية للفنون والعلوم» لنيل وسام الشرف - وكانت سنه عندئذ سبعة وثمانين عاما - فرفضت إدارة الأكاديمية قبول الترشيح، وبنت رفضها على ما أسمته أسبابا خلقية، تمس بعض جوانب حياته، بعيدا عن دائرة الشعر وتقديسه، ويلفت النظر هنا بصفة خاصة أن الأكاديمية، أوصت بألا تذاع تفصيلات المناقشة التي دارت بين الأعضاء، لكن السر سرعان ما ذاع في الناس وفي الصحف، وهو أن مجلس إدارة الأكاديمية فيه أعضاء يهود من ذوي النفوذ، وقيل صراحة بأنه لا يجوز أن يكرم شاعر كهذا بوسام الشرف، مع عدائه السافر للسامية، وينتمي إلى تلك الأكاديمية نحو ألفين وسبعمائة عضو، فكم منهم احتج على هذا الخلط بين تقويم الشعر والموقف الاجتماعي السياسي؟ احتج ثلاثة أعضاء واستقالوا، ووافق الباقون على حرمان الشاعر من التكريم إرضاء للأعضاء اليهود، وورد ذلك صراحة في خطاب سري، أرسله مدير الأكاديمية إلى الأعضاء.
تلك كانت قيمة أزرا باوند في «صالة المزاد»، أما قيمته في سوق الشعر على مدى الزمن فشيء آخر، لم يكن يساوي في صالة المزاد وساما، وهو أعظم شعراء هذا العصر؛ إذ هو الشاعر الرائد، الذي قدم إليه ت. س. إليوت مخطوط قصيدته «الأرض اليباب» التي يقال عنها إنها أهم وأخطر، ما أبدعه الشعر على طول القرن العشرين، لكثرة ما أثارته بين نقاد الأدب في العالم كله، من تحليلات وتأويلات ومجادلات. أقول إن أزرا باوند كان هو الشاعر الرائد الذي وضع بين يديه ت. س. إليوت رائعته تلك، ليرى فيها رأيه، وليصلح منها ما شاء أن يصلح، قبل طبعها ونشرها، فحذف منها باوند ثلثها - وقيل بل مما يقرب من ثلثيها - وخلع عليها وحدة كانت تنقصها؛ هذا الشاعر الرائد لم يكن يساوي في صالة المزاد التي أقامتها الأكاديمية الأمريكية للفنون والعلوم، وساما لتكريمه، وأما في سوق الأدب التي يستند فيها التقويم إلى أسس موضوعية، فسوف يكون له القدر الرفيع في تاريخ الأدب، ما بقي للأدب تاريخ.
وأعود إلى ابن شهيد وكتابه «التوابع والزوابع» لأختم هذا المقال، بخلاصة لما ختم به كتابه ذاك؛ ففي تلك الخاتمة زعم أن بغلة وحمارا كانا من الشعراء، وانعقدت المحاورة بين «التوابع» في وادي الجن، ليقرروا أيهما أجود شعرا البغلة أم الحمار؟ واتجه الرأي نحو تفضيل البغلة على الحمار، وكان إلى جانب المكان الذي انعقدت فيه المحاورة، بركة ماء تسبح فيها إوزة أديبة لها دراية بالشعر ونقده، وأغضبها هذا الحكم الجائر؛ لأن شعر الحمار في رأيها أجود من شعر البغلة، بدرجة لا تترك مجالا للتردد إلا عند أصحاب النزوة والهوى.
فكانت هذه الخاتمة سخرية لاذعة، لا أدري ماذا قصد بها ابن شهيد، لكنها سخرية ترد إلى خاطري، كلما رأيت «توابع أو زوابع» - عندنا أو عند غيرنا - يناصرون أو يعارضون، أو يفاضلون في الفكر والأدب بين بغلة وحمار.
نرجسية بغيضة
مختلفان نحن يا صاحبي في طريقة النظر؛ تريد أنت أن تديم الغزل في ملامح صورتك، فلا تبصر منها إلا الحسن الجميل، وأريد أنا ألا أطيل الوقوف عند مواضع الجمال والحسن - وهي كثيرة - لأفرغ لأوجه النقص الشائهة، فأبرزها أمام الأبصار لعلها تصلح، هل سمعت بنارسيس - أو نرجس - في الأسطورة اليونانية القديمة؟ لم يكن نارسيس قد رأى وجهه في مرآة؛ فلم يكن يعرف شيئا عن ملامحه، فما إن شهد صورة وجهه، ذات يوم على سطح الماء حتى فتن بها عشقا، لكنه كان كلما أراد أن يضم هذا الحبيب الطارئ بين ذراعيه، اضطرب الماء، واضطربت معه صورة الحبيب، فامتلأ صدره هما وغما، ولبث في يأسه يذبل ويذوي حتى تحول إلى فناء، وأرادت عرائس الماء، أن تصون رفاته في قبر تعده له، فلم يجدن من جسده إلا نرجسة نبتت على حافة الغدير. وجاء علماء النفس في عصرنا، فاختاروا اسم «النرجسية» عنوانا لمن أحب نفسه، حتى عميت عيناه عن نقائصها.
مختلفان نحن يا صاحبي: فلقد أوغلت فيك النرجسية إيغالا، حتى كرهت أن يشار لك إلى عيب فيك، وأما أنا فقد أخذت مني الواقعية، مأخذا قيدني إلى الأرض وأهلها، حتى لم أعد أطيق الطيران عنها مع وهم الخيال. أتذكر كيف صممت أذنيك عن سمع حديثي، حين هممت بالتحدث إليك عن تلك الفجوة المخيفة، التي تفصل - عند بعضنا - بين القول والعمل؟ إن الذي حز نفسي حزا، هو علمي بأنك ما صممت أذنيك عن سمع حديثي ذاك لأنه كذب، بل إنك قد فعلت ذلك لعلمك أنه صادق، فما الذي أغضبك يا صاحبي من الحق يعلن في الناس؟ فيم إشفاقك من أن يتعرى نفر منا قليل، أصيب بهذه الفجوة المخيفة حتى لنخشى أن يصيبنا معه؟ وهل زاد حديثي عنهم يومئذ، عن أن يكون بسطا للقول الكريم:
يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون * كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون .
أتعرف من هم أولئك الذين عنيتهم بحديثي ذاك؟ لم يكن بينهم الفلاح الذي يعزق الأرض ويحرثها، ويرويها ويرعاها أكثر مما يرعى بنيه، والذي لولا كدحه هذا كل يوم، منذ يبزغ الفجر إلى أن تغيب الشمس، لما كان بين أيدينا قمح نأكله، ولا قطن نبيعه أو ننسجه، فلا فجوة هناك في حياة الفلاح بين قول وعمل؛ لأن قوله هو نفسه ضربات فأسه، كلا، ولا هو الخباز الذي يصطلي اللهب ساعات متصلة، والذي لولاه لما وجدت أنت ولا وجدت أنا رغيف الخبز على موائد الطعام ... لا، إنه لا فجوة بين قول وعمل عند العاملين بكل صنوفهم، الطبيب في المستشفى، والمهندس في المصنع، والمدرس في قاعة الدرس، عامل البريد، وعامل النقل والبقال والكواء والخياط ... كل هؤلاء عاملون لم أقصد إلى أحد منهم، حين حدثتك عن الازدواجية المخيفة التي تفصل - عند قلة بارزة من الناس - بين القول والعمل، وهو الحديث الذي لم يصادف عندك هوى فسددت عنه أذنيك، لم أكن أقصد إلى أحد من هؤلاء العاملين الألوف، الملايين؛ لأن أحدا من هؤلاء جميعا، لم ينعم عليه الله بترف التأرجح بين دنيا القول ودنيا العمل، فحياتهم توشك أن تكون عملا كلها، بلا قول يسبقه أو قول يلحقه، اللهم إلا كلمات متقطعات يسمرون بها، مع أهليهم ساعة إفطار أو ساعة عشاء.
অজানা পৃষ্ঠা