ترجمة
نجيب الحداد
الفصل الأول
حكى صاحب الرواية عن نفسه، قال: يوجد عند مدخل سافوا بين جبالها وآكامها واد متسع يتصل بقرية شامبيري على سفح جبال الألب، قد كسته الخضرة بنضارتها، وآنسته الجداول بخريرها، وحلته البحيرات بمائها الشفاف كأنه سبائك الفضة في إطار من الزمرد، وإلى شمال هذا الوادي جبل ينطح النجوم بروقيه، ويناجي السماء بأسراره، وقد ألبسته الطبيعة هيئة قاتمة ينعكس النور عما برز منها، فتظهر كثنايا الجبين في الوجه العابس على شكل لم تعمل فيه غير يد الله، ثم يأخذ بالانبساط على مقربة من شامبيري حتى لا يعود فيه سوى بعض هضبات تجللها أشجار السنديان والجوز مكللة أعاليها بأغصان الدوالي والأعراش، فإذا بلغ السائر إليها رفعت له منازل القرى البيضاء كأنها الحمائم في المروج، وفي أسفلها بحيرة واسعة تبلغ مساحتها ستة أميال تتدلى فيها أغصان ما حولها من الأشجار والأغراس.
كأراقم عطشى تدلت واردا
أو فاتحا للورد منها فاه
ثم تنفرج من أحد جوانبها فرجة واسعة بين صخور سوداء تنسرب منها مياهها وتصب في نهر الرون، وعلى صفحتها بعض زوارق للصيادين تدفعها الرياح فتجري أمامها كأنها السوابح في الميدان.
وعلى جانب هذا الوادي تقوم مدينة إكس ذات المياه الحارة المعدنية، ومن حولها أغراس الكروم وأشجار الصفصاف قائمة على صفين متقابلين بينهما طريق تؤدي إلى تلك البحيرة، وتنبسط عن جانبيها مروج خضراء تزينها الكروم بعناقيدها، وتظهر منها البحيرة على أشكال مياهها تبعا لألوان السماء بين صفو وكدر.
ولما وصلت إلى إكس وجدتها خالية من زوارها، ووجدت فنادقها وقاعاتها مقفولة الأبواب مقفرة من كل من كانت آهلة بهم ممن يقصدونها في أيام الصيف؛ طلبا للاستشفاء بمائها وهوائها، ولم يبق فيها إلا بعض سكانها الفقراء أو بعض مرضاها المعضلين. وكان يومئذ فصل الخريف، وقد أخذت أوراق الأشجار تتناثر عن غصونها تحت صقيع الصباح، والضباب يغشى الآفاق إلى حد الظهيرة حتى يسد ذلك الوادي فلا تعود تظهر منه إلا أعالي الأشجار الباسقة، وقمم الجبال الشاهقة، حتى إذا بلغت الشمس كبد السماء وهبت نسائم الهاجرة جلت ذلك الضباب عن تلك البحيرة كما تجلو كف العذراء صدى أنفاسها عن مرآتها، ثم تمر بين معاقل تلك الجبال فتسمع لها همهمة كأنين العاشق وزفير المشتاق، ثم يسود السكوت على أثرها لا تخالطه رنة ولا يكدره صوت حتى يكاد شاهدها يمسك أنفاسه خوفا من تكديره، ثم يعاود السماء بهاؤها، وتظهر جبال الألب شامخة الذرى في جلد أزرق صاف لا تغشاه كدورة ولا يمر فيه سحاب.
إلا أن ذلك لا يطول إلا ريثما تميل الشمس إلى مغربها فيقابلها ضباب الأفق كأنه يتلقاها بالراحتين ثم تتوارى بالحجاب، وتصبح الطبيعة بعدها كأنها ماتت كما يموت الشباب في نضارته ونمائه أو الجمال في ريعانه وبهائه. فكانت تلك البلاد في مثل ذلك الفصل وتلك المناظر على مثل شبابي وقلق أفكاري داعية إلى شرود نفسي وهواجس قلبي، فأغوص في بحر من الحزن عميق، كله تأمل وجمود، يضيع به فكري في ذلك الفضاء فأستريح منه حتى لا أحب أن يرجع إلي، وحتى عزمت على أن أستأنس إليه، وأنفر من كل مخلوق يكدر مسمعي إلى سكوت ووحدة وسكون لا أرى فيه غير مناظر الطبيعة وأعمال الله.
অজানা পৃষ্ঠা