قال أولئك العلماء من رجال الاقتصاد والاجتماع ما معناه: إن نسبة الدخل قد تتغير عند قوم في يوم وليلة، فهل يدل ذلك على أي تغير عميق في حياة هؤلاء القوم؟ لقد أذيعت في العام 1973م مقارنة إحصائية، كانت فيها السويد أعلى مستوى من الولايات المتحدة، وبعدهما جاءت كندا، فسويسرا، ففرنسا، فالدنمارك، فألمانيا الغربية، كانت ألمانيا الغربية هي السابعة في الترتيب، وكانت اليابان هي السابعة عشرة! ولقد أقام أصحاب هذا الترتيب الإحصائي، حسابهم على أسعار العملات المختلفة كما كانت في عام 1963م، لكن أسعار هذه العملات قد تغيرت تغيرا شديدا، فلو حسبنا متوسط الدخل للفرد الواحد، كما هو اليوم بناء على سعر العملة، لهبطت الولايات المتحدة، وصعدت ألمانيا الغربية واليابان، فهل يمكن أن يكون معيار القياس بهذا التقلب السريع؟
لا بد - إذن - من البحث عن معيار آخر، نقيس به حياة الناس عمقا وغزارة. إن أرقام الكسب والإنفاق قد لا تدل وحدها على ما نريد قياسه، فقد يقال لنا - مثلا - إن كذا مليونا من الجنيهات تنفقها الدولة على التعليم، فهل يكون ذلك دالا بالضرورة على مقدار ما ارتفع به الناس في درجات الاستنارة والحضارة؟ أليس من الجائز أن تكون هذه الملايين، قد ذهبت لتخرج لنا «متعلمين» بالشهادات؟ لكنهم في دنيا العقل العلمي يعدون ذوي جهالة وخرافة وتعصب ذميم؟
إن أرقام الإحصاءات الاقتصادية - وحدها - لا تكفي؛ لأنها وإن أشارت إلى بعد واحد من أبعاد الموقف، فهي لا تشير إلى سائر الأبعاد، على حين أن الموقف الحضاري، إنما هو حصيلة هذه الأبعاد الكثيرة التي تتألف منها الحياة، وكما قد قيل: إن السائر في الحديقة قد تمتعه أشجار السنديان، ومتعته هذه هي جزء من حياته ولا شك، لكن أشجار السنديان هذه، لا تدخل في إحصاءات الاقتصاد، إلا بعد أن تزول من الوجود بصفتها تلك، أعني أنها لا تدخل في إحصاءات الاقتصاد، إلا إذا اقتلعت، وقطعت وبيعت شرائحها في أسواق الخشب.
لهذا أراد علماء الاقتصاد والاجتماع، الذين أشرت إليهم، أن يبحثوا عن معيار آخر، أو معايير أخرى، تمكننا من معرفة الدرجات المتفاوتة بين حياة وحياة، بشرط أن تؤخذ غزارة الحياة في الحساب، ولا يكتفى بقياسها طولا وعرضا، فوضعوا في اعتبارهم مقدار ما ينعم به الإنسان من «يسر»، بأوسع معاني هذه الكلمة؛ لأن الحياة الميسرة تتطلب - إلى جانب ارتفاع المستوى الاقتصادي - جوانب أخرى قد يصعب قياسها بدقة الحساب، كالصحة والخلو من المرض والجهالة، وكالتربية التي تعمل على تطوير الشخصية الإنسانية بكل ممكناتها، وتكافؤ الفرص بين الناس في العمل، وفي التمتع بالفراغ، ونقاء البيئة مما يلوثها، وضمان الحياة الآمنة من المفزعات، وسيادة القانون سيادة يخضع لها الناس أجمعون، لا فرق بين حاكم ومحكوم، ومشاركة المواطنين مشاركة فعالة في توجيه وطنهم؛ فكيف نقيس بمقدار الدخل وحده جوانب كهذه: الصحة، وحرية التعبير، والعدالة، والمساواة في الفرص، والتمتع بالفراغ؟
بعبارة أخرى: أرادت تلك الجماعة من علماء الاقتصاد والاجتماع، أن تنشئ خطا آخر، موازيا لخط الإحصاءات الاقتصادية؛ ليقيسوا به «كيف» الحياة ما دامت الإحصاءات الاقتصادية تقصر نفسها على جانب «الكم» وحده، فإذا كانت هذه الإحصاءات تبحث عن مقدار «الدخل»، فإن الجانب الآخر مطالب بأن يقيس مقدار «الراحة» و«اليسر» وما إليهما؛ مما يضفي على الحياة لونا وطعما وقيمة، وبالطبع لم يقف هؤلاء العلماء عند مجرد سرد العوامل المختلفة والكثيرة، التي من شأنها أن تضفي على حياة الإنسان لونها وطعمها وقيمتها، بل طفقوا - شأن العلماء دائما - يحللون تلك العوامل تحليلا يبين تفصيلاتها، كما يبين نسبة أهميتها بعضها إلى بعض.
أفلا يجدر بجماعة من علمائنا - ونحن نتأهب للتعمير الشامل - أن تجري عن حياتنا بحثا كهذا؟
حوافز التقدم
قرأت بحثا لأستاذ العلاقات الاجتماعية بجامعة هارفارد (هو الأستاذ ماكليلاند)، يستوقف النظر بطرافته؛ طرافة منهجه وطرافة نتائجه، وكان السؤال الذي طرحه ليحاول الإجابة عنه ببحثه هذا، هو سؤال عن العامل الرئيسي، الذي لا بد من توافره عند الفرد الواحد، أو عند أمة بأسرها؛ لكي يحقق ذلك الفرد أو هذه الأمة تقدما على طريق الحضارة، فإذا ما غاب هذا العامل الرئيسي على وجه الحياة، استحال على الفرد أو على الأمة، أن تحقق من التقدم الحضاري شيئا، مهما توافرت بعد ذلك سائر العوامل، وكانت الإجابة التي انتهى إليها الباحث عن سؤاله ذاك، هي أن العامل الرئيسي الذي يدور مع التقدم الحضاري وجودا وعدما، هو ما أسماه ب «الفيروس العقلي» تشبيها بالفيروسات التي قد تسري في الأبدان، لا يكاد يدركها البصر إلا بعدسات المجاهير، ومع ذلك فهي تحدث في الأبدان أحداثا جساما، وكذلك يمكن القول بأنه قد تسري في عقل الإنسان حالة يصعب تحديدها، لكنها - إذا ما سرت - حفزت الإنسان حفزا إلى العمل الدءوب، الذي لا يعرف الكلل، حتى يحقق هدفه المنشود.
يقول الباحث إن سائر العوامل التي يفسر بها الناس وثبة التقدم، إنما هي في الحقيقة مصاحبات ثانوية، قد تحضر أو تغيب، دون أن تتأثر بحضورها أو بغيابها عمليات التقدم الحضاري، في وثباتها الملحوظة على مسار التاريخ، فمثلا قد يعللون ذلك التقدم بعوامل البيئة مع أن عوامل البيئة هذه تراها هي بعينها، دائمة عند من تقدم ومن تخلف على السواء، وقد يعللونه بنوعية الأجناس البشرية، فهذا الجنس الفلاني قادر على التقدم، وذلك عاجز عنه، مع أنك واجد في الجنس البشري الواحد، جماعة تقدمت وأخرى تخلفت، بل قد تجد في الجماعة الواحدة، أنها تتقدم حينا وتتخلف حينا، وقد يعللونه بالمهارة في الحروب والقدرة على الغزو والتوسع، فكأنما الغازي هو دائما أكثر تقدما ممن وقع عليه الغزو، مع أن الأمثلة لا حصر لعددها، الأمثلة التي تدل على أن الأمة المغزوة، كانت وظلت بعد الغزو، أكثر تقدما في مدارج الحضارة من الجماعة الغازية، لا، بل يزعم الباحث أن الوثبات الحضارية لا يفسرها، ما يكون عند الجماعة الواثبة من علم ومن تكنية، ما لم يكن ذلك العلم أو هذه التكنية، مصحوبة بما أسماه «الفيروس العقلي»، ويسوق أمثلة لذلك، منها أن أحد الشعوب المعاصرة المتخلفة، أعطت لصيادي السمك فيها أدوات تكنية، صنعها العلم الحديث، من شأنها زيادة الحصيلة السمكية بمجهود أقل، ولقد أدت تلك الأدوات مهمتها؛ فزاد المحصول بالفعل، وزادت معه دخول الصيادين، ولكن لوحظ في هؤلاء الصيادين أحد أمرين؛ فبعضهم أوقف العمل عندما توافرت بين يديه ثروة تكفيه فترة يعيشها بلا عمل، وبعضهم الآخر واصل العمل وزيادة الكسب، ولكنه أسرف في الإنفاق على النساء والخمر، وكانت النتيجة أنه برغم ما أتيح لهؤلاء الناس من ثمار التقدم العلمي، لم يستطيعوا لأنفسهم ارتقاء حضاريا، وكان الذي فاتهم فضيع عليهم عملية الارتقاء، هو ما أسماه الباحث بالفيروس العقلي.
وعبارة «الفيروس العقلي» هذه، عبارة أطلقها صاحبها على سبيل المجاز، وأراد بها ذلك الضرب من المهمة العازمة، التي لا تترك حاملها ليستريح على جنبيه إلا أن يرى حياته، مليئة بالعمل المنتج الناجح، الذي ما ينفك يزداد إنتاجا ونجاحا، عاما بعد عام، كأنما في رأسه نحلة تطن وتلسع، حتى تحول بينه وبين الاسترخاء المطمئن البليد، ومن لم تصبه هذه الحالة المؤرقة الهلوع على النماء المستمر والارتقاء المتصل، قد ينظر إلى غيره ممن أصيب بها، فيظن به الهوس والجنون، وقد يتساءل في عجب: فيم هذه العجلة المكروبة، وعند هذا المجنون من الرزق ما يكفيه؟ لكنه «الفيروس العقلي» أصاب واحدا ولم يصب الآخر، فتقدم الأول ونما، وتخلف الآخر وانكمش.
অজানা পৃষ্ঠা