قالها آرثر كيستلر صريحة، بعد زيارته للهند ولليابان، إنه لم يجد عند صوفية الشرق إلا سخافات ترتدي ثوب الوقار، وأذكر أني بعد أن قرأت له الكتاب الذي يحمل عنوان «اليوجي والقوميسار»، اشتدت رغبتي في أن أعلم عن شخص هذا الكاتب، ما يصوره لي بدرجة كافية من الوضوح، فمن ذا يكون هذا الرجل الذي لم تعجبه لا شيوعية الشرق الأوروبي، ولا ديمقراطية الغرب الأوروبي، ولا صوفية الهند، ولا نهضة اليابان؟ من ذا يكون هذا الرجل الذي أخذت أتتبع مقالاته وأتتبع كتبه؛ فأجد فيها دائما الرأي الجريء، الذي يصيب حينا ويخطئ حينا، لكنه في كلتا الحالتين قلق لا يستقر على مذهب يرضيه؟ فسرعان ما وجدت حقيقته، في كتابته، هو عن نفسه، وفي كتابات الآخرين عنه، فهو يهودي صهيوني، يعترف بأن الصهيونية قد جذبته عندما كان في شبابه طالبا في فينا، فذهب إلى فلسطين؛ ليرى الموقف هناك على الطبيعة كما يقولون، ثم عاد إلى أوروبا واشتغل بالصحافة، متخصصا في العلوم، ولم يلبث أن جاءه الجذب هذه المرة من المذهب الشيوعي، فالتحق عضوا في الحزب الشيوعي، ولم تمض على عضويته عشر سنوات، حتى انقلب عدوا للمذهب الشيوعي، وذلك بعد أن ذهب إلى إسبانيا أيام حربها الأهلية - في الثلاثينيات - واشتغل مراسلا صحفيا، وقبضت عليه حكومة فرانكو، وحكمت عليه بالإعدام، غير أن محاكمات التطهير في موسكو أيام ستالين، قد زعزعت عقيدته في الشيوعية، وكتب كتابه «الجلادون » وهو لم يزل عضوا في الحزب ، ثم خرج منه فكتب أشهر كتبه «ظلام في الظهيرة»، الذي أشرت إليه فيما سبق، وهنا عاد إلى فلسطين وكانت عندئذ قد اغتصبتها «إسرائيل»، فكتب عنها كتابا.
علمت عن الرجل هذه الحياة المتقلبة، التي ترتدي ثوبا وتخلع ثوبا، ووراء كل ثوب منها صهيونية كامنة، فبدأت أقرأ له بعين الشك والحذر، حتى وقعت له على موقف متخبط أثار في نفسي الدهشة، إن لم يكن الازدراء، برغم كل ما كنت لمسته في أعماله من معرفة غزيرة وذكاء نافذ، ذلك أنه اضطلع منذ مدة - في شهر نوفمبر 1973م - بحملة غوغائية في إحدى الصحف البريطانية الأسبوعية، قوامها الدفاع عن الخرافة، أو ما يندرج تحت الخرافة من وجهات للنظر، فمن ذا الذي يتوقع من رجل، صبغ فكره بصبغة العقل العلمي، ووصف الروحانية الهندية بكل ما وصفها به من زراية وتحقير، أن يظهر لنا اليوم بروحانية من الصنف الرخيص، لكنه يعلي من شأنها، ويروج لها؛ لأنها - فيما أظن - من طراز غير شرقي؟! كأن من حقه أن يلتزم علمية النظر، وكأن من حقه أن يأخذ بروحانية الاتجاه، ولكن ليس من حقه أن يلبس منظار العقل العلمي، وهو ينظر إلى صوفية الشرق، وأن يعود فيلبس منظار الرؤية الغربية، وهو ينظر إلى علمية الغرب. ولو قرأت الحكايات التي يعرضها على قرائه؛ ليثبت لهم بها أن وراء المنطق العقلي مصدرا تنبع منه المعرفة، لوجدتها من قبيل ما يحكيه عامة العامة من سواد الناس، وعجبت من رجل تنكر بكل علميته لروحانية الشرق، يرويها مصدقا ومحاولا، أن ينتزع التصديق من قارئيه.
إنها العصبية العمياء، التي تستحسن الشيء وتستهجنه في آن واحد، بحسب المكان الذي تراه فيه، فإن كان عند الأهل والمحبين، كان جميلا، وإن كان عند الأغراب المبعدين كان قبيحا! فماذا نقول في حياة فكرية هذا الرجل من روادها؟
حضارة تأكل نفسها
منظر رأيته ولم أكن قد أكملت العاشرة، وذلك أن رأيت قطة في ركن من بناء مهجور، تأكل قطيطات لها، كانت ولدتها لتوها، أو هي ولدتها لفترة وجيزة سلفت، الصغار من حولها أجساد هلامية عمياء، آلية الحركات، لم تستقم على سيقانها، ولقد استدارت لها الأم في صوت وحشي غليظ، كأنها انقلبت عندئذ نمرا صغيرا، وما زالت إلى ساعتي هذه أذكر، كم اختلطت عندي الرغبتان: رغبة الفرار فزعا، ورغبة الوقوف لأشهد المأساة حتى نهايتها! وأظنني قد سألت الكبار يومئذ، فأنبئوني أنها من طبيعة القطة فلا عجب، لكنني عجبت وما أزال! وأذكر أن تعليلا لهذه الحقيقة من طبائع القطط، قد صادفني ذات يوم، غير أني نسيت كيف كان.
ذهب عني «مضمون» ذلك المنظر الرهيب، ولكن بقي لي منه «الشكل»، وهو أن يخلق الإنسان لنفسه خلقا جديدا، لا لينعم به، بل لتدب في نفسه الكراهية له، حتى لقد تؤدي به إلى أن يفتك بما كان قد خلق وأبدع، وإنها لكثيرة ومنوعة، تلك الحالات التي ينطبق عليها هذا «الشكل»، الذي وعيته منذ طفولتي الباكرة، وإنها لحالات تتفاوت فيما بينها أهمية وتفاهة، لكنها تشترك معا في أن ينهش الصانع صنيعته.
والحالة التي أردت اليوم عرضها، تطبيقا لشكل الهرة تأكل بنيها، هي إحدى الحالات الهامة والخطيرة، وأعني بها أن يقف أبناء عصرنا لينقضوا على حضارته هدما وتخريبا، مع أنهم هم بناتها، ومع أنها حضارة لم تزل بعد في طور التكوين ولم تبلغ مداها، ولو أن الانقضاضة جاءت من أبناء العالم المتخلف؛ لقلنا إنها قصة الثعلب الذي لم ينل عنقود العنب الناضج، فقال إنه حصرم مر؛ تعزية لنفسه عن فشل أصابه، لكنها انقضاضة تجيء من عدد لا بأس به، من أبناء العالم المتقدم، الذين صنعوا للعصر حضارته هذه التي استداروا إليها لينهشوها.
ومن أقرب هذه الصيحات المستنكرة ظهورا، مسرحية للكاتب الإنجليزي «إدوارد بوند» اسمها «بنجو» - وهو اسم للعبة تفاجئ اللاعبين بالنتائج العشوائية - ولقد اختار الكاتب مادة لمسرحيته شخصية شكسبير، مبينا أن هنالك تشابها بين ما قد كان في حياة شكسبير من تناقض، وبين هذا التناقض نفسه في حياتنا العصرية الراهنة، وهو تناقض يباعد بين الأوضاع الفعلية للحياة كما هي واقعة، وبين ما يدعيه الدعاة من مبادئ وقيم، وكما حدث لشكسبير من خيبة أمل، أودت به إلى أن يزهق روحه بيديه، فلا بد أن نتوقع لعصرنا أن يحطم بنيانه بمعاوله.
يقول الكاتب عن شكسبير إنه قد تساءل في مسرحياته عن أمور كثيرة أقلقته وأرقته، تمس الأوضاع كما كانت قائمة بين الأغنياء والفقراء، وبين أصحاب القوة ومن لا قوة لهم من سواد الناس، فمن قرأ هذه الكتابة القلقة المؤرقة، لم يتوقع من صاحبها أن يسلك سلوك الأغنياء الأقوياء حين تجمع المال بين يديه، بل إن نزاعا كان قد نشب في بلده، بين من كانوا يملكون الأرض، وأرادوا تسويرها ليردوا عنها المرتادين من عامة الشعب، وبين هؤلاء الفقراء الذين أرادوا الانتفاع، وإن لم يطمعوا في امتلاك، فوقف شكسبير في صف المالكين مؤيدا، لم يقلقه ولم يؤرقه أن ينال هؤلاء المعوزون، ما نالهم من سجن وتعذيب، وجلد بالسياط وتشويه للأجساد، بل ومن الموت شنقا، فلعله قد ظن كما ظن سائر الأغنياء الأقوياء؛ أن هذه كلها أمور طبيعية خلقها الله للإنسان.
وكان شكسبير قد ألقى بالقلم من بين أصابعه قبل أوانه، فيتساءل الكاتب: لماذا أمسك شكسبير عن الكتابة؟ إن مثل هذا الإمساك لا يحدث إلا في إحدى حالتين: أولاهما أن يكون قد أفرغ كل ما في جعبته، ولم يعد لديه ما يقوله، والثانية هي أن يشعر بلذع الضمير، دون أن يملك الإرادة ليغير من سلوكه بما يرضي ضميره، وإنما يلذع الضمير صاحبه، حين يفعل ما يعلم أنه خطأ، وحين يقول ما يعلم أنه كذب. ولقد وقع شكسبير في الكذب وفي الخطأ، وهو عالم بما وقع فيه، والأرجح ألا يكون شكسبير قد أمسك عن الكتابة للسبب الأول، وأن تكون العلة هي فراره من ضميره.
অজানা পৃষ্ঠা