إهداء الكتاب
حامدا ومصليا
الرسالة الأولى
الرسالة الثانية
إهداء الكتاب
حامدا ومصليا
الرسالة الأولى
الرسالة الثانية
حضارة العرب في الأندلس
حضارة العرب في الأندلس
رسائل تاريخية في قالب خيالي بديع
تأليف
عبد الرحمن البرقوقي
إهداء الكتاب
إلى روح أستاذي الإمام الشيخ محمد عبده؛ إلى الرجل العظيم الذي لم تقع عيني على مثله رجاحة عقل، وسجاحة خلق، وعبقرية ذهن، وسمو نفس، وعظمة روح، وهمة تناطح النجوم، وكرما يشامخ الغيوم، وأدبا إلهيا من الطراز الأول حتى لكأنما نشأ في حضانة الله؛ إلى الرجل كل الرجل، الذي يحب معالي الأمور ولا يحب سفسافها.
تلذ له المروءة وهي تؤذي
ومن يعشق يلذ له الغرام
إلى الرجل الذي لم يفزع إليه فازع، ولم يستصرخه مستصرخ إلا كان الصراخ له إنجاز ما أمله؛ إلى الرجل الذي لو مد الله في أجله، وبقي إلى أن رأى ثمار غرسه ونتاج عمله، لكان للأديب اليوم شأن غير هذا الشأن، وحال غير تلك الحال؛ لأنه عظيم، فهو يحب كل عظيم ويمده ويشبه وقدا، ولا يحقد ولا يحسد؛ لأن «رئيس القوم لا يحمل الحقدا.»
ذهب الذين يعاش في أكنافهم
وبقيت في خلف كجلد الأجرب •••
عالم أشبهوا القرود ولكن
خالفوها في خفة الأرواح •••
لهم حلل حسن فهن بيض
وأخلاق سمجن فهن سود •••
أنا في أمة تداركها الله
غريب كصالح في ثمود
إلى روح أستاذي الذي علمني وربني وأدبني، فأحسن - بحمد الله - تأديبي؛ فكنت خريجه ولا فخر، وكنت غرس يديه ونعمة عين. وكما أرسل الله إلى صفيه وخيرته من خلقه سيدنا محمد بن عبد الله - صلوات الله وتسليماته عليه - ملكين كريمين سقطا عليه كسقوط الندى وهو يلعب مع إخوته من الرضاعة خلف بيوت ظئره - رضوان الله عليها - فأضجعاه، فاستخرجا قلبه فشقاه، فتناوشا منه علقة سوداء، ثم غسلا قلبه بثلجهما السماوي حتى أنقياه، وكان ذلك كمدرجة لمقام النبوة ومهمة الرسالة العظمى؛ أرسل الله إلينا هذا الإمام، وطلع علينا كما يطلع البدر في دجنات الظلام ونحن في الأزهر نتعسف الطريق، ونتقحم تلك الجراثيم، فهدى من ضلالة، وأنار من ظلمة، وانتاشنا من مضيق ومرتطم، وأقامنا على المناهج النيرة، والمحاج الواضحة، وغسل عقولنا حتى أنقى أدرانها، ثم فاض علينا فيض علمه وأدبه.
فإلى روح هذا الإمام، أهدي هذا الكتاب.
عبد الرحمن البرقوقي
حامدا ومصليا
أما بعد، فهذا كتاب وضعته قديما وأسميته «حضارة العرب في الأندلس»، ولقد أشرب قلبي مذ طراءة العمر، وريعان الصبى، وجن النشاط، حب التاريخ الإسلامي عامة، وتاريخ هذا الفرع الأندلسي منه خاصة؛ فكان مما عنيت به فضل عناية، وكان مما أولعت به الولوع كله النظر في تاريخ الأندلس وحضارة العرب بها، منذ افتتاحهم إياها إلى أن تأذن الله لهم، وكلب عليهم الإسبانيون، وكلح لهم الدهر وجهه، وتقلصت ظلال تلك الحضارة بعد أن فاء بها الفيء على شرق الأرض وغربها، وبلغ من همي بهذا التاريخ أني بعد أن استوعبت كل ما وصل إلينا من تآليف العرب، ذهبت أتلمس ما كتبه مؤرخو الغرب ومستشرقوه على ذلك المصر، حتى اقتنيت أمهات أسفارهم، وعهدت إلى كثير من أصدقائي الذين يحسنون الفرنسية والإنكليزية أن ينقلوا إلي كل ما يتصل بغرضي من مباحث هاتيك الكتب، ومضيت في ذلك ومضوا فيه حتى استجمعت الكثير، وما يزيد على الكثير، ثم خطر الدهر من خطراته.
ونشأت ظروف أواخر سنة 1910 ميلادية؛ أي قبيل إخراج «البيان»، اضطرتني أن أزايل القاهرة وأقيم في بلدي - مسقط الرأس ومكان الغراس - فأفسح لي ذلك في الوقت، ومد لي في النظر، وبسط في مطارح التأمل. وإني لأتقرى يوما تاريخ أبي الفداء إذ صدف أن أخذت عيني هذا الخبر الذي لا حفل له، والذي يقتحمه في العادة النظر ولا يكاد يتلفت إليه، أو يتوقف عليه؛ وهو ما رواه من «أنه في سنة 345 هجرية عمل عبد الرحمن الناصر؛ صاحب الأندلس، مركبا كبيرا، وحشد فيه كثيرا من بضائع الأندلس، وأرسله إلى بلاد المشرق؛ لتباع هذه البضائع هناك وتستبدل منها بضائع مشرقية.» ففتحت علي هذه العبارة أبوابا من وراء أبواب، وامتدت الكلمة في نفسي حتى خرج من حروفها كتاب، وألهمت أن أضع ما جمعت من علم الأندلس كله في صدر رحالة مصري يقوم من الإسكندرية وافدا إلى الأندلس في مركب الناصر هذا - فهو يرى ويسمع ويقص ويدون ويصف ويستعين بما يعلمه وما يراه، وما يفتق له الخاطر ويهيئ الفكر - في رسائل يضمنها وصف تلك الحضارة على اختلاف ألوانها، وشتى فنونها، وصف مؤرخ أديب فيلسوف يرحل للتاريخ وفلسفته، فيدرسه في كتبه وفي مواضعه ورجاله وأسبابه وحوادثه؛ وبذلك يستجمعه من أطرافه، ويحويه من أكنافه. وتم التقدير على أن أضع على لسان هذا الرحالة الذي ذهب إلى الأندلس، وأقام فيها زهاء عشرين عاما خمس رسائل، يكون عنوان الأولى «من الإسكندرية إلى المرية»، والثانية «من المرية إلى قرطبة»، والثالثة «مقامي في قرطبة»، والرابعة «العلوم والآداب والفنون في الأندلس»، والخامسة «تقويم الأندلس وتاريخها» ... وهو بديهي أنه لا يقدم على هذا العمل مقدم إلا بعد أن يحيط بتاريخ هذا العصر علما، ويقتله كله دراية وفهما؛ فليس يكفيه أن يكون ملما بتاريخ الأندلس، ولا بتاريخ الدول الإسلامية لهذا العهد؛ بل لا بد مع ذلك من أن يكون واقفا على تاريخ الأمم الأخرى المعاصرة، والتي لها علاقة بالدول الإسلامية إذ ذاك؛ مثل الدولة الرومانية وما إليها، وكذلك درست تاريخ هذا العصر من جميع نواحيه، ثم وضعت يدي في هذا العمل، وأخذت في كتابة هذه الرسائل، ومضيت لطيتي حتى إذا سرت شيئا طرأ علي ما أجاءني إلى القاهرة، وفي تلك الآونة طلع «البيان»، وطفقت أنشر فيه نبذا من هذا الكتاب. وكان المنتظر أن يكون «البيان» بحيث يغري بإتمام الكتاب ونشره كله بين صفحات هذه السنوات التي خلت، ولكن جاء الأمر على حد ما قيل: طلبت بك التكثير فازددت قلة؛ فلقد استبد بي هذا البيان، واستأثر علي بنفسي استئثارا، وتدفق في أذاته، وألح في سطواته؛ حتى إنه بعد أن التهم الوفر أكلا وشربا ألوى بنفسي
1
قلبا ولبا، وتركني لا أفكر إلا فيه، ولا أتشاغل إلا به.
فلو أن لي تسعين قلبا تشاغلت
جميعا فلم يفزع إلى غيره قلب
وكذا مصير كل من يمتهن الأدب في الصحف، وبخاصة إذا كان هو صاحب تلك الصحيفة، له غنمها، وعليه غرمها، ببلد سقط فيه نجم الآداب الرفيعة، وطاش سهمها، وقديما قيل لحكيم: إن فلانا رجل عاقل، فقال: هل هو متزوج؟ فقيل له: نعم، فقال: إذن ذهب عقله! وعلى هذا القياس لو قيل لي: إن فلانا فيلسوف أو عالم أو أديب، لقلت: هل هو صاحب مجلة في مصر؟ فإذا قيل: نعم، قلت: إذن ذهب والله في الذاهبين ... فإنه إذا كان المتزوج يجد من هم واحدة وما يكون منها ما لا يدعه لهم نفسه، فيذهب بذلك عقله أو بعض عقله، فإن صاحب المجلة يصيبه هم المئات إلى الألوف ممن يقرءون ولا يفون بحق ولا عهد، فهو ينفق من نفسه وما أعده لنفسه، وهم يمحقونه محقا حتى ينقص بهم على زيادتهم، ويقل على كثرتهم، ولا يزال ذلك شأنهم وشأنه لا هو يتركهم وعليهم حقه، ولا هم يدعونه في غير هذه الحالة، وبذلك يذهبون بفلسفته وعلمه وأدبه مذاهب العقم، ويبلونه بالاغتمام، ولا عقل مع غم، ولا قلب مع هم، فذهب - إذن - والله صاحب المجلة، وكان من ضياع العقل في وزن من تزوج، لا بزوجة واحدة، بل بألف زوجة ...
وبعد، فهذا هذا، وفي هذه الآونة؛ في هذه الفترة التي احتجب فيها البيان، والتي وجدت فيها نفسي. جرى بيني وبين أحد أفاضلنا يوما حديث أفضى إلى ذكر هذا الكتاب، وأنست من هذا الفاضل رغبة حارة صادقة في تمامه، وطبع ما تم منه إلى الآن، في الأقل، على حدة، فكان جواب الفعل أسبق من جواب القول، وقدمت هاتين الرسالتين إلى المطبعة على أن أردفهما قريبا - إن شاء الله - بالرسائل الثلاث الباقية. وهاتان الرسالتان يكادان يكونان كتابا مستقلا يصح أن ينزلا من الرسائل التالية منزلة مدخل الكتاب من الكتاب.
والآن يجمل بنا أن نقدم بين يدي الناظر في كتابنا هذا تنبيهات، يخلق به أن يلحظها، ويتنبه عليها؛ وإليكها:
1
يلحظ قارئ هذه الرسائل في بعض المواطن شيئا يشبه أن يكون حشوا، أو زيادة، أو فضولا، أو شططا ، أو خروجا عن الموضوع، أو ما شئت سمه؛ وذلك مثل كلامنا على الخمر (انظر فصل صقلية)، وكلامنا على حب الوطن (انظر فصل صقلية)، فليعلمن القارئ أنا لو قصرنا كلامنا في هذه الرسائل على البحث التاريخي البحت، دون تطريتها بمثل هذه المعاني الغضة اللينة المستطرفة، التي تستروح إليها النفوس، وتريح على القارئ عازب نشاطه؛
2
لجاءت كزة جافة ثقيلة مملة. وليس للكاتب اليوم في أي باب من أبواب العلم والأدب منتدح عن أن يداور القارئ على القراءة ويراوغه،
3
ويحتال بكل ضروب الحيل التي تغريه بالقراءة، وتشوقه إلى الاطلاع ما دامت الرءوس كأن بها خبالا، والنفوس كأن بها دائما ملالا؛ على أنه إذا كان الغرض الذي نترامى فيه
4
بهذه الرسائل هو وصف حضارة العرب، فلماذا لا نهتبل هذه الفرصة ونتصدى - ما وجدنا إلى ذلك سبيلا - لكل معنى من معاني هذه الحضارة، ومبلغ ما وصل إليه العرب في هذا المعنى؛ ومن ثم لم نتعرض لمثل ما تعرضنا عبثا، وإنما لنصف لك كل ألوان الحضارة العربية على اختلافها أولا وبالذات، ولننفي عن القارئ ما عساه يلم بساحته من السأم والملال ثانيا وبالعرض.
2
قد يلمح القارئ من أسلوب هذه الرسائل وطريقة الوصف والتفكير فيها مسحة من روح جيلنا، ويراها مصطبغة بصبغة عصرنا؛ وهذا وإن لم يكن في مكنتنا اجتنابه - لأنا؛ ضرورة كوننا من أبناء هذا الجيل وامتزاج روحه منا بالدم واللحم، لا نستطيع الخروج عن كياننا - إلا أنه مع ذلك نكاد نكون قد قصدنا إليه قصدا؛ لأنه يدخل في باب التطرية التي لا بد منها؛ نفيا للملل الذي قد يعرو القارئ إذا نحن توخينا أسلوب تلكم العصور توخيا تاما؛ ولأنه لولا ذلك لما كان ثمت فرق بين هذه الرحلة وبين رحلة قديمة يضعها رحالة حقيقي في هاتيك العصور؛ بيد أنا مع ذلك قد احتفظنا جهد الاستطاعة باصطلاحات العرب في أسماء الأعلام والبلدان والأقطار والممالك، وما إلى ذلك، مع قرنها بأسمائها التي تعرف بها اليوم؛ إما في هامش الرسائل، وإما في صلبها بين أقواس.
3
كل ما كان لغيرنا ونقلناه بلفظه أو بمعناه نبهنا إليه في هامش الكتاب؛ ومن ثم يكون كل ما لم ننبه إلى مصدره فهو لنا معنى ولفظا، اللهم إلا ما نتمثل به من بيت مشهور، أو مثل سائر، أو أبيات قد عرف قائلها. على أنا إذا كنا في موضع تاريخي أو وصف جغرافي قد نبهنا إلى المصدر الذي اعتمدنا عليه، ففي الغالب الكثير تكون العبارة لنا، وإنما الذي لغيرنا هو العصارة التاريخية أو الجغرافية وما إليهما. وقد نسهو عن التنبيه إلى المصدر؛ إما لأنا لم نقيد ما ننقل حين النقل فلم نهتد إلى موضعه بعد ذلك؛ وإما لأن ما ننقله من غيرنا إنما نقلناه بواسطة حافظتنا.
4
قد نتمثل في بعض الأحايين ببيت أو أبيات تأخرت أوقات قائليها عن زمن الرحلة؛ مثل تمثلنا بأبيات لابن خفاجة أو لابن حمديس مثلا، ونحوه؛ فإنا لا نرى بأسا في ذلك ما دامت هاتيك الأزمان متقاربة متشاكلة، وحسبنا التنبيه إلى ذلك في هامش الكتاب.
أما بعد، فيرحم الله عمرو بن بحر إذ يقول: «لا يزال المرء في فسحة من عقله ما لم يقل شعرا أو يؤلف كتابا.» ويرحم الله القائل: «عرض بنات الصلب على الخطاب أهون من عرض بنات الصدر على ذوي الألباب.» فإذا كنت قد وفقت أو قاربت التوفيق في هذا الكتاب، وإلا فحسبي أني لا آلو جهدا ولا أدخر وسعا، وأني أخلص النية، وأراقب الله في كل ما أعمل، على أنه لا كمال في الأرض، وإنما الكمال لله وحده، إليه سبحانه الرغبة في أن يحوط كل ما أعتمل بكلاءته، وأن يغشيه دائما بالقبول. إنه سميع الدعاء.
عبد الرحمن البرقوقي
هوامش
الرسالة الأولى
من الإسكندرية إلى المرية
كان انفصالي عن الإسكندرية للوفود إلى الأندلس بسحرة يوم من أيام سنة خمس وأربعين وثلاثمائة من هجرة المصطفى
صلى الله عليه وسلم ، الموافقة سنة ست وخمسين وتسعمائة لميلاد السيد المسيح - صلوات الله عليه؛ وذلك في سفينة عدولية
1
لأمير المؤمنين بالأندلس عبد الرحمن الناصر، لم نر قط مثلها. وكان عبد الرحمن فيما بلغني مولعا بإنشاء السفن والأساطيل، فأنشأ هذا المركب الكبير الذي لم يعمل مثله، وسير فيه أمتعة وبضائع إلى بلاد المشرق؛ لتباع هناك وتستبدل بها بضائع من هاتيك البلاد، فمر بكثير من ثغور البحر الشامي، وكان آخر ما مر به الإسكندرية.
2
ولما نزلت هذا المركب رأيت فيه كثيرا من أهل بغداد والموصل والشام ومصر يريدون الوفود إلى الأندلس، وممن عرفت منهم عالم لغوي أديب من أهل بغداد يعرف بأبي علي إسماعيل بن القاسم بن عيذون القالي،
3
وفقيه مصر أحمد بن أبي عبد الرحمن القرشي الزهري،
4
وفقيه مقرئ يسمى أبا الحسن علي بن محمد بن إسماعيل بن بشر التميمي الأنطاكي،
5
وتاجر رحلة من أهل الموصل يعرف بابن حوقل،
6
وقينة اسمها فضل المدنية؛
7
وأصل هذه القينة، كما أخبرتني، لإحدى بنات هارون الرشيد، ونشأت وتعلمت ببغداد، ونهدت من هناك إلى المدينة المشرفة؛ فازدادت ثم طبقتها في الغناء، ثم اشتريت للأمير عبد الرحمن مع صاحبة لها تسمى علم المدنية وصواحب أخرى. وقد عقدت الغربة بيني وبين فضل صحبة؛ لأن الغريب، كما قيل، للغريب نسيب. فرأيت منها أديبة ذاكرة، حسنة الخط، راوية للشعر، حلوة الشمائل، معسولة الكلام، ذلك إلى حذقها في الغناء ولباقتها به مع الظرف الناصع، والجمال الرائع، فكانت - صنع الله لها - سلوتنا في سفرنا، وكانت تجلو هموم السفر
8
ومرض البحر؛ بما تنفثه بيننا الفينة بعد الفينة
9
من سحر الحديث الذي يأخذ بالألباب، ويرتفع له حجاب القلوب، فهو كما قال أبو حية النميري فيمن يقول:
حديث إذا لم تخش عينا كأنه
إذا ساقطته الشهد أو هو أطيب
لو انك تستشفي به بعد سكرة
من الموت كادت سكرة الموت تذهب
ولما أقلعت بنا السفينة من مرسى الإسكندرية، تحركت الريح الشرقية نسيما فاترا عليلا، ثم غشى البحر ضباب رقيق سكنت له أمواجه، فعاد كأنه صرح ممرد من قوارير، فبقينا لاعبين على صفحة ماء تخاله العين سبيكة لجين، كأنا نجول بين سماءين، فكان لذلك منظر هو قيد النواظر، وغل
10
الألباب، وشرك النفوس، تجلى لنا فيه جمال الكون وصانعه ، فكنت ترى السماء صافية الأديم، زاهرة النجوم، وكوكب الزهرة مقبلا من ناحية المشرق يحفه الجمال والجلال، فلولا التقى لقلت: جلت قدرته! وترى البحر كأنه مرآة مصقولة تنظر السماء فيها وجهها، فكأنما الماء سماء، وكأن السماء ماء، وترى النوتية مجدين في التجديف على حال لو هممت بتشبيهها بشيء حسن لاضطرك حسنها إلى رده إليها.
مجاذف كالحيات مدت رءوسها
على وجل في الماء كي تروي الظما
كما أسرعت عدا أنامل حاسب
بقبض وبسط يسبق العين والفما
11
وفيما بين ذلك تسمع فضل تغني في قبتها مواليا بغدادية ساحرة، وبين يديها مزهر تقلدته أطرافها:
تميت به ألبابنا وقلوبنا
مرارا وتحييهن بعد همود
إذا نطقت صحنا وصاح لنا الصدى
صياح جنود وجهت لجنود
ظللنا بذاك الديدن اليوم كله
كأنا من الفردوس تحت خلود
ومضى على ذلك ثلاثة أيام بلياليها كنا من أوقاتها في بلهنية
12
من العيش، وغفلة عن أعين الدهر، ووصال أخضر، ونعمى لا يشوبها بؤس ولا كدر، فلما كان اليوم الرابع - ولا كان - هبت علينا ريح عاصف رمتنا بها الأقدار من حيث لا ندري، فأرغى البحر وأزبد، وأبرق وأرعد، وتلاطمت الأمواج، واهتاجت أيما اهتياج، وصار بها - عمرك الله - مثل الجنون، وتراءت في صورها المنون.
وقد فغر الحمام هناك فاه
وأتلع جيده الأجل المتاح
13
فانقلب يسرنا عسرا، وأدال الله من الحلو مرا، وعظم الخطب، وعم الكرب، ونحن في ذلك قعود كدود على عود، وقد نبت بنا من القلق أمكنتنا، وخرست من الفرق ألسنتنا، وتوهمنا أنه ليس في الوجود أغوار ولا نجود، إلا السماء والماء، وذلك السفين، ومن في قبر جوفه دفين.
البحر صعب المرام جدا
لا جعلت حاجتي إليه
أليس ماء ونحن طين
فما عسى صبرنا عليه
14
ولبثنا على هذه الحال من ظهر اليوم الرابع إلى سحره، وبعد ذلك فترت الحال بعض الفتور، ثم جاءت ريح رخاء زجت السفينة إلى بر جزيرة أقريطش «كريد» أهنأ تزجية، وأخذنا نسير في محاذاتها، فما كان إلا كلا ولا حتى وصلنا إلى مدينة الخندق؛
15
إحدى مدنها ومرافئها العظيمة، فأرسينا بها ريثما نشتري منها ما يعوزنا من الخبز واللحم والماء والفاكهة.
أقريطش
وهذه الجزيرة من جزر بحر المغرب الكبيرة، فيها مدن وقرى كثيرة، يقابلها من بر أفريقيا لوبيا، وجميع سكانها الآن مسلمون، وأميرها يسمى عبد العزيز بن شعيب؛ من ولد أبي حفص البلوطي الأندلسي،
16
وذلك فيما علمت أن الحكم بن هشام؛ أمير الأندلس؛ كان قد أمعن صدر ولايته في اللذات، فاجتمع أهل العلم والورع بقرطبة؛ مثل: يحيى بن يحيى الليثي؛ صاحب مالك وأحد رواة الموطأ عنه، وطالوت الفقيه، وغيرهما، فنقموا عليه، وثاروا به، وبايعوا بعض قرابته، وكانوا بالربض الغربي من قرطبة - محلة متصلة بقصره - فقاتلهم الحكم واستلحمهم، وهدم ديارهم ومساجدهم، فلحقوا بفاس من أرض العدوة
17
وبالإسكندرية. وبعد أن أقاموا في الإسكندرية حينا من الدهر، تلاحى رجل منهم مع جزار من سوقتها، فنادوا بالثأر، واستلحموا كثيرا من أهل البلد وأخرجوا بقيتهم، وامتنعوا بها، وولوا عليهم أبا حفص عمر بن شعيب البلوطي - ويعرف بأبي الفيض من أهل قرية مطروح؛ من عمل فحص البلوط المجاور لقرطبة - فقام برئاستهم.
وكان على مصر يومئذ عبد الله بن طاهر من جهة المأمون، فزحف إليهم وحصرهم بالإسكندرية، فاستأمنوا له فأمنهم وبعثهم إلى هذه الجزيرة - أقريطش - فعمروها، وأضاءوها بنور الإسلام، وشيدوا بها المعاقل والحصون والمدن العظيمة؛ مثل الخندق التي اشترينا منها خبزنا ولحمنا، وبهرنا ما رأينا فيها من حضارة العرب وعز الإسلام، ولا يزال أميرها إلى اليوم - وهو سنة خمس وأربعين وثلاثمائة - من ولد أبي حفص البلوطي، وهو الأمير عبد العزيز بن شعيب، أدام الله عليه ملكه، وأبعد عنه كيد الأعداء.
ولما أقلعنا عن بر جزيرة أقريطش؛ أسعدت الريح، وأصحت السماء، ونام عنا البحر، وأخذت السفينة تشق اليم شق الجلم،
18
وأخذنا في سمت جزيرة صقلية
Sicily ، وما زلنا حتى قطعنا سبعمائة ميل في مدى أربعة أيام بلياليها. ولما قاربنا صقلية، وصرنا منها أدنى ذي ظلم؛
19
أخذت أعيننا أشباحا كالأعلام تسير على وجه الماء تنضم إلى بعضها تارة، وتنصاع كسرب القطا أخرى، فتساءلنا، فقيل لنا: إن هذا أسطول المعز لدين الله أبي تميم معد العبيدي يغدو ويروح بين صقلية وبين قلورية
Calabria
من بر الأرض الكبيرة «أوروبا»، فاغتبط بهذا المنظر تاجر مغربي أديب من أهل المهدية نزل معنا من أقريطش بنية الوفود إلى صقلية، وأخذت منه هزة الطرب حين رأى أسطول بلده، ورفع عقيرته - وقد أنافت برأسه النعرة - نعرة العصبية - قائلا: لله أبو القاسم محمد بن هانئ الأندلسي؛ شاعر سيدنا المعز، لكأنه يرى ما نرى الآن حين يقول في هذا الأسطول:
أما والجواري المنشآت
20
التي سرت
لقد ظاهرتها
21
عدة
22
وعديد
23
قباب
24
كما ترخي القباب على المها
25
ولكن من ضمت عليه أسود
عليها غمام مكفهر صبيره
26
له بارقات جمة ورعود
أنافت بها أعلامها
27
وسمالها
بناء على غير العراء مشيد
من الراسيات الشم لولا انتقالها
فمنها قنان شمخ وريود
28
من الطير إلا أنهن جوارح
فليس لها إلا النفوس مصيد
من القادحات النار تضرم للصلى
فليس لها يوم اللقاء خمود
إذا زفرت غيظا ترامت بمارج
كما شب من نار الجحيم وقود
فأفواههن الحاميات صواعق
وأنفاسهن الزافرات حديد
لها شعل فوق الغمار
29
كأنها
دماء تلقتها ملاحف سود
تعانق موج البحر حتى كأنه
سليط له فيه الذبال عتيد
30
ترى الماء فيها وهو قان عبابه
كما باشرت ردع الخلوق جلود
31
فليس لها إلا الرياح أعنة
وليس لها إلا الحباب كديد
32
وغير المذاكي نجرها
33
غيرانها
مسومة تحت الفوارس قود
رحيبة مد الباع وهي نتيجة
بغير شوى
34
عذراء وهي ولود
35
تكبرن عن نقع
36
يثار كأنها
موال
37
وجرد الصافنات عبيد
لها من شفوق العبقري ملابس
38
مفوفة
39
فيها النضار جسيد
40
كما اشتملت فوق الأرائك خرد
41
أو التفعت فوق المنابر صيد
42
لبوس تكف الموج وهو غطامط
43
وتدرأ بأس اليم وهو شديد
فمنه دروع فوقها وجواشن
44
ومنها خفاتين
45
لها وبرود
وإنا لفي ذلك إذ رأينا قلورية من بر الأرض الكبيرة عن يميننا، وبر جزيرة صقلية عن يسارنا، ثم دخلنا المجاز الذي بينهما فرأينا بحرا صعبا ينصب انصباب العرم، ويغلي غليان المرجل لشدة انحصاره وانضغاطه، فاستمر مركبنا في سيره والريح الجنوبية تسوقه سوقا عنيفا ، فلما شارفنا مدينة ريو
Reggio ، وقد كان الليل مظلما ربوض النواحي، ضربت في وجوهنا ريح أنكصتنا على الأعقاب، وحالت بين الأبصار والارتقاب، وتتابعت علينا عوارض ديم صرنا منها ومن الليل والبحر في ثلاث ظلم، وعباب البحر تتوالى صدماته، وتطفر الألباب رجفاته، فقطعنا هذه الليلة البهماء في مقاساة أهوال تجعل الولدان شيبا،
46
ثم تداركنا صنع الله مع السحر، ففترت الريح، ولان متن البحر، وجاءت ريح رخاء زجت المركب تزجية حسنة إلى مدينة ريو.
وكان ذلك في فجر اليوم التاسع ليوم انفصالنا عن الإسكندرية. وما أرسى المركب على هذه المدينة حتى أقلع عنها كي لا يحسه أسطول العبيديين ويثأر منه؛ وذلك - فيما علمت - أن المركب الأندلسي كان قد تحرش وهو ذاهب إلى بلاد المشرق بمركب للمعز فيه كتب ورسائل، فقطع عليه المركب الأندلسي وأخذه بما فيه.
47
فتملكنا الذعر لذلك الخبر، ونزت قلوبنا خوفا على أنفسنا؛ ومن ثم اعتزمت أن أنزل من هذا المركب على أقرب بلد يرسي عليه، وكذلك نزلت منه عند إرسائه على هذه المدينة، وحمدت الله الذي لا يحمد على المحبوب والمكروه سواه.
بيد أني ما انفصلت عن المركب حتى انفصل عني قلبي، وسار مع من فيه، وأصبحت على حد قول القائل:
هواي مع الركب اليمانين مصعد
جنيب وجثماني بمكة موثق
ذاك انفصالي عن فضل المدنية، التي هي مراد السمع، ومرتع النفس، وربيع القلب، ومجال الهوى، ومسلاة الكئيب، وأنس الوحيد، وزاد الراكب. ولا بدع؛ فهناك الجمال الرائع، والظرف البارع، والشباب البض، والأدب الغض، ورقة الحاشية، وخفة الناحية، وعذوبة المعاشرة، وحلاوة المحاضرة.
وحديثها السحر الحلال لو انه
لم يجن قتل المسلم المتحرز
إن طال لم يملل وإن هي أوجزت
ود المحدث أنها لم توجز
شرك العقول ونزهة ما مثلها
للمطمئن وعقلة المستوفز •••
فكأن لفظ حديثها
قطع الرياض كسين زهرا
وكأن تحت لسانها
هاروت ينفث فيه سحرا
حوراء إن نظرت إلي
ك سقتك بالعينين خمرا
تنسي الغوي معاده
وتكون للحكماء ذكرا •••
وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي
متأخر عنه ولا متقدم
أجد الملامة في هواك لذيذة
حبا لذكرك فليلمني اللوم
وما أنس من الأشياء لا أنس صوتها العذب الذي كأنه مجاج النحل، وغناءها الحبيب إلى النفوس حتى كأنها خلقت من كل قلب، فهي تغني لكل ما أحب، ولقد كان يخيل إلينا وهي تغنينا في المركب أنا في الفردوس يطربنا نبي الله داود:
إذا هي غنت أبهت الناس حسنها
وأطرق إجلالا لها كل حاذق •••
غنت فلم تبق في جارحة
إلا تمنت بأنها أذن •••
تتغنى كأنها لا تغني
من سكون الأوصال وهي تجيد
مد في شأو صوتها نفس كا
ف كأنفاس عاشقيها مديد
وأرق الدلال والغنج منه
وبراه الشجا فكاد يبيد
فتراه يموت طورا ويحيى
مستلذ بسيطه والنشيد
في هوى مثلها يخف حليم
راجح حلمه ويغوي رشيد
خلقت فتنة غناء وحسنا
ما لها فيهما جميعا نديد
وأين لا أين مزهرها الذي كأن صوته صرير باب الجنة، والذي كانت إذا تناولته لتضرب على أوتاره فكأنما تنتظم قلوبنا لتضرب على أوتارها، وهكذا هكذا فليكن الغناء وسماعه، وهل خلقت الأغاني، لعمر إلهك، إلا للغواني؟! وكم بين أن تسمع الغناء من فم تشتهي أن تقبله، وبين أن تسمعه من فم تشتهي أن تشيح بوجهك عنه! وأيهما أملح وأجمل؟ أن يغنيك فحل ملتف اللحية وشيخ منخلع الأسنان متغضن الوجه، أو تغنيك غانية كطاقة نرجس أو آس، وكأنها حورية أبقت من رضوان خازن الجنان، فآه من جمالها! وآه من حديثها! وآه من غنائها! وآه من مزهرها! ولكن نزلت ريو وفارقتني فضل، ولله الأمر من بعد ومن قبل.
يا وحشتا للغريب في البلد الن
ازح ماذا بنفسه صنعا؟
فارق أحبابه فما انتفعوا
بالعيش من بعده ولا انتفعا
يقول في نأيه وغربته
عدل من الله كل ما صنعا
وهذه ريو هي مدينة عظيمة من مدائن جزيرة قلورية من بر الأرض الكبيرة، واقعة على مجاز مسيني، بينها وبين مسيني نحو من عشرة أميال، وبها مسجد كبير بناه في وسطها أبو الغنائم الحسن بن علي بن أبي الحسين الكلبي؛ والي صقلية. كان من قبل المنصور العبيدي بعد أن اكتسح بلاد قلورية جميعا وتغلغل في أحشائها، وشيد بها المعاقل والحصون، وأرغم أنوف أهليها من الروم، وذلك فيما بلغني أن الأنبرور
48
صاحب القسطنطينية كان قد أرسل سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة للهجرة بطريقا في البحر في جيش عرمرم إلى جزيرة صقلية، فأرسل الحسن إلى المنصور العبيدي يعرفه الحال، فأرسل إليه أسطولا فيه سبعة آلاف فارس، وثلاثة آلاف راجل سوى البحرية، وجمع الحسن إليهم جمعا كثيرا وسار من بلرم؛ قصبة صقلية في البر والبحر، فوصل إلى مسيني، وعبرت العساكر الإسلامية إلى ريو هذه، وبث الحسن سراياه في أرض قلورية، ونزل هو على بلد يسمى جراجة وحاصرها أشد حصار حتى أشرف أهلوها على الهلاك من شدة العطش.
وإنه لفي ذلك إذ وصله الخبر أن الروم قد زحفوا إليه، فصالح أهل جراجة على مال أخذه منهم وسار إلى لقاء الروم، ففروا من غير حرب إلى مدينة تدعى بارة، ونزل الحسن على قلعة تعرف بقلعة قسانة، وبث سراياه إلى قلورية، وأقام عليها شهرا فسألوه الصلح، فصالحهم على مال أخذه منهم، ودخل الشتاء فرجع الجيش إلى مسيني، وشتى الأسطول بها، فأرسل إليه المنصور يأمره بالرجوع إلى قلورية، فسار الحسن وعبر المجاز إلى جراجة، فالتقى المسلمون والروم يوم عرفة سنة أربعين وثلاثمائة، فاقتتلوا أشد قتال رآه الناس، فانهزمت الروم، وركب المسلمون أكتافهم إلى الليل، وغنموا أثقالهم وسلاحهم ودوابهم، ثم دخلت سنة إحدى وأربعين، فقصد الحسن جراجة فحصرها، فأرسل إليه الأنبرور يطلب منه الهدنة فهادنه، وعاد الحسن إلى ريو وبنى بها مسجدا كبيرا في وسطها، وشرط على الروم أنهم لا يمنعون المسلمين من عمارته، وإقامة الصلاة فيه والأذان، وأن لا يدخله نصراني، ومن دخله من الأسارى المسلمين فهو آمن، سواء كان مرتدا أو مقيما على دينه، وإن أخرجوا حجرا منه هدمت كنائسهم كلها بصقلية وأفريقية، فوفى الروم بهذه الشروط كلها ذلة وصغارا.
49
أما قلورية فهي جزيرة كبيرة داخلة في البحر مستطيلة شرقي جزيرة صقلية، وأهلها إفرنج، ولها بلاد كثيرة، وأرض واسعة ينسب إليها - فيما أحسب - أبو العباس القلوري؛ حدث عنه أبو داود السجستاني في سننه،
50
وقد غزا المسلمون أزمان بني الأغلب هذه الجزيرة وأرض أنكبردة «لومبارديه»، وأمعنوا فيهما، واستولوا على مدينة بارة
51
الواقعة على جون البنادقين
52
أيام قارلة
53
أنبرور الفرنج، وكذلك استولوا على مدينة طارنت من أرض أنكبردة، ومدينة ملف، وقلعة قسانة، وبلدان أخرى، وقرعوا أبواب رومة العظيمة، وغنموا منها غنائم لا يستقام لها قيمة،
54
وضربوا الجزية على البابا عظيم النصرانية، وذلك عدا أنهم فتحوا مدينة جنوة، الواقعة على خليج الجنويين، وأكثر جزائر هذا البحر الرومي. وجملة القول أن المسلمين أثخنوا في بلاد الأرض الكبيرة وألحوا في قهرها، وغلبوا أممها على أمرها، وضربت أساطيلهم بجزائر هذا البحر ضراء الضياغم بفرائسها، وأديل لهم بها من أملاكها
55
وأناسها؛ وذلك كله بما قوى عزائمهم من الحق واليقين، وألف بين قلوبهم من وشائج هذا الدين، وبما ألجأتهم إليه الحال، وامتلاكهم لسيف
56
هذا البحر الجم الأهوال؛ مما أحكمهم وأشغفهم بحبه، وجعل لهم دربة بركوبه وحربه، وأغراهم بإنشاء الأساطيل فيه ينقضون بها على جزائره التي يخطئها العد والإحصاء، وعلى عدوته الشمالية،
57
وهي أمنع من العقاب في أجواز الفضاء، وعلى أهلها من أمم فرنجة، وهي أعز وأبعد منالا، وإن كان للمسلمين:
شرف ينطح السماك بروقيه
وعز يقلقل الأجبالا •••
وهم البحر ذو الغوارب إلا
أنه صار عند بحرك آلا
وقد كان المسلمون في الصدر الأول يتحاشون ركوب البحر حتى كان من عمر بن الخطاب - لما كتب إلى عمرو بن العاص وهو على مصر يستوصفه البحر، فكتب إليه عمرو فيما كتب: إن البحر خلق عظيم يركبه خلق ضعيف دود على عود - أن أوعز بمنع المسلمين من ركوبه، فتحرجوا منه وعبروا على ذلك حينا من الدهر؛ حتى إذا كان لعهد معاوية أذن في ركوب أثباجه، والجهاد على متون أمواجه؛ وذلك لأن العرب لبداوتهم لم يكن لهم مران عليه، وحذق بركوبه، بينما الروم والفرنجة لممارستهم أحواله ومرباهم في التقلب على أعواده للحرب والاتجار مرنوا عليه، وأحكموا الدربة بثقافته، والحرب في أساطيله، حتى كان من ذلك أن أغار الروم من العدوة الشمالية على أفريقية من العدوة الجنوبية، والقوط على المغرب منها؛ أجازوا في الأساطيل وملكوها، وتغلبوا على البربر بها، وانتزعوا من أيديهم أمرها، وكان لهم بها المدن الحافلة، مثل قرطاجنة وطنجة، وكان صاحب قرطاجنة من قبلهم يحارب صاحب رومة، ويبعث الأساطيل لحربه مشحونة بالعساكر والعدد، فكان ذلك ديدن أهل هذا البحر الساكنين حفافيه في القديم والحديث.
فلما استقر الملك للعرب، وشمخ سلطانهم، وصارت أمم الأعاجم خولا لهم وتحت أيديهم، ومت إليهم كل ذي صنعة بمبلغ صناعته، واستخدموا من النواتية في حاجاتهم البحرية أمما، وتكررت ممارستهم للبحر وثقافته، شرهوا إلى الجهاد فيه، فأنشئوا السفن والأساطيل، وشحنوها بالرجال والسلاح، وأمطوها العساكر والمقاتلة لمن وراء البحر من هذه الأمم الحمراء، واختصوا بذلك من ممالكهم وثغورهم ما كان أقرب لهذا البحر وعلى حافته، مثل الشام وأفريقية والمغرب والأندلس، فأوعز عبد الملك بن مروان إلى حسان بن النعمان؛ عامل أفريقية، باتخاذ دار الصناعة بتونس لإنشاء الآلات البحرية، حرصا على مراسم الجهاد، ومنها كان فتح صقلية أيام زيادة الله بن الأغلب، كما سيمر بك، ثم تسلسل الأمر حتى بلغ شأن الأساطيل عند العبيديين أصحاب أفريقية، وعند بني أمية بالأندلس، مبلغا غلبوا معه على هذا البحر من جميع جوانبه، وعظمت صولتهم وسلطانهم فيه، وصار لا قبل لأمم النصرانية بأساطيلهم به، وملكوا سائر الجزائر المنقطعة عن السواحل منه؛ مثل أقريطش وصقلية وقبرص ومالطة وقوصرة وسردانية وميورقة ومنورقة ويابسة،
58
كما سيمر بك، إن شاء الله.
ولقد كان من أجل عناية العبيديين وبني أمية بشأن الأساطيل وتفوقهم في ذلك على سائر الممالك الإسلامية للسبب الذي قدمناه، وهو وجودهم على ضفاف هذا البحر، أن انبعثت قرائح الشعراء في الأندلس وأفريقية بالقول في وصف الأساطيل، واختص أدباء هذين القطرين بهذا الباب من الوصف، حتى لا تكاد تجد لشعراء المشرق يدا فيه. ومن أحسن ما سمعناه لشعراء المغرب في الأسطول دالية أبي القاسم محمد بن هانئ؛ الشاعر الأندلسي المنقطع الآن للمعز العبيدي، وقد تقدمت في صدر هذه الرسالة، وبائية علي بن محمد الإيادي التونسي؛ شاعر القائم العبيدي، وهي دون الدالية، وفيها يقول:
شرجوا جوانبه مجاذف أتعبت
شأو الرياح لها ولما تتعب
تنصاع من كثب كما نفر القطا
طورا وتجتمع اجتماع الربرب
والبحر يجمع بينها فكأنه
ليل يقرب عقربا من عقرب
وعلى كواكبها أسود خلافة
تختال في عدد السلاح المذهب
فكأنما البحر استعار بزيهم
ثوب الجمال من الربيع المعجب
ومنها في وصف الشراع:
ولها جناح يستعار يطيرها
طوع الرياح كراحة المتطرب
يعلو بها حدب العباب مطارة
في كل لج زاخر مغلولب
يسمو بأجرد في الهواء متوج
عريان منسوج الذؤابة شوذب
59
يتنزل الملاح منه ذؤابة
لو رام يركبها القطا لم يركب
فكأنما رام استراقة مقعد
للسمع إلا أنه لم يشهب
وكأنما جن ابن داود هم
ركبوا جوانبها بأعنف مركب
سجروا جواحم نارها فتقاذفوا
منها بألسن مارج متلهب
من كل مسجور الحريق إذا انبرى
من سجنه انصلت انصلات الكوكب
عريان يقذفه الدخان كأنه
صبح يكر على الظلام الغيهب
إلى أن قال:
ولواحق مثل الأهلة جنح
لحق المطالب فائتات المهرب
يذهبن فيما بينهن لطافة
ويجئن فعل الطائر المتقلب
كنضانض الحيات رحن لواعبا
حتى يقعن ببرك ماء الميزب
وبعد، فإن لشعراء المغرب من بارع القصيد في هذا الباب ما لا يحصى كثرة، وما ينم عن عظمة الأساطيل عند الدول الإسلامية، وبلوغها لديهم الشأو الذي لا يلحق، حتى وصل المسلمون إلى ما وصلوا إليه من الصولة، واتساع الملك، وضخامة السلطان.
ومن هنا تعرف مكان الأساطيل من الدول، ولا سيما دول البحار؛ مثل الدول الإسلامية لعهدنا، وأن الأسطول هو سياج الدولة وعمادها، وبه عزها، وعليه - بعد الله - اعتمادها؛ بل هو درعها المسردة التي تتقي بها سهام الأعداء وتحول، وسلاحها الذي تطول به في البحر وتصول، وجناحها الذي تطير به في سماء المجد وتجول. وإن دولة لم تعن العناية كلها بالأساطيل، وترسلها على متن هذا البحر طيرا أبابيل؛ هي لعمري دولة مقصوصة الجناح، وكالأعزل يقتحم الهيجاء بغير سلاح.
وما خير كف أمسك الغل أختها
وما خير سيف لم يؤيد بقائم
ولما نزلت على ريو، أخذت سمتي إلى مسجدها الجامع لأصلي فيه صلاة الصبح، وأثلج صدري ببرد التقى وشعائر الإسلام، وأجلو بعضا من وعثاء السفر الزؤام، وما زلت حتى أخذت عيني بناء شاهقا تعتم مئذنته بالعماء، كأنما تبث حديثا إلى ملائكة الله في السماء، أو كأنها تعلن برفعتها رفعة الإسلام وعزة أهله على عبد الطاغوت والأصنام، وكذلك رأيت كل من مر بهذا المسجد من الروم أغضى من مهابته ذلة وصغارا، وإجلالا لدين الله وإكبارا، مما ألقاه في قلوبهم من الرعب واختشاء المسلمين أبو الغنائم الحسن بن علي - رحمه الله.
ولما توسطت باحة المسجد، رأيت صفوف المصلين من الرجال وأمامهم المحراب كسطور أمامها عنوان الكتاب، وخلف الرجال حاجز من خشب يليه صفوف المصليات من النسوان، كما تكون هوامش الصفحة يفصلها من سائرها أحمر من المداد قان، فانضممت إلى صفوف المصلين وصليت معهم صلاة الصبح. ولما أن سلم الإمام، وكان قائدا من قواد العرب في هذه البلاد - وكذلك كان أئمة المسلمين في الحروب والسياسات، أئمة لهم في التقى والصلوات - قام واتكأ على سيفه وقال:
60
أيها العرب، أنتم الآن بين ظهراني عدو يلندد،
61
يتجرع منكم الغصص، ويتحين بكم الفرص، ويود لو يبدلنكم الله ضعفا من قوة، وضنا بنفوسكم من فتوة،
62
وهزيمة من ظفر، واستحالة لصفوكم إلى كدر، فيثب بكم وثبة الغضنفر نال منه الجوع والسعار،
63
ويسعل بكم كما يسعل هذا البركان فيرمي بحممه والشرار، فإذا فترت منكم الهمم، ووهت العزائم، وأغمدتم السيوف في الأجفان، وقعدتم عن نصر الله في كل آونة وكل مكان، وسكنتم إلى الترف والنعيم، وجرتم - معاذ الله - عن النهج القويم، ودب إليكم ما قد دب إلى هذه الأمم الحمراء، من الحسد والبغضاء؛ فإنكم صائرون - لا محالة - إلى ما قد صاروا إليه، وإذ ذاك يصيركم الله بعد نصركم فلا،
64
ويديل من عزكم ذلا، ومن كثركم قلا، وتئيضون بعد على هذا العالم كلا.
65
وبعد أن فرغ من كلامه خرج، وخرج معه رجاله، وعلوا متون الجياد، وذهبوا إلى حيث يعلون كلمة الدين، ويذيعون التقى والحق واليقين، وينسفون دعائم الشرك والإلحاد، ويفكون أغلال الظلم من رقاب العباد.
مستمسكين بحق قائمين به
إذا تلون أهل الجور ألوانا
ولما أن قضيت صلاتي، خرجت من المسجد وقصدت إلى مرسى السفين، فوجدت ثمت مركبا يريد أن يعبر إلى جزيرة صقلية فنزلته، ثم أقلع وعبر بنا إلى مدينة مسيني؛ إحدى مدائن هذه الجزيرة، وأرسى فيها على مرسى عجيب يأخذ بالألباب؛ وذلك أن أكبر ما يكون من السفن يرسي من الشاطئ بحيث يتناول ما فيها من البر بالأيدي.
66
وقبل أن نسترسل في القول على مدينة مسيني وسائر البلدان التي مررت بها في هذه الجزيرة العجيبة، نذكر لك شيئا من تقويمها وتاريخها؛ حتى تكون على بينة من أمرها - إن شاء الله.
صقلية
هي جزيرة في البحر كبيرة على شكل مثلث متساوي الساقين، زاويته الحادة من غربي الجزيرة، بينها وبين ريو وبلاد قلورية من بر الأرض الكبيرة مجاز مسيني؛ حيث يتراوح البحر بين ستة أميال وعشرة أميال، وبين ذنبها الغربي وبين تونس نيف وستون ميلا، وزاويتها الجنوبية تقابل بر طرابلس من أفريقية، وبالقرب من زاويتها الشمالية جزيرة صغيرة فيها بركان النار الذي لا يعلم في العالم أشنع منظرا منه؛ وهذا بركان اسم لجبلين: أحدهما هذا، والثاني في صقلية نفسها في أرض خفيفة التربة، كثيرة الكهوف، ولا يزال يصعد من ذلك الجبل لهب النار تارة، والدخان أخرى؛ ومن ثم كانت كثيرة الزلازل، بحيث يكثر تهدم أبنيتها منها. وسيمر بك قريبا قول ضاف في هذا المعنى.
وقد كانت هذه الجزيرة قبل الفتح خاملة قليلة العمارة، وكانت من عمالات الروم، وأمرها راجع إلى الأنبرور صاحب قسطنطينية، وكان عليها وال من قبل هذا الأنبرور يسمى قسطنطين، وكانت أفريقية
67
تحت ولاية زيادة الله بن الأغلب - كان واليا عليها من قبل المأمون بن هارون الرشيد - فلما كانت سنة ثنتي عشرة ومائتين، استعمل الأنبرور على الأسطول قائدا روميا يسمى فيمي، وكان حازما شجاعا، فغزا سواحل أفريقية وعبث فيها، وبقي هناك مدة، وبعد ذلك كتب الأنبرور إلى قسطنطين يأمره بالقبض على فيمي وتعذيبه، فنمى الخبر إلى فيمي، فانتقض وتعصب له أصحابه، وسار إلى مدينة سرقوسة؛ إحدى مدائن صقلية، فملكها، فسار إليه قسطنطين فالتقوا واقتتلوا، فانهزم قسطنطين إلى مدينة قطانية، فسير إليه فيمي جيشا فقبضوا عليه وقتلوه، واستولى فيمي على صقلية وخوطب بالملك، وولى على ناحية من الجزيرة رجلا اسمه بلاطة، فاتفق بلاطة هو وابن عم له يسمى ميخائيل - كان واليا على بلرم - وجمعا عسكرا كثيرا وقاتلا فيمي، فانهزم فيمي وركب في أسطوله إلى أفريقية مستنجدا بزيادة الله بن الأغلب، فسير معه أسطولا عظيما في تسعمائة فارس وعشرة آلاف راجل، واستعمل عليهم أسد بن الفرات - قاضي القيروان، ومن أصحابه مالك رضي الله عنه، وهو مصنف الأسدية في الفقه على مذهب مالك - وأقلعوا من سوسة،
68
فوصلوا إلى مدينة مأزر من صقلية، وساروا إلى بلاطة الذي قاتل فيمي فهزموه والروم الذين معه، وغنموا أموالهم، وهرب بلاطة إلى قلورية، فقتل واستولى المسلمون على عدة حصون من الجزيرة، وجرت وقائع كثيرة بين الروم والمسلمين امتدت سنين طوالا، وانتهت باستيلاء المسلمين على جميع جزيرة صقلية. وبقيت صقلية بيد بني الأغلب يتناوبها عمالهم إلى أن أدال الله منهم للعبيديين، ودانت لعبيد الله المهدي أفريقية وما إليها، فأخذوا يبعثون عمالهم عليها إلى أن كانت فتنة أبي يزيد، وشغل أبو القاسم القائم والمنصور العبيدي من بعده بأمره - فلما انقضت فتنة أبي يزيد، عقد المنصور على صقلية لأبي الغنائم الحسن بن أبي الحسين بن علي الكلبي - وكان له في الدولة محل كبير، وفي مدافعة أبي يزيد
69
غناء عظيم - فمهد الأمور للعبيديين، وغزا بلاد قلورية، وأقام واليا على صقلية وما إليها إلى أن استأثر الله بالمنصور، وقام بالأمر من بعده ولده المعز لدين الله أبو تميم معد، فسار الحسن إليه بأفريقية سنة إحدى وأربعين، واستخلف على ما وراءه ابنه أبا الحسين أحمد. ولا يزال هذا الأمير، أيده الله واليا على صقلية وما إليها إلى اليوم، وهو سنة خمس وأربعين وثلاثمائة، ومقامه ببلرم حضرة هذه الجزيرة.
وهذه الجزيرة جد خصيبة ،
70
وكلؤها لا ينقطع في صيف ولا شتاء، وهي كثيرة الأمواه والعيون والفواكه والأرزاق،
71
وجبالها كلها مثمرة بالتفاح والشاه بلوط
72
والبندق والإجاص، ومنها يجلب الجوز والقسطل إلى بلاد أفريقية، ويجلب منها كثير من القطن، وفيها معادن الذهب والفضة والنحاس والرصاص والزئبق،
73
وهي مستبحرة العمران، كثيرة المدن والقرى والضياع؛ فقد أخبرني ثبت ثقة أن بهذه الجزيرة مائة وثلاثين بلدا
74
بين مدينة وقلعة، عدا ما فيها من الضياع والمنازل والبقاع، وكلها مسكونة بالمسلمين، ملأى بالمساجد والفنادق والحمامات، وفيها من العلماء والفلاسفة والأدباء ما لا يكاد يدركه العد والإحصاء،
75
ومن مشهور مدائنها مدينة بلرم؛ قصبة هذه الجزيرة، وسيأتي القول عليها مفصلا عند ذكر وصولنا إليها - إن شاء الله - وبين مدينة بلرم هذه وبين مدينة مسيني توجد المدن الآتية واقعة على ساحل البحر غربي هذه الجزيرة، وهي مدينة ثرمة وليبري وبقطش وجفلوذ والقارونية وقلعة القوارب وميلاص وجطين
76
وشنت ماركو. وبين مسيني وبلرم على سيف البحر شرقي الجزيرة وجنوبيها تقع البلدان الآتية على الترتيب الآتي هكذا: مدينة طبرمين بشرقي مدينة مسيني على مرحلة منها - وهي مدينة أزلية قديمة من أشراف البلاد وأعيانها،
77
وقلعة حصينة من أصول القلاع وأركانها، وهي على جبل مطل على البحر يسمى جبل الطور،
78
وفيها - كما حدثني أبو عبد الله الصقلي الفيلسوف
79 - ملعب من ملاعب الروم القديمة كأنه شعب بوان، الذي يقول فيه أبو الطيب المتنبي:
مغاني الشعب طيبا في المغاني
بمنزلة الربيع من الزمان
ملاعب جنة لو سار فيها
سليمان لسار بترجمان
طبت فرساننا والخيل حتى
خشيت وإن كرمن من الحران
80
غدونا تنفض الأغصان فيه
على أعرافها مثل الجمان
81
فسرت وقد حجبن الشمس عني
وجئن من الضياء بما كفاني
82
وألقى الشرق منها في ثيابي
دنانيرا تفر من البنان
83
لها ثمر تشير إليك منها
بأشربة وقفن بلا أواني
84
وأمواه يصل بها حصاها
حليل الحلي في أيدي الغواني
وقد فتح المسلمون هذه المدينة أيام إبراهيم بن أحمد بن الأغلب - وكان عادلا حازما في أموره، آمن البلاد، وعصف بأهل البغي والفساد،
85
وبنى الحصون والمحارس على سواحل البحر، حتى كان توقد النار من سبتة فينتهي الخبر إلى الإسكندرية في الليلة الواحدة.
86
وذلك
87
لسبع بقين من شعبان سنة تسع وثمانين ومائتين، الموافق أول أغشت الرومي سنة اثنتين وتسعمائة. وكان لفتح هذا البلد أسوأ وقع في نفس الأنبرور؛ صاحب القسطنطينية، حتى بقي سبعة أيام لا يلبس التاج، وقال: لا يلبس التاج محزون
88 - ثم مدينة قطانية على ستة أميال من مدينة لياج الواقعة بينها وبين طبرمين، وهي مدينة كبيرة على ساحل البحر في سفح جبل النار، وتسمى الآن مدينة الفيل؛ لأن فيها طلسما من حجر على صورة فيل كان منصوبا فيما غبر من الأيام على بناء شاهق، ثم نقل ونصب داخل المدينة.
89
وبهذه المدينة الأسواق العامرة، والديار الزاهرة، والمساجد والجوامع والفنادق والحمامات. ثم مدينة سرقوسة
90
شرقي مدينة قطانية على مرحلتين كبيرتين منها، وهي من مشهورات المدن وأعيان البلاد، تضرب إليها أكباد الإبل من كل حاضر وباد، وهي على ساحل البحر، والبحر محدق بها من جميع جهاتها، وبها ما بأكبر المدن من الأسواق والخانات والمساجد والحمامات، والمباني الرائقة، والأفنية الواسعة المونقة، ولها إقليم كبير طوال كله مزارع وجنات وأثمار، وقدما كان بها سرير ملك الروم، فلما ملك المسلمون بعض الجزيرة نقلت دار الملك إلى مدينة قصريانة إلى أن امتلك المسلمون سائر الجزيرة. وقد فتح المسلمون سرقوسة هذه رابع عشر رمضان سنة أربع وستين ومائتين، الموافق عشرين مايه الرومي سنة سبع وسبعين وثمانمائة، ثم مدائن نوطس، وشكلة، ورغوص، وبثيرة،
91
وكركنت،
92
وشاقة،
93
ومأزر،
94
ومرسى علي، وطرابنش،
95
ومدائن أخرى كثيرة،
96
وكلها على ساحل البحر - كما أسلفنا - عدا مدينة رغوص، فإن بينها وبين البحر نحوا من اثني عشر ميلا - أما مدينة قصريانة، فهي في وسط الجزيرة على سن جبل، وهي مدينة أزلية قديمة، وقد كان فيها سرير ملك الروم، نقل إليها - كما أسلفنا - بعد أن ملك المسلمون مدينة سرقوسة لحصانتها، وقد فتح المسلمون هذه المدينة يوم الخميس منتصف شوال سنة أربع وأربعين ومائتين، الموافق سلخ يناير الرومي سنة تسع وخمسين وثمانمائة. ولما فتحها العباس الأغلبي بنى فيها في الحال مسجدا، ونصب فيه منبرا، وخطب فيه يوم الجمعة، وذل الروم بصقلية يومئذ ذلا عظيما.
وبعد، فهذا الذي ذكرنا من بلدان هذه الجزيرة إنما هو غيض من فيض، ونحن إذا حاولنا ذكر سائر المدن والقرى والقلاع المعروفة في هذه الجزيرة لاحتجنا إلى أسفار كثيرة، وفي هذا القدر غناء.
وقد رأينا من تمام الفائدة أن نصور للناظر في هذه الرسالة جزيرة صقلية وبعض بلدانها المشهورة، وبلاد قلورية، ومدينة ريو، وجزائر أقريطش، وسردينية، وقرشقة، وميورقة، ومنورقة، ويابسة، ومدينتي الإسكندرية والمرية، وبالجملة كل ما جاء له ذكر في هذه الرسالة.
وقد آن لنا أن نرجع إلى ما نحن بصدده.
مدينة مسيني
أما مدينة مسيني فهي في ركن من الجزيرة بشرقيها،
97
مستندة إلى جبال قد انتظمت حضيضها وخنادقها، والبحر يعترض أمامها في الجهة الجنوبية منها، ومرساها أعجب مراسي البلاد البحرية، كما أسلفنا؛ لأن المراكب الكبار تدنو فيه من البر حتى تكاد تمسكه، ولا يحتاج إلى زواريق في وسقها، ولا في تفريغها، إلا ما كان مرسيا على البعد منها يسيرا، فتراها مصطفة مع البر كاصطفاف الجياد في مرابطها وإصطبلاتها؛ وذلك لإفراط العمق فيها.
98
وهذه مسيني هي رأس جزيرة صقلية، وهي كثيرة العمائر والضياع، وأرضها طيبة المنابت، وبها جنات وبساتين ذات أثمار كثيرة، ولها أنهار غزيرة عليها أرحاء جمة.
99
ولما نزلت هذه المدينة سلمت أمتعتي إلى أحد الحمالين، وقصدت معه إلى أحد الفنادق، فذهب بي إلى فندق قائم على جبل مطل على المدينة، وكان لأحد مغاربة أفريقية، فاحتفى بي صاحبه وبالغ في إكرامي، واحتفل في راحتي حتى أنساني برقة حاشيته، وطيب أنسه، مجاشم السفر، وذل الاغتراب. وقد صادفت في هذا الفندق أبا عبد الله الصقلي الفيلسوف، وكان قد نهد - حفظه الله - من بلرم إلى مسيني لما علم بقدومي، فكمل أنسي به، وعراني من الغبطة والسرور ما لا يقوم بالعبارة عنه بيان، ولا يروم اطلاع فجه لسان، ولا سيما حين أخبرني أبو عبد الله أنه ينتوي الذهوب إلى الأندلس، وهي منتواي ومقصدي.
ولما رأيت أبا عبد الله - وكنت لم أره قبل ذلك، بيد أني سمعت بفضله الجم، وعلمه الغزير حتى شغفت برؤيته، والأذن تعشق قبل العين أحيانا - رأيت منه رجلا تشد إليه الرحال، وتضرب إلى علمه أكباد الآبال، ويصاب عنده مقطع الحق واليقين، ويلفي لديه مفصل السداد في علوم الحكمة والدين:
من مبلغ الأعراب أني بعدها
شاهدت رسطاليس والإسكندرا
ولقيت كل الفاضلين كأنما
رد الإله نفوسهم والأعصرا
ولا جرم فإن أبا عبد الله فيلسوف عصره، وواحد قطره، وهو في علم الطب والحكمة منقطع النظير لا تكاد تفتح العين على مثله، وقد حذق اللسان الإغريقي، وأحكم معرفته، حتى كأنه من أهله، وهو في الأدب منظومه ومنثوره نادرة الفلك، وبكر عطارد.
ولقد أقمت في مسيني ثلاثة أيام بلياليها، أنساني فيها أبو عبد الله الصقلي الفيلسوف بأدبه ورقة حاشيته ما يعرو الغريب في البلد النازح من الوحشة والانقباض، ثم علمنا في اليوم الرابع لمقامنا أن قد أرست على ميناء هذا البلد سفينة كبيرة قادمة من القسطنطينية العظمى قاصدة إلى بر الأندلس، فاعتزمت أنا وأبو عبد الله أن نسافر فيها. وكان هذا العزم من تمام فضل الله علينا وحسن توفيقه؛ إذ أصبنا في هذا المركب عند نزولنا فيه منية النفس، ومطمح الروح - فضل المدنية - التي ضرب الدهر بيني وبينها أياما كانت على قلتها كأنها شهور، بل أعوام، وكان معها صاحبتاها علم المدنية وقلم الرومية، وهن - كما علمت - ممن حذقن الغناء ونبغن فيه، بعد أن تعلمنه في المدينة المشرفة على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم. وهذه قلم - كما أخبرتني - أندلسية الأصل، رومية من سبي البشكنس، وحملت صغيرة إلى المشرق، فوقعت بالمدينة المنورة، ولقنت هناك الغناء، ثم اشتريت مع علم لأمير المؤمنين بالأندلس عبد الرحمن الناصر.
وقد أخبرتني فضل أن المركب الذي كانت فيه لما أرسى على مسيني بعد إرسائه على ريو لشراء ما يحتاج إليه من الميرة والطعام، ألقي في روعها هي ومن معها أن ينزلن في مسيني ويتركن هذا المركب - وهو لأمير المؤمنين عبد الرحمن الناصر - خشية أن يأسره ومن فيه عمال المعز لدين الله الفاطمي؛ لأن بلاد صقلية إحدى ولايات المعز، وقد علمت أن المركب كان قد تحرش وهو ذاهب إلى المشرق بمركب للمعز، فأحفظ المعز هذا الأمر وأخذه منه المقيم المقعد،
100
وحمله على أن يطوي كشحه
101
على الثأر من الناصر، ثم أقامت فضل هذه المديدة في فندق من فنادقها في ربض من أرباضها، فقلت: يا عجبا كل العجب:
أليس غريبا أن نكون ببلدة
كلانا بها ثاو ولا نتكلم
أما نبأ هذه السفينة الرومية، فذلك أن قسطنطين بن ليون؛ أنبرور الروم (إمبراطور دولة الرومان الشرقية)، كان قد أهدى منذ ثمان حجج إلى أمير المؤمنين عبد الرحمن الناصر هدايا ذات قدر عظيم يتقرب بها إليه، ويبصبص بذنبه لديه
102
واستدفاعا لمكره وكيده، واستجلابا لعطفه ووده، واستظهارا به على آخذ بلاده «بلاد قسطنطين» المعز لدين الله،
103
وكان من هذه الهدايا كتاب ديسقوريدس الطبيب «مصور الحشائش العجيب»، وكتاب هروشيش «هيرودوتس»؛ المؤرخ الرومي العظيم. وكان الكتاب الأول مكتوبا بالإغريقي، وهو اليوناني القديم، والكتاب الثاني كان مكتوبا باللسان الليطني. وكتب قسطنطين فيما كتب إذ ذاك إلى الناصر: «إن كتاب ديسقوريدس لا تجتنى فائدته إلا برجل يحسن العبارة باللسان اليوناني، ويعرف أشخاص تلك الأدوية، فإن كان في بلدك من يحسن ذلك؛ فزت أيها الملك بفائدة الكتاب، وأما كتاب هروشيش، فعندك في بلدك من اللطينيين من يقرؤه باللسان اللطيني، وإن كشفتهم عنه نقلوه إليك من اللطيني إلى اللسان العربي.» ولم يكن يومئذ بقرطبة من نصارى الأندلس من يعرف الإغريقي، فبقي كتاب ديسقوريدس في خزانة الناصر كما هو لم يترجم إلى العربي، فلما ولي أمر الروم أرمانيوس بن قسطنطين، تقدم إليه الناصر
104
بأن يبعث رجلا يعرف الإغريقي واللطيني ليعلم له عبيدا يكونون مترجمين،
105
فأرسل أرمانيوس في هذا المركب راهبا عظيما يسمى نقولا، وقد أزلفت لك أن أبا عبد الله الصقلي يحسن الإغريقي إحسانه للطب والفلسفة والنجوم، وقد كان أخبرني أن الناصر أرسل إليه يستحثه على الوفود إليه ليكون في خدمته،
106
فكان ذلك سببا في انعقاد الصحبة بيننا وبين هذا الراهب، وقد أصبنا منه رجلا حديثا ظريف المحاضرة، له مشاركة في كثير من العلوم والآداب.
وقد ألفينا في هذا المركب طبيبين أندلسيين كانا قد رحلا إلى المشرق منذ سنين، وأقاما هنالك نيفا وعشرين سنة، ودخلا دار السلام «بغداد»، وقرآ فيها على ثابت بن سنان بن ثابت بن قرة كتب جالينوس، ثم قفلا راجعين إلى الأندلس مسقط رأسهما، ونزلا في هذا المركب من أحد الثغور، وهما أخوان؛ يسمى أحدهما عمر والثاني أحمد،
107
وهما ابنا يونس بن أحمد الحراني الطبيب المشهور. وقد أخبراني أن كتاب ديسقوريدس هذا كان قد ترجمه بدار السلام أيام جعفر المتوكل الخليفة العباسي اصطفن بن بسيل، المترجم من الإغريقي إلى العربي، وتصفحه حنين بن إسحاق فصحح الترجمة وأجازها، قالا: وقد ورد هذا الكتاب إلى بلادنا «الأندلس»، وهو على ترجمة اصطفن.
108
وقد قرأناه وصححنا كثيرا من أسماء العقاقير التي لم يعرف لها اصطفن اسما في العربية، وقد انتفع كثير من أهل المشرق وأهل الأندلس بالمعروف منه. وفي الأندلس اليوم من إخواننا الأطباء نفر توفروا على هذا الكتاب يصححون أسماء عقاقيره، ويعينون أشخاصها، ومنهم أخونا البسباسي، والشجار، وأبو عثمان اليابسة، ومحمد بن سعيد الطبيب.
109
وكأنا بسيدنا الناصر - أدام الله تأييده - وقد أبى إلا أن يقر الأمر في نصابه، ويغمد السيف في قرابه، ويتم أمر هذا الكتاب على ما به، فطلب إلى أرمانيوس ما طلب، وكل ذلك من سيدنا فضل عناية منه بكل ما يجدي على بلاده، ويسمو بها صعدا إلى أبعد مراتب العظمة الذهنية، كما أبعدت به وبأسلافه في سائر ضروب الحضارة؛ وذلك لما فطره الله عليه من العزيمة النافذة، والهمة الطموح البعيدة المرمى، فلا يتعاظمه أمر، ولا تقف همته دون غاية، وحتى لا يحيك في صدر إنسان أن خلفاء بني العباس في المشرق، أو منافسيه الفاطميين في أفريقية قد سبقوه إلى شيء لم يسبقهم هو إليه، وأنت تعلم أن هذه الدول الإسلامية الثلاث،
110
هي أعظم دول الأرض اليوم شانا، وأضخمها سلطانا، والقابضة على زمام الأمور ، والمالكة أخصب البلاد من هذا المعمور، والمستبحر عمران بلادها إلى أكثر من المتوقع المنظور، والتي تعد سائر دول الأرض من هذه الأمم الحمراء كأنها تبع لها، وعيال عليها، فتراها لذلك تتهالك في كل آونة على الازدلاف إليها، وتستنزل رضاها بالهدايا والتحف، وغريب النفائس والطرف، وتستصرخها بعض على بعض، فتكون الحتوف أسبق إلى المغضوب عليهم من السيوف.
إنا إذا ما أتانا صارخ فزع
كان الصراخ له قرع الظنابيب
111
ومن ثم ترى هذه الدول العظمى تتسامى في كل ما يكسبها حسن الأثر، وجميل الذكر، ويملأ مسامع الدهر حمدا وثناء، وينبض له قلب الدنيا فخرا وعلاء، فتراها لذلك آخذة بيد العلم والعلماء، مالئة بأعطياتها أيدي الشعر والشعراء، حتى العلوم الفلسفية بجميع ضروبها؛ من إلهية وطبيعية ورياضية وطبية وفلكية، تعضدها، وتغري القائمين عليها بالاستزادة منها، والتقصي في البحث عن غوامضها، وتظهر الرغبة في الحصول على مآخذها من ملوك الروم، الذين حشدت في خزائن كتبهم تواليف فلاسفة اليونان الأقدمين.
ولقد أقلعت بنا السفينة باسم الله مجراها من ميناء مسيني، وبكرت مع البازي عليه سواد، في فجر يوم الجمعة سلخ ربيع الأول، وذلك لثلاث عشرة ليلة خلت من شهر جونيو الرومي سنة ست وخمسين وتسعمائة من مولد السيد المسيح عليه الصلاة والسلام، وكان البحر هادئا، والنسيم فاترا عليلا، وكانت قبة فضل ومن معها بمرأى منا ومسمع، وكان معنا أديب من أدباء صقلية لم نكن ندري أين وجهته، ولكنه نزل بعد ذلك في جزيرة ميورقة، وكان قد ند منه عقيب إقلاعنا من مسيني أمر أفضى إلى حديث لا علينا إذا نحن أوردناه في هذه الرسالة تطرية للقول؛ وذلك أنا بعد أن صلينا الصبح حاضرة، وصلى معنا هذا الأديب الصقلي، رأيناه وقد انتحى ناحية، وأخذ يصطبح ويلح على ابنة العنب يشربها صرفا لا يقتلها بالماء، فأنكرت عليه ذلك إنكارا شديدا وقلت له: ما تصنع بالخمر وإن أولها لمر وإن آخرها لسكر؟ فقال: لا أقول لك إلا ما قال الأخطل لعبد الملك بن مروان إذ قال له عبد الملك مثل قولك هذا، فقال له الأخطل: ولكن بين هاتين لمنزلة ما ملك أمير المؤمنين فيها إلا كعلقة ماء من الفرات بالإصبع.
ثم أنشد الأخطل:
إذا ما نديمي علني ثم علني
ثلاث زجاجات لهن هدير
خرجت أجر الذيل تيها كأنني
عليك أمير المؤمنين أمير
وبعد، فلله ذلك الطائر الفردوسي البديع الذي كأنه روح هبط على هذه الغبراء من المحل الأرفع، ومعه تلك الهدية التي لا هدية مثلها، تلك البذور الثلاث
112
التي ما أظنه إلا أنه اختلسها من عنب الجنة ليتحفنا بها، فنزدرعها ونفزع إلى عصيرها في هذه الحياة المحزونة المفعمة آلاما؛ ليسري عنا، ويجلو منا صدأ الحس، وينفي الهم عن ساحة النفس.
إن الذي جعل الهموم عقاربا
جعل المدام حقيقة درياقها •••
اقتلا همي بصرف عقار
واتركا الدهر فما شاء كانا
إن للمكروه لذعة هم
فإذا دام على المرء هانا •••
إذا ما أتت دون اللهاة من الفتى
دعا همه من صدره برحيل
فقلت له: ولكنها - قبحها الله - تسيء من المرء أخلاقه، وتخمل النابه، وترفعه إلى أسفل، وتهوي بالشرف الرفيع إلى الحضيض الأوهد، ولله ذلك القرشي حين يقول:
من تقرع الكأس اللئيمة سنه
فلا بد يوما أن يسيء ويجهلا
ولم أر مطلوبا أخس غنيمة
وأوضع للأشراف منها وأخملا
فسرعان ما أنشد:
إذا صدمتني الكأس أبدت محاسني
ولم يخش ندماني أذاتي ولا بخلي
ولست بفحاش عليه وإن أسا
وما شكل من آذى نداماه من شكلي
ثم قال: والخمر لذلك خليقة أن لا يشربها إلا الملوك وأشباه الملوك، أما السوقة والحشو والغوغاء والحمقى ومن إليهم، فيجب أن يصلبوا، أو يقتلوا، أو تقطع أيديهم وأرجلهم إذا هم شربوها:
والخمر قد يشربها معشر
ليسوا إذا عدوا بأكفائها •••
وجدت أقل الناس عقلا إذا انتشى
أقلهم عقلا إذا كان صاحيا
تزيد حمياها السفيه سفاهة
وتترك أخلاق الكريم كما هيا
وبودي لو أن الكأس بألف، والحر في وجه الأسد حتى لا يشرب إلا كريم، ولا ينكح إلا شجاع:
أجل عن اللئام الراح حتى
كأن الراح تعصر من عظامي
ورحم الله أبا بكر الهذلي إذ يقول للمنصور وقد سأله عن النبيذ: لقد تمادت فيه السفهاء حتى كرهته العلماء، فقلت له: أما تخشى الله يوم الحساب؟ فقال:
إذا صليت خمسا كل يوم
فإن الله يغفر لي فسوقي
ولم أشرك برب الناس شيئا
فقد أمسكت بالدين الوثيق
فهذا الدين ليس به خفاء
دعوني من بنيات الطريق •••
ألا لا يغرنك ذو سجدة
يظل بها دائما يخدع
وما للتقى لزمت وجهه
ولكن ليأتي مستودع
ثلاثون ألفا حواها السجود
فليست إلى ربها ترجع
ورد أخو الكأس ما عنده
وما كنت في رده أطمع •••
أما النبيذ فلا يذعرك شاربه
واحفظ ثيابك ممن يشرب الماء
قوم يداوون عما في نفوسهم
حتى إذا استمكنوا كانوا هم الداء
مشمرين إلى أنصاف سوقهم
هم الذئاب وقد يدعون قراء
فقال أبو عبد الله الفيلسوف: الشراب ضار ونافع. أما أنه نافع، فللبدن بإشراقه، وتقوية الحرارة الغريزية وإنعاشها، وإنضاج الرطوبات، وتنقيح المجاري، وإزالة سددها، وتقوية الهضم، وإنارة الدم، وإدرار الصفراء وترطيبها، وللنفس بانبساطها، وتفتيح آمالها وتشجيعها، وقتل الهم والفكر الفاسد؛ ومن ثم كان أنفع الأشياء للماليخوليا، ثم هو يؤدم بين القلب والقلب، ويبعث الشوق القديم الذي قد ضل في الأحشاء. وكل أولئك إذا استعمل على الوجه الذي ينبغي، وإلا استحالت هذه المنافع مضار، فترى عوض السرور هما وغما وضجرا وسوء خلق، وعوض الصحة مرضا مزمنا، أو موتا فجائيا، وإن أدامة الشراب تبلد الذهن، وترخي العصب، وتوهن قوى الدماغ، وتورث الرعشة والتشنج. وقد أجمع الحكماء قاطبة على أن مدمن الخمر لا ينجب، وإن أنجب كان الولد أحمق.
وبعد، فإن أصدق ما جاء في الخمر قول الله جل شأنه:
يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما ، ثم يقول سبحانه يصف خمر الجنة:
لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون ،
113
فكأن السر في تحريمها هو أنها تغتال عقولنا وتشربها، وتورثها الخبل والصداع، كما قال الأول:
وما زالت الخمر تغتالنا
وتذهب بالأول الأول
وما ألطف قول بعض الظرفاء وقد ترك النبيذ فقيل له: كيف تتركه وهو رسول السرور إلى القلب؟! فقال: نعم، ولكنه بئس الرسول يبعث إلى القلب فيذهب إلى الرأس. ويشبه ذلك قول المجنون لملك من الملوك وقد استظرفه واختار أن يكون نديما له، وعرض عليه الشراب، فقال المجنون: أيها الملك، أنت تشرب هذا لتصير مثلي، وأنا أشربه لأصير مثل من؟! وقال عبد العزيز بن مروان لنصيب الشاعر يوما: هل لك فيما يثير المحادثة - يريد المنادمة - قال: أصلح الله الأمير، الشعر مفلفل، واللون مرمد، ولم أقعد إليك بكرم عنصر، ولا بحسن منظر، وإنما هو عقلي ولساني، فإن رأيت ألا تفرق بينهما فافعل. وقيل لأعرابي: لم لا تشرب؟ فقال: لا أشرب ما يشرب عقلي.
وناهيكم بعد ذلك بما يستتبعه إدمان الشراب من الصد عن ذكر الله وعن الصلاة، ومن السكر والعربدة، وإيقاع العداوة والبغضاء والموجدة، ومن تقبيح الحسن وتحسين القبيح، وإغرائه بالفسوق، وتعدي حدود الله وقلة الاكتراث لها. وصدق رسول الله
صلى الله عليه وسلم
إذ يقول: لا يشرب الشارب حين يشرب وهو مؤمن. ولقد مرت أعرابية بقوم يشربون نبيذا فسقوها، فلما شربت أقداحا اعترتها أريحية، فقالت: أيشرب هذا نساؤكم؟ قالوا: نعم، قالت: إذن زنين ورب الكعبة؛ فما يدري أحدكم من أبوه!
ولأصحاب الشراب ولوع به واستهتار إلى الحد الذي لا يفكرون معه في دين ولا مروءة، قيل لأبي نواس: أتشرب الخمر؟ قال: نعم، إذا اشتري بثمن خنزير قد سرق حتى يحرم ثلاث مرات، وهو القائل:
ألا فاسقني خمرا وقل لي: هي الخمر
ولا تسقني سرا إذا أمكن الجهر
فما الغبن إلا أن تراني صاحيا
وما الغنم إلا أن يتعتعني السكر
وقيل لثمامة: لم تشرب الخمر وهي تزيل العقل؟ فقال: إن زال اليوم لا يزول غدا. وباع بعض الأشراف من أصحاب الشراب ضيعة، فقيل له: احضر العشية للإشهاد، فقال: لو كنت ممن يصان بالعشيات لما بعت الضيعة. وقال رجل لآخر منهم: لقد وجهت إليك رسولا عشية أمس فلم يجدك! فقال: هذا وقت لا أكاد أجد فيه نفسي. ويقول أحدهم: وددت أني أكون بعوضة فأموت تحت قربة نبيذ؛ حتى يكون موتي في ظلال نعيم. ولما ولي الحسن بن يزيد رضي الله عنه المدينة، قال لابن هرمة الشاعر: لست كمن باع دينه رجاء مدحك، أو خوف ذمك؛ فقد رزقني الله بولادة نبيه
صلى الله عليه وسلم
الممادح، وجنبني المقابح، وإن من حقه علي أن لا أغضي على تقصير في حق ربه، وأنا أقسم لئن أتيت بك سكران لأضربنك حدا للخمر وحدا للسكر، ولأزيدن لموضع حرمتك بي؛ فليكن تركك ذلك لله تعن عليها، ولا تدعها للناس فتوكل إليهم، فقال ابن هرمة:
نهاني ابن الرسول عن المدام
وأدبني بآداب الكرام
وقال لي: اصطبر عنها ودعها
لخوف الله لا خوف الأنام
وكيف تصبري عنها وحبي
لها حب تمكن في عظامي
أرى طيب الحلال علي خبثا
وطيب النفس في خبث الحرام
وقيل لرجل من أصحاب الشراب: ما تقول في الماء؟ فقال: هو الحياة ويشركني فيه الحمار، فقيل له: فاللبن، قال: ما رأيته إلا ذكرت أمي واستحييت، قيل: فالخمر، قال: تلك السارة البارة؛ شراب أهل الجنة. ودعا الوليد بن يزيد شراعة من الكوفة، وهو من فتيانها، فلما قدم عليه قال له: إني والله لم أدعك لأسألك عن قرآن، أو لأستفتيك في سنة، فقال: لو سألتني عنهما لأصبتني فيهما ثورا؛ فلم دعوتني؟ قال: لأسألك عن الفتوة، فقال: أنا دهقانها الخبير، وعالمها الطبيب؛ فسل، فقال: ما تقول في نبيذ التمر؟ قال: اشربه حتى تحر، قال: فنبيذ الدن؟ قال: اشربه حتى تجن، قال: فالداذي؟ قال: أحلى من الماذي، قال: فنبيذ الزبيب؟ فستر وجهه، وقال: العظمة لله، قال: فالخمر؟ قال: لا أرى شربها، قال: ولم؟ قال: لأني لا أؤدي شكرها.
وهذا قليل من كثير، ورحم الله من قال:
لم يبلغ الشيخ إبليس إرادته
حتى تكاثف في عنقوده العنب
وفي الحق ما يقول إبليس: مهما أعجزني ابن آدم فلن يعجزني إذا سكر أن آخذ بزمامه؛ فأقوده حيث أشاء، وأحمله على ما أريد.
ولربما بلغت جناية الشراب وإدمانه إلى ما يأنف الحيوان الأعجم من إتيانه، رووا أن قيس بن عاصم؛ أحد أشراف العرب في الجاهلية، كان يتردد عليه تاجر خمر فيبتاع منه، ويقيم الخمار في جواره حتى ينفد ما عنده، فشرب قيس ذات يوم فسكر سكرا قبيحا، فجذب ابنته وتناول ثوبها، ونظر إلى القمر وتكلم بشيء، ثم انتهب مال الخمار، وأنشأ يقول:
من تاجر فاجر جاء الإله به
كأن لحيته أذناب أجمال
جاء الخبيث ببيسانية تركت
صحبي وأهلي بلا عقل ولا مال
فلما صحا أخبر بما قال وما صنع؛ فآلى أن لا يذوق خمرا أبد الدهر.
وللسكارى فعال تضحك وتبكي، فمن ذلك أن سكرانا وقع على الأرض فجاء كلب يلحس فاه، فجعل يقول:
أخوكم ومولاكم وصاحب سركم
ومن قد نشا فيكم وعاشركم دهرا
وقال بعضهم: كان في دارنا سكران فقعد على مصلى فتبرز فيه، فأخذت بيده إلى المستراح فنام فيه، فقالت جاريتي: يا عجبا! كل شيء منه مقلوب؛ يتبرز حيث ينام الناس، وينام حيث يتبرز الناس. وأن صاحب السكر يصير إما إلى قردية، وهو الذي يضحك ويرقص ويحاكي، أو إلى كلبية، وهو الذي يهارش، أو إلى خنزيرية، وهو الذي يتقيأ ويتبرز ويتلوث فيهما؛ ومن هنا كانت الخمر حقيقة لا تتفق والمروءة والعزة والكرامة، ولا تجتمع والشرف في غمد واحد.
ومن خصائص الخمر أنها تخرق الكف، وتورث السخاء الكاذب حتى:
ترى اللخن الشحيح إذا أمرت
عليه لماله فيها مهينا
وكلما تكرر الشراب تكرر التخرق في الكرم والسخاء، فيفضي ذلك على مر الأيام إلى الفقر والفلاكة والشقاء، ويعم ذلك زوج الشارب وولده وكل من يعول، وإن هذه وحدها لجريمة لا تغتفر، ولو لم يكن ثمت لصاحب الشراب زاجر غيرها لكان حريا أن يقلع عنها.
وقد عرف أصحاب الشراب بسوء العهد، وقلة الحفاظ، وأنهم أصدقاؤك ما استغنيت حتى تفتقر، وما عوفيت حتى تنكب، وما غلت دنانك حتى تنزف، وما رأوك بعيونهم حتى يفقدوك.
أرى كل قوم يحفظون حريمهم
وليس لأصحاب النبيذ حريم
إخاؤهم ما دارت الكأس بينهم
وكلهم رث الحبال سئوم
إذا جئتهم حيوك ألفا ورحبوا
وإن غبت عنهم ساعة فذميم
فهذا ثنائي لم أقل بجهالة
ولكنني بالفاسقين عليم
وقد تبلغ الخمر بصاحبها إلى أن تشوه خلقه، فترى مدمنها يوما وقد عظم أنفه واحمر وتورم، كما يقول شاعر في حماد الراوية:
نعم الفتى لو كان يعرف ربه
ويقيم وقت صلاته حماد
هدلت مشافره الدنان فأنفه
مثل القدوم يسنها الحداد
وابيض من شرب المدامة وجهه
فبياضه يوم الحساب سواد •••
أخو الشراب ضائع الصلاة
وضائع الحرمة والحاجات
وحاله من أقبح الحالات
في نفسه والعرس والبنات
أف له أف إلى أفات
خمسة آلاف مؤلفات
وجملة القول: ليس بعد قول الله جل شأنه:
وإثمهما أكبر من نفعهما
مجال لقائل، والسلام على من اتبع الهدى.
وإنا لفي ذلك إذ اندفعت فضل المدنية تغني على عودها هذه الأبيات:
بيد الذي شغف الفؤاد بكم
تفريج ما ألقى من الهم
فاستبقني أن قد كلفت بكم
ثم افعلي ما شئت عن علم
قد كان صرم في الممات لنا
فعجلت قبل الموت بالصرم
فاستخف غناؤها أبا عبد الله حتى كاد أن يخرج من جلده فرحا، وتحرك الراهب واهتز ثم غمغم كلمات ترجمها إلينا أبو عبد الله بما يقارب قول الطائي حبيب بن أوس:
ولم أفهم معانيها ولكن
ورت قلبي فلم أجهل شجاها
فصرت كأنني أعمى معنى
يحب الغانيات ولا يراها
ثم اندفعت تغني:
آها على بغدادها وعراقها
وظبائها والسحر من أحداقها
ومجالها عند الفرات بأوجه
تبدو أهلتها على أطواقها
متبخترات في النعيم كأنما
خلق الهوى العذري من أخلاقها
نفسي الفداء لها فأي محاسن
في الدهر تشرق من سنى إشراقها
114
فأخذ العلج ينشج نشيجا حارا ويبكي بكاء عاليا حتى إذا سكت عنه البكاء قال ما معناه: لقد هاجت لي داء دفينا، ثم سكت وسكتت فضل وسكتنا ومضت السفينة لطيتها.
وكان سيرنا في محاذاة الساحل بحيث نبصره رأي العين، وصرنا نسرح النظر في عمائر وقرى متصلة وحصون ومعاقل في قلل الجبال مطلة، وقد أرسل الله إلينا ريحا طيبة رخاء زجت السفينة تزجية طيبة، فكانت تلك الساعة من أطيب ما يظفر به السفر
115
في هذا البحر. وما زلنا في أنعم حال وأطيبها حتى استقام ميزان النهار، وقام قائم الظهيرة، وإذ ذاك أبصرنا عن يميننا تسع جزائر متجاورات آنسنا فيها دخانا يصاعد من جبلين في جزيرتين من هذه الجزائر، فرأيت بعض المسافرين وقد ضربوا بأذقانهم الأرض لما ألم بهم من الذعر، فقال أبو عبد الله الصقلي: لا عليكم أيها الإخوان، ولا تكونن قلوبكم كقلوب الطير تنماث
116
كما ينماث الملح في الماء. إن هذه البراكين مأمونة الناحية، وليست تزفر في النهار إلا هذا الدخان الذي ترون. أما البركان المخوف فهو ذلك الرابض في الجزيرة الكبرى «صقلية»، وقد ابتعدنا عنه والحمد لله. وهنا سأله بعض القادمين من المشرق الإفاضة في وصف هذه البراكين، وسر تلك الفظائع التي تتوارد أخبارها إلى المشرق، فأخذ أبو عبد الله يفيض في القول على طريقته الفلسفية، ولا بأس إذا نحن أثبتنا هنا زبدة قوله إتماما للفائدة.
البراكين في صقلية والجزائر المجاورة لها وما قاله فلاسفة الإسلام في ذلك
قال أبو عبد الله ما ملخصه: من المعلوم الذي لا خفاء به أن هذه الكرة الأرضية السابحة في الفضاء
117
بجملتها وأجزائها، ظاهرها وباطنها، طبقات ساف فوق ساف، مختلفة التركيب والخلقة، فمنها صخور وجبال صلبة، وأحجار وجلاميد صلدة، ورمال جريشة، وطين رخو، وتراب لين وسباخ وشورج، بعضها مختلط ببعض أو متجاورة، كما قال الله جل شأنه:
وفي الأرض قطع متجاورات ، وهي مختلفة الألوان والطعوم والروائح، فمن ترابها وأحجارها وأجبالها حمر وبيض وسود وخضر وزرق وصفر، كما قال جل ثناؤه:
ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود ، وهي مع ذلك كثيرة التخلخل والثقب والتجاويف والعروق والجداول والأنهار، داخلها وخارجها، كثيرة الأهوية والمغارات والكهوف، وفيها من أنواع المعادن السائلة والجامدة ما لا يحصى كثرة.
وهذه الأهوية والأمواه إذا حمي جوف الأرض بتأثير الشمس فيه كتأثير القمر في مد البحر وجزره؛ سخنت تلك الأمواه ولطفت وتحللت وصارت بخارا، وارتفعت وطلبت مكانا أوسع، فإن تكن الأرض كثيرة التخلخل تحللت وخرجت تلك البخارات من تلك النوافذ، وإن يكن ظاهر الأرض شديد التكاثف حصيفا منعها من الخروج وبقيت محتبسة تتموج في تلك الأهوية لطلب الخروج، وربما انشقت الأرض في موقع منها وخرجت تلك الرياح مفاجأة، وانخسف مكانها، ويسمع لها دوي وهدة وزلزلة، وإن لم تجد لها مخرجا بقيت هناك محتبسة، وتدوم تلك الزلزلة إلى أن يبرد جو تلك المغارات والأهوية، ويغلظ وتتكاثف تلك البخارات وتجتمع أجزاؤها، وتستحيل إلى ماء، وتخر راجعة إلى قاع تلك الكهوف والمغارات، وتمكث زمانا، وكلما طال وقوفها ازدادت صفاء وغلظا، حتى تصير زئبقا رجراجا وتختلط بتربة تلك المعادن وتتحد بها، وقد تستحيل إلى كبريت أو نفط أو غيرهما حسب اختلاف ترب البقاع، فيكون من ذلك ضروب من الجواهر المعدنية المختلفة الطبائع.
قلنا: إن في الجبال جبالا، وفي الأرض أرضين بجوفها كهوف ومغارات وأهوية حارة ملتهبة، فهذه الكهوف قد تجري إليها مياه كبريتية أو نفطية دهنية، فتكون مادة لها دائما، فإذا اختنقت هذه المواد بفعل الحرارة ذهبت صعدا تطلب الخلاص؛ فقد تكون هذه المواد دخانا صرفا كما هي حال هذين البركانين في هاتين الجزيرتين. وهذا الدخان يخرج بقوة شديدة حتى لقد يقذف فيه الحجر الكبير فترده ردا قويا، وقد تكون هذه المواد أحجارا محترقة ومواد أخرى كبريتية ونفطية نارية تخرج كالسيل العرم، فلا تمر بشيء إلا أحرقته، كما يكون من جبل النار الذي في الجزيرة نفسها. وترى هذا الجبل يرمي فيما يرمي بجمر كبير كأعدال القطن يقطع بعضه في البر، فيصير حجرا أبيض خفيفا يطفو على وجه الماء لخفته، والذي يقع في البحر يصير حجرا أسود مثقبا تحك به الأرجل في الحمامات، وهو كذلك لخفته يطفو على الماء.
ومن غريب الأمر أنه إذا وقع هذا الجمر على حجر احترق ذلك الحجر واشتعل كما يشتعل القطن، حتى يصير ذلك الحجر غبارا كالكحل. أما الحشيش وسائر ضروب النبات فلا تحترق ولا يحترق إلا الحجارة والحيوان، فكأنها نار جهنم التي وقودها الناس والحجارة.
118
هذا ويسمي الأهالي عندنا أحد البركانين الموجودين في هاتين الجزيرتين «بركانا»، ويسمون الآخر «استنبري»، ومعنى بركان «استنبري» فيما علمت الرعد والبرق.
119
وقد لاحظت أن معادن الكبريت الأصفر لا توجد في الأعم الأغلب إلا بجانب البراكين؛ ففي هاتين الجزيرتين معدن كبريت لا يوجد مثله بموضع آخر، رأيته ورأيت القطاع الذين يقتطعونه؛ رأيتهم وقد تمرطت شعورهم ونصلت أظفارهم من حره ويبسه، وهم يذكرون أنهم يجدونه في بعض الأيام سائلا متميعا فيتخذون له في الأرض مواضع يجتمع فيها، ثم يجدونه في غير ذلك الأوان قد تحجر فيقطعونه بالمعاول، وكذلك ترى بجانب جبل النار الذي في الجزيرة نفسها آبار زيت النفط، الذي لا يخرج منها إلا في وقت معلوم من السنة - في شهر شباط وشهرين بعده - فتراهم في ذلك الوقت ينزلون في هذه الآبار على درك، ويخمر الرجل الذي ينزل فيه رأسه، ويسد مسام أنفه (منخريه)، وإن تنفس في أسفل البئر هلك لساعته، وما يستخرجونه من هذا الزيت يضعونه في أوان، فيعلو الدهن منه وهو المستعمل، وذلك كله مما يدل على طبيعة هذه الأرض الغريبة الشأن. ولله في خلقه شئون سبحانه مالك الملك لا إله غيره.
مدينة بلرم: حضرة جزيرة صقلية ولقائي أميرها أبا الحسين أحمد
كان وصولنا إلى مدينة بلرم بعد انفصالنا من مدينة مسيني بيومين كاملين، وكان تعريجنا عليها دون قصد منا إليه؛ إذ كانت الريح غير موافقة في ذلك اليوم، وهو يوم الأحد الخامس عشر من شهر جونيو الرومي، سنة ست وخمسين وتسعمائة من مولد السيد المسيح، فاضطررنا أن نقيم في هذه المدينة ريث أن تأتي الريح الموافقة. ولقد اهتبلت هذه الفرصة فجلت في المدينة جولة وقفت فيها على أشياء كان لا بد من اجتلائها، وقد أسعدني الحظ فقابلت أميرها من قبل المعز لدين الله الفاطمي أبا الحسين أحمد بن أبي الحسن الكلبي، وجرى بيني وبينه حديث، سأذكره لك بعد أن آتي على وصف هذه المدينة - إن شاء الله.
مدينة بلرم هي حضرة جزيرة صقلية؛ ففيها يقيم الوالي الذي يوليه الفاطمي، وفيها قاضي القضاة، وديوان الحسبة، ودار الصناعة، وفي مينائها يربض أسطولها الأعظم ، ومنها يغدو ويروح مختالا على ثبج هذا البحر، فيغزو ما شاء أن يغزو من جزائره وعدوته الشمالية «جنوب أوروبا»، وهي لذلك كله وبفضل ما أحدثه المسلمون فيها من ضروب العمران تراها من أجمل المدن وأفخمها؛ فهي بهذه الجزيرة أم الحضارة، والجامعة بين الحسنين غضارة ونضارة، فما شئت فيها من جمال مخبر ومنظر، ومراد عيش يانع أخضر تطلع لك بمرأى فتان، وتتخايل بين ساحات وبسائط كلها بستان، فسيحة السكك والشوارع، تروق الأبصار بحسن منظرها البارع، مبانيها كلها بمنحوت الحجر المعروف بالكذان،
120
يشقها نهر ينساب فيها مثل الحية المذعور أو السيف المشهور، ويطرد في جنباتها أربع عيون زاخرة عليها أرحاء كثيرة لا تحصى.
بلد أعارته الحمامة طوقها
وكساه حلة ريشة الطاوس
وكأنما الأنهار في ساحاتها
خمر وكأن ساحات الديار كئوس
121
وهي تنقسم إلى خمسة أقسام محدودة متباينة متجاورة، فقسم هو المدينة الكبرى التي تسمى بلرم، ويسكنها التجار، وفيها المسجد الجامع الذي كان في القديم بيعة للروم، وهو الآن لبديع ما فيه من الصنعة والغرائب المبتكرة من ضروب التصاوير، وصنوف التزاويق،
122
التي أبدعها المسلمون فيه يعد من أعجب عجائب الدنيا،
123
النامة عن حذق العرب ومهارتهم في الصناعة إلى الحد الذي لا وراءه. وفي هذه المدينة وفي أقسامها الأخرى نيف وثلاثمائة مسجد،
124
ولم أر مثل هذا العدد في بلد من البلدان. ومن غريب الأمر أني كنت واقفا في جوار دار أحد الفقهاء الأعيان في هذه المدينة، وهو أبو محمد القفصي الوثائقي، فبصرت قريبا من مسجده على مقدار رمية سهم عشرة مساجد، ومنها المسجد تجاه المسجد لا يفصلهما إلا الطريق، وأغرب من ذلك أن من بين هذه العشرة المساجد، وإلى نحو عشرين خطوة من مسجد الفقيه القفصي المذكور مسجدا لابنه ابتناه ليتفقه فيه منعزلا عن أبيه.
125
وهذا - عمرك الله - مما يستشف الناظر من ورائه أبهة القوم واعتزازهم بسلطانهم، وأنهم سادة هذه البلاد، ولا جرم كان ذلك باعثا لهم على التنافس في المفاخر والمكارم وسائر خلال الخير والكمال، وهو معنى من المعاني التي يستتبعها الملك والغلب والسلطان،
126
أما القسم الثاني من أقسام بلرم، فهو المعروف بالخالصة، وهو مقام الوالي وأتباعه، وليس فيه أسواق ولا فنادق، وبه حمامان، وفيه مسجد جامع مقتصر صغير، وفيه حبس الوالي، ودار صناعة البحر، والديوان، والأقسام الأخرى الثلاثة، فقسم يعرف بحارة الصقالبة، وهذا القسم أعمر من القسمين السابقين وأجل، ومرسى البحر به، وآخر يسمى حارة المسجد، وثالث يسميه القوم الحارة الجديدة، وأكثر الأسواق في هذا القسم كسوق الزياتين والصيارفة والصيادلة والخرازين والصياقلة والنحاسين، وسوق القمح، وسائر الصناع على اختلافهم. وفي هذه الحارة الجديدة نحو من خمسين ومائة حانوت لبيع اللحم. وهذا مما يدل على استبحار العمران في هذه الجزيرة، ورخاء أهليها، وكثرة عديدهم. فسبحان المعز لمن يشاء.
ولقد حدثني الفقيه الوثائقي حديثا يجمل بنا أن نجلوه لك الآن قال:
127
إن المسلمين لما فتحوا هذه الجزيرة وبلاد قلورية
128
من بر الأرض الكبيرة،
129
واستوثق لهم الأمر، ومدت لهم أمم الفرنجة يد الإذعان، أخذوا حسب عادتهم في كل بلاد يفتحونها بنية الإقامة فيها، وإصلاح حال أهليها، في أن يستنقذوا هذه البلاد من تلك الحمأة المنتنة التي كانت مرتطمة فيها أيام حكم الروم، فنشروا في البلاد ألوية العدل، وعمدوا إلى الزراعة فانتعشت بعد صرعتها، وإلى التجارة فهبت من رقدتها، وإلى الصناعة فانتاشوها من وهدتها، ووثب الأهلون وثبة كأنما أنشطوا من عقال، فكثرت الأموال، واغدودقت الخيرات إلى الحد الأقصى، وافتن الناس افتنانهم في ضروب الترف والنعيم واتساع العيش والتأنق فيه، والتلون بأزهى ألوانه، قال الفقيه: أما عدل المسلمين، فإنك لتجد نصارى هذه البلاد لا يكاد المسلمون ينمازون عنهم بشيء، فالجميع يرتعون متبحبحين متحابين، وكل متمتع بعيشته وعقيدته وطقوسه، فللنصارى كنائسهم كما أن للمسلمين مساجدهم، وإذا جاء عيد من الأعياد رأيت أعلام النصارى بجانب أعلام المسلمين. أما علم النصارى فقد صور فيه صليب مذهب في بهرة ساحة حمراء، وعلم المسلمين قد رسم فيه حصن أسود في ساحة خضراء
130
أما نساؤهم فربما رأيتهن اليوم «الأحد» وهن ذاهبات إلى الكنائس وقد تشبهن بنساء المسلمين؛ لأن المغلوب - كما تعلم - مولع دائما بتقليد الغالب، فانتقبن بالنقب الملونة، وانتعلن الأخفاف المذهبة، ولبسن الحرير الموشى بالذهب، والتحفن اللحف الرائقة، وتزين بكل ما يتزين به المسلمات.
131
إن من يدخل الكنيسة يوما
يلق فيها جآذرا وظباء
وليس يطلب من النصارى سوى تلك الإتاوة التافهة المفروضة عليهم لقاء قومة السلطان على الرعية، وهي ديناران يؤديهما غنيهم، ودينار واحد يؤديه صناعهم وأرباب الحرف منهم. أما النساء والأطفال فليس شيء بمفروض عليهم،
132
وهم يقرون بأنهم لم يذوقوا طعم هذا العيش الأخضر إلا على عهد المسلمين، وأما الزراعة فقد شققنا الأنهار، واحتفرنا الجداول، وأقمنا عليها القناطر الحاجزة،
133
وأحيينا الأرض الغامرة، فأخصبت ودرت وربت، وأخذت زخرفها وازينت، وجلبنا إلى هنا كثيرا من الأشجار والأزهار وضروب النبات التي لم يكن ليعرفها أهل البلاد الأصليون؛ مثل: القطن، والقصب، وشجر الزيتون،
134
والبردي
135
الذي لا يوجد إلا في مصر، وكثير غير ذلك.
وأما الصناعة فقد خطت بفضل المسلمين خطوات بعيدة المدى، فاستثرنا دفائن الأرض ومعادنها من الفضة والنحاس والرخام والحديد، ومهر المسلمون في ضروب الصناعات الشتى الألوان، فحذقوا صنع الحرير والصباغة وما إليها،
136
وكذلك تراهم قد برعوا وأربوا وتفوقوا في سائر العلوم الصناعية، بله الأدبية والدينية والفلسفية، حتى إن الفرنجة لانبهارهم من براعة المسلمين فيما بلغني يقرفونهم بالسحر
137
وما هو - عمرك الله - بالسحر، إن هو إلا تسنمهم ذروة الكمال، وهوي هذه الأمم الحمراء إلى الحضيض الأوهد.
والنجم تستصغر الأبصار صورته
والذنب للطرف لا للنجم في الصغر
وأما التجارة فلعلك قد شاهدت كثرة السلع والبضائع المجلوبة إلى هذه البلاد والحوانيت والمتاجر المتكاثرة في شوارع البلد، وكذلك عساك قد أبصرت الحركة المباركة في مينائنا وعمال المكوس فيها، مما تتحقق منه أن الجزيرة قد شأت شأوا بعيدا في التجارة بفضل نشاط المسلمين وإقدامهم وبعد هممهم، وكل ذلك بما أثر فيهم روح هذا الدين القويم وآدابه الإلهية.
لقائي الأمير أبا الحسين أحمد بن أبي الحسن الكلبي؛ والي جزيرة صقلية
إني لجالس مع الفقيه الوثائقي في مسجده بعد أن تغدينا وصلينا صلاة الظهر، ثم أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا، إذ دخل علينا المسجد خادم من قبل الأمير، فذعر الفقيه عندما أخذت عينه هذا الخادم، فذعرت لذعره، ثم قال الخادم: إن الأمير يدعوك الساعة إليه ومعك ضيفك المصري، فقلت للفقيه: أثم ما يخاف منه فأفرخ روعي
138
وقال: الآن لا، أظن ثمت شيئا أكثر من رغبة الأمير في أن يستطلع منك طلع مصر والمصريين، وأميرنا - حفظه الله - من خواص أهل الأدب وعليتهم، وإنه لذو حظ عظيم من رجاحة العقل وسجاحة الخلق، يحب الأدباء ويقربهم إليه، ويتحدث معهم كما يتحدث النظير مع النظير، على أن اليوم في صقلية كأنه عيد من أعياد الأهلين؛ إذ كان قد ورد من أيام على الأمير كتاب من أمير المؤمنين المعز لدين الله يأمر الأمير فيه بإحصاء أطفال الجزيرة، وأن يختتنهم ويكسوهم ويحبوهم بالعطايا في اليوم الذي يختتن فيه ولد أمير المؤمنين، فكتب الأمير خمسة عشر ألف طفل، ثم اختتن ولده وإخوته، وقد أمر اليوم باختتان سائر أطفال الجزيرة، وخلع عليهم، وفرق فيهم مائة ألف درهم، وخمسين حملا من الصلات وردت عليه من أمير المؤمنين،
139
فكيف نتوقع شرا من الأمير في مثل هذا اليوم المبارك؟
وقد كان مع الخادم بغلتان فارهتان من مطايا الأمير وقد جللتا بالديباج وحليتا بالفضة، فركبت أنا والفقيه وسرنا حتى وصلنا إلى دور الإمارة، فوقعت عيني على شيء لم تقع على مثله من قبل.
قصور كالكواكب لامعات
يكدن يضئن للساري الظلاما •••
وقبة ملك كأن النجو
م تفضي إليها بأسرارها
لها شرفات كأن الربيع
كساها الرياض بأنوارها •••
كأن جن سليمان الذين ولوا
إبداعها فأدقوا في مغانيها
ولما أن وصلنا إلى دور الإمارة، أشار علينا الخادم بالنزول، وأسلمنا إلى الحجاب، فساروا بنا في ممر مفروش بالحصباء تتخللها الفسيفساء، ثم سلكوا بنا حدائق فيحاء مترامية الأنحاء قد اغلولبت فيها الأشجار، وتعلقت بأغصانها الأطيار، وانسربت فيها الجداول والأنهار، واعشوشبت فيها النجوم
140
والأزهار.
والجو من أرج الهواء كأنه
ثوب يعنبر تارة ويمسك
وما زلنا إلى أن انتهينا إلى قصر الأمير، فرجع الحجاب بعد أن أسلمونا إلى الحجاب المقربين، فرقي بنا هؤلاء سلما ينتهي بالراقي عليه إلى بهو عظيم يملأ صدر الناظر إليه مهابة وجلالا، فاجتزناه واجتزنا بعده غرفا ومقاصير عدة حتى انتهينا إلى مجلس الأمير، وناهيك به مجلسا لم أر ما هو أحق منه بقول من قال:
قصر لو انك قد كحلت بنوره
أعمى لعاد إلى المقام بصيرا
أبصرته فرأيت أبدع منظر
ثم انثنيت بناظري محسورا
فظننت أني حالم في جنة
لما رأيت الملك فيه كبيرا
تجري الخواطر مطلقات أعنة
فيه فتكبو عن مداه قصورا
ضحكت محاسنه إليك كأنما
جعلت لها زهر النجوم ثغورا
وإذا الولائد فتحت أبوابه
جعلت ترحب بالعفاة صريرا
عضت على حلقاتهن ضراغم
فغرت بها أفواهها تكبيرا
فكأنما لبدت لتهصر عندها
من لم يكن بدخوله مأمورا
ومصفح الأبواب تبرا نظروا
بالنقش فوق شكوله تنظيرا
وإذ نظرت إلى غرائب سقفه
أبصرت روضا في السماء نضيرا
وضعت به صناعها أقلامها
فأرتك كل طريدة تصويرا
وكأنما للشمس فيه ليقة
مشقوا بها التزويق والتشجيرا
141
فلما أقبلنا على المجلس غلبني البهر من جلالة الأمير، فسلم الفقيه الوثائقي، ثم سلمت بعده بالإمارة، فرد علي السلام باشا في وجهي وأذن لنا بالجلوس، وقد كان قاضي القضاة جالسا عن يسار الأمير، ثم أخذ الأمير في أحاديث شتى يقصد بها لعله أن يؤنسني وينفي الوحشة عن ساحتي. وبعد أن آنس مني الأنس به قال: أي منتوى ينتوي أخونا المصري - إن شاء الله؟ فقلت: إني أنتوي يا مولاي القطر الأندلسي، فقال: ومتى زايل مصر؟ فقلت: منذ نيف وعشرين يوما، فقال: وكيف فارقتها؟ فقلت: على أحسن حال يا مولاي الأمير، فقال: وكيف حال الأمير أنوجور وحال كافور معه؛
142
فقد اتصل بنا أن كافورا قد استبد به وغلبه على أمره؟ فقلت: إذا كان كافور يا مولاي قد استبد بالأمير أنوجور، فإن المصريين قد استبدوا بكافور، فقد أصبح كافور للمصريين لا لنفسه ولا للأمير، فسيرته فينا عادلة رشيدة، وحاله معنا جميلة سديدة؛
143
لأنه يعلم أن الملوك إنما هم خدام الرعية، فكيف يظلمونها ويستجيزون كيدها، ولم يستعبدون الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟ على أن كافورا ليس هو وحده الذي ينهض بأعباء الملك، وإنما يشد أزره ويشاركه أمره وزيرنا الأعظم أبو الفضل جعفر بن الفرات وغيره من رجالات الدولة، فقال الأمير: ولكن أليس أليق بكم وأسمى وأنبل أن يلي أمركم ابن بنت رسول الله صلى الله عليه أمير المؤمنين المعز لدين الله، وأنت تعلم أيها الأخ أن العباسيين قد ضعف أمرهم، وتضعضعت حالهم، والتاث عليهم ملكهم، وانتزى الأعاجم والأتراك على البلاد فاقتطعوا الممالك منهم، وتفردوا بالأمر دونهم.
144
أما عبد الرحمن الناصر؛ صاحب الأندلس، فقد اكتفى بما في يده من الممالك المترامية الأطراف، فلم يبق إلا أن تستظلوا بظل خلفائنا الفاطميين حتى يحموكم ويردوا عنكم طمع الطامعين.
وهنا طار طائر الغضب إلى رأسي فلم ألبث أن اندفعت قائلا: إن مولاي الأمير - حفظه الله - يعلم أنه إذا عد من أظلم الظلم وأنكر النكر أن ينقض جارح من الجوارح على وكر طائر آمن في سربه فيزعجه في سكنه، وينغص عليه عيشته، ويستلبه سراحه وحريته، ويضطره إما إلى الظعن إلى جو غير جوه، أو الإقامة بجواره بين مخلبه وظفره، فإن من الظلم الذي لا ظلم وراءه أن تعدو أمة على أخرى، وحجتها في ذلك أن تحميها من طمع الطامعين، أليس من السفسطة وأقعد ما يقال في باب المغالطة أن يعدو قوم على قوم بحجة أن هذا العدوان إنما هو وقاء لهم من عدوان آخرين؟ ولم لا تبدأ هذه الأمة بنفسها فتريح غيرها من عدائها.
إن مولاي الأمير ليعلم أن حب الوطن من الإيمان، ويقول رسول الله صلوات الله عليه: حب الوطن من طيب المولد، ويقول: لولا حب الوطن لخربت بلاد السوء، على أن فطرة الإنسان معجونة بحب وطنه؛ ولذلك يقول بقراط: يداوى كل عليل بعقاقير أرضه، ويقول جالينوس: يتروح العليل بنسيم بلده كما تتروح الأرض الجدبة ببلل القطر، ويروى أنه لما أسر سابوز ببلد الروم، قالت له بنت الملك - وكان قد مرض وعشقته: ما تشتهي؟ قال: شربة من ماء دجلة، وشمة من تراب اصطخر، فحملا إليه فبرئ وأبل من مرضه، والكريم يا مولاي يحن إلى جنابه كما يحن الأسد إلى غابه، وكفى دلالة على محبة الوطن قول الله جل شأنه:
ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه
الآية، ومن ثم كان ألأم بيت قالته العرب قول القائل:
تلقى بكل بلاد إن حللت بها
ناسا بناس وإخوانا بإخوان
فلا جرم أن يتغلغل حب مصر والمصريين في السواد من حبة القلب مني؛ حتى لكأني المعني بقول من يقول:
كأن فؤادي من تذكره الحمى
وأهل الحمى يهفو به ريش طائر
وكيف لا أحب بلدا ولدت فيه، وأرضه هي أول أرض مس جلدي ترابها، وقد طعمت غذاءها، وشربت ماءها النمير؛ ماء نيلها المبارك الذي يعذر الأقدمون عن زعمهم أن الجنة منبعه انسرب منها إلى هذه الخضراء.
بلد صحبت به الشبيبة والصبا
ولبست فيه العيش وهو جديد
فإذا تمثل في الضمير رأيته
وعليه أفنية الشباب تميد •••
ألا يا حبذا وطني وأهلي
وصحبي حين يدكر الصحاب
وما عسل ببارد ماء مزن
على ظمأ لشاربه يشاب
بأشهى من لقائكم إلينا
فكيف لنا به ومتى الإياب؟
ومولاي الأمير يعلم علما ليس بالظن أن الحكام الغرباء عن البلاد، مهما كانت منزلتهم من العدل، لتأبى عليهم سنة الله في خلقه إلا أن يضيموا الرعية التي لا تمت إليهم برحم أو آصرة موطن. أما رهط المرء، فرحم الله من قال:
لعمري لرهط المرء خير بقية
عليه وإن عالوا به كل مركب
إذا كنت في قوم عدا
145
لست منهم
فكل ما علفت من خبيث وطيب
لذلك كله أقول وأنا آمن الأمير:
ولي وطن آليت أن لا أبيعه
وأن لا أرى غيري له الدهر مالكا
146
وهنا أطرق الأمير ثم انبعث قاضي القضاة قائلا: أظن أخانا المصري لا يغيب عنه أن الأرض قد ملئت اليوم جورا وظلما وعدوانا، وذاع الفساد في البلاد، وعم الشر وطم، فلا بد من إمام عادل يملأ الدنيا قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما، ولا يكون هذا الإمام إلا من ولد فاطمة بنت رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وها هو ذا قد صدق رسول الله وعده، وجاء إلينا إمام المسلمين العادل الرحيم البار برعيته، الداعي إلى الحق، والقائم بنصرته، مولانا وابن مولانا المعز لدين الله بن مولانا المنصور بن مولانا القائم بن مولانا عبيد الله المهدي - أدام الله تأييده - هذا إلى أنه لا يوجد اليوم بين ملوك المسلمين من هو أعز من مولانا نفرا، وأكثر مالا ووفرا، وأقوى سلاحا وشوكة، وأبعد في سياسة الأمم تجربة وحنكة، فكان لذلك من الواجب الحتم على كل مسلم أن يعمل على نشر دعوته، ويستظل برعايته، فما كاد قاضي القضاة يتم كلامه حتى ابتدرت فقلت: إن المصريين لا ينكرون على أمير المؤمنين المعز لدين الله شيئا مما قلت، بيد أن مولانا - حفظه الله - يعرف مما عرف من طبائع للبشر، أن الأمة التي تغلب على أمرها، ويخفق عليها لواء غيرها، وتصبح بالاستعباد آلة لسواها وعالة عليها؛ يقصر أملها، ويبلى رجاؤها، وتضوى أرواحها.
واحتمال الأذى ورؤية جاني
ه غذاء تضوى به الأجسام
وذلك لما خضد الغلب عليها من شوكتها، وكسر من حميتها، فيفضي ذلك على كر الأدهار، وتعاقب الليل والنهار، إلى أن ترأم الذل
147
والاستخذاء، وتشتمل بأردية الكسل والوناء، فيكون من نتاج ذلك ضعف النشاط في القوى الحيوية، وهلم حتى يتناقص عمرانهم، وتتلاشى مكاسبهم، ويعجزوا عن المدافعة عن أنفسهم، فيصبحوا مغلبين لكل متغلب، طعمة لكل آكل، نهبا مقسما لكل ناهب، وثمة شيء آخر وهو أن الإنسان يا مولاي رئيس بطبعه بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له، والرئيس إذا غلب على رئاسته، وكبح عن غاية عزه، تكاسل حتى عن شبع بطنه، وري كبده. وهذا شر ركب في غرائز البشر، كما أنه وجد مثله في الحيوانات المفترسة، فإنها لا تسافد - كما يقولون - إذا كانت في ملكة الآدميين.
ذل من يغبط الذليل بعيش
رب عيش أخف منه الحمام
وهنا كأن الأمير أراد أن يطوي بساط هذا الموضوع، فانتقل فجأة إلى معنى آخر، فقال: هل يحفظ أخونا المصري شيئا مما مدح به المتنبي الشاعر كافورا؟ وهل لا يزال هذا الشاعر مقيما في مصر؟ فقلت: نعم يا مولاي الأمير، لقد فارقت مصر ولما يزل المتنبي في خدمة مولانا الأستاذ أبي المسك كافور، ولقد امتدحه بأحسن المدح، وحق له أن يمتدحه؛ إذ اللهى يا مولاي تفتح اللها
148 - كما يقولون - فما يعلق بالذاكرة مما أنشدنيه قوله فيه بعد أن وصف الخيل التي سرت به إليه:
قواصد كافور توارك غيره
ومن قصد البحر استقل السواقيا
فجاءت بنا إنسان عين زمانه
وخلت بياضا خلفها ومآقيا
وقوله من قصيدة:
وأخلاق كافور إذا شئت مدحه
وإن لم أشأ تملي علي فأكتب
إذا ترك الإنسان أهلا وراءه
ويمم كافورا فما يتغرب
وفي هذه القصيدة يقول:
وما الخيل إلا كالصديق قليلة
وإن كثرت في عين من لا يجرب
إذا لم تشاهد غير حسن شياتها
وأعضائها فالحسن عنك مغيب
لحا الله ذي الدنيا مناخا لراكب
فكل بعيد الهم فيها معذب
وله فيه قصيدة مطلعها:
أود من الأيام ما لا توده
وأشكو إليها بيننا وهي جنده
يقول فيها من حكمته البالغة:
وأتعب خلق الله من زاد همه
وقصر عما تشتهي النفس وجده
فلا ينحلل في المجد مالك كله
فينحل مجد كان بالمال عقده
ودبره تدبير الذي المجد كفه
إذا حارب الأعداء والمال زنده
فلا مجد في الدنيا لمن قل ماله
ولا مال في الدنيا لمن قل مجده
إلى أن يقول:
وما رغبتي في عسجد أستفيده
ولكنها في مفخر أستجده
وقوله فيه من أخرى مطلعها:
من الجآذر في زي الأعاريب
حمر الحلي والمطايا والجلابيب •••
كأن كل سؤال في مسامعه
قميص يوسف في أجفان يعقوب
إذا غزته أعاديه بمسألة
فقد غزته بجيش غير مغلوب
ويعجبني من نسيب هذه القصيدة قوله:
كم زورة لك في الأعراب خافية
أدهى - وقد قدوا - من زورة الذيب
أزورهم وسواد الليل يشفع لي
وأنثني وبياض الصبح يغري بي
إلى أن يقول:
ما أوجه الحضر المستحسنات به
كأوجه البدويات الرعابيب
حسن الحضارة مجلوب بتطرية
وفي البداوة حسن غير مجلوب
فقال الأمير : بيد أنه بلغني اليوم فقط أن المتنبي زايل مصر بآخرة، وهجا كافورا هجاء قاسيا مرا بأبيات يقول فيها:
لقد كنت أحسب قبل الخصي
أن الرءوس مقر النهى
فلما نظرت إلى عقله
رأيت النهى كلها في الخصى
وماذا بمصر من المضحكات
ولكنه ضحك كالبكا
بها نبطي من أهل السواد
يدرس أنساب أهل العلا
وأسود مشفره نصفه
يقال له: أنت بدر الدجى
وشعر مدحت به الكركدن
بين القريض وبين الرقى
فما كان ذلك مدحا له
ولكنه كان هجو الورى
إلى أن يقول:
ومن جهلت نفسه قدره
رأى غيره منه ما لا يرى
فقلت: إذا كان قد هجاه فقد قال الله جل شأنه
والشعراء يتبعهم الغاوون * ألم تر أنهم في كل واد يهيمون * وأنهم يقولون ما لا يفعلون ، وصدق رسول الله صلوات الله عليه إذ يقول: شر الناس من أكرمه الناس اتقاء لسانه، ورحم الله من يقول: لا تؤاخ شاعرا فإنه يمدحك بثمن ويهجوك مجانا، على أن المتنبي رجل ذو طماعية وطماح، وكان مولاي الأستاذ أبو المسك وعده بولاية بعض أعماله، فلعله رأى منه بعد ذلك ما لم يستطع معه الوفاء بما وعد،
149
فقال فيه المتنبي ما قال، قال الأمير: ولكن للمتنبي في سيف الدولة بن حمدان وفي غيره ما هو أبرع مما مدح به كافورا، ويعجبني من قصيدة له في ابن حمدان قوله:
إذا ما سرت في آثار قوم
تخاذلت الجماجم والرقاب
150
إلى أن يقول:
وكيف يتم بأسك في أناس
تصيبهم فيؤلمك المصاب
ترفق أيها المولى عليهم
فإن الرفق بالجاني عتاب
وأنت حياتهم غضبت عليهم
وهجر حياتهم لهم عقاب
وما جهلت أياديك البوادي
ولكن ربما خفي الصواب
وكم ذنب مولده دلال
وكم بعد مولده اقتراب
وجرم جره سفهاء قوم
وحل بغير جارمه العذاب
وقوله فيه من قصيدة:
يقود إليه طاعة الناس فضله
ولو لم يقدها نائل وعقاب
أيا أسدا في جسمه روح ضيغم
وكم أسد أرواحهن كلاب
وفي هذه القصيدة يقول:
وفي الجسم نفس لا تشيب بشيبه
ولو أن ما في الوجه منه حراب
لها ظفر إن كل ظفر أعده
وناب إذا لم يبق في الفم ناب
يغير مني الدهر ما شاء غيرها
وأبلغ أقصى العمر وهي كعاب
إلى أن يقول:
وللسر مني موضع لا يناله
نديم ولا يفضي إليه شراب
ولله هو إذ يقول في كلمة له:
دع النفس تأخذ وسعها قبل بينها
فمفترق جاران دارهما العمر
ولا تحسبن المجد زقا وقينة
فما المجد إلا السيف والفتكة البكر
وتضريب أعناق الملوك وإن ترى
لك الهبوات السود والعسكر المجر
وتركك في الدنيا دويا كأنما
تداول سمع المرء أنمله العشر
إذا الفضل لم يرفعك عن شكر ناقص
على هبة فالفضل فيمن له الشكر
ومن ينفق الساعات في جمع ماله
مخافة فقر فالذي فعل الفقر
ثم قال الأمير: وهل لا يرى أخونا المصري لأبي القاسم ابن هانئ الأندلسي؛ شاعر أمير المؤمنين المعز لدين الله، ما يستأهل به أن يلز مع المتنبي في قرن؟
151
فقلت: إني أخشى يا مولاي أن أصرح برأيي، فقال: قل وأنت آمن، فقلت: إني لا أشبهه يا مولاي إلا برحى تطحن قرونا،
152
وإني كلما أنشدت شعره فكأني أسمع جعجعة ولا أرى طحنا، فاربد وجه الأمير غضبا، ثم تحالم وقال: وهل يقال مثل هذا فيمن يقول:
يا بنت ذي السيف الطويل نجاده
أكذا يجوز الحكم في ناديك
عيناك أم مغناك موعدنا وفي
وادي الكرى ألقاك أم واديك
منعوك من سنة الكرى وسروا فلو
عثروا بطيف طارق ظنوك
ودعوك نشوى ما سقوك مدامة
لما تمايل عطفك اتهموك
حسبوا التكحل في جفونك حلية
تا الله ما بأكفهم كحلوك
وجلوك لي إذ نحن غصنا بانة
حتى إذا احتفل الهوى حجبوك
ويقول من أبيات في وصف الخيل:
تكاد تحس اختلاج الظنو
ن بين الضلوع وبين الحشى
ومن رفقها أنها لا تحس
ومن عدوها أنها لا ترى
وتحسب أطراف آذانها
يراعا برين لها بالمدى
جرين إلى السبق في حلبة
إذا ما جرى البرق فيها كبا
ديار الأعزة لكنها
مكرمة عن مشيد البنا
وهل لمولانا المعز الذي يقول مثل هذا الشعر:
اطلع الحسن من جبينك شمسا
فوق ورد في وجنتيك اطلا
وكأن الجمال خاف على الورد
جفافا فمد بالشعر ظلا
أن يقرب ابن هانئ إليه، ويؤثره على غيره، ويعتز به ويفاخر، لولا أن رآه من الشعر بحيث لا يكاد يتخلف عن المتنبي؟ بلى، وإذا كان في المشرق المتنبي، ففي المغرب ابن هانئ، وإذا كان فيه عبد الله بن المعتز، فعندنا ابن مولانا المعز: الأمير أبو علي تميم،
153
الذي يقول:
أما والذي لا يملك الأمر غيره
ومن هو بالسر المكتم أعلم
لئن كان كتمان المصائب مؤلما
لإعلانها عندي أشد وآلم
وبي كل ما يبكي العيون أقله
وإن كنت منه دائما أتبسم
وبعد ذلك رأيت من الحزامة أن لا أطيل سبب المحاجة، فخرجت بالصمت عن لا ونعم، ثم أمر لي الأمير بعطاء سني، ثم أذن لي في الانصراف من حضرته.
جزائر ميورقة ومنورقة ويابسة
وقبل أن أختتم هذه الرسالة، آتي لك على شيء مما اعترضنا في طريقنا بعد أن انفصلنا من بلرم قاصدين إلى المرية، فمن ذلك أنا ونحن إزاء جزيرة كبيرة تسمى سردانية، أبصرنا أسطولا كبيرا قادما من ناحيتها، وقد علمنا أن هذا الأسطول هو أسطول المعز لدين الله غزا هذه الجزيرة وبلاد جنوة من بر الأرض الكبيرة، وغنم وسبى شيئا كثيرا يخطئه العد والإحصاء، وما خام
154
في سائر غزواته عن اللقاء، على ما في ذلك من الغرر؛ إذ إن وراء هذه البلاد من أمم إفرنجة عديد الذر، غير أن المعز يفعل ذلك الفينة بعد الفينة؛ لأنه يعلم أن الجهاد باب من أبواب الجنة، فمن تركه رغبة عنه ألبسه الله الذل، وسيم الخسف، وديث بالصغار،
155
وأن أمة من الأمم تريد أن تكون عزيزة مهيبة لا بد من أن تغزو غيرها قبل أن يغزوها الأغيار، ورضي الله عن علي بن أبي طالب إذ يقول في إحدى خطبه: ما غزي قوم قط في عقر دارهم إلا ذلوا.
وهذه سردانية جزيرة كبيرة في غرب هذا البحر الرومي غزاها المسلمون حوالي سنة 92 هجرية ، الموافقة سنة 710 ميلادية في عسكر موسى بن نصير، وملكوها حينا من الدهر، ثم تركوا حبلها على غاربها، ثم هم الآن يغزونها من وقت لآخر، ويغنمون ويسبون لما علمت.
وقد مررنا فيما مررنا به من جزر هذا البحر بجزائر ثلاث متجاورات تسمى: ميورقة ومنورقة ويابسة،
156
وهي جزائر عامرة مأهولة بالمسلمين يرجع أمرها إلى صاحب الأندلس، وعليها وال من قبله، ومن هنا تعلم أن المسلمين قد ملكوا ناصية هذا البحر الرومي بما فيه من الجزائر الكبيرة والصغيرة، علاوة على جزائر بحر الظلمات «المحيط الأطلسي»، كما أسلفنا لك، فسبحان المعز لمن يشاء، وأن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين.
تمت هذه الرسالة وقد كتبت على متن البحر وبيننا وبين المرية مسيرة يوم أو بعض يوم، وذلك في شهر جونيه الرومي، سنة ست وخمسين وتسعمائة، الموافقة سنة خمس وأربعين وثلاثمائة هجرية.
هوامش
الرسالة الثانية
من المرية إلى قرطبة
أظنك، يا أخي، لا تزال على ذكر من أن الرسالة الأولى من هذه الرسائل كتبت ونحن على متن البحر، قبل أن نصل إلى مرافئ الأندلس. أما هذه الرسالة الثانية فقد وضعناها بعد أن حططنا رحالنا في قرطبة؛ حضرة هذه البلاد (عاصمتها). وقد خصصت هذه الرسالة بوصف كل ما مر بنا من حين اقترابنا من ميناء المرية إلى أن وصلنا إلى قرطبة.
أما المرية فهي إحدى مدن الأندلس الكبيرة الواقعة في شرقيها، وهي على ساحل البحر الرومي (البحر الأبيض المتوسط)، وهي مرسى للسفن القادمة إلى هذه البلاد الأندلس - وفي مينائها يربض الجانب الأكبر من أسطول الأندلس الأعظم، والجانب الآخر يرسي في بجاية - وهي واقعة بين جبلين، فعلى الجبل الواحد قصبتها المشهورة بالحصانة، وعلى الآخر ربضها، والسور محيط بها وبالربض، وفي غربيها ربض لها آخر يسمى ربض الحوض، ذو فنادق وحمامات وخنادق وصناعات. وقد استدار بها من كل جهة حصون مرتفعة، وأحجار أولية، وكأنما غربلت أرضها من التراب، ولها مدن وضياع عامرة متصلة الأنهار، وطول واديها أربعون ميلا في مثلها، كلها بساتين بهجة، وجنات نضرة ، وأنهار مطردة، وطيور مغردة، وتشتمل كورتها على معدن الحديد والرخام، وبها لنسيج طرز الحرير ثمانمائة نول، وللحلل النفيسة والديباج الفاخر ألف نول، وللثياب الجرجانية والأصفهانية كذلك، ويصنع بها من صنوف آلات الحديد والنحاس والزجاج ما لا يوصف، وقد علمت أنه لا يوجد في بلاد الأندلس أكثر مالا من أهل المرية، ولا أعظم متاجر وذخائر، وبها من الحمامات والفنادق نحو الألف، وفاكهة المرية يقصر عنها الوصف حسنا، وفيها كثير من العلماء والأدباء والفلاسفة.
1
وجملة القول: إن المرية هذه كما رأيت تزخر بالحياة زخرا، وتنطق بنشاط المسلمين وجدهم، وبأقصى غايات عزهم لذلك ومجدهم.
فلو أن السماء دنت لمجد
ومكرمة دنت لهم السماء
ولما صافح مركبنا أمواه المرية - وكان يسير بحذائنا مركب آخر علمنا أن فيه أبا علي القالي اللغوي؛ وافد العراق، وسائر من قاموا معنا من الإسكندرية في مركب أمير المؤمنين عبد الرحمن الناصر - آنسنا من جانب الميناء «ميناء المرية» أسطولا كبيرا قادما علينا حتى إذا صار منا أدنى ذي ظلم،
2
أخذ يحيينا من فيه بالرايات والأعلام - وكان فيه الأمير عبد الرحمن بن رماحس؛ قائد أساطيل الأندلس الأكبر - إذ أمره مولاي الحكم ابن أمير المؤمنين عبد الرحمن الناصر وولي عهده أن يتلقانا في وفد من وجوه الأندلسيين، ويجيء معنا إلى قرطبة تكرمة من الأمير لنا ولأبي علي القالي - حفظه الله - فكان من رجال ذلك الوفد شاعر الأندلس يوسف بن هارون الرمادي، وأبو بكر بن القوطية؛ سيد علماء اللغة في الأندلس، وابن رفاعة الألبيري؛ أحد أدباء ألبيرة، وفتى نشأ يتوقد ذكاء، ويقطر أدبا وألمعية، يسمى أبا بكر الزبيدي، وكثير غير أولئك من علماء الأندلس وأعيانها وقوادها. وهذه، عمرك الله، أية محسة على شدة عناية الأمير بالعلم وأهله، ولا بدع؛ فقد وقفنا من ذلك على الشيء الكثير الذي سما بهذا الأمير في أعيننا. فمن ذلك فيما تحققناه أنه يبعث الحين بعد الحين في شراء الكتب إلى الأقطار رجالا من التجار، ويرسل إليهم الأموال لابتياعها؛ حتى جلب منها إلى الأندلس ما لم يعهدوه في ربوعها ، وقد بعث في كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني، وأرسل إليه فيه ألف دينار من الذهب العين، فبعث إليه بنسخة من قبل أن يخرجه إلى العراق، وكذلك فعل مع القاضي أبي بكر الأبهري في شرحه لمختصر ابن الحكم، فهكذا هكذا تكون الملوك والأمراء، وبمثل هذا ينتعش العلم والعلماء.
ولما أرسى مركبنا والمركب الذي يقل أبا علي القالي على ميناء المرية، قدم لنا ابن رماحس جميع رجال الوفد الأندلسي وعرفنا بهم، ثم امتطينا المطايا الفارهة وذهبنا إلى دار ابن رماحس الكائنة في قصبة هذه المدينة.
ولما استقر بنا النوى، وألقينا عصا التسيار، وانتظم شملنا في تلك الدار، أخذ الرمادي الشاعر ينشدنا أبياتا له في إسماعيل بن عيذون القالي يمتدحه بها،
3
علق بالذاكرة منها هذه الأبيات:
من حاكم بيني وبين عذولي
الشجو شجوي والعويل عويلي
في أي جارحة أصون معذبي
4
سلمت من التعذيب والتنكيل
إن قلت: في بصري، فثم مدامعي
أو قلت: في قلبي، فثم غليلي
لكن جعلت له المسامع موضعا
وحجبتها عن عذل كل عذول
إلى أن يقول متخلصا بعد أن وصف الروض:
روض تعاهده السحاب كأنه
متعاهد من عهد إسماعيل
قسه إلى الأعراب تعلم أنه
أولى من الأعراب بالتفضيل
حازت قبائلهم لغات فرقت
فيهم وحاز لغات كل قبيل
فالشرق خال بعده وكأنما
نزل الخراب بربعه المأهول
فكأنه شمس بدت في غربنا
وتغيبت عن شرقهم بأفول
يا سيدي هذا ثنائي لم أقل
زورا ولا عرضت بالتنويل
من كان يأمل نائلا فأنا امرؤ
لم أرج غير القرب في تأميلي
وبعد ذلك أخذنا في ضروب من الحديث أفضت في نهايتها إلى حادث كدر علينا صفاءنا، وذلك أن أبا علي أخذ ينثر على الحفل درر أدبه، فكان من بين ما جاء في حديثه أدب عبد الملك بن مروان، وأنه قال يوما لجلسائه: أي المناديل أشرف؟ فقال قائل: مناديل مصر كأنها غرقئ البيض،
5
وقال آخر: مناديل اليمن كأنها نور الربيع، فقال عبد الملك: ما صنعتما شيئا، أفضل المناديل مناديل أخي بني سعد عبدة بن الطيب إذ يقول:
لما نزلنا نصبنا ظل أخبية
وفار للقوم باللحم المراجيل
6
ورد وأشقر
7
ما ينئيه طابخه
8
ما غير الغلي منه فهو مأكول
ثمت قمنا إلى جرد مسومة
9
أعرافهن لأيدينا مناديل
وأنشد القالي الكلمة في البيت: «أعرافها لأيدينا مناديل»، فما كان من الأديب ابن رفاعة الألبيري - وقد لاحظنا في خلقه حرجا وزعارة
10 - إلا أن استعاد أبا علي البيت متثبتا مرتين، في كلتيهما ينشد: «أعرافها»، فقام ابن رفاعة وقال: مع هذا يوفد على أمير المؤمنين وتتجشم الرحلة لتعظيمه، وهو لا يقيم وزن بيت مشهور بين الناس لا تغلط الصبيان فيه. والله لا تبعته خطوة، ثم هم بالانصراف، فندبه الأمير ابن رماحس أن لا يفعل، فلم يجد فيه حيلة، فاضطر ابن رماحس إلى أن يكتب إلى الحكم يعرفه ويصف له ما جرى من ابن رفاعة ويشكوه، فجاء جواب الحكم إلى ابن رماحس بما نصه - كما أطلعني عليه ابن رماحس:
الحمد لله الذي جعل في بادية من بوادينا من يخطئ وافد العراق إلينا، وابن رفاعة أولى بالرضى عنه من السخط، فدعه لشأنه، وأقدم بالرجل غير منتقص من تكريمه؛ فسوف يعليه الاختبار - إن شاء الله - أو يحطه.
11
الأسطول الأندلسي وروح العظمة التي ترفرف عليه
أسلفنا لك في الرسالة الأولى من هذه الرسائل شيئا من القول، قد يكون مغنيا في معنى الأسطول وأثره الصالح في الدولة التي تعنى به، وأن الدولة الفاطمية في أفريقية والدولة الأموية في الأندلس؛ لهذا السبب بعينه، ولأن بلادهما واقعة على سيف البحر الرومي (البحر الأبيض المتوسط) وبحر الظلمات (المحيط الأطلانطي) قد بذتا سائر الدول في العناية بالأساطيل؛ حتى قبضتا بها على أعنة البحار، واستوتا
12
على ما فيه من جزائر وأقطار، وآضتا بذلك، وآضت رعاياهما سادة البر والبحر؛ بل ذل الزمان لهم، ولانت أعطاف الدهر. وهذا هو الذي أرهج بين هاتين الدولتين بالفساد، وأرسل بينهما عقارب الأحقاد، وأثار بينهما نقع الحرب والجهاد؛ حتى لا تكاد الحروب بين الدولتين ينطفئ لهيبها، فتراهما للتافه من الأسباب يجردان الجيوش بعضهما على بعض، وتتلاقى أساطيلهما مصرحة بالشر ، ولعلك لم تنس بعد حادثة هذا المركب الأندلسي الذي قمنا فيه من الإسكندرية، وأنه تحرش وهو ذاهب إلى المشرق بمركب للمعز لدين الله الفاطمي، وأخذ ما فيه من بريد وبضائع، فما كان من المعز إلا أن أرسل أسطولا كبيرا إلى مربض الأسطول الأندلسي في المرية، كما أخبرنا بذلك ونحن في هذا البلد - فعاث فيه عيثا، وألحق به وبالمرية ما أرضاه، ونقع غلته، وأطفأ لهيبه، فلم يسع أمير المؤمنين عبد الرحمن الناصر إلا الانتقام من المعز، فأمر بتجريد الأسطول، وحشد المقاتلة، والذهاب إلى أفريقية، فذهب إليها تحت إمرة حاجبه الوزير أحمد بن عبد الملك بن شهيد أسطول كبير يقل عددا عظيما من رجالات الحرب، فعاج أولا على مدينة وهران، وجمع من فرسان الأندلس المحتلين بلاد المغرب نحوا من خمسة وعشرين ألف فارس، ثم هجم بالرجلان والفرسان على أفريقية، ودارت بينه وبين رجال المعز رحى الحرب، فهزم الأندلسيون قبائل صنهاجة وكتامة - وكان يتألف منها السواد الأعظم من جيش الأفارقة - واقتفوا آثارهم حتى بلغوا ضواحي تونس - وهي غنية بتجارتها الواسعة، يسكنها كثير من تجار اليهود الأغنياء - فحصروها برا وبحرا، وألحوا في الحصر، فلما رأى أهلوها أن الخطر محدق بهم عرضوا أن يسلموهم المدينة، وقدموا مبلغا كبيرا من المال إلى الحاجب ابن شهيد، وقدموا إليه كذلك أنسجة من كل نوع، وطرفا من الحلي، وذهبا، وحجارة كريمة، وملابس من الصوف والحرير، وأسلحة وخيلا وعددا عظيما من الأرقاء، ثم غنم عدا ذلك سفن الميناء وأثقالها، وضمها إلى سفنه، وكر راجعا إلى الأندلس.
ومن سننهم التي مضوا عليها، وجرت عادتهم بها أن يحتفلوا بالأسطول عند رجوعه ظافرا من حرب، فتقوم الأساطيل بألعاب وحركات بمرأى من عظماء الدولة ومسمع، كأنها في حرب مع الأعداء، فاتفق في اليوم الذي وصلنا فيه إلى المرية أن آب الأسطول الأندلسي رافعا أعلام النصر في هذه الواقعة، فأمر أمير البحر عبد الرحمن بن رماحس بأن تقوم الأساطيل بألعابها، فما كان منا إلا أن بادرنا إلى إمتاع أنفسنا بمشاهدة هذه الألاعيب صحبة الأمير، فذهبنا إلى الميناء «ميناء المرية»، فوجدنا ثمت في انتظارنا مركبا كبيرا كأنه رضوى أو ثبير أو الأمل الكبير، فدعينا إلى النزول فيه، ثم أخذ الأمير ابن رماحس في أن يرينا ما في هذا المركب من بروج وقلاع ومناظر وتوابيت، ومن منجنيقات ومكاحل بارود ونفط، ومن نوتية، ومن مقاتلة وأسلحة، وهلم مما قضينا منه عجبا. وهذا المركب نوع من الأنواع التي يتألف منها الأسطول يسمى «الشواني»، الواحد منه «شونة»، وبعد ذلك أخذ هذا المركب يسير بنا الهوينى في اختيال، مترجحا ذات اليمين وذات الشمال، كأنه عروس مجلوة يرفرف عليها روح الجمال والجلال. وبعد أن سار بنا في البحر شيئا، وقف حيث نشاهد حركات الأسطول وألاعيبه، وكان الشاطئ ساعتئذ قد غص بالنظارة من كل صنف من أصناف الناس، والزوارق قد انتثرت على متن البحر من جميع النواحي، وفيها ما لا يعلم عديدهم إلا الله من الأندلسيين والأندلسيات؛ كي يشاهدوا حركات الأسطول، فكان لذلك منظر تحسر دونه الظنون، وتتراجع دون إدراكه الأوهام؛ منظر يبهر رواؤه الفكر، ويشيع الروعة في الصدر، وينتقل من هذا العالم إلى عالم آخر كأنه الخلود.
مجال أسود وملهى سفين
فيا طيب لهو ويا منظر
ويا حسن دنيا ويا عز ملك
يسوسهما السائس الأكبر
ثم بصرنا بعد ذلك بالأساطيل على اختلاف ضروبها وقد أخذت بصورة شيطانية في ألاعيبها، فإذا رأيت ثم رأيت كنائن،
13
غير أنها تمرق مروق السهام، ورواكد
14
هي مدائن، بيد أنها تمر مر السحاب غير الجهام،
15
وأطيارا، إلا أنها جوارح لا تصيد إلا الأرواح، وأفراسا في سرعة البرق اللامح، سوى أنها ذات دسر وألواح.
تتخاذل الألحاظ في إدراكها
ويحار فيها الناظر المتأمل
فكأنها في اللطف فهم ثاقب
وكأنها في الحسن حظ مقبل •••
فيا للجواري المنشآت وحسنها
طوائر بين الماء والجو عوما
إذا نشرت في الجو أجنحة لها
رأيت به روضا ونورا مكمما •••
ذات هدب من المجاذيف حاك
هدب باك لدمعه إسعاد
حمم فوقها من البيض نار
كل من أرسلت عليه رماد •••
ملأ الكماة ظهورها وبطونها
فأتت كما يأتي السحاب المغدق
عجبا لها ما خلت قبل عيانها
أن يحمل الأسد الضواري زورق •••
زأرت زئير الأسد وهي صوامت
وزحفن زحف مواكب في زورق •••
ترمي ببروج إن ظهرت
لعدو مخرقة بطنا
وبنفط أبيض تحسبه
ماء وبه تذكي السكنا
16
وما زالت الأساطيل تلعب كأنها في سوح القتال من لدن ذر قرن الشمس إلى أن جاء وقت الزوال.
وهنا يجمل بنا أن نجمل لك القول على أنواع السفن التي يتألف منها الأسطول الأندلسي وعددها وآلاتها،
17
فمن تلك الأساطيل نوع يقال له: «الشواني»، جمع الشونة أو الشيني كما مر بك آنفا، وهي أجفان حربية كبيرة تقام فيها الأبراج والقلاع للدفاع والهجوم، وأبراجها ذات طبقات مربعة؛ فالطبقة العليا منها تقف فيها الجنود المسلحة بالقسي والسهام، وفي الطبقة السفلى الملاحون الذين يجذفون بنحو من مائة مجذاف، ويتراوح ما تحمله الشونة من المقاتلة ما بين المائة والخمسين وبين المائتين. وتجهز الشواني وقت الحرب بالسلاح والنفطية والأزودة، بله الجنود البحرية. ومن أنواع الأسطول نوع يعرف «بالبوارج»، جمع البارجة، وهو أكبر من الشواني، ومثله نوع يقال له: المسطحات، ومن هذه الأساطيل نوع يقال له: «الحراقات»، جمع الحراقة، وهي مراكب حربية كبيرة قرابة الشواني، بيد أن هذه تنماز عن تلك بالمنجنيقات، وتلك عن هذه بالقلاع، فتراهم يحملون في الحراقة مكاحل البارود والعرادات والمنجنيقات
18
يرمى بها النفط المشتعل على الأعداء - وهم يعملون الحراقة في صورة الأسد، وفي صورة الفيل، وفي صورة العقاب، وفي صورة الحية، وفي صورة الفرس، كتلك الحراقات التي كانت للأمين رشيد، والتي يقول فيها الحسن بن هانئ:
سخر الله للأمين مطايا
لم تسخر لصاحب المحراب
فإذا ما ركابه سرن برا
سار في الماء راكبا ليث غاب
أسدا باسطا ذراعيه يعدو
أهرت الشدق كالح الأنياب
لا يعانيه باللجام ولا السو
ط ولا غمز رجله في الركاب
عجب الناس إذ رأوه على صو
رة ليث يمر مر السحاب
إلى أن قال يصف هذه المطايا:
تستبق الطير في السماء إذا ما
استعجلوها بجيئة وذهاب
ذات سور ومنسر وجناحين
تشق العباب بعد العباب
وكحراقة طاهر بن الحسين التي يقول فيها بعض الشعراء:
عجبت لحراقة ابن الحسين
لا غرقت، كيف لا تغرق
وبحران: من فوقها واحد
وآخر من تحتها مطبق؟
وأعجب من ذاك أعوادها
وقد مسها كيف لا تورق؟
أما الطرائد،
19
فهي السفن التي تحمل الخيل للأسطول، وأكثر ما يكون فيها أربعون فرسا، والقراقير
20
فهي السفن الكبيرة التي تحمل الزاد والكراع والمتاع، والفلائك والقوارب والشلنديات،
21
فهي من توابع الأسطول كالطرائد والقراقير.
أما عدد الأساطيل وآلاتها ومعداتها وأسلحتها، فهي الرماح والعصي والتراس والزرد والدرق والخوذ والمنجنيقات والعرادات.
وقد رأيت الأندلسيين يستعملون في حروبهم البحرية النار اليونانية، وهي مزيج من الكبريت وبعض الراتنجات والأدهان في شكل سائل، يطلقونه من أسطوانة نحاسية مستطيلة يشدونها في مقدم السفينة، فيقذفون منها السائل مشتعلا، أو يطلقونه بشكل كرات مشتعلة، أو قطع من الكتان الملتوت بالنفط، فيقع على السفن فيحرقها حرقا. ومن غريب هذه النار أنها تشتعل في الماء والهواء كالنفط. وقد رأيتهم كذلك يستظهرون بالبارود الذي يسمونه «الثلج الهندي» - ونحن لم نسمع بأمة من الأمم اهتدت إلى هذا «الثلج الهندي» قبلهم
22 - ذلك إلى معدات أخرى لا أظنهم قد سبقوا إليها أرانيها الأمير ابن رماحس في الشونة التي كنا نشاهد منها حركات الأسطول، مثل التوابيت المعلقة فوق البروج، وهي صناديق كبيرة مفتوحة من أعلاها يصعد إليها الرجال قبل استقبال العدو، فيقيمون فيها للاستكشاف ومعهم حجارة صغيرة في مخلاة معلقة بجانب الصندوق، فيرمون العدو بها وهم مختبئون في هذه الصناديق، ومعهم عدا الحجارة قوارير النفط وجرار النورة، وهي مسحوق ناعم مؤلف من الكلس والزرنيخ يرمون به الأعداء في مراكبهم، فتعمي أبصارهم بغبارها، وقد تلتهب فيهم التهابا.
وقد رأيتهم وهم يرمونهم أيضا بقدور الحيات والعقارب، وبقدور الصابون اللين كي يزلقوا أقدامهم. ومن حيلهم التي يتخذونها وقاء لهم من أعدائهم أنهم يحيطون المراكب بالجلود، أو اللبود المبلولة بالخل والماء، أو الشب والنطرون؛ كي لا يفعل النفط فيها فعله، ومن حيلهم أنهم يجعلون في مقدم المركب هناة كالفأس يسمونها اللجام؛ وهي حديدة طويلة محددة الرأس ، وأسفلها مجوف كسنان الرمح، تدخل من أسفلها في خشبة كالقناة بارزة في مقدم المركب يقال لها: «الأسطام»، فيصير اللجام كأنه سنان رمح بارز في مقدم المركب، فيطعنون مركب العدو به، فلا يلبث حتى ينخرق فينصب فيه الماء فيغرق، ومن تلك الحيل أنهم إذا جن الليل لا يشعلون في مراكبهم نارا، ولا يتركون فيها ديكا، وقد يسدلون على المراكب قلوعا زرقاء، فلا يرى العدو مراكبهم التي يشبه لونها لون الماء أو السماء. فسبحان الملهم من يشاء ما يشاء، ويخلق ما لا تعلمون، لا إله غيره.
أما رئاسة الأساطيل فقد جعلوا على كل أسطول قائدا ورئيسا؛ فالقائد يدبر أمر سلاحه وحربه ومقاتلته، والرئيس يدبر أمر جريه بالريح أو المجازيف، ومعرفة مسالك البحر وطرقه بواسطة الرهنامج
23
وبيت الإبرة، التي هي من مبتكراتهم ولم يسبقهم إليها سابق فيما علمنا. أما النظر في الأساطيل كلها، فيرجع إلى أمير واحد من أعلى طبقات المملكة يلقبونه أمير البحر أو أمير الماء.
وبعد أن أقمنا في المرية ثلاثة أيام بلياليها، تحملنا منها في ركب فخم نبيل موف على الغاية في الأبهة والروعة والجلال، قاصدين إلى قرطبة حضرة هذه البلاد، وكان في طليعة الركب أمير البحر عبد الرحمن بن رماحس؛ إذ أمره سيدي الحكم ابن أمير المؤمنين عبد الرحمن الناصر وولي عهده - كما أسلفنا - أن يتلقانا في وفد من وجوه الأندلسيين، ويجيء معنا إلى قرطبة مبالغة من الأمير - حفظه الله - في الاحتفاء بنا، وبأبي علي القالي البغدادي، وبأبي عبد الله الصقلي الفيلسوف الذي وصل إلى المرية قبل انفصالنا عنها، وكان في الركب من الأندلسيين الرمادي الشاعر، وأبو بكر بن القوطية، وأبو بكر الزبيدي، وكثير من أدباء الأندلس وأعيانها.
وقد بهرنا وسحر أعيننا وملك علينا ألبابنا ما رأيناه في طريقنا من استبحار العمران في هذا القطر الأندلسي؛ فقد كنا نمر في اليوم الواحد بثلاث مدن وأربع، وفي حيثما سرنا نرى الحوانيت في الأودية ورءوس الجبال؛ لبيع الخبز والفواكه والجبن واللحم والحوت وما إلى ذلك من ضروب الأطعمة، وكنا نتعثر تعثرا بالجداول والأنهار تحفها البساتين وصنوف الزرع والنجوم والأشجار؛ حتى لظننا أنه ليس في هذه البلاد صحراء مقفرة أو أرض غامرة.
يا أهل أندلس لله دركم
ماء وظل وأنهار وأشجار
ما جنة الخلد إلا في دياركم
ولو تخيرت هذا كنت أختار
لا تختشوا بعد ذا أن تدخلوا سقرا
فليس تدخل بعد الجنة النار
أما القرى والمعاقل والحصون فإنها لا تحصى كثرة، وقراها جميلة لتأنق أهلها في أوضاعها وتبييضها؛ لئلا تنبو العين عنها.
لاحت قراها بين خضرة أيكها
كالدر بين زبرجد مكنون
وأكثر مدنها مسور من أجل الاستعداد للعدو، وفي مدنها لذلك ما يبقى في محاربة العدو ما يربي على عشرين سنة؛ لامتناع معاقلها، ودربة أهلها على الحرب.
وكنا في طريقنا نتذاكر الأدب، ونتناشد الأشعار، ونخوض في ضروب من الحديث، لا علينا إذا نحن أوردنا شيئا منها في هذه الرسالة؛ فمن ذلك أن أبا علي قال من كلمة له: «لما مررت بالقيروان وأنا أعتبر من أمر به من أهل الأمصار، فأجدهم درجات في العبارات وقلة الفهم بحسب تفاوتهم في مواضعهم منها بالقرب والبعد، كأن منازلهم من العلم محاصة ومقايسة، فقلت: إن نقص أهل الأندلس عن مقادير ما رأيت في أفهامهم بقدر نقصان هؤلاء عمن قبلهم؛ فسأحتاج إلى ترجمان في هذه الأوطان، ولكن لما جئت إلى هنا قضيت عجبا من أهل هذا الأفق الأندلسي في ذكائهم.»
24
ومن ثم كنا نراه
25
يتغطى عن الأندلسيين عند المباحثة والمناظرة ويقول لهم: «إن علمي علم رواية وليس علم دراية، فخذوا عني ما نقلت؛ فلم آل لكم أن صححت.»
26
ثم فرط منه قول ذهب فيه إلى تفضيل شعراء المشرق على شعراء المغرب، فانتدب له أحد الأدباء ممن كانوا في هذا الركب، وقال: «إن أهل الأندلس أشعر الناس فيما كثره الله تعالى في بلادهم، وجعله نصب أعينهم من الأشجار والأنهار والطيور والكئوس، لا ينازعهم أحد في هذا الشان. أما إذا ذهب نسم، ودار كأس في كف ظبي رخيم، ورجع بم وزير.
27
وصفق للماء خرير، أورقت العشية، وخلعت السحب أبرادها الفضية والذهبية، أو تبسم عن شعاع ثغر نهر، أو ترقرق بطل جفن زهر، أو خفق بارق، أو وصل طيف طارق، أو وعد حبيب فزار من الظلماء تحت جناح، وبات مع من يهواه كالماء والراح، إلى أن ودع حين أقبل رائد الصباح، أو أزهرت دوحة السماء بزهر كواكبها، أو قوضت عند فيض نهر الصباح بيض مضاربها، فأولئك هم السابقون السابقون، الذين لا يجارون ولا يلحقون، وليسوا بالمقصرين في الوصف إذا تقعقعت السلاح، وسالت خلجان الصوارم بين قضبان الرماح، وبنت الحرب من العجاج سماء، وأطلعت شبه النجوم أسنة، وأجرت شبه الشفق دماء. وبالجملة فإنهم في جميع الأوصاف والتخيلات أئمة، ومن وقف على أشعارهم في هذا الشأن فضلهم فيه على أصناف الأمة.» فقال أبو علي:
28
نعم، وفي الحق ما تقول؛ بيد أن شعراء المشرق، فضلا أن شعرهم أصفى ديباجة، وأكثر ماء وطلاوة، وأسد مسلكا، وأوضح منهجا، وأشكل في مبناه بالشعر القديم حتى لا يكاد يشذ عنه قيد شعرة، وفضلا أنه في الأعم الأغلب رصين متماسك جزل قوي غير مهلهل النسج؛ تراهم مع ذلك ذهبوا به كل مذهب من القول، وأفتنوا في مناحيه أيما افتنان، وغاصوا على المعاني غوصا حتى بلغوا في ذلك المبالغ، ووصلوا إلى الغاية التي لا وراءها.
وإني لا أظن أن لعلي بن العباس الرومي أو بشار بن برد أو أبي نواس أشباها ونظائر في هذه البلاد، على أني مع ذلك لست أنكر على الأندلسيين ذكاءهم وتوقدهم، وأنهم - كما رأيت وكما وصفوا لي - «عرب في العزة والأنفة، وعلو الهمة، وفصاحة الألسن، وإباء الضيم، والسماحة بما في أيديهم، والنزاهة عن الخضوع والاستخذاء، هنديون في فرط عنايتهم بالعلوم ورغبتهم فيها وضبطهم لها، بغداديون في نظافتهم وظرفهم، ورقة أخلاقهم، وذكائهم، وجودة قرائحهم، ولطافة أذهانهم، ونفوذ خواطرهم، يونانيون في استنباطهم للمياه، ومعاناتهم لضروب الغراسات، واختيارهم لأجناس الفواكه، وتدبيرهم لتركيب الشجر، وتحسينهم للبساتين بأنواع الخضر، وصنوف الزهر، صينيون في إتقان الصنائع العملية، وإحكام المهن الصورية، تركيون في معاناة الحروب، والحذق بالفروسية، والبصر بالطعن والضرب.»
كبرت حول ديارهم لما بدت
منها الشموس وليس فيها المشرق •••
ولو أبصروا ليلى أقروا بحسنها
وقالوا بأني في الثناء مقصر
وهنا انبعث أبو عبد الله الصقلي الفيلسوف وقال ما تلخيصه: الذي أراه أن شعراء كل قطر من الأقطار أو جيل من الأجيال لا بد من أن يتأثروا بالمحيط الذي يحيط بهم، وأن يصطبغ شعرهم بصبغة ما يرون ويحسون من حولهم؛ فالشاعر الجاهلي أو المتبدي في الجاهلية والإسلام الذي لا تقع عينه إلا على صحراء مقفرة، أو سماء ماطرة، أو وحش كاسر، أو غزال نافر، لم ير ريفا، ولم تغذه رقة الحضر، ولم يشبع من طعام، قد خالط الغيلان، وأنس بالجان، وأوى القفر واليرابيع والظباء، فإنه حري أن لا يقول إلا في جنس ما هو بسبيله من وصف البيد والمهامه والظبي والظليم والناقة والجمل وما إلى ذلك، في قول مونق مشرق واضح الطريقة، لا تعمل فيه ولا كلفة، يوائم أمزجتهم وطبائعهم، ويلائم المحيط الذي فيه عاشوا، والجو الذي فيه درجوا، والفطرة الأولى التي فطروا عليها، والسذاجة التي هي من خاص صفاتهم. وقد يكون لهم مع ذلك الحكمة البارعة، والكلمة الرائعة، والمثل السائر، والموعظة الحسنة مما يبهر أعرق المتحضرين، ويصيب منهم أقصى غايات الإعجاب والإكبار، ولكنه الوحي والإلهام الذي تلهمه الفطرة القوية النقية البريئة، ويؤتي الطبيعة الكريمة ما يؤتي سهوا رهوا، وليس هو بنتاج العقل المسموع، ولا بثمار الملكات المكتسبة.
وبعد، فأما المولدون - وهم الذين تصح المفاضلة بينهم وبين شعراء المغرب؛ لأنهم جميعا تحضروا وعاشوا في رونق النعيم، واعتركوا بالدنيا واعتركت بهم - فالرأي عندي أن يقال: إن الشعر لفظ ومعنى، فأما اللفظ فإن شعراء المشرق - لأن أكثرهم جاور الأعراب وأهل البادية، ولقنوا اللغة منهم، والتصقوا بهم، ونشئوا في أحضانهم، وغذوا بلبانهم - ترى لهم الألفاظ المتخيرة، والديباجة الكريمة، والطبع المتمكن، والسبك الجيد، وكل كلام له ماء ورونق، وترى شعرهم رصينا متسقا على استواء واحد، لا يتدافع من جهاته، ولا يتعارض من جوانبه، ولا يجمح ولا يشتط، ولا يأتيه الضعف والهلهلة والاسترخاء من أية ناحية من نواحيه. وأما المعنى، فإن فحولة شعراء المشرق الذين افتنوا في المعاني افتنانا، وغاصوا عليها وأمعنوا حتى ظفروا بكل معنى عجيب يعمر الصدر، ويذكي الروح، ويشع في دنا العقل، فتنجاب له ظلمته، وتنير نواحيه، وتنفتح مغالقه؛ مثل بشار بن برد، وأبي نواس، وابن الرومي، وهذه الطبقة؛ فهم إنما بلغوا هذه الدرجة لأنهم من الموالي أبناء تلك الأمم الحمراء الذين امترسوا بالحضارة قبل العرب امتراسا، وعالجوها وعالجتهم، وداوروا صنوفها من الصناعات والعلوم وما إليها، وصرفوا فيها أعنة الفكر، وقدحوا لها زناد الرأي، وهلم حتى أنمى ذلك على كر الغداة ومر العشي عقولهم، وشحذ أذهانهم، وأذكى أرواحهم، وأكسبهم ملكات عبقرية عجيبة، فورث ذلك منهم أبناؤهم، وانحدر مع دمائهم، وكان منهم هذا النبوغ الذي نرى آثاره في السلام.
وما كاد أبو عبد الله يتم قولته تلك حتى صاح أبو بكر ابن القوطية وقال: أشيخنا شعوبي؟
29
فقال أبو عبد الله: إني وإن كنت لا أرى لعربي فضلا على أعجمي إلا بالتقوى، وأن تفاضل الناس فيما بينهم ليس بآبائهم ولا بأحسابهم، ولكنه بأفعالهم وأخلاقهم، وشرف أنفسهم، وبعد هممهم؛ فمن كان دنيء الهمة ساقط المروءة لم يشرف، وإن كان من بني هاشم في ذؤابتها، ومن أمية في أرومتها، وقيس في أشرف بطن منها؛ ومن ثم يقول الله جل شأنه:
إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير ، ويقول رسول الله في خطبة الوداع: «أيها الناس، إن الله أذهب عنكم نخوة الجاهلية وفخرها بالآباء؛ كلكم لآدم، وآدم من تراب. ليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى.» فإني مع هذا أقول ما قاله ابن المقفع وقد سأل جماعة من أشراف العرب: أي الأمم أعقل؟ فنظر بعضهم إلى بعض وقالوا: لعله أراد أصله من فارس، فقالوا: فارس، فقال: ليسوا بذلك؛ إنهم ملكوا كثيرا من الأرض، ووجدوا عظيما من الملك، وغلبوا على كثير من الخلق، ولبث فيهم عقد الأمر، فما استنبطوا شيئا بعقولهم، ولا ابتدعوا باقي حكم في نفوسهم، قالوا: فالروم، قال: أصحاب صنعة، قالوا: فالصين، قال: أصحاب طرفة، قالوا : الهند، قال: أصحاب فلسفة، قالوا: السودان، قال: شر خلق الله، قالوا: الخزر، قال: بقر سائمة، قالوا: فقل، قال: العرب، فضحكوا، فقال: «أما إني ما أردت موافقتكم، ولكن إذ فاتني حظي من النسبة فلن يفوتني حظي من المعرفة. إن العرب حكمت على غير مثال مثل لها، ولا آثار أثرت، أصحاب إبل وغنم، وسكان شعر وأدم، يجود أحدهم بقوته، ويتفضل بمجهوده، ويشارك في ميسوره ومعسوره، ويصف الشيء بعقله، فيكون قدوة، ويفعله فيصير حجة، ويحسن ما يشاء فيحسن، ويقبح ما يشاء فيقبح، أدبتهم نفوسهم، ورفعتهم هممهم، وأعلتهم قلوبهم وألسنتهم، فلم يزل حباء الله فيهم، وحباؤهم في أنفسهم، حتى رفع لهم الفخر، وبلغ بهم أشرف الذكر، وختم لهم بملكهم الدنيا على الدهر، وافتتح دينه وخلافته بهم إلى الحشر، على الخير فيهم ولهم، فقال:
إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين ، فمن وضع حقهم خسر، ومن أنكر فضلهم حسر، ودفع الحق باللسان أكبت للجنان.»
بيد أن العرب لم يكن لهم بادئ ذي بدء دراية بالحرف والصناعات، وبالعلوم وتعلمها الذي هو في عداد الصناعات؛ وذلك لمكانهم من البداوة ورسوخ أقدامهم فيها؛ ومن ثم كانت الشريعة الإسلامية - إذ كان القوم أكثرهم أميين - تتناقل في صدورهم، وجرى الأمر على ذلك أزمان الصحابة والتابعين، فلما بعد النقل من دولة الرشيد فما بعد احتيج إلى وضع التفاسير القرآنية، وتقييد الحديث مخافة ضياعه، ثم كثر استخراج أحكام الواقعات من الكتاب والسنة، وفسد مع ذلك اللسان فاحتيج إلى وضع القوانين النحوية، وصارت العلوم الإسلامية ذات ملكات محتاجة إلى التعليم فاندرجت في جملة الصنائع، وهو معلوم أن الصنائع من منتحل الحضر، والعرب أبعد الناس عنها، والحضر لذلك العهد هم العجم أو من في معناهم من الموالي، فكان صاحب صناعة النحو سيبويه، ثم الفارسي من بعده، ثم الزجاج، وكلهم عجم في أنسابهم، وكذا حملة الحديث وعلماء أصول الفقه وعلماء الكلام والمفسرون، وأكثر فقهاء الأمصار؛ مثل الحسن بن أبي الحسن ومحمد بن سيرين؛ فقيهي البصرة، وعطاء بن أبي رباح، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وسليمان بن يسار؛ فقهاء مكة، وزيد بن أسلم، ومحمد بن المنكدر، ونافع بن أبي نجيح؛ فقهاء المدينة، وربيعة الرأي وابن أبي الزناد؛ فقهاء قباء، وطاوس وابن منبه؛ فقيهي اليمن، وعطاء بن عبد الله؛ فقيه خراسان، ومكحول؛ فقيه الشام، والحكم بن عتيبة وعمار بن أبي سليمان؛ فقيهي الكوفة، وهلم. وبالجملة، لم يقم بحفظ العلم وتدوينه إلا الأعاجم، وظهر بذلك مصداق قوله
صلى الله عليه وسلم : «لو تعلق العلم بأكناف السماء لناله قوم من أهل فارس.» وأما العرب الذين أدركوا هذه الحضارة وسوقها، وخرجوا إليها عن البداوة؛ فقد شغلتهم الرئاسة في الدولة وما دفعوا إليه من القيام بالملك عن القيام بالعلم والنظر فيه، فإنهم أهل الدولة وحاميتها وأولو سياستها، مع ما يلحقهم من الأنفة عن انتحال العلم بما صار من جملة الصنائع، والرؤساء أبدا يستنكفون من الصنائع والمهن وما يجر إليها، ودفعوا ذلك إلى من قام به من العجم والمولدين، فكان امتراس العجم من القديم القديم بالحضارة وما تستتبعه من العلوم والصنائع سببا في كيسهم وفطنتهم، ونماء عقولهم، ورجحان أحلامهم، ومران ملكاتهم على الاستنباط والتخريج، والتماس الحيل وتوليد المعاني؛ ومن ثم كان شعر الموالي منمازا عن شعر العرب الأقحاح باستفتاح إغلاق المعاني الدقيقة العبقريات، والافتنان بها، وتلوينها بكل لون، وهاك شعر بشار، وأبي نواس، ومروان بن أبي حفصة، وابن الرومي، ومن إليهم من الشعراء الموالي؛ تر الشاهد الصدق لما أقول، وعرب الأندلس منذ فتحهم هذه البلاد إلى وقتنا هذا لا تزال نزعتهم عربية في كل شيء؛ حتى في شعرهم، إلا ما أكسبتهم إياه طبيعة بلادهم وخصوبتها، فمن ثم كان فرق ما بين شعرهم وشعر المشارقة في الجملة.
وبعد أن أتم أبو عبد الله كلامه أفضى بنا الحديث إلى ذكر الغزال؛ الشاعر الأندلسي الظريف، وملحه ونوادره، وهذا الغزال - كما أخبرنا ابن القوطية - هو يحيى بن حكم البكري الجياني الملقب بالغزال لجماله، وقد كان في المائة الثالثة من بني بكر بن وائل، وكان حكيما شاعرا عرافا، وكان آية في الظرف وخفة الروح، وجهه الأمير عبد الله بن الحكم المرواني إلى ملك الروم، فأعجبه حديثه وخف على قلبه، وطلب منه أن ينادمه، فتأبى ذلك واعتذر عنه بتحريم الخمر. وكان يوما جالسا معه، وإذا بزوجة الملك قد خرجت وعليها زينتها وهي كالشمس الطالعة حسنا، فجعل الغزال لا يميل طرفه عنها، وجعل الملك يحدثه وهو لاه عن حديثه، فأنكر ذلك عليه وأمر الترجمان بسؤاله، فقال له: عرفه أني قد بهرني من حسن الملكة ما قطعني عن حديثه، فإني لم أر قط مثلها، وأخذ في وصفها، والتعجب من جمالها، وأنها شوقته إلى الحور العين، فلما ذكر الترجمان ذلك للملك تزايدت حظوته عنده، وسرت الملكة بقوله، وأمرت الترجمان أن يسأله عن السبب الذي دعا المسلمين إلى الختان وتجشم المكروه فيه مع خلوه من الفائدة، فقال للترجمان: عرفها أن فيه أكبر فائدة؛ وذلك أن الغصن إذا زبر قوي واشتد وغلظ، وما دام لا يفعل به ذلك فإنه يبقى رقيقا ضعيفا، فضحكت واستظرفته. ومن نوادره أنه أرسل مرة سفيرا إلى بلاد المجوس (أسوج ونروج) وقد قارب الخمسين، وقد وخطه الشيب، ولكنه كان مجتمع الأشد، فسألته زوجة الملك يوما عن سنه، فقال مداعبا لها: عشرون، فقالت: وما هذا الشيب؟ فقال: وما تنكرين من هذا؟ ألم تري قط مهرا ينتج وهو أشهب؟ فأعجبت بقوله، فقال في ذلك - واسم الملكة تود:
كلفت يا قلبي هوى متعبا
غالبت منه الضيغم الأغلبا
إني تعلقت مجوسية
تأبى لشمس الحسن أن تغربا
أقصى بلاد الله في حيث لا
يلفي إليه ذاهب مذهبا
يا تود يا ورد الشباب الذي
تطلع من أزرارها الكوكبا
يا بأبي الشخص الذي لا أرى
أحلى على قلبي ولا أعذبا
إن قلت يوما: إن عيني رأت
مشبهه لم أعد أن أكذبا
قالت: أرى فوديه قد نورا
دعابة توجب أن أدعبا
قلت لها: ما باله إنه
قد ينتج المهر كذا أشهبا
فاستضحكت عجبا بقولي لها
وإنما قلت لكي تعجبا
ولما فهمها الترجمان شعر الغزال ضحكت وأمرته بالخضاب، فغدا عليها وقد اختضب وقال:
بكرت تحسن لي سواد خضابي
فكأن ذاك أعادني لشبابي
ما الشيب عندي والخضاب لواصف
إلا كشمس جللت بضباب
تخفى قليلا ثم يقشعها الصبا
فيصير ما استترت به لذهاب
لا تنكري وضح المشيب فإنما
هو زهرة الأفهام والألباب
فلدي ما تهوين من زهر الصبا
وطلاوة الأخلاق والآداب
ومن شعر الغزال الهين اللين الذي يرتفع له حجاب السمع، ويوطأ له مهاد الطبع - كما يقولون - قوله:
قالت: أحبك، قلت: كاذبة
غري بذا من ليس ينتقد
هذا كلام لست أقبله
الشيخ ليس يحبه أحد
سيان قولك ذا وقولك
إن الريح نعقدها فتنعقد
أو أن تقولي: النار باردة
أو أن تقولي: الماء يتقد
وقوله:
لا ومن أعمل المطايا إليه
كل من يرتجي إليه نصيبا
ما أرى ها هنا من الناس إلا
ثعلبا يطلب الدجاج وذيبا
أو شبيها بالقط ألقى بعيني
ه إلى فارة يريد الوثوبا
وحدثنا أبو بكر بن القوطية قال: كان عباس بن ناصح الثقفي؛ قاضي الجزيرة الخضراء، يغدو على قرطبة ويأخذ عنه أدباؤها، فمرت بهم يوما قصيدته التي أولها:
لعمرك ما البلوى بعار ولا العدم
إذا المرء لم يعدم تقى الله والكرم
حتى مر بهم قوله:
تجاف عن الدنيا فما لمعجز
ولا عاجز إلا الذي خط بالقلم
وكان الغزال إذ ذاك في الحلقة، وكان حدثا نظاما متأدبا متوقد القريحة فقال: أيها الشيخ، ما الذي يصنع مفعل مع فاعل؟ فقال: كيف تقول؟ فقال: كنت أقول: فليس لعاجز ولا حازم، فقال له عباس: والله، يا بني، لقد طلبها عمك فما وجدها. (تمت هذه الرسالة.)
وقد كتبت في قرطبة بقصر سيدي الحكم ولي عهد المسلمين، وابن مولانا عبد الرحمن الناصر؛ أمير المؤمنين، وذلك في شهر أغشت الرومي سنة ست وخمسين وتسعمائة، الموافقة سنة خمس وأربعين وثلاثمائة هجرية.
هوامش
অজানা পৃষ্ঠা