لأجل معرفة المواقع المذكورة في القرآن اهتموا بعلم الجغرافية.
ثم تسلسلت العلوم والمعارف بينهم حتى دخلت الفلسفة في عصر العباسيين، فترجموا كتبها ثم اشتغلوا بها وبرعوا فيها. نعم إن الإسلام وحد اللغة أيضا ثم نشرها وجعلها بمثابة لغة عمومية يعرفها كل مسلم، والمسلمون هم ثلث أهل الأرض، وهي مزية لم تبلغها لغة من اللغات، ولم يتوصل إلى هذه المزية النادرة في بابها بغير القرآن.
يعلم القراء الكرام أن هذه المحاضرات الثلاث لعزتلو المفضال أحمد زكي بك، أستاذ الحضارة الإسلامية خطب طلبة الجامعة إياها قبل عطلة عيد الأضحى المبارك، التي بدأها بسفره إلى دمشق الشام، قاعدة ملك الأمويين؛ لدرس آثارها وتفهم ما فيها، ولترويض النفس من عناء الأعمال (وما أكثرها لديه)، ولم يحضر حتى يوم طبع القسم العربي من هذا الجزء، وقبل سفره ترك لمجلة الجامعة تلك المحاضرات في أوراق مبعثرة، كتب بعضها بخط يده، قد تصعب قراءته في بعض المواضع، وكتب بعضا آخر بخط ناسخ له حرف كلما عن مواضعه، فتحرينا الصواب فيها جهدنا، ولم نتمكن من عرضها عليه قبل الطبع لتغيبه، فنرجو إن شاء الله أن تكون كما يريد الأستاذ الجليل.
المحاضرة الخامسة: قاعدة ملك الأمويين
أيها السادة، كان سلفنا الصالح - رضي الله عنهم - على بعد الأمكنة، ووعورة الطرق، وعدم ممهداتها ومذللات عقباتها من المراكب البخارية والكهربائية البرية والبحرية التي هي من أكبر عوامل انتشار المدنية الآن. كان سلفنا الصالح على تلك الحال يطوون الأباطح والجبال والكثبان والآكام لطلب مسألة واحدة من العلم، يطلبها النابغة في علمه من عالم آخر نبغ فيما يسأل فيه، وبذلك أقيمت صروح العلم في القرون الأولى، وخفقت أعلامه، وصعب تصدر العلماء للتعليم إلا من راض نفسه، وملأ رأسه، وأعد لمنزلته السامية ما استطاع لها من قوة.
وإذ إن الجامعة المصرية إنما أنشئت لإحياء ذكرى معاهد العلم والقائمين بها في تلك الأعصر الخالية التي هي من مفاخر الشرق كافة والإسلام خاصة، أردت - وأنا واحد من أساتذتها - أن أحيي أكبر سنة من سنن سلفنا الصالح، وهي الرحلة في طلب العلم لاقتناص فوائده وجمع شوارده بالبحث والمشاهدة ومشافهة أهل الذكر، فاغتنمت فرصة عطلة عيد الأضحى المبارك؛ لأضم فيها إلى علمي الكتابي الضئيل علما حسيا أشاهده بعيني وأسمعه بأذني، وما كان في حسباني أن يمتد بي الزمن إلى هذا اليوم فأضيع على نفسي وعليكم الأسبوع الفائت برمته، لولا أن عاقني الشغف بالعلم وحب التفهم إلى ذلك، وشجعني عليه ثقتي بأنني - إن شاء الله - سأتدارك ما فات وأعوضه.
ولعلي، أيها السادة، أبلغ ما قصدته من رحلتي هذه القصيرة، وهو أن يضم المسافر منا إلى رياضته علما جديدا، فإن الرياضة تحدث بانتقال الإنسان من عمل إلى عمل، فإنني إنما أردت بسفري بادئ الأمر أن أفر من كثرة الأعمال التي أثقلت كاهلي، فكادت تنوء به لولا رحمة من الله، وبقية من الصبر والجلد، وأبت نفسي اللوامة إلا أن تكون الرحلة إلى أول قاعدة لملك الأمويين لدرس معالمها وتفهم تاريخها من آثارها، فساقتني إليها رغم أنفي، ولكني - والحمد لله - غنمت غنمين: غنم الرياضة، وغنم التوسع في علمي القليل.
ولعلي كذلك أكون بسفري هذا حاضا لكم على الرحلة في طلب العلم وأسوة لمن يجيء جامعتنا المصرية من سائر البلاد المصرية لحضور محاضرة أو أكثر، ولمن يأتيها في مقبل أيامها من سائر أقطار المعمور.
أراني بذكرى دمشق قد أحدثت في أنفس لكم رغبة في السؤال عن اختصاصي دمشق بتلك الرحلة التي جاءت على عجل، ولكنني أثق بأن تلك الأنفس لو رجعت إلى المحاضرات الفائتة وأطالت النظر فيها لعرفت السر في هذا الأمر الذي تريد أن تسأل عنه، ذلك أننا ألممنا إلماما ما في تلك المحاضرات بأحوال البلاد العربية قبيل ظهور الإسلام، وأحوال الأمة العربية بعد ظهور الإسلام، وبأحوال أضخم الممالك عند ظهوره، وانتشار الإسلام والحروب الإسلامية وبغير ذلك من الأمور العامة، ثم تخطينا عصر النبوة؛ لأنه عصر ديني محض، شغل بإعلاء كلمة الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر كما قلنا قبلا، وكذلك تركنا عصر الخلفاء الراشدين الذي احتذى في بعضه عصر النبوة حذو القذة بالقذة، وشغل بعض آخر بالفتن الأهلية والحروب الداخلية، وأقبلنا إثر ذلك إلى عصر الأمويين، الذي هو مبدأ الحضارة الإسلامية، وفيه بالغ الملوك والسوقة في الترف والنعيم حتى نسوا أوامر الدين الحنيف ونواهيه.
فذلك الإقبال اضطرنا إلى زيارة أول قاعدة لذلك الملك العضوض لنرى منشأ الحضارة الإسلامية ومصدرها، وكانت تلك القاعدة هي دمشق الشام، التي هي بيت القصيد من هذه المحاضرة.
অজানা পৃষ্ঠা