مقدمة بسم الله الرحمن الرحيم قال عبد الله بن مسلم بن قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ: نَفَتتِحُ كتابَنا هذا بذكْر أسمائه الحُسنى، وصفاته العُلا (١)؛ فنُخبِرُ بتأويلهما واشتقاقهما؛ ونُتْبِعُ ذلك ألفاظا كثر تَرْدادُها في الكتاب لم نر بعض السُّور أولى بها من بعض؛ ثم نبتدئ في تفسير غريب القرآن، دون تأويل مُشْكله: إذ كنا قد أفْرَدْنا للمشكل كتابًا جامعًا كافيًا، بحمد الله. * * * وغرضنا الذي امتثَلْناه في كتابنا هذا: أن نختصر ونُكْمل، وأن نوضِّح ونُجْمِلَ؛ وأن لا نستشهدَ على اللفظ المُبْتَذَل، ولا نُكْثِرَ الدِّلالةَ على الحرف المستعمل؛ وأن لا نحشُوَ كتابنا بالنحو وبالحديث والأسانيد. فإنَّا لو فعلنا ذلك في نقل الحديث: لاحتجنا إلى أن نأتِيَ بتفسير السلف - رحمة الله عليهم - بعينه؛ ولو أتَيْنا بتلك الألفاظ كان كتابنا كسائر الكتب التي أَلَّفَهَا نَقَلَةُ الحديث؛ ولو تكلَّفْنا بعدُ اقتصاصَ اختلافِهم، وتبيينَ معانيهم، وفتْقَ جُمَلِهم بألفاظنا، وموضعَ الاختيارِ من ذلك الاختلاف، وإقامةَ الدلائل عليه، والإخبارَ عن العلة فيه -: لأسْهبْنا في القول، وأطلنا الكتاب؛ وقطعْنا منه طمعَ المُتحفِّظ، وباعدْناه من بُغْيَة المُتأدِّب؛ وتكلَّفنا من نقل الحديث، ما قد وُقِينَاه وكُفِيناه. _________ (١) العلا: جمع العليا، كما في اللسان ١٩/٣١٨.

1 / 3

وكتابنا هذا مستنبط من كتب المفسرين، وكتب أصحاب اللغة العالمين. لم نخرج فيه عن مذاهبهم، ولا تكلَّفنا في شيء منه بآرائنا غيرَ معانيهم، بعد اختيارنا في الحرف أَوْلَى الأقاويلِ في اللغة، وأشْبَهَهَا بقصةِ الآية. ونَبَذْنَا مُنكَرَ التأويل، ومَنحولَ التفسير. فقد نَحَلَ قومٌ ابنَ عباس، أنه قال في قول الله جل وعز: ﴿إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ﴾ (١) إنها غُوِّرتْ؛ من قول الناس بالفارسية: كُورْ بِكِرد (٢) . وقال آخر في قوله: ﴿عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلا﴾ (٣) أراد سَلْني سبيلا إليها يا محمدُ. وقال الآخر في قوله: ﴿وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ﴾ (٤) إن الويل: وادٍ في جهنمَ. وقال الآخر في قوله: ﴿أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ﴾ (٥) إن الإبل: السحابُ. _________ (١) سورة التكوير ١. (٢) في اللسان ٦/٤٧٢ - ٤٧٣ "كورْ بِكِرْ" وانظر الدر المنثور ٦/٣١٨، والبحر المحيط ٨/٤٣١، والإتقان ١/٢٣٨، والمعرب للجواليقي ٢٨٧. (٣) سورة الإنسان ١٨. (٤) سورة المطففين ١. (٥) سورة الغاشية ١٧، وفي اللسان ١٣/٥ "قال أبو عمرو بن العلاء: من قرأها (أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت) بالتخفيف، يعني به البعير؛ لأنه من ذوات الأربع يبرك فيحمل عليه الحمولة، وغيره من ذوات الأربع لا يحمل عليه إلا وهو قائم. ومن قرأها بالتثقيل، قال: الإبل: السحاب التي تحمل الماء للمطر" وانظر البحر المحيط ٨/٤٦٤ والكشاف ٤/٢٠٧.

1 / 4

وقال الآخر في قوله: ﴿ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ﴾ (١) -: إن النعيم: الماء الحار في الشتاء. وقال الآخر في قوله: ﴿خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾ (٢) -: إن الزينة: المُشطُ. وقال آخر في قوله: ﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ﴾ (٣) إنها الآرَابُ التي يَسجد عليها المرء؛ وهي جبهتهُ ويداه، وركبتاه وقدماه. وقال الآخر في قوله: ﴿أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأخْرَى﴾ (٤) أن تُجعل كلُّ واحدة منهما ذُِكَرًا؛ يريد: أنهما يَقومان مَقام رجل، فإحداهما تُذكِّر الأخرى. مع أشباهٍ لهذا كثيرة؛ لا ندري: أَمِن جهة المفسرين لها وَقَع الغلطُ؟ أو من جهة النَقَلة؟ وبالله نستعين، وإيّاه نسأل التوفيق للصواب. _________ (١) سورة التكاثر ٨. (٢) سورة الأعراف ٣١. (٣) سورة الجن ١٨، والقائل هو ابن عطاء، كما في البحر ٨/٣٥٢. (٤) سورة البقرة ٢٨٢.

1 / 5

اشْتِقَاقُ أَسْمَاءِ اللهِ وَصِفَاتِه، وَإِظْهَار مَعَانِيهَا ١- "الْرَّحْمنُ الرَّحِيمُ": صفتان مبنِيَّتان من "الرحمة". قال أبو عبيدةَ: وتقديرهما: نَدْمانُ، ونَدِيمٌ (١) . * * * ٢- ومن صفاته: "السَّلامُ". قال: ﴿السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ﴾ (٢) ومنه سُميَ الرجلُ: عبدَ السلام؛ كما يقال: عبدُ الله. ويرى أهل النظر - من أصحاب اللغة -: أن "السلام" بمعنى السلامة؛ كما يقال: الرَّضاعُ والرَّضاعة، واللَّذَاذُ واللَّذَاذة (٣) . قال الشاعر: تُحَيِّى بِالسَّلامَةِ أُمُّ بَكْرٍ ... فَهَلْ لَكِ - بَعْدَ قَومِكِ - مِنْ سَلامِ؟ فسَمى نفسه - جل ثناؤه - "سلامًا": لسلامته ممَّا يَلحق الخلقَ: من العيب والنقص، والفناء والموت. قال الله جل وعز: ﴿وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ﴾ (٤)؛ فالسلام: الله؛ ودارُه: الجنة. يجوز أن يكون سماها "سلاما": لأن الصائر إليها يَسلَمُ فيها من _________ (١) مجاز القرآن ٢١. (٢) سورة الحشر ٢٣. (٣) في اللسان ١٥/١٨١ "قال ابن قتيبة: يجوز أن يكون السلام والسلامة: لغتين كاللذاذ واللذاذة، وأنشد - البيت - قال: ويجوز أن يكون السلام جمع سلامة". (٤) سورة يونس ٢٥.

1 / 6

كل ما يكون في الدنيا: من مرض ووَصَبٍ، وموت وهَرَم؛ وأشباهِ ذلك. فهي دارُ السلام. ومِثلُه: ﴿لَهُمْ دَارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ (١) . ومنه يقال: السلامُ عليكم. يراد: اسمُ السلام عليكم. كما يقال: اسمُ الله عليكم. وقد بيَّن ذلك لَبِيدٌ، فقال: إلَى الحَوْلِ، ثُمَّ اسْمُ السَّلامِ عَلَيْكُمَا ... وَمَنْ يَبْكِ حَوْلا كَامِلا فَقَدِ اعْتَذَرْ (٢) ويجوز (٣) أن يكون [معنى] "السلامُ عليكم": السلامةَ لكم. وإلى هذا المعنى، يَذهب مَن قال: "سلامُ الله عليكم، وأَقرِئْ فلانًا سلامَ الله". وقال: ﴿وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ﴾ (٤)؛ يريد: فسلامةٌ لك منهم؛ أي: يُخبِرُك عنهم بسلامة. وهو معنى قول المفسرين. ويُسمَّى الصوابُ من القول "سلاما": لأنه سَلِم من العيب والإثم. قال: ﴿وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا﴾ (٥)؛ أي: سَدادًا من القول. * * * ٣- ومن صفاته: "القَيُّومُ" و"القَيَّامُ". وقُرِئ بهما جميعا. وهما "فَيْعُولٌ" و"فَيْعَالٌ" (٦) . من "قمتُ بالشيء": إذا وَلِيتُه. كأنه القَيِّم بكل شيء. ومثله في التقدير قولهم: ما فيها دَيُّورٌ وَدَيَّارٌ (٧) . _________ (١) سورة الأنعام ١٢٧. (٢) خزانة الأدب ٢/٢١٧، ومجمع البيان ١/٢٠، ومجاز القرآن ١٦، وتفسير القرطبي ١/٩٨. (٣) نقله أبو جعفر الطبري في تفسيره بنصه ١٥/٤٠ - ٤١. (٤) سورة الواقعة ٩٠ - ٩١. (٥) سورة الفرقان ٦٣، وانظر مفردات الراغب ٢٢٩. (٦) مفردات الراغب ٤٢٩. (٧) في اللسان ٥/٣٨٥ "ما بالدار دوْريّ ولا ديار ولا ديور، على إبدال الواو من الياء، أي ما بها أحد".

1 / 7