هذه هي عبارة المسيو كاترمير برمتها، وهو من البحاثين الدقيقين، ولا يمكن أن يدخل تحت وصف المعترض، الذي ربما لا يقتنع كثيرا بما يرويه العرب المحققون؛ لأن فيهم قوما ألفوا المبالغة؛ فرماهم جميعا بجريرة أفراد منهم. وأنت ترى أن كاترمير لم يخالجه أدنى شك في تقدير العدد، وإنما انتقد الخبر المتعلق بإحراق الكتب، ولما كان هذا الخبر محلا للشك فقد أهملته بالمرة، وإن كان الأستاذ جرجي يني صاحب تاريخ سورية قد أشار إليه وتأسف عليه.
وهذه الأرقام ذكرها رجل من ثقات الإنكليز وأكبر بحاثيهم في أمور المشرق، وهو العلامة جبون، في تاريخ الدولة الرومانية (جزء ثان صفحة 505)، وقال إن الإفرنج أحرقوها. أما ابن خلكان فقال بأنهم انتهبوها في سنة 502 هجرية، ومثله ابن الأثير، وكلاهما قرر بأن عددها مما لا يعد ولا يحصى.
ولبيان الأمر الثالث نقول: إن الحرب الشرعية هي التي تقام لإعلاء كلمة الله، وليس المراد من إعلاء كلمة الله الدعوة إلى الإسلام بالسيف؛ فإن هذا مما لا يكون أبدا كما سنبينه في هذه المحاضرة، وإنما المراد منها ما عرف في تاريخ صاحب الشريعة الإسلامية وبعض خلفائه رضي الله عنهم، وذلك أن الدين بني على الدعوة إليه بالحسنى، ولكن زعماء المشركين وسائر الممالك وقتئذ كبر عليهم أن يدينوا لدين جاء به يتيم عربي، ويسوي بين الملوك والسوقة، ويسيغ للخليفة الثاني أن يأمر مثل جبلة بن الأيهم أن يرفع رأسه لجلف من أجلاف العرب ليثأر لنفسه فيلطمه كما لطمه. كبر عليهم الإذعان فقاوموا القائمين بنشره، وشنوا عليهم الغارات، يريدون صدهم عن سبيل الله وإطفاء نوره، ويأبى الله إلا أن يتم نوره؛ فجاز للمسلمين وقتئذ، بل وجب عليهم، أن يذودوا عن حياضهم ويذبوا عن أعراضهم، وإلا لكانوا أخساء جبناء، فأعد المسلمون لأعدائهم ما استطاعوا من قوة ومن رباط الخيل، وصدوا هجماتهم، وانتقموا لأنفسهم ممن آذاهم، وكذلك الله يفعل بالمتعدين، فكانت تلك الحروب لدفع من يقف في سبيل المسلمين فيمنعهم من نشر دينهم بالحكمة والموعظة الحسنة؛ لذلك سميت حروبا شرعية، وحق لها أن تسمى كذلك.
ولا يفهم من قول المسلمين للمحاربين: «الإسلام أو الجزية أو الحرب» أن حربهم إياهم كان لحملهم على الإسلام؛ فإن الذي اضطر المسلمين إلى الحرب إنما هم المحاربون أنفسهم، فلما كانت تشتد الأزمة بالمحاربين كانوا يحقنون دماءهم من المسلمين الذين نصرهم الله بقوة حقهم، وبعدم اعتدائهم إلا على من اعتدى عليهم، وكان حقن الدماء بأحد أمرين: إما الإسلام ليصيروا إخوانهم، وإما الجزية التي لا بد منها لأية أمة مغلوبة في كل عصر من العصور، وإلا لو كانت هذه العبارة: «الإسلام، أو الجزية، أو الحرب» لحمل الناس على الإسلام لما خيروهم بين الجزية والإسلام، ولم يرضوا منهم دون الإسلام شيئا.
إن الذي يتأمل في مثير الحروب الإسلامية بادئ الأمر يعلم علما، ليس بالظن، أن المسلمين لم يحاربوا إلا من أراد صدهم عن سبيل الله فحاربهم وآذاهم، فمن ذلك أن أول الغزوات كانت مع قريش، فنتركها ونترك سائر غزواتهم كذلك لما هو معروف من أمر قريش وإيذائها النبي
صلى الله عليه وسلم
وأصحابه، وإخراجهم من ديارهم، ونذكر من بعد ذلك غزوة بني قينقاع من يهود المدينة، فقد حاربهم المسلمون لنقضهم العهد بعد غزوة بدر الكبرى، وهتكهم حرمة سيدة من نساء الأنصار، ثم غزوة بني غطفان، ولم يخرج المسلمون لقتالهم إلا بعد أن علموا أن بني ثعلبة ومحارب من غطفان تجمعوا برياسة دعثور المحاربي للإغارة على المدينة، ثم سرية عاصم بن ثابت الأنصاري، وكانوا مع رهط عضل، والقادة الذين خانوهم ودلوا عليهم هذيلا قوم سفيان بن خالد الهذلي، الذي قتله عبد الله بن أنيس. ثم سرية المنذر بن عمرو، وهم سبعون رجلا يسمون الفراء، أخذهم عامر بن مالك ملاعب الأسنة لطمعه في هداية قومه وإيمانهم، فلم يرع قومه جواره وقتلوا الفراء، ثم غزوة بني النضير من يهود المدينة، وذلك لنقضهم العهد وإلقائهم صخرة على النبي
صلى الله عليه وسلم
وصحبه لما كان في ديارهم. ثم غزوة دومة الجندل، ولم يخرج المسلمون لقتالهم إلا لما علموا أن في ذلك المكان أعرابا يقطعون الطريق على المارة، ويريدون الإغارة على المدينة، ثم غزوة بني المصطلق، وهؤلاء ممن ساعدوا المشركين في أحد، ولم يكتفوا بذلك، بل أرادوا جمع الجموع للإغارة على المدينة، ثم غزوة الخندق، وكانت مع الأحزاب الذين حاصروا المدينة، ثم غزوة بني قريظة من يهود المدينة؛ لنقضهم العهد واجتماعهم مع الأحزاب، ثم غزوة بني لحيان؛ لقتلهم عاصم بن ثابت وإخوانه الذين حزن عليهم رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، ثم غزوة الغابة؛ لإغارة عيينة بن حصن في أربعين راكبا على لقاح للنبي
অজানা পৃষ্ঠা