أيها السادة، لا بد لمن يعنى بمحاضرات على الحضارة الإسلامية من أن يشدو بذكر الإسلام، وإذ قد نيطت بي تلك المحاضرات، اضطررت إلى أن أشدو بذكره، ولو كلفت بمحاضرات على الحضارة الوثنية، لكنت مضطرا إلى أن أشدو بذكرها كذلك، وأنا إن ذكرت الإسلام فإنما أذكره من حيث هو نظام عمراني لا ديني؛ ولذلك في المحاضرة الفائتة اجتزت عصر النبوة، وبدأت بعصر الخلفاء الراشدين؛ لأن عصر النبوة كان دينيا محضا. وإذ كانت محاضرة اليوم في معرفة أحوال بلاد العرب قبيل ظهور الإسلام، وجب أن نعرف تلك البلاد، ثم نعرف أحوالها.
بلاد العرب هي تلك الأرض الواسعة التي في جنوب آسيا، يحدها شمالا الشام والجزيرة والعراق، وغربا قناة السويس والبحر الأحمر، وجنوبا خليج عدن وبحر عمان، وشرقا بحر عمان والخليج الفارسي والعراق؛ فهي شبه جزيرة عظيم، وقد تسمى جزيرة تسامحا، أما تسميتها «بحيث جزيرة» فمن الخطأ الفاضح، وهي ثمانية أجزاء كبيرة: الحجاز واليمن في الغرب، وحضرموت ومهرة وعمان في الجنوب، والبحرين والحسا في الشرق، ونجد والأحقاف أو الدهناء
1 - على قول - في الوسط.
فأما بلاد عمان والبحرين في الشرق فكانت مفصولة عن سائر بلاد الجزيرة بأمرين: أحدهما طبيعي، والآخر سياسي، فأما الطبيعي فتلك المفاوز والبراري الواسعة والصحاري الجدبة القفرة التي حالت بينها وبين سائر البلاد، وأما السياسي فإذعانها لسيادة الأكاسرة.
وأما بلاد اليمن وحضرموت في الجنوب فكانت ميدانا للحروب الداخلية والفتن الأهلية؛ فهوت من قمة مجدها الباذخ، وفنيت منها سلالة التبابعة الذين بنوا مأربا وقصور غمدان وظفار، وأقاموا سد مأرب الذي يشبه خزان أسوان في مصرنا الآن. وكان هدم ذلك السد في أوائل القرن الأول للميلاد سببا لخراب هذه البلاد، التي سماها اليونان والفرنج على أثرهم البلاد العربية السعيدة، واسمها دليل على ذلك؛ فإن اليمن واليمن واليمين من مادة واحدة، فهي من أخصب بلاد العرب، ولخصبها وحسن موقعها كانت الدول القديمة تحاول امتلاكها، وتتحين الفرص لذلك، وكان في بلاد اليمن أمم من أضخم الأمم، بلغت أعلى منازل العظمة والأبهة وضخامة الملك، فكان فيها مملكة الحميريين، ومنهم الملوك التبابعة - واحدهم تبع - وكان التبع بمنزلة إمبراطور ألمانيا الآن، وشاهنشاه الفرس؛ أي ملك الملوك لسيادته على عدة ملوك مستقلة استقلالا داخليا، يسمون الأذواء أو الأقيال. وكانت عدن من المدن المستقلة، فكانت كمدينة همبرج في ألمانيا الآن، وهي التي تسمى المدينة الحرة لمجلسها النيابي (السناتو) الذي يدير شأنها، وكلا البلدين - عدن وهمبرج - فرصة كبيرة لمملكتها.
خريطة إجمالية عن شبه جزيرة العرب.
وكان في تلك البلاد السعيدة أديان شتى، ولكل دين أنصار يحملون لواءه، ويحمون ذماره، فكانت فيهم اليهودية، وكانت فيهم النصرانية، انتشرت في نجران كلها، وكانت فيهم الوثنية، وكان آل كل دين يطمعون في الغلب والرياسة، ويحاولون إعلاء دينهم بخفض سائر الأديان، فإذا عجزت فئة دون بلوغ مأمولها، استنجدت الأمم الأجنبية من الحبشة والروم والفرس؛ فساعد ذلك العداء وهذا الخلاف وتلك المنافسة وتعدد الملوك في هذه البلاد، ساعد كل ذلك الأمم الأجنبية الطموحة إلى امتلاكها؛ لخصبها وحسن موقعها على الامتلاك، فهجمت الحبشة عليها ثلاث مرات، وقد سعى سيف بن ذي يزن في دفعهم، فاستغاث بالروم (الأغارقة) فلم يغث، كما أخفق امرؤ القيس في استنجاده قيصر - وأمره معروف - فالتجأ إلى فارس فأغاثه كسرى بمرزبان (وهو يشبه البطريق،
2
والمرزبان اسمه
Satrape
অজানা পৃষ্ঠা