وفي هذا التيه الحار الملتهب عثر الغزالي على رجل شديد الإيمان، شديد الورع، هو الإمام الصوفي «يوسف النساج» فصحبه معه، وأخذ يصقل روحه بالرياضة والمجاهدة حتى طرق معه باب اليقين والنور.
قال الغزالي:
كنت في مبدأ أمري منكرا لأحوال الصالحين ومقامات العارفين، حتى صحبت شيخي يوسف النساج، فلم يزل يصقلني بالمجاهدة حتى حظيت بالواردات، فرأيت الله تعالى في المنام، فقال لي: يا أبا حامد. فقلت: أو الشيطان يكلمني؟ قال لا، بل أنا الله المحيط بجهاتك الست. ثم قال: يا أبا حامد، زر مساطرك، واصحب أقواما جعلتهم في أرضي محل نظري، وهم الذين باعوا الدارين بحبي. قلت: بعزتك إلا أذقتني برد حسن الظن بهم؟ قال: قد فعلت، والقاطع بينك وبينهم تشاغلك بحب الدنيا، فاخرج منها مختارا قبل أن تخرج منها صاغرا، فقد أفضت عليك أنوارا من جوار قدسي. فاستيقظت فرحا مسرورا، وجئت إلى شيخي يوسف النساج، فقصصت عليه المنام، فتبسم وقال: يا أبا حامد، هذه ألواحنا في البداية، بل إن صحبتني ستكحل بصيرتك بإثمد التأييد، حتى ترى العرش ومن حوله، ثم لا ترضى بذلك حتى تشاهد ما لا تدركه الأبصار، فتصفو من الأكدار طبيعتك، وترقى على طور عقلك، وتسمع الخطاب من الله تعالى كموسى:
إني أنا الله رب العالمين .
فكان هذا هو الفيصل، وكانت تلك الرؤيا هي خاتمة الجهاد النفسي، وخاتمة الشكوك، وبداية اليقين والإلهام، والخيط الأول في الفلسفة الغزالية الروحانية.
كان التشاغل بالدنيا هو الحجاب الذي يجب على الغزالي أن يمزقه، وكان حب الله والتفاني في عبادته هو قطرة النور الأولى في هذا الفيض، فتصوف وسلك الطريق، وسار على الجادة؛ حتى كان طليعة القوم ودليل القافلة.
كان هذا الحب الإلهي هو إلهامه ودليله ورائده، فأصبحت رسالته عبادة ومحبة، وقد صبغ الوجود، وأفنى ذاته في جلال تلك المعاني حتى غدا العلم لديه تعبدا؛ لأنه يريه الله في كل شيء، ولأنه يجعل الطبيعة أمامه محاريب دائمة للصلاة والفكر.
وهكذا لجأ الغزالي إلى الاعتكاف والعزلة في جوانب المساجد ومناراتها، يعبد الله ويتأمل في آياته، ويفنى حبا وغراما.
جعل الغزالي الحب الإلهي هو غاية الحياة كما هو سر سعادتها، انظر إليه إذ يقول في توضيح السعادة:
سعادة كل شيء لذته وراحته، ولذة كل شيء تكون بمقتضى طبعه، وطبع كل شيء ما خلق له؛ فلذة العين في الصور الحسنة، ولذة الأذن في الأصوات الطيبة، وكذلك سائر الجوارح بهذه الصفة، ولذة القلب الخاصة بمعرفة الله سبحانه وتعالى؛ لأنه مخلوق لها، وكل ما لا يعرفه ابن آدم إذا عرفه فرح به مثل الشطرنج إذا عرفها فرح بها، ولو ينهى عنها لم يتركها، ولم يطق عنها صبرا، وكذلك إذا وقع في معرفة الله سبحانه وتعالى فرح بها ولم يصبر عن المشاهدة؛ لأن لذة القلب المعرفة، وكلما كانت المعرفة أكبر كانت اللذة أكبر؛ ولذلك فإن الإنسان إذا عرف الوزير فرح، ولو عرف المليك لكان أعظم فرحا، وليس موجود أشرف من الله سبحانه وتعالى؛ لأن شرف كل موجود به ومنه، وكل عجائب العالم أثر من آثار صنعته، فلا معرفة أعز من معرفته، ولا لذة أعظم من لذة معرفته، وليس منظر أحسن من منظر حضرته، وكل لذات شهوات الدنيا متعلقة بالنفس، وهي تبطل بالموت، ولذة معرفة الله متعلقة بالقلب فلا تبطل بالموت؛ لأن القلب لا يهلك بالموت، بل تكون لذته أكثر وضوءه أكبر؛ لأنه خرج من الظلمة إلى النور.
অজানা পৃষ্ঠা