إهداء
مقدمة
1 - حياة كاتولوس
2 - غرام كاتولوس بليسبيا
3 - أشعار كاتولوس
4 - قصائد كاتولوس
5 - غراميات كاتولوس الأخرى
6 - مختارات من قصائد كاتولوس
إهداء
مقدمة
1 - حياة كاتولوس
2 - غرام كاتولوس بليسبيا
3 - أشعار كاتولوس
4 - قصائد كاتولوس
5 - غراميات كاتولوس الأخرى
6 - مختارات من قصائد كاتولوس
غراميات كاتولوس
غراميات كاتولوس
فطحل شعراء الغزل الرومان
جمع وترجمة
أمين سلامة
إهداء
أيها الملاك الطاهر،
أيها القلب العامر،
أيها الجمال السافر،
أيها العصفور الطائر،
أيها الروح الحائر،
خذ هذا مني؛
فهو منك،
وهو إليك.
فلئن تجد فيه نداء
فاسمك في صدره نداء،
ولئن تجد فيه ضياء
فاسمك في قلبه نور،
ولئن تجد فيه سناء
فاسمك في ذيله هلال.
مقدمة
كانت إحدى أمنياتي أن أتناول أشعار «كاتولوس»؛ ذلك المتغزل الروماني، وأعرف بها القارئ العربي. كانت أشعار هذا الشاعر الشاب تثير في شتى العواطف، فاتخذتها تارة عزائي وطورا غذائي. كانت بساطتها تعجبني، وطرافتها تسحرني، وندرتها تسبيني، ومضمونها يفتك بأعصابي فيطربني حينا وحينا يبكيني. وكثيرا ما كنت أتخيل كاتولوس هذا، كاتب تلك الأشعار الجميلة؛ فيصوره لي خيالي شابا مليح الوجه، واسع العينين، رضي النفس، طيب السريرة، عكس ما حملته لنا الكتب بين دفوفها في وصفه، ووصف دعارته وإدمانه على الشراب، ونعته بما قد يشتهي ولا يشتهي من ضروب الصفات.
لقد أحببت كاتولوس هذا من أشعاره، ولا أخالني مبالغا لو قلت إنني تمنيت الحياة في عصره؛ لأحظى بعشرته وأنعم بمجالسته وأستمتع بعذب حديثه.
فأي قسوة هذه قد قساها القدر يوم أن حكم على كاتولوس، ذلك الشاعر الحبيب، بالموت المبكر وهو في عنفوان الشباب؛ فحرمنا بذلك حلاوة أشعاره ومنعنا طلاوة غزلياته، وسلبنا هذا الروح الشاعري النادر، وذلك الفكر السليم الناضج وذاك العقل السديد المبدع! فلو أن كاتولوس قد عاش طويلا؛ فأي إلهام جديد كان سيتفتق عنه ذهنه؟ وأي إبداع مبتكر كانت الأجيال ستتمشدق به؟ وأي كنز من الشعر هذا الذي كنا سنحظى بقراءته اليوم؟
إن قارئ كاتولوس سيلمس من أول وهلة عبقرية هذا الشاعر، وسيدرك من فور مقدرته الفائقة في التعبير والتصوير، كما ستروقه عواطفه المتأججة وأحاسيسه الملتهبة ، التي تنبض بها أشعاره الغزلية، حتى لتكاد تزيح لنا الستار عما يجيش بصدر هذا الشاعر من اضطرابات عاطفية، كانت تهز كيانه هزا.
ولقد بلغ بي حبي لمنظومتي كاتولوس عن عصفور حبيبته؛ أنني اشتريت قفصا به عصفور، وجعلت العصفور موضع دراستي لحين من الزمان. كنت أتأمل العصفور تارة وهو يغرد، وطورا وهو يقفز هنا وهناك في أرجاء القفص، وكنت أحيانا أدخل يدي في القفص، وأدع العصفور يقف بين أصابعي ويطير حول يدي، حتى صارت يدي تأنس لوقفات العصفور عليها، وصار العصفور يطمئن إلى يدي، إلى أن اجتاحني الشعور بأن العصفور قد عرف شخصي خير معرفة، وأننا نبادل بعضنا حبا بحب، مثلما كانت حبيبة كاتولوس تبادل عصفورها الحب، ويبادلها هو بحب مماثل.
كان لهذا الشعور أثره الكبير عندما قمت بترجمة هاتين المنظومتين بالذات؛ فلم أكن لأحس بأنني أنقل كلمات كاتولوس اللاتينية إلى ألفاظ عربية، بل كنت أحس تماما بأنني الشاعر نفسه يكتب المنظومتين من جديد باللغة العربية، بعين الإحساس الذي كان قد اعتور كاتولوس يوم حاول أن يكتب قصيدتيه عن العصفور العجيب، الذي هو عصفور حبيبته. وقد لا يصدقني القارئ لو قلت له إنني فوجئت في أثناء ترجمتي لهاتين القصيدتين بموت العصفور، تماما كما مات عصفور الحبيبة. وإذ رأيت القفص وقد ركدت فيه الحياة بوفاة العصفور؛ أحسست بوجوم غريب وبحزن دفين، وكادت عيني تدمع كما أدمعت عيون حبيبة كاتولوس يوم مات عصفورها العزيز.
وأحسب أن سر الجمال الذي تنبض به أشعار كاتولوس ليس فقط ما فيه من قدرة فائقة على إثارة تباريح قلب أي متيم غرقان في بحار الحب، ولكن ما فيه أيضا من قدرة على مناجاة القلوب عامة؛ ما عمر منها بالحب وما قفر منها من كل خلجة من خلجاته. فما أقدره حقا على تحريك القلوب التي قدت من صخر، والتي لم تنعم يوما بحب ولم تشق أبدا بلواعجه!
فكاتولوس ذلك الشاعر الشاب، قد انطلق في أشعاره انطلاقا حرا جعله أبعد ما يكون من التحفظ أو الإباحية، وأقرب ما يكون من الشاعر المفطور على السجية الحرة الأبية؛ تراه قد سطر مشاعره كما أحس بها دون خوف أو خجل، وعرض مشكلة حبه كما ألمت به دون تحفظ أو مواربة، وصور خلجات قلبه خلجة بعد خلجة دون حياء أو تردد، وتناول سعادة حبه غير ناس ما لاقاه فيه من مرارة وشقاء. وهكذا نجح شاعرنا في تخليد اسم محبوبته على صفحات التاريخ بتلك الأبيات البسيطة القوية، القصيرة العميقة، وبتلك القصائد النادرة في سموها، الرائعة في مضمونها، المحكمة في ألفاظها، الملتهبة في عواطفها، المنتقاة في قوافيها، المبتكرة في أوزانها، الفريدة في غزلياتها.
ولم يكن كاتولوس بالشاعر الذي يمتاز بصدق العاطفة وعمق المشاعر فحسب، بل كان يمتاز أيضا بخفة الظل وحلاوة الروح وملاحة النكتة وطرافة الفكرة، حتى يمكننا أن نلقبه أيضا بالشاعر المرح الخفيف الظل.
ولا يسعني الآن وأنا أنقل أشعار كاتولوس إلا أن ألفت نظر القارئ الكريم إلى أنني لم أنقل جميع أشعار كاتولوس، بل اكتفيت بهذا القدر الذي يكشف لنا أولا وقبل كل شيء عن قصة غرامه بليسبيا، والمراحل المختلفة التي مر بها هذا الحب الجارف، الذي كان مدار حديث الناس في العصر الذي عاش فيه الشاعر. ثم ما عدا ذلك من القصائد التي تميط اللثام عن الغراميات الأخرى، التي تورط فيها كاتولوس مع فتيات أخريات، وهي لا تقل في طرافتها وجمالها عن غرامه الكبير بليسبيا.
ولقد شجعتني بساطة بعض قصائد الشاعر الأخرى على نقلها إلى العربية كي أتيح للقارئ الشرقي أن يلمس عن كثب ما يتمتع به هذا الشاعر الخالد من روح خفيف ومزاح طريف وذوق سليم في انتقاء المواضيع التي يكتب فيها.
واليوم إذ تتحقق أمنيتي فأرى أشعار كاتولوس الغرامية منشورة على الملأ، يسعدني حقا أن تلقى هذه الأشعار عند القراء الأعزاء ما لقيته عندي من مزيد تقدير وإعجاب.
أمين سلامة
جاردن ستي في 10 يوليو 1955م
الباب الأول
حياة كاتولوس
لعب الحظ دورا رئيسيا في تخليد أشعار كاتولوس، ذلك الشاعر الروماني الذي اشتهر بغزلياته، ومن ثم في معرفة بعض ما يجب معرفته عن حياته. فلو أن الحظ لم يحرص على صيانة النسخة الخطية الوحيدة لأشعار كاتولوس، ولم يضعها في يد أحد نساخي فيرونا
Verona ؛ لما انتشلها هذا الأخير من الضياع والاندثار بعد أن طال الأمد على فقدانها، حتى كاد المهتمون بالأدب الروماني القديم ييئسون من العثور عليها. فلو لم يقم الحظ بهذا الجميل البين، وهذه الخدمة الجليلة والمساعدة القيمة؛ لحرمنا من عبقرية هذا الشاعر الغزلي الخفيف الظل، ولفوت علينا متعة الاطلاع على هذا اللون الفريد من العشق الروماني القديم، الذي انفردت به أشعار كاتولوس، والذي قلما استطاع شاعر قبله أو بعده أن ينظمه بهذه البراعة، وتلك البساطة، أو هذا الجمال الشعري الساحر الجذاب.
بيد أن أشعار كاتولوس، وإن كانت تميط اللثام عن حياة اللهو ودنيا الغرام إبان تلك العصور الخالية، إلا أنها تزيح الستار أيضا عن الحياة العامة في تلك الحقبة التي عاشت فيها روما قبل أن تتدثر بدثار الإمبراطورية القشيب، مصورة لنا بخيال فتى جمهوري عرك الحياة، كشاب نزق وكشاعر ملهم ملتهب الأحاسيس.
وجدير بالاعتبار أنه يجب علينا ألا ننسى أصدقاء كاتولوس الآخرين الذين احترفوا مهنة الكتابة، كما يجب ألا يغيب عن بالنا ما تعرضت له كتاباتهم وأعمالهم الأدبية من الموت المبكر، ومن ثم نستطيع أن نستبين فضل القدر العظيم علينا وعلى أجيالنا، بأن قيد سبيل النجاة لكاتولوس وحده من بين حشد كتاب عصره الكثيرين، فأبقاه لنا كخير قبس تستضيء به الأجيال للوقوف على أدق تفاصيل الحياة العامة في خضم العالم الذي عاش فيه.
فمن يكون كاتولوس هذا؟ ومن أي بيت انحدر؟ وأي حياة تلك التي عاشها؟ وكيف خلقت منه الأيام ذلك الشاعر المرهف الأحاسيس النقي السريرة؟
لم يولد كاتولوس في روما ولا في مدينة عظيمة من مدن إيطاليا المشهورة، ولكن في بلدة صغيرة بأحد تخوم إيطاليا تسمى فيرونا، وكانت ملتقى عدة طرق؛ منها طريق جنوبي إلى بدرياكوم
Bedriacum
ومانتوا
Mantua ، وطريق آخر شرقي صوب أكويليا
Aquileia
والبحر الأدرياتي، وثالث غربي إلى ميديولانوم
Mediolanum
وبلاد الغال. ومن ثم كانت فيرونا تتمتع بمركز حيوي حربي تصبو إلى احتلاله نفوس الجيوش، وتطمع عيون القواد في السيطرة عليه.
وما يعنينا في بحثنا هذا لا ينحصر في أهمية مركز فيرونا الحربي، بقدر ما ينصب على أهمية هذه البلدة كمسقط رأس الشاعر كاتولوس، وكبقعة قد حبتها الأقدار بقسط وافر من روعة المناظر الطبيعية وسحر الطبيعة الفتان. فمما لا ريب فيه أن فيرونا تفوق شتى بلدان إيطاليا في هذا المضمار بالذات، وفي هذا يقول المستر هويلز
Mr. W. D. Howells : «ما من مدينة تتمتع ببقعة أروع جمالا وأبهى رواء من تلك التي تحتلها فيرونا السعيدة، تلك البلدة التي تتنفس من هواء الجبال النقي، والتي تلفها الثلوج في غلالة ناصعة البياض شتاء، وتكسوها في الصيف حقول الكروم الخضراء ذات العناقيد القرمزية الشهية، وفضلا عن ذلك فإنها غنية دائما بالمرمر.»
ويجب ألا يتطرق إلى الذهن أن هويلز قد آثر المغالاة في وصفه لفيرونا، بل حسبك أن تأخذ كلامه على علاته؛ لأنه لم يطلب به غير إرضاء الحقيقة وتقرير الواقع.
وليست فيرونا جميلة في حد ذاتها فتخلب عقول مشاهديها فحسب، بل تقع أيضا على مسافة قريبة من جاردا
Garda
بحيرة بيناكوس
Benacus
الرومانية، التي تعتبر بحق من أجمل بحيرات إيطاليا وأكثرها فتنة للعين. ومن ثم فإن البطاح التي كانت تحيط بفيرونا في العصور الرومانية الغابرة، لا تختلف كثيرا أو قليلا عما هي عليه الآن. وكلها تجعل من فيرونا ذلك الفردوس المشرق من أشجار الكروم والزيتون والتوت، وأغصان الغار الزكية الرائحة، الذي له أكبر الفضل في إذكاء أرق المشاعر القلبية في صدر كاتولوس، وتحبيبه في كل صوت جميل أو منظر بهيج.
ولد كاتولوس في فيرونا، أو ربما في إحدى ضواحيها القريبة، وهذه الحقيقة يذكرها لنا أوفيديوس
Ovidius
فيما كتبه إذ يقول: «تغتبط مانتوا بفرجيل، وفيرونا بكاتولوس.»
ويجمع المؤرخون على أن كاتولوس ولد في عام 84ق.م. ولا يشذ عنهم غير سانت جيروم الذي يجعل تاريخ ميلاده عام 87ق.م. بدلا من 84ق.م. وعلى كل فإن كاتولوس قد ولد قبل عودة سولا
Sulla
من الشرق على رأس كتائبه الظافرة؛ ليضع حدا لأعمال النهب والسلب وجرائم القتل الساتورناليا المارية
Marian Saturnalia .
ويحتمل أن يكون لكاتولوس شقيق واحد، يكبره سنا، وكان والده من رجال الحي البارزين، ومن أصحاب النفوذ والسلطان، حتى إنهم كانوا يضعونه وسط القائمة التي تتضمن أصدقاء يوليوس قيصر المقربين.
وهناك احتمال آخر بأن أباه كان أحد متعهدي الجيوش، الذين - كما هو الأمر الآن - وجدوا في الحرب عملا مربحا؛ فكان يمد قوات قيصر بالآلات الحربية والمؤن، كما كان يعمل ممثلا لقيصر في بيع الأسلاب الغالية في السوق الرومانية. فلو صح هذا الاحتمال، فإن ضيعته وبيته الريفي الذي يقع على ضفاف شبه جزيرة سيرميو
Sirmio
في بحيرة جاردا، لم يستخدمهما كاتولوس كمصيف تأوي إليه العائلة للراحة والاستجمام فحسب، بل وكمستودع لحفظ المؤن الحربية وهي تشق طريقها نحو الغرب.
نستنتج من هذا أن كاتولوس الصغير كان يمضي فصلي الصيف والخريف من كل عام في ذلك الجو الريفي الهادئ وسط تلك المناظر الخلابة من الخضرة اليانعة، والماء العذب القراح الذي كان ينساب كأسلاك فضية على بسط زبرجدية تحت أشعة الشمس الدافئة. أما فصلا الشتاء والربيع فكان يقضيهما في خضم مدينة فيرونا.
ومن المفهوم أن كاتولوس كان يتلقى في المدينة دروسه في الخطابة، التي هي أهم علم كان يتضمنه برنامج التعليم الروماني، إلا أن الأمر في حالة كاتولوس اختلف بعض الشيء؛ فقد تلقى إلى جانب دروس الخطابة تعاليم أخرى، وجدت في نفسه هوى أعظم وميلا فطريا أكثر؛ ألا وهي تعاليم فاليريوس كاتو
Valerius Cato
الأدبية، فإن كاتو - كما يعرفنا بذلك سويتونيوس
Suetonius - كان يلقي في ذلك الحين محاضرته على أبناء الأثرياء في الأحياء المجاورة. ولا شك أن الأدب اللاتيني يدين لكاتو بأكثر مما يلاحظ أحيانا؛ لأنه كان أسبق الأدباء الذين عرفوا الشعراء السكندريين بحلقات من المستمعين الرومانيين، ودربوا مدرسة كاملة من الشعراء الصغار الذين يسميهم شيشيرون مغني يوفوريون
Cantores Euphorionis ، على ثقافات من الفن السكندري.
وليس من شك في أن كاتولوس قد تعرف تحت إشراف كاتو بالشعراء الأغارقة الذين عاشوا في مختلف العصور؛ ابتداء من هوميروس إلى كاليماخوس
Callimachus ، إلا أن كاتولوس لم ينس أن يصدر أحد أشعاره (المنظومة 56) باسم أستاذه كاتو، الذي مات معدما معسرا بعد أن مات هو بسنوات عديدة.
ويجب ألا يغيب عن بالنا ما كان للثراء من أثر في شاعرنا هذا الصغير؛ فلقد جرفه ثراء أبيه في تيار الغواية الذي تحرر منه زملاؤه الفقراء من طلاب العلم الذين كانوا يكبرونه سنا. ولا ريب أن هناك بين أشعار كاتولوس ما يدل دلالة صريحة على نوع الحياة التي كان يحياها في فيرونا أيام الطيش والجهل. ويحتمل أن كاتولوس قد كتب أمثال هذه الأشعار كي يلفت الأنظار إليه، وحتى يغنم من ورائها ما كان يهدف إليه من صيت؛ كأن يشتهر في مسقط رأسه بأنه ذلك المغامر الجسور. ولهذه الأشعار الفضل الأكبر في اهتمام كلوديا بكاتولوس، بل وفي قيام تلك العلاقة الغرامية بينهما. ولقد كان لقاء كاتولوس بهذه السيدة في فيرونا نقطة التحول الكبرى في حياته وكتاباته، فلما اضطر إلى اقتفاء أثر كلوديا في روما في ربيع عام 61ق.م. هجر كاتولوس من غير شك ملذات الريف الحقيرة، وانصرف إلى عاصمة الدنيا بمباهجها الساطعة الخطيرة.
ومما لا يتطرق إليه أي شك أن كلوديا كانت تلعب دورا رئيسيا في تلك الدسائس السياسية التي كانت موضوع حديث الناس في كل شهر من شهور عامي 60، 61ق.م. ولكننا نفتقر إلى دليل واحد نستخلص منه أن حبيبها اليافع قد لعب في هذه الأحداث السياسية أي دور يذكر؛ فإن ملذات العاصمة ومباهجها قد جرفته بلا ريب إلى صنوف أخرى من الهوايات والميول. ولو حدث أن عفت نفس كاتولوس هذه الملذات؛ لألفيناه ينعكف على الشعر يقرضه وينظمه أنغاما وأوزانا.
ولقد حدث في روما في ذلك الوقت ولأول مرة في تاريخ هذه المدينة العريق، أن قام ميل أدبي واضح بين بعض طبقات المجتمع، تزعمه في شيء من الحماس المحمود طائفة من شباب الشعراء، الذين قدم معظمهم من شمال إيطاليا ويدعون «الشباب». فانضم إلى هذه الندوة شاعرنا كاتولوس، وسرعان ما أصبح واحدا من روادها، ومن أكبر قادة رسالتها الأدبية.
كانت الروابط بين جمهرة أصدقاء كاتولوس عديدة، وإن كان هؤلاء الأصدقاء جميعا يدينون بالولاء إلى فاليريوس كاتو الذي أضفت عليه ليديا
Lydia
المزيد من الشهرة والصيت، والكثير من الربح الوفير؛ مما مهد له شراء البيت الريفي التوسكولي
Tusculan Villa ، الذي اضطر كاتو فيما بعد إلى التنازل عنه لدائنيه. وقد كانوا جميعا من المعجبين بالمدرسة السكندرية التي تعارض الفكرة القائلة بأنه من أول واجبات الشاعر أن يكون وطنيا؛ لأنهم جميعا كانوا مكبين على دراسة فنهم بكل معاني الجد والاهتمام، لا يبخلون بوقتهم أبدا في أي نقاش يدور حول هذا الموضوع، بل كثيرا ما كان يحتدم الجدل فيما بينهم حول قواعد الشعر وأسس النظم. ولقد انتهى بهم الأمر جميعا إلى الهيام بالحب والغرام، حتى أصيبوا بآلامه وتباريحه، وبنعمائه ولذاته، ولم يتورع الذين لم يعرفوا الهوى، من أن يتظاهروا بأنهم غرقى في بحاره. وكان من بين هؤلاء رجل من كريمونا
Cremona
يدعى فوريوس بيباكولوس
Furius Bibaculus ؛ وهو الذي اشتهر فيما بعد بقذفه اللاذع في يوليوس قيصر، والذي يحتمل أن يكون هو نفس فوريوس الذي تناوله كاتولوس في منظومته السادسة والعشرين، والتي يأتمنه فيها على ذلك الموقف التعس الذي يعانيه بيته الريفي.
أي فوريوس،
إن بيتي الريفي الصغير
لا يتعرض لهجوم
لفحات أوستير،
أو لفحات فافونيوس
وبورياس العاتي
وأفيليوتيس أيضا،
ولكنه يتعرض لعصفة
خمسة عشر ألف
ومائتي ريح باردة.
فيا لها من حالة جوية مفزعة.
وكان من بينهم أيضا كايكيليوس
Caecilius
أحد مواطني نوفوم كوموم
Novum Comum ، الذي كان قريبا إلى جوار الشاعر؛ ولذا نجد كاتولوس يشير في منظومته الخامسة والثلاثين إلى الربة العظيمة كوبيلي
Cybele ، التي كانت لب موضوع منظومة كايكيليوس:
إنني يا فتاتي
أحس بإحساسك،
أنت يا من تبذين
ربة الشعر سافو،
فإن كايكيلوس حقا
قد صدر قصيدته «الماجنا ماتير»
بمقدمة آية في الروعة.
أما ثالث هؤلاء فقد كان جيوس هيلفيوس كينا
Gaius Helvius Cinna
من بريكسيا
Brixia ؛ وهو ذلك الشاعر الذي لقي حتفه خطأ على يد السابلة في حفل دفن جثمان قيصر. وقد ألف «سميرنا»؛ وهي ملحمة قصيرة نتيجة جهد متواصل دام تسع سنوات، يروي لنا فيها كينا غراميات مورا
Myrrha
المحرمة مع أبيها كينوراس
Cinyras ، ولقد ورد ذكر كينا وملحمته هذه في صدر المنظومة الخامسة والتسعين من أشعار كاتولوس: (سميرنا) صديقي كينا،
التي نشرت أخيرا
بعد تسعة فصول حصاد،
وانقضاء تسعة أخرى مشات
منذ الابتداء فيها،
بينما في عام واحد
كتب هورتينسيوس
خمسمائة ألف بيت من الشعر.
كان هؤلاء الثلاثة غاليين، ومن الأغراب الوافدين إلى روما، أما الأعضاء الآخرون المنتمون إلى ندوة هذا الشاعر، فكانوا ينتسبون إلى عائلات إيطالية عريقة في القدم؛ فقد كان هناك كورنيفيكيوس
Cornificius
مؤلف ملحمة جلاوكوس
Glaucus
القصيرة، والذي كانت أخته كورنيفيكيا شاعرة أيضا، وقد لقي حتفه في ميدان القتال إبان الحروب الأهلية، التي اضطرمت نيرانها في عام 41ق.م. وكان وقتذاك حاكما على أفريقيا، حيث هجره جنوده الذين اعتاد أن يسميهم «أرانب في خوذات». ويأتي ذكر كورنيفيكيوس هذا على لسان كاتولوس في منظومته الثانية والثلاثين.
وكان هناك أيضا أسينيوس بوليو الصغير
Asinius Pollio
من تياتي
Teate ، وكانت سنه في ذلك الوقت لا تزيد على سن فتى غض الإهاب، كما تصرح بذلك منظومة كاتولوس الثانية عشرة، وهو الذي اشتهر فيما بعد كصديق لكل من هوراتيوس
Horatius
وفرجيل
Virgilius .
ومن أصدقائه أيضا مانليوس توركواتوس
Manlius Torquatus
ابن أحد قناصلة عام 65ق.م. الذي طار صيته في الآفاق إثر إعدامه كورنيليوس سولا
Cornelius Sulla
بتهمة الاشتراك في مؤامرة كاتيلينا
Catilina ، والذي كتب كاتولوس إحدى منظوماته تكريما لزواجه من جونيا أورونكوليا
Junia Aurunculeia .
هذا فضلا عن صديقي كاتولوس الحميمين اللذين ولدا بمحض الصدفة في يوم واحد؛ وهما ماركوس كايليوس روفوس
Marcus Caelius Rufus
وجيوس ليكينيوس كالفوس
Caius Licinius Calvus .
لم يتمتع واحد من هؤلاء بما كان يتمتع به كاتولوس، من الذكاء والعبقرية غير كالفوس الذي طبق صيته الأفاق لا كشاعر فحسب بل وكخطيب مفوه، ورغم أنه كان قصير القامة فقد كان ألد منافسي شيشيرون.
ولقد كان حديثه ضد فاتينيوس شديد الوقع، حتى إن المدعى عليه التعس صاح في هيئة المحلفين: «أيها الأخيار، أيحق أن أتهم بفضل فصاحة خصمي؟!» أما أشعاره وهجائياته السياسية فليس لدينا منها إلا كسر تدعو إلى الرثاء، ولم يكن من بينها ما يدعو حقا إلى الإعجاب، وما يتصف بالروعة والجمال غير البيتين اللذين كتبهما عن بومبي ، واللذين يفوقان في عنفهما ما كتبه كاتولوس في هجاء قيصر:
عظيمنا الذي يخشاه العتاة،
يحك رأسه بأصبعه.
ماذا يريد؟ وا عجباه!
لعله يهوى رفيقة لمضجعه.
ويضع هوراتيوس وأوفيديوس الشاعرين في مرتبة واحدة، أما موت كالفوس المبكر في سن الخامسة والثلاثين فقد كان فجيعة للأدب اللاتيني، لا تقل عن فجيعته بموت كاتولوس نفسه.
وكان مصدر غبطة هذه الجماعة من الشعراء الناشئين أن نشر كاتولوس أول كتيب له في عام 60ق.م. وكان يتضمن مجموعة من أشعاره الأولى في لسبيا، وبعض محاولات شاعر فيرونا إبان ميعة الصبا ونعومة الظفر. ولقد صدر كاتولوس كتيبه هذا بمقدمة هي القطعة الأولى من منظومات الشاعر المترجمة بهذا الكتاب، ومنها يفهم أن الشاعر يصدر كتابه لأبرز شخصية غالية كانت في روما وقتذاك؛ ألا وهي شخصية كورنيليوس نيبوس
Cornelius Nepos ، المؤلف المشهور الذي كتب كتابي «حياة مشاهير الرجال» و«تاريخ العالم»، والذي لم تخرج كلمات كاتولوس عن مديحه وتمجيده؛ الأمر الذي دفع نيبوس إلى رد هذا الجميل فيما بعد بجميل مماثل، فلم ينس عند الكلام عن «حياة أتيكوس
Atticus » أن يضع كاتولوس في قائمة واحدة مع لوكريتيوس
Lucretius
كأعظم شعراء عصرهما.
ولقد قضى كاتولوس معظم السنوات الثلاث التالية إما في روما أو باياي
Baiae ، أو في بعض الأماكن الأخرى التي يجد فيها الإنسان المتعة والسرور، مكرسا بعض الوقت كما نعتقد لكتابة الشعر، هذا وإن كان شغله الشاغل إبانها انحصر في كلوديا وفي تلك الجماعة من الشباب المرح الوثاب أمثال فاروس
Varus
وفلافيوس
Flavius
وكاميريوس
Camerius
ونسائهم.
وفي هذا الوقت بالذات تقع أحداث سياسية؛ ذلك لأن بومبي وكراسوس
Crassus
وقيصر، كانوا قد غامروا بمواردهم من الجنود والمال والحنكة ضد الدستور القديم، كما أصبح قيصر في عام 59ق.م. قنصلا، وذهب في العام التالي إلى بلاد الغال ليتبوأ هناك منصبا دائما لمدة خمس سنوات. وفي ربيع نفس العام دبر كلوديوس خطة لنفي شيشيرون، كما بدأ في روما الاعتماد على حكم العامة العنيف رغم أنف بومبي، واستمر ذلك ثمانية عشر شهرا كاملة .
بيد أن هذه الأحداث السياسية كلها لم تكن لتثير كاتولوس ، أو على الأصح كانت في المرتبة الثانية بالنسبة إلى شئونه الشخصية، غير أن الأزمة التي أصابت ثروته الخاصة، كانت وحدها العامل الأول الذي دفع كاتولوس إلى أن يقبل هو وهيلفيوس كينا
Helvius Cinna
منصبا ضمن هيئة العاملين مع جيوس ميميوس
Caius Memmius
مالك بيثينيا.
وكان ميميوس هذا الذي صدرت باسمه منظومة لوكريتيوس عن طبيعة الأشياء
De rerum natura ، من غواة الشعر كزميله كالبورنيوس بيسو
Calpurnius Piso
قنصل مقدونيا السابق، وكان قد انضم إليه في ذلك الوقت صديقان آخران من أصدقاء كاتولوس هما فيرانيوس
Veranius
وفابولوس
Fabullus ، ويحتمل أن الحاكمين قد اعتبرا تعيينهما هذا دليلا قاطعا على إخلاصهما للأدب.
ولكن الأمر في حال الأربعة يشير إلى أن المجد المكتسب يفوق الربح المقتنى.
ولقد أمضى كاتولوس عاما واحدا في وظيفته، ثم عاد في ربيع عام 56ق.م. ساخطا حانقا، وكان قد اشترى لأجل هذه الرحلة ذلك الزورق السريع الذي وصفه لنا في المنظومة الرابعة، والذي كان في مقدوره أن يجلبه من أماستريس
Amastris ، مينائها الأول إلى البروبونطيس
. فلما ركب كاتولوس ظهر زورقه في كيوس
Cios ، زار أولا وقبل كل شيء قبر أخيه في طرود
Troad ، وبعد أن مر بمدن سواحل آسيا الصغرى المشهورة عبر بحر إيجة، عن طريق رودس وديلوس وكيكلاديس
Cyclades
إلى مضيق كورنثة، ثم نقل الزورق إلى خليج كورنثة ليبحر شمالا عبر البحر الأدرياتيكي، ومن هناك عبر نهر البو
po
ومينيكيو
Minicio
إلى حيث بحيرة جاردا.
ويبدو أن كاتولوس أمضى العامين الأخيرين من حياته في سيرميو وفيرونا، ولم يخل الأمر من زيارات خاطفة إلى روما مفكرا - كما فعل كيتس
Keats
من بعده - في موت شقيقه وفي حبه التعس، آملا أن ينسى أحزانه وقرض الشعر. ولهذه الحقبة من الزمان ينتمي عدد لا يستهان به من أشعار كاتولوس القصيرة؛ أفضلها منظومته عن أكمي وسيبتيميوس
Acme & Septimius ، وأردؤها ما كتبه عن مامورا
Mamurra ، ويتجلى فيه ما بين الشاعر ومامورا من تحامل شخصي محض مرده أميانا
Ameana ؛ تلك السيدة التي كان بينها وبين الفضيلة حب مفقود، كما كانت ذات يوم موضوع حب كاتولوس حتى هجرته إلى أحضان القائد ...
الباب الثاني
غرام كاتولوس بليسبيا
تداعب قصص الغرام بسحرها المغري خيال الشباب والشيوخ من الجنسين فتجيش لها أقوى العواطف، كما يستجيب لها أكثر المشاعر العالمية. بيد أنه عندما تكون المحبوبة من ألمع شخصيات عصرها؛ فإن نفوذها لا ينبسط على المسرح السياسي فحسب، بل وعلى المجتمع أيضا، فيبلغ نفوذها شأوا لا يقل في عظمته عن خطورته، فيزداد الأمر عندئذ أهمية ويكون لأدق التفاصيل في حياة الحبيبة الخاصة قيمتها البالغة لدى المؤرخ والتربوي. فإن حدث وكان الطرف الثاني شاعرا غراميا؛ فإنه يسجل في أشعاره جميع مراحل علاقته الغرامية منذ أول لحظة من لحظات الطرب والسرور إلى آخر شقوة من شقوات الحب الفاشل دون أن يترك أي نقد أدبي لشعره، مهتما أشد الاهتمام بالتعبير الدقيق عن كل خلجة من خلجات الحس، حتى تبدو صورة رائعة للمشاعر والعواطف الإنسانية، مجسمة ناطقة. فلعل هذا وحده من الأسباب الأولى التي تجعل من قصة غرام ليسبيا وكاتولوس موضوعا جديرا بالتسجيل وقصة خليقة بالذكر، ورواية غرامية تتجاوب مع العواطف الإنسانية الرقيقة، وإن كانت لا تخلو من تباريح الهوى ومن النيران المتأججة المستعرة التي يكوى بها قلب كل محب. ولعل غرام كاتولوس هو الذي صدق فيه قول الشاعر العربي:
سلني عن الحب يا من ليس يعلمه
ما أطيب الحب لولا أنه نكد!
طعمان حلو ومر ليس يعدله
في حلق ذائقه مر ولا شهد
أو قول زميله:
سلني عن الحب يا من ليس يعلمه
عندي من الحب إن ساءلتني خبر
إني امرؤ بالهوى ما زلت مشتهرا
لاقيت فيه الذي لم يلقه بشر
الحب أوله عذب مذاقته
لكن آخره التنغيص والكدر
فقد كان غرام كاتولوس حقا مزيجا من الحنظل والشهد، خليطا من المسرات القلبية والآلام النفسية. ولقد تولى كاتولوس في أشعاره تسجيل مشاعره هذه في غير حياء ولا خجل، وفي صراحة تدعو إلى العجب، ودقة تثير الدهشة، وبساطة ترفع من شأن شاعرنا الولهان وتجعله رائدا أول بين شعراء الغرام عند الرومان، وتبوئه عرشهم أجمعين كأول من جاهر بأحاسيسه الغرامية ، وأصدق من صرح بما يعانيه من تباريح العشق وما يقاسيه من آلام الغرام ومن جفاء الحبيب وصدوده اللعين. حتى إن قصة غرام الشاعر راحت تجري من فم إلى فم، وطفقت تنتقل من دار إلى دار، حتى صارت مدار حديث المجالس والمجتمعات، وأصبحت مضرب المثل بين سكان المدينة، ومقياس العشق كلما عرض ذكر للعشق الروماني على لسان أحد. إن كل قارئ لأشعار كاتولوس الغرامية لن يغيب عليه قط مأساة الشاعر الغرامية، ولن يعجز عن تفهم مدى أثر ذلك في حياته وقلمه. كان كاتولوس وهو يسجل أشعاره في حب ليسبيا لا يردد قول أحد غير قول الذي أنشد:
يا أيها الرجل المعذب بالهوى
إني بأحوال الهوى لعليم
الحب صاحبه يبيت مسهدا
فيطير منه فؤاده ويهيم
والحب داء قد تضمنه الحشا
بين الجوانح والضلوع مقيم
والحب لا يخفى وإن أخفيته
إن البكاء على الحبيب يدوم
والحب فيه حلاوة ومرارة
والحب فيه شقاوة ونعيم
والحب أهون ما يكون مبرح
والحب أصغر ما يكون عظيم
أحب كاتولوس ليسبيا، أحبها حبا جارفا ملك عليه شغاف قلبه، فكان حبا نقيا كماء الغمام، طاهرا كصحائف الأبرار، عظيما كموج البحر، فأحس بليسبيا كأنها في دمه نور، وفي كيانه سحر، وفي حياته رجاء وأمل.
فمن تكون ليسبيا هذه؟ وكيف وقع كاتولوس في حبها؟
لم تكن ليسبيا حرة طليقة، أي لم تكن عذراء فتية، ولا بكرا نقية، بل كانت امرأة، أو قل زوجة تنتمي إلى طبقة دونجوانات روما. ولم تكن زوجة رجل مغمور أو بعل من عامة الشعب، بل كانت زوجة كوينتوس كايكيليوس ميتيلوس كيلير
Quintus Caicilius Metelus Celer ، وابنة أبيوس كلوديوس بولكر
Appius Claudius Pulcher ، وشقيقة بوبليوس كلوديوس
. ولم تكن امرأة بسيطة الشأن أو خاملة الذكر، بل كانت من أقطاب عصرها، ومن مشاهير بنات جنسها. لم تكن ليسبيا امرأة ساذجة، بل كانت لغزا أنثويا حيا ممثلا في غادة ماكرة غزلة لعوب، تعرف كيف تأسر في ثقة، وتجذب في سكينة، وتفتن في صمت، وتستميل في إغراء هادئ مطمئن عميق، لا يكشف سرها ولا يميط اللثام أبدا عن حقيقة شخصيتها، لقد كانت ذئبا في فراء حمل وادع.
لم يكن «ليسبيا » الاسم الحقيقي لتلك السيدة التي ألهبت قريحة كاتولوس كما أشعلت بالحب قلبه، بل هو الاسم الذي استخدمه الشاعر في قصائده، كلما أراد أن يعني حبيبته «كلوديا».
أما الأدلة على أن ليسبيا هي كلوديا نفسها، فليست قليلة، وكلها في متناول أيدينا؛ فلقد ذكر لنا أوفيديوس في منظومته «تريستيا
Tristia » ما يؤكد أن كاتولوس كان يستخدم اسم «ليسبيا» على سبيل الكناية: «كثيرا ما كان يترنم كاتولوس السعيد بحبيته ويسميها بالاسم الزائف (ليسبيا).»
أما أبوليوس
Apuleius
أحد كتاب القرن الثاني للميلاد، فيؤكد بصفة قاطعة أن «ليسبيا» هي «كلوديا» ولا أحد غير «كلوديا». إذ يقول: «دعهم يلومون كاتولوس لاستعماله الاسم «ليسبيا» كناية عن «كلوديا».»
غير أن كاتولوس في منظومته التاسعة والسبعين يحدثنا عن شقيق لليسبيا يدعى «ليسبيوس»، ويسميه «بولكر» أي «الفتى الجميل». وهذه هي الدعابة التي كثيرا ما كان يلجأ إليها شيشيرون مع الاسم كلوديوس، وإن كان بدوره يشير من طرف خفي إلى إثم العلاقة الوثيقة التي بين الحبيبين.
كذلك نجد كاتولوس في المنظومة السابعة والسبعين التي كتبها في عام 58ق.م. يسب صديقه روفوس الذي سرق منه أغلى ما كان يملك.
وفي هذا العام بالذات، أي بعد موت ميتيليوس، كما علمنا من خطبة لشيشيرون دفاعا عن كايليوس
، إذ كان ماركوس كايليوس روفوس يعيش مع كلوديا في بيتها فوق تل البلاتين.
والآن يمكننا دون أي عناء أن نكشف الستار عن مسرحية كاتولوس الغرامية وعن شخصيات أبطالها المبرزين، كما يمكننا أن نذكرهم بأسمائهم الحقيقية دون حاجة إلى أسماء مستعارة؛ أما البطلان فهما كاتولوس وكلوديا، يعاونهما في أداء المسرحية ميتيلوس زوج البطلة، وكايليوس روفوس أصدق أصدقاء البطل. ومن كان يمثل الجوقة بكل مستلزماتها من الإسهاب والتطويل؛ فهو المحامي المشهور والسياسي الداهية، ونابغة زمانه ماركوس توليوس شيشيرون. ولا يجب أن يغيب عن بالنا أن تلك الزوجة وذلك الزوج كانا ينتميان إلى عائلتين من أعرق العائلات الرومانية نسبا وأكرمها محتدا، وأن الشخصيات الخمس رغم ما في مسلكهم من تلون صارخ، كانوا يحتلون أرفع المناصب في المجتمع، كما أنهم قضوا حياتهم وهم محط أنظار العامة والخاصة، لا تكف الألسنة عن ذكرهم والإشادة بمآثرهم حتى طبقت شهرتهم الآفاق.
كان أهم مظهر من مظاهر سلوك طبقة أرستقراط الرومان القدماء، هو تمسكهم الشديد بتقاليد العائلة التي ينتمون إليها وبعاداتها؛ فمن مميزات عائلة كلوديا مثلا الاعتداد بالنفس الذي هو أقرب إلى الكبرياء والغطرسة، والاحتقار الشديد للرأي العام، هذا فضلا عن كفاءة خاصة، أدبية وفنية لا يتمتع بها غيرهم من أبناء أمتهم. فلقد كان من بين أسلاف كلوديا، الحكام العشرة المتغطرسون الذين تدين إليهم روما بالألواح الاثني عشر؛ مصدر قانونها ووحيه، وذلك الرقيب الأعمى الذي شيد طريق أبيا
Appian Way
وخزان أبيا
Appian Aqueduct ، وأحد أوائل المؤلفين اللاتينيين، وتلك العذراء الفيستالية التي شهدت لها السموات بالعفة والطهارة.
وكانت كلوديا نفسها تتمتع بنصيب وافر من تلك العبقرية الخارقة التي أكسبت عائلتها ذلك المجد الرفيع والاحترام العظيم.
فمن الجلي إذن أن كلوديا قامت بثورة ضد التقاليد والعرف، ولو أنه كان في مقدورها بحال من الأحوال أن تنال السعادة في حياتها الزوجية؛ لكانت قد وفقت إلى شريك أكثر لياقة في شخص رجل له مثل عبقرية شيشيرون، القادر وحده على الوصول إلى مدارك فهمها. وما كان لها أن تتزوج محض جندي كميتيلوس الذي تزوجته.
أما إذا ذكرنا شيئا عن طبائع عائلة ميتيلوس، فأنسب لفظ للتعبير عن هذه الطباع جملة هو لفظ «الصرامة
gravitas »، الذي يستخدم في اللغة اللاتينية كمرادف لكلمة «حماقة» أو «غباء». ولقد زودت عائلة ميتيلوس الدولة لأجيال عديدة بسلسلة متواصلة من السياسيين المحافظين والإداريين المتزمتين والقادة الصارمين. ولقد حدث أن أحد أفراد عائلة ميتيلوس ألقى بالشاعر نايفيوس
Naevius
في غياهب السجون؛ لأنه جرؤ على انتقاد سلطته إبان الحرب البونية
. وتزعم ميتيلوس آخر حركة المقاومة العنيفة التي أباحها مجلس الشيوخ ضد التشريع الجراكهي
Gracchan Legislation . هذا فضلا عن ميتيلوس الذي قاد دفة الحرب ضد يوجورثا
Iugurtha
في ذلك الأسلوب البطيء حتى ألفى نفسه - وقد ألم به حزن شديد - قد حل محله ماريوس المحدث. وكان كوينتوس كايكيليوس ميتيلوس كيلير زوج كلوديا ينتمي إلى هذا البيت الروماني، وتسري في دمائه تلك النزعة التحفظية المتزمتة.
كان ميتيلوس هذا أحمق، ولكنه كان عنيدا، وكان في حياته الخاصة سمجا فظا، وإن كان في حياته العامة وقورا جدا ورزينا للغاية؛ لقد كان مع جموع الشعب وقحا متغطرسا، بينما كان مع أبناء عشيرته لطيفا رقيقا.
وإن أردت الحق، فإن ميتيلوس كان مثلا صادقا للأرستقراطي الروماني القديم، ولذلك الزوج العاجز عن السيطرة على امرأة جديدة كزوجته، الفاشل في شق طريقه عبر خضم السياسة المضطربة. فالسياسة العملية - أي المتضمنة أولا وقبل كل شيء؛ معرفة الطريق الذي سيسلكه الناس في إعطاء أصواتهم قبل التصويت بفترة من الزمان - قد أثارت مشكلة عويصة في عصره، كان حلها فوق طاقة رجل له ذكاؤه ونباهته.
ومع ذلك فقد كان ميتيلوس رجلا له بعض الصفات القوية؛ ففي عام 63ق.م. لعب دورا بارزا في تحطيم قوات كاتيلينا المسلحة، فكافأه شيشيرون على ذلك بأن وكل إليه في العام التالي حكم غاليا كيسالبين
Cisalpine Gaul ، إذ رأى شيشيرون أن الصالح العام يتطلب منه أن يبقى هو في روما. ومن ثم في ربيع عام 62ق.م. رحل ميتيلوس ومعه زوجته إلى تلك الولاية، ويحتمل أن يكون بعد مضي بعض الوقت في حكم هذه الولاية. قد التقى حبيبانا في فيرونا وبدءا غرامهما الذي تكشف أشعار الشاعر عن الكثير من مراحله والتغيرات التي اكتنفته.
كان كاتولوس في ذلك الوقت في الثانية والعشرين من عمره، أي إنه كان في السن التي تمكنه من التعرض لبعض التجارب البسيطة في الحب مع بعض العذارى اللطيفات المعشر من أمثال إبسيثيلا
Ipsithilla
وأوفيلينا
Aufilena ، ولكنه كان صغير السن من غير شك، وفي غاية السذاجة، ومن ثم لم يقو أمام حب هذه المرأة الرومانية العظيمة، التي تنازلت فخصته هو دون غيره بنظرات الحب ولمحات الهيام، فجرفته في تيارها واكتسحته بسحرها وأوقعته في حبائلها حتى الثمالة. وكانت سن كلوديا نفسها تزيد على سن كاتولوس بما يقرب من العشر سنوات، فقد كانت تقترب من ذلك السن الذي يسميه أوفيديوس سن الفتنة والجاذبية (امرأة في سن الثلاثين)، كما كانت قطعة من الإغراء الفتان، بديعة فريدة المثال، أشبه بالبدر المنير بين النجوم السواطع، ذات وجه صبوح وعينين دعجاوين، في وجهها هدوء، وفي عينيها صفاء، ولصورتها رواء، هيفاء متناسبة الطول معتدلة القد، مرفوعة الرأس دائما، لا يبدو وجهها إلا مليحا صبوحا واضحا. تسير في طريقها فلا تنحرف ولا تميل، كاملة بارعة تعزف لحنا ساحرا، فتجذب بظاهر فتنتها قلبا بعد قلب. وكان عنقها الأتلع المستدير يشبه برجا من اللجين الخالص، وذراعها البضة تشبه فرعا مجيدا من شجرة مباركة، كل ورقة فيها تفيض بالبهاء والنور. وكان جبينها ناصعا كالصراحة، ونظراتها باترة كالعزيمة، ولمعة تفكيرها العبقري تجثم في عمق عينيها كما يجثم سر الحياة الكبرى في مقدس بدنها الغض الجميل. أسنانها بيضاء كياسمين منضد، صقيلة لماعة كأندر العاج وأغلاه. ممشوقة القوام في شموخ ساطع، جريئة الروح في اتقاد ناضر، مشبوبة القلب، مضطرمة العاطفة، أهدابها كحيلة سوداء ذات وطف، ثغرها دقيق عذب المراشف، قد فرع عودها وبرز نهداها المثمران المتحلبان نعيما، كما استدار وجهها وتلألأ جبينها المشرق كأنه الهلال الوليد يطل من الأفق.
كانت كلوديا إذن مثلا صارخا من الجمال الإيطالي الذي كان يتخذه بعض الفنانين نموذجا حيا لهم في فنهم. هذا وإن كان كاتولوس لم يذكر لنا في أشعاره من أوصاف كلوديا الجسدية إلا النزر اليسير عن قدمها الدقيقة، ويدها المستدقة، وأنفها الصغير المستقيم وعيونها السوداء اللامعة.
أما شيشيرن الذي كان يعرفها معرفة جيدة، والذي فكر مليا في الطلاق من زوجته تيرينتيا
Terentia
من أجل الزواج منها، فقد اعتاد أن يصفها دائما بتلك الصفة الهومرية المشهورة «ذات عيون المها»، التي تنسب دائما لملكة السموات. ولا شك أن كلوديا قد بدت لكاتولوس في بادئ الأمر كأنها جونو
Juno
متجسدة، لها جمال وجلال زوجة جوبيتر
Jupiter
ملك الأرباب والبشر.
كانت القصيدة الحادية والخمسون هي أول القصائد التي كتبها كاتولوس في حبيبته كلوديا، وفيها يصف مشاعر المتعبد المتحمس في حضرة معبوده، وهي ولا شك تعبر تعبيرا صريحا عن عواطف وخلجات صادقة . ويحتمل أن فارق السن والشباب هو الذي دفع كاتولوس إلى اقتباس آراء وكلمات شاعر آخر واستخدامها لتحقيق مآربه. فهذه القصيدة محض ترجمة لإحدى أشعار سافو
Sappho
الخالدة، وهي من حيث الشكل ناجحة كأي ترجمة يمكن أن تتم لقصيدة من قصائد سافو، وهي في كلمات أخرى فشل كان للقضاء والقدر دخل كبير فيه. أما عن الفكرة فيحتمل أن كاتولوس قد تعذر عليه أن يلمس أن نوع حب سافو لصديقها يختلف تمام الاختلاف عن حبه هو لكلوديا، ولكنه يرى أن الأصل قد كتب لفتاة من ليسبوس
Lesbos ، ومن ثم فهو يزج بالاسم «ليسبيا» الذي راح يستخدمه في جميع أشعاره كاسم مستعار لحبيبته.
ويحق لنا أن نفترض أن هذه القصيدة الأولى في التودد والتقرب كانت كافية لكي تغمر قلب السيدة بالغبطة والسرور. ولقد سمح للشاعر أن يتعرف إليها وأن يتقرب منها، ومن ثم فإن القصيدة التالية قد صدرها الشاعر بذكر عصفور حبيبته الأليف الذي اعتادت أن تتركه يقفز على نحرها وفي حجرها. ولعل هذه القصيدة هي التي جعلت مارتيالوس
Martialus
يسمى كاتولوس «مؤلف قصيدة العصفور».
أما حياة العصفور فقد جعلت كأقصر ما يكون، شأنها في ذلك شأن عواطف كلوديا نفسها. وفي القصيدة الثالثة التي ملأها الشاعر بألفاظ التصغير وتعبيرات الاغراء والتقدير، سجلت وفاة العصفور المسكين.
فهذه القصائد الثلاث الأولى التي يحتمل أن يكون كاتولوس قد كتبها في فيرونا، لا تظهر كاتولوس إلا كمعجب متحمس وكمحب بريء ساذج.
أما في قصيدة «القبلات» وفي قصيدة «الدعوة إلى الحب» المحتمل كتابتهما في روما، حيث كان الشاعر قد تبع كلوديا في عام 61ق.م. فإن كاتولوس يبدو فيهما في شخصية المحب الذي حظي حبه بالقبول، كما أنه قد عبر فيهما أحسن تعبير عن سرور الشاب الولهان الغارق في الحب إلى الآذان.
فهذه القصائد الخمس التي هي أول سجل لمظاهر حب كاتولوس السعيد.
وفي سذاجة الشاب اليافع، اعتبر كاتولوس أن من حقه أن تنسى كلوديا من أجله واجبها نحو ميتيلوس، ولكنها عندما بدأت تمارس حرية الاختيار التي كان الرجال يدعونها دائما إلى أنفسهم، وما إن بدأت تسأم وتمل عشقه الحار، مفضلة عليه آخرين من المعجبين بها ؛ فإن آراء كاتولوس في الإخلاص تطورت وتغيرت. وبعد ذلك ببضع سنين حاول كاتولوس في القصيدة الثامنة والستين أن يستعيد أولى جذوات حبه؛ فصور إحدى مقابلاته السرية مع حبيبته في بيت صديقه أليوس
Allius ، ونراه يتخيل نفسه محبا صبورا رضي الأخلاق:
أعرف أنني لا أستطيع أن أكون حبيبها الأوحد، وأنه يجب علي أن أتحمل ضعفها في رقة وكياسة، فلست من صنف الزوج الغيور.
فإن تك هي حصيفة، فلسوف أكون أنا أعمى.
ولكنه في حقيقة الأمر لم يكن أعمى ولا رضي الأخلاق، كما أنه كان بعيدا كل البعد عن السعادة.
هذا إلى أن الوضع في روما اختلف كل الاختلاف عنه في فيرونا؛ ففي العاصمة لم يكن المشكل الذي يواجه المرأة منحصرا في الكيفية التي تقضي بها وقتها، بل كان بالأحرى مقصورا على وسيلة إيجاد الوقت لتلك المسرات التي لا حصر لها، وتلك المشاغل التي كانت تملأ أيامها. لم يكن جل همها إزاحة الستار عن حبيب واحد لائق، بل كيفية المحافظة على زمرة من المغازلين الشغوفين في حالة من الغبطة والسرور. وفي عام 60ق.م. أصبح ميتيلوس قنصلا، فتركزت جميع جهوده في أن يضع بومبي في مكانه اللائق، وهكذا قلت أمامه الفرص والمناسبات عنها في أي وقت آخر لتلك المراقبة الزوجية التي كانت كلوديا في مسيس الحاجة الشديدة إليها. لقد كانت كلوديا محاطة بهالة من الشباب اليافع، الذين وجد كاتولوس في أغلبهم منافسين ألداء له في حب كلوديا. ولعل هذا يوضح لنا شيئا عن طبيعة كلوديا، وكيف استطاعت أن تعذب محبا شديد المراس، كما أزاح الستار عن هذا كاتولوس نفسه. فيصر كاتولوس على اعتبار كلوديا إحدى ممتلكاته، ويصر على ذلك بطريقة تدعو إلى الضحك والسخرية، إن لم تكن تدعو إلى الرثاء أيضا؛ فنراه يحذر في شيء من الجد والصرامة المعتدين على حبه والمنتهكين حرمته من أمثال كوينتيوس
Quintius
ورافيدوس
Ravidus
وجيليوس
Gellius ، متظاهرا كمن له الصولة السلطان، غير عابئ بكرامة زوج مسئول ، لابسا رداء المحب المتغطرس الولهان. فليس بمستعجب إذن ولا بمستغرب أبدا أن تتعدد المنازعات والمشاجرات، وأن تكفل لنا القصائد التي كتبها كاتولوس عن ليسبيا إبان عام 60ق.م. تاريخا مريرا لتلك التعنيفات المريرة واللائمات القاسية، فضلا عن مناسبات الوفاق القصيرة الأمد، ومرات الوئام والانسجام القليلة العدد.
وعلى كل فقد كان على كلوديا إبان حياة ميتيلوس أن تحافظ على احترام معين للمظاهر، فضلا عن أن واجباتها الزوجية قد زودتها بلا شك بحجة مريحة للتعامل مع مغازل ولهان قد برح به الهوى. ولكن في عام 59ق.م. وقعت حادثة ألحقت بموقفها تغييرا كبيرا ملحوظا؛ فميتيلوس وقد أنهكه ما كان يكتنف السياسات الرومانية من تعقيدات لا مثيل لها، قد مات فجأة، وإذ انتقلت كلوديا إلى الإشراف الاسمي على أخيها سكستوس كلوديوس بولكر، ألد أعداء شيشيرون، فقد أضحت مستقلة تمام الاستقلال كأرملة في سن الخامسة والثلاثين وكصاحبة ثروة طائلة. والمجتمع الروماني الذي تختلف أفكاره في المزاح اختلافا بينا عن أفكارنا، راح يقول مازحا: «إنها سممت زوجها، وكانت عشيقة أخيها أيضا.» بيد أنه من الخطل أخذ مثل هذا المزاح مأخذا جديا. حقا إن كاتولوس وشيشيرون يكرران هذه الأقوال، ولكن كليهما شاهد لا يعتد به. فالحقيقة المقطوع بها والتي لا مراء فيها؛ ذلك أن كلوديا بعد وفاة زوجها قد وقع اختيارها على ماركوس كايليوس روفوس
Marcus Caelius Rufus
الذي كان تحت حماية شيشيرون، وصديق كاتولوس الحميم، وأحد المغامرين الجسورين الذين ذاع صيتهم في ذلك العصر المضطرب، قد وقع عليه اختيارها حبيبا مفضلا لا يجاريه في قلبها أي حبيب.
أما كيف استطاع كاتولوس أن يتحمل صدمة التنحي عنه وطرحه في عالم النسيان، ولفظه لفظ النواة وجعله ذكرى لغرام مضى وانقضى، فيمكننا أن نلمسه من تلك الأبيات المريرة، التي تضمنتها القطعة السابعة والسبعون والمصدرة باسم روفوس.
ولكن بقدر ما كانت الضربة قاصمة لمركز كاتولوس الأدبي ولقيمته الشخصية، فإن تعلقه بحبيبته السابقة كان تعلقا شديدا بعد تلك الروابط الغرامية الماضية، حتى أصبح من العسير عليه الخلاص منها ومن قيودها؛ ومن ثم فهو يكتب لها في شبه تراكيب هي خليط تارة من السب والحب، وطورا من الاعتراف والاستغفار، وأحيانا أخرى من الثورة ضد عبودية المشاعر والأحاسيس، فيقول:
لا أستطيع احترامك
وإن كنت صادقة،
ولا الكف عن حبك
مهما كنت فاعلة.
وتجري القصيدة الثانية والسبعون على نفس النمط:
أعرفك الآن أفضل من قبل،
وها أنا ذا أقر وأعترف
بأن حبي لك ينمو ويزيد،
بينما تقديري يقل وينكمش.
وأخيرا نجد الشاعر يجمل ذلك العراك الصارم بين العاطفة والكرامة الشخصية في بيتين من الشعر متأججين، بعنوان «أمقت وأحب»:
أكره وأحب،
فلا تسأليني عن السبب؛
فمهما حاولت لا أعرفه،
وإن كنت أحس بأنه ألم مبرح.
ومن الخطبة التي ألقاها شيشيرون دفاعا عن كايليوس في عام 56ق.م. يمكننا أن نكون فكرة عن لون الحياة التي تحياها كلوديا وجمهرة فرسانها من أمثال كايليوس وكاتولوس وكالفوس ومن عداهم إبان عامي 58 و57ق.م. لقد كان للسيدة بيت ريفي فوق تل البلاتين بالقرب من نهر التيبر حيث كانت، مثلها في ذلك مثل ميديا
Medea ، تمارس فن السحر وتزاوله، وقد ساعدها على ذلك ثروتها الطائلة وجمالها الفتان. وكان وفاضها وفراشها مباحين لكل حبيب طارق، كما أن ليالي الشتاء كانت تمر سريعا في حفلات وولائم متعاقبات، وفي رقصات وما يشبه الرقصات من شتى ألوان اللهو والترفيه عن النفس. فإذا جاء الصيف استجم الفريق كله عند شاطئ البحر. وفي حمامات باياي ظل السعي وراء الملذات والمسرات على أشده، والانغماس في الخلاعة والمجون مستمرا مع شيء من الإباحية التي يندر السماح بها في روما.
والآن، لندع شيشيرون نفسه يتكلم مدافعا عن موكله أمام جمع السناتو في تهمتي دس السم وابتزاز الأموال، وهما التهمتان اللتان وجهتهما إليه كلوديا: «سادتي، إننا في هذه الدعوى لا نتعرض لأحد غير كلوديا، تلك السيدة الكريمة المحتد، الطائرة الصيت، بيد أنني لن أقول عنها شيئا إلا بالقدر الذي يتحتم علي بيانه لكي أدحض الاتهام الموجه نحو موكلي. وإن لم تتهمه كلوديا بأنه قد أعد السم لها، وإن لم تقل إنها أقرضت كايليوس أموالا. فكم تكون وقاحتنا إذا تكلمنا عن سيدة يختلف شرفها عما يستلزمه شرف السيدات الرومانيات. ولكننا إذا نحيناها جانبا، ولم يجد خصومنا اتهاما يوجهونه ضد كايليوس، ولم تبق هناك وسيلة لمهاجمته، فما الذي يتحتم علي، بصفتي محاميه إلا أن أصد كرة من يهاجموننا؟ أما عن هذا الذي أقوله، فقد أقوم به حقا بمنتهى الصرامة، لولا تلك البغضاء التي بيني وبين زوج هذه السيدة - أعني بيني وبين أخيها - حيث إنني دائما أبدا أقع في هذا الخطأ.
وكما هو واقع الحال فإنني سأتصرف في لين خشية أن أتجاوز الحدود التي يرسمها واجبي، أو تقتضيها القضية التي وكل إلي الدفاع فيها؛ فكثيرا ما اعتقدت أنه من المفروض علي أن أتجنب العلاقات السيئة مع السيدات، وخاصة مع كلوديا التي دأبت دائما على أن تكون حميدة الطباع في مسلكها مع الناس أجمعين، متحاشية في ذلك أي عداوة قد تنشب بينها وبين أي فرد من الناس.
ولكني أولا وقبل كل شيء سأستفسر منها لأعرف هل تفضل أن أتصرف معها بأسلوب صارم رسمي عتيق، أو بطريقة لينة رقيقة مليئة بالمجاملة. فإن كانت تفضل الأسلوب الصارم، فلا بد لي من أن أستدعي من دنيا الأرواح أحد أولئك السادة، طويلي اللحى - ولن تكون لحيته قصيرة كلحية من هي متيمة به الآن، ولكنها ستكون لحية كثة كتلك التي نراها في التماثيل والصور القديمة - فهذا الذي سأستدعيه، سوف يزجر السيدة، متحدثا إليها بدلا مني خشية أن تغضب هي مني الآن. والآن لندع أحد أفراد عائلتها ينهض، وليكن أبيوس
Appius
الضرير، قبل غيره. فحيث إنه لا يستطيع رؤيتها؛ فسيكون من ثم أقل الناس حزنا. فلئن ظهر حقيقة؛ لكان تصرفه كالآتي، ولوجه إليها الخطاب قائلا: «أيتها المرأة! ما شأنك مع كايليوس؟ ما أمرك مع هذا الصبي؟ ماذا دهاك مع غريب؟ وكيف كان رضاك؟ لم كنت تظهرين له مثل هذا الود، حتى أقرضته بعض مالك فأصبحت هكذا عدوته، حتى أضحيت تخشين أن يدس لك السم؟ ألم تشاهدي أباك وهو في منصب القنصل؟ أما سمعت أن خالك وجدك وجد جدك وكبير أجدادك كانوا قناصلة كذلك؟ أتجهلين أن كوينتوس ميتيلوس كان زوجك؟ وأنه كان من أبرز الرجال وأشجعهم؟ بل كان وطنيا غيورا قضى بمجرد ظهوره في الحياة العامة على جميع مواطنيه، وسلبهم المجد والكفاءة والكرامة؟ ثم لم بعد أن تزوجت من تلك العائلة العريقة الأرومة، الكريمة المحتد، الشريفة النجار، الطائرة الصيت، وأنت يا من تنحدرين من بيت كريم شريف، لم سمحت لكايليوس أن يظهر لك كل هذا الود والحب؟ هل كان بينك وبينه قرابة؟ أكان هو نسيبك؟ أكان صديقا حميما لزوجك؟ الحق أنه لم يكن أحد هؤلاء أجمعين، فماذا يا ترى يكون السبب إن لم يكن محض الطيش والشهوة؟ فإذا لم تحركك صور رجال عائلتنا، أفما كان أجدى بابنتي كوينتا كلوديا
Quinta Clodia
أن تثير في صدرك أن تنافسيها فيما تتحلى به من الفضائل العائلية، والعفة التي هي أساس مجد المرأة؟ أفما كان يجب على كلوديا، تلك العذراء الفيستالية التي كانت متى احتضنت أباها وهو في عربة النصر لم يجرؤ تريبون من ترابنة الشعب المعادين له أن يحاول عزله من عربة النصر هذه؟ لم إذن تحاكين رذائل أخ، مؤثرة إياها على فضائل أب أو جد عائلة كاملة أنتمي أنا إليها كما ينتمي غيري من الذكور والإناث؟ هل رأيتني قد حرمت وطني من الدخول في عالم السلام والوئام مع بيروس
، حتى أسرفت بدورك، في كل يوم تقريبا، في علاقاتك مع عشاق مغمورين؟ هل زودت أنا المدينة بالماء كي تستخدميها في أغراض نجسة؟ هل مهدت أنا طريقا رئيسيا لكي تترددي أنت عليه بصحبة فرسانك المتيمين؟»
ولكن ما هذا الذي أفعله أيها السادة؟ فإنني عندما أقدم شخصية لها مثل هذا الاحترام؛ أخشى أن ينشق أبيوس نفسه فجأة على كايليوس ويتهمه بصرامة العذول، ولكني أيها السادة سأتكلم بالقدر الذي أستطيعه، وبأسلوب يشعرني بأنني أخدع نفسي وبأنني أؤيد سلوك كايليوس بما قد يرضي حتى أقسى القضاة وأعنفهم. أما أنت يا كلوديا، فلتعلمي أنني الآن أوجه الكلام إليك بشخصي دون التواء أو اعوجاج؛ لأنك إن كنت تقترحين كسب رضائنا عن أعمالنا وأقوالك، واتهاماتك وهجماتك، ونشاطك السري، فيجب عليك أن تفسري لنا أسباب تلك الشهرة العظيمة مع موكلي، وتلك الصداقة العظيمة وهذا الود الصارخ. فإن متهمينا يتحدثون بصوت عال عن دعارات وحماقات، وعن ولائم وغراميات، وعن زنى وأغنيات، وعن موسيقى ورحلات، وعن مراكب للمتعة واللهو غير الشريف، نراهم في الوقت نفسه يشيعون أنهم لا يتكلمون بشيء إلا حسب إرشاداتك. وعلى كل فحيث إن مزاحك الممزوج بالعنف والعناد وصلابة الرأي هو الذي جاء بك إلى ساحة الفورم وأوقفك أمام هذه المحكمة، فعليك إذن إما أن تنفي هذه التهم وتثبتي زيفها، أو ألا تسمحي لدليل واحد أن يقوم بحال من الأحوال عونا على اتهامك أو الشهادة عليك. بيد أنني لو شئت التصرف معك في شيء من المجاملة، فلن أفعل غير الآتي:
سأعمل على الخلاص من ذلك العجوز الظلف، الأقرب إلى البرابرة منه إلى أي شيء آخر، وأختار أحد أفراد عائلتك وليكن أخاك الأصغر قبل غيره؛ فهو في أسلوبه مرآة صادقة للأدب، كما أنه يهيم بحبك غاية الهيام، وكما يخيل إلي كانت تنتابه بالليل بعض المخاوف والهواجس، فاعتاد أن ينام إلى جوارك كأي صبي صغير يرقد مع أخته الكبيرة. فماذا إذن لو راح يخاطبك هكذا ... «لم يا أختاه تحدثين كل هذه الجلبة والضوضاء؟ لماذا أنت في هذه العاصفة من الهياج؟ ولم تعظمين مثل هذا الموضوع التافه وتجعلين من الحبة قبة؟ لماذا تعطين له هذه الأهمية بصيحاتك وصرخاتك؟ لقد ركزت عيونك على جار شاب، وفتنتك خلقته وطلعته، فضلا عن عيونه التي سحرت لبك، لقد همت برؤياه كثيرا، ولقد شوهدت أحيانا في نفس الدار، وأنت كما تعلمين المرأة ذات الصيت العريض، وصاحبة الثراء الطائل. ومع ذلك فلم تستطيعي بحال من الأحوال أن تحظي بحبه الكامل، مع أنه كان ما يزال تحت رعاية أب شديد الرقابة؛ إنه يمتهن هداياك ويحتقرها مستخفا بها. فلترحلي إذن إلى أي مكان آخر. وهل نسيت الدار التي تملكينها هناك بالقرب من نهر التيبر؟ وكيف كنت في حين من الزمان في ألم مبرح كي تؤهلي نفسك لذلك المسكن الذي لا يبعد عن البقعة التي يستجم فيها جميع شباننا ؟ كانت أمامك يومذاك فرصة ذهبية كي تمتعي نفسك كل يوم تقريبا، فلم تكلفين نفسك مشقة كل هذا الانزعاج من أجل شخص لا يكن لك إلا كل احتقار وامتهان؟»»
والجدير بالملاحظة أن شيشيرون لا يتملق ولا يداهن؛ فهو في دفاعه عن كايليوس ضد تهمة الفسق يتكلم بنفس الصراحة فيقول: «إنني لا أتكلم الآن ضد كلوديا، بيد أنه لو فرضنا وجود شخصية أخرى تختلف عنها شكلا، واحدة من اللواتي يرتكبن الفحشاء مع جميع الرجال، ومن اللواتي لا يستسغن الحياة بدون شخص يهبهن العواطف ويطارحهن الهوى جهرا وفي وضح النهار، ومن اللواتي يفتحن أبواب بيوتهن وحدائقهن وحماماتهن على مصاريعها لممارسة شتى ألوان الدعارة والفجور. بلى، واحدة من اللواتي يحتفظن بشاب يافع وينفقن من أموالهن لسد الثغرات التي يحدثها الآباء الممسكون المتزمتون الذين لا يعطون أبناءهم إلا النزر اليسير من المال. لو أن مثل هذه السيدة تعيش عيشة الدعارة هذه وهي أرملة، وأظهرت فسق طباعها ودعارة ميولها بمسلكها الشهواني، واستخدمت أموالها في أغراض التبذير والإسراف المقيت، ولئن أدى فجورها إلى احتراف الدعارة وانتسابها إلى طبقة المومسات الساقطات؛ فهل يمكن اعتبار ذلك الرجل داعرا أو فاسقا من يتمتع بكامل الحرية في مغازلتها ومطارحتها الغرام؟! ولكن ألا تنفث جيرة كلوديا أزكى الروائح؟ وهل صوت الشعب صامت لا يتكلم؟ أفلا تنطق مياه باياي؟ إنها لا تتكلم فحسب، ولكنها تصيح وتصرخ بأعلى صوتها، بما قد بلغه فجور هذه المرأة الواحدة التي لا تنشد في فجورها عزلة أو ظلمة أو ما شابه ذلك من موبقات الإثم فحسب، بل وتلتذ كذلك بمزاولة ألوان الدعارة أمام جموع الناس. فلو اعتقد أحد أن الجماع الحر ولو كان مع المومسات يجب أن يحرم على الشباب؛ لاتصف حقا بالصرامة والفظاظة. بيد أنني لا أستطيع أن أناقضه؛ فهو في اعتقاده - وهذا ما يتحتم علي قوله - لا يختلف عن حرية عصرنا الحالي فحسب، بل وعما تعود آباؤنا ممارسته والسماح به. فهل جاء أبدا زمان قضي فيه بتحريم هذه العادة؟ فمتى وفي أي زمان جاء اعتبارها تهمة أو خطيئة؟ وفي أي عصر حرم السماح بها دون السكوت عنها؟ وباختصار، هل ورد أبدا زمان حرم فيه ما لم يكن محرما من قبل؟ وإني الآن بصدد توجيه سؤال دون ذكر أي سيدة، ولكني سأترك لكل شخص أن يدلي بالحكم الذي يراه؛ لو أن امرأة غير متزوجة تفتح أبواب بيتها على مصاريعها لكل زان وفاسق، ولمن يطلبون الشهوة والمتعة، ثم تعلن أمام الملأ أنها مومس، ومن ثم تقبل الدعوات من كل غريب. وهب أنها فعلت ذلك في روما في بيتها الريفي، أو في باياي، ذلك المكان الموبوء؛ أي لو أنها لم تظهر أمام الناس في مشيتها الماجنة فحسب، بل وفي ردائها وركبها من الشباب، غير مكتفية بغمزات عيونها وحرية أحاديثها، بل تعدت ذلك إلى القبلات والأحضان، فضلا عن كل مسلك شائن في الحمامات وقوارب اللذة والمتعة، وفي الولائم والدعوات؛ لا لتبدو مومسا فحسب، بل ولتظهر بمظهر المرأة الوقحة المستهترة السليطة. فلو حدث وشوهد شاب يافع في صحبة مثل هذه المرأة، أفتكون نظرتكم إليه كنظرتكم إلى أي فاسق داعر؟» «إن أسوأ الإفساد لإفساد خير الناس.» ولا شك أن النساء من أمثال كلوديا في أيامها الأخيرة، كن في حاجة ماسة جدا إلى الفضائل الذاتية التي للجنس اللطيف، غير أن كلوديا كانت تتمتع بمفاتنها الخاصة، ولم يكن قبل ربيع عام 57ق.م. حينما جمع كاتولوس شتات شجاعته للخلاص من تلك العلاقة التي نالت من رجولته وألحقت بها المذلة والمهانة. ولقد مات أخوه العزيز حينذاك في طرود، ومن ثم وطن العزم على مغادرة إيطاليا والالتحاق بإحدى الوظائف في جيش ميميوس
Memmius ، حاكم بيثونيا
Bithynia . ولقد سجل هذا العزم في قصيدتين من أروع أشعاره؛ وهما القصيدة الثامنة، والسادسة والسبعون. وفيهما تتجلى آخر مرحلة من مراحل الهجران، بينما في القصيدة السابعة والثمانين يضع كاتولوس خاتمة كل شيء فيقول:
لن تستطيع امرأة أن تقول
إنها قد حظيت بالحب
كما أحببتك يا عزيزتي من كل قلبي،
وليس هناك من رجل
ثبت إخلاصه لحبيبته
كما عرفت أنا بإخلاصي.
وهكذا في عام 57ق.م . قطع كاتولوس علاقته الغرامية بكلوديا، غير أننا لا نجد بين ما كتب من أشعار عقب هذا التاريخ إلا ثلاث قصائد عنها. وعند عودته إلى روما متأخرا في عام 56ق.م. وجد أن كايليوس أيضا قد تخلص من الغادة الساحرة، وأنها اتهمته أمام القضاء واتخذت لنفسها لقب «كوادرانتاريا
Quadrantaria » أي «المومس الرخيصة لقاء مليمات». وفي القصيدة الثامنة والخمسين وجه كاتولوس الكلام إلى كايليوس وصب جام اللعنة والسباب على معشوقته السابقة؛ «فبيتها بؤرة للدعارة تنتظر فيه الوافدين، أما هي فمن اللواتي يجبن الطرقات بالليل وينغمسن مساومات في أحط الموبقات.»
ولكن رغم هذه الألفاظ القاسية، يمكننا أن نشك في أن حب كلوديا كان لا يزال يسري في دم الشاعر دون استطاعته نسيانها. ويحتمل أنها بعد رجوعه، في الفترة ما بين عامي 54، 55ق.م. قد حاولت جاهدة إعادته ثانية إلى زمرة أتباعها وعشاقها. وكان وسطاءها اثنين من أقل أصدقائه شهرة؛ هما فوريوس وأوريليوس. ويحتمل أن رد كاتولوس لم يسجله إلا قبل موته المبكر بفترة وجيزة؛ وذلك في القصيدة الحادية عشرة بنهايتها الرائعة:
ذلك الحب الذي أجرمت هي في حقه؛
فهوت به إلى الحضيض،
كما تهوي الزهرة عند حافة الحقل.
وقد بترها بسلاحه
المحراث المار بطريقها.
وقد يكون ذلك بمحض الصدفة أو بمحض الاختيار، كما حدث في أول قصائد كاتولوس عن ليسبيا، أن حاكى فيها الشاعر أحد أوزان قصائد سافو، لكن هذا التشابه في الوزن الشعري يؤكد ذلك الفارق المرير بين مشاعر صاحبي القصيدتين. وإلى هنا ينتهي تسجيلنا لأشعار كاتولوس الغرامية.
مات كاتولوس في عام 54ق.م. كما قتل كايليوس بعد وفاته بست سنوات، بينما مات شيشيرون بعده بخمس سنين. أما كلوديا فقد امتد بها الأجل، إذ نجد أن شيشيرون في إحدى خطبه الأخيرة يسأل أتيكوس عن أخبار كلوديا، والمعروف أن شيشيرون كان أحد المعجبين بل والراغبين في الزواج من كلوديا قبل أن يعرفها كاتولوس أو يقع في حبائل غرامها.
الباب الثالث
أشعار كاتولوس
إن أشعار كاتولوس كما هي الآن بين أيدينا، توضح ظاهرة من أبرز الظواهر؛ ألا وهي التوافق بين محتوياتها.
تختلف أشعار فرجيل وهوراتيوس أيضا من حيث الروعة والتفوق، ولكننا في حالة هذين الشاعرين نستطيع أن نتتبع تقدما طبيعيا من حيث النمو؛ وذلك ابتداء من أناشيد الرعاة الفجة
Eclogues ، إلى كمال الأينيذة الناضج، ومن مرارة أشعار الحماس
Epodes
اليافعة والهجائيات المبكرة
Satires
إلى الحكمة الناضجة التي نجدها في الأناشيد
Odes
والرسائل
Epistles .
أما الأمر مع شاعرنا فبخلاف ذلك على خط مستقيم، ومهما كان سبب التفاوت فليس للزمن دخل فيه؛ لأن كاتولوس مات في سن الثلاثين، بعد أن أنجز كتابة جميع أشعاره في السنوات الست أو السبع الأخيرة من سني حياته. أما كون التفاوت حقيقة ظاهرة للعيان، فسوف يتضح بلا عناء لكل من يتحاشى المختارات، مؤثرا قراءة جميع أشعار الشاعر التي بين أيدينا. فبعض الأشعار جميل رقيق، وبعضها الآخر سمج في سماجة لكل ما هو مكتوب باللغة اللاتينية، هذا إلى أن بعضها يبرز كمال الواقعية الخفيفة الحية، بينما يتجرد بعضها الآخر من كل معاني الحياة، لتكون مثلا في السماجة وإثارة الملل. على أن بعضها قصير مقتضب ينحصر في بيتين من أشعار الرثاء، بينما يطول بعضها الآخر إلى أربعمائة وثمانية أبيات من الشعر فتبدو أطول مما هي عليه. ومجمل القول، إن أشعار كاتولوس تتضمن «مزيجا» من شتى الضروب والأصناف التي من بينها «النوع المحزن».
وما بين أيدينا من نصوص كاتولوس الآن يحتوي على 116 منظومة شعرية، قام بترتيبها أديب لم يكن شديد الاهتمام بموضوعها أو بترتيبها الزمني، قدر اهتمامه بمظهرها الخارجي. وهي تبتدئ بستين منظومة وجدانية، تتبعها مجموعة من ثماني قصائد تفوق الأولى طولا، من بينها منظومة «بيليوس وثيتيس
»، وكلها في أوزان شعرية مختلفة. ثم مجموعة من ثمان وأربعين قصيدة أغلبها غاية في القصر، يقع في بيتين اثنين من الشعر الرثائي تقريبا.
أما أولئك الذين تعودوا أن يلمسوا أعمال أي شاعر بعد جمعها مرتبة حسب تاريخ تأليفها أو وفق موضوعها ؛ فرأينا فيهم أنهم يتبعون طريقة لا عقل فيها ولا تعقل. إلا أن اهتمام القدامى بالأوزان الشعرية كان يفوق كثيرا مدى اهتمامنا بها. وكان لكل وزن شعري طابعه الخاص، وارتباطاته الخاصة التي تجعله صالحا بإجماع الآراء للون خاص من التأليف، وتحكم عليه بعدم الصلاحية لأي لون آخر من ألوان التأليف، بيد أنه كثيرا ما كان يحدث أن يحتكر أحد شعراء الماضي وزنا شعريا خاصا ويعتبره ملكا خاصا له. وكان على الكتاب المتأخرين اعترافا بامتنانهم له، أن يتخذوه نموذجا لهم، ويحاكون ما يدعيه من وزن شعري.
وهاتان الحقيقتان لا بد من إدخالهما في الحساب عند الكلام عن أشعار كاتولوس بالذات.
ولئن أردت الحق فعندما بدأ كاتولوس يكتب أشعاره الغرامية لم يكن أمامه نماذج رومانية. ولما كان يعرف اليونانية؛ فقد توجه إلى مركز الثقافة في البحر الأبيض المتوسط؛ لأن أثينا في عصره، إن كانت ما زالت منارة علم، إلا أنها كانت قد فقدت صيتها وأهميتها ومكانتها الأولى، بينما احتفظت الإسكندرية بمركزها كعاصمة للبحر الأبيض المتوسط. كما يقول طالب العلم في حديث عيسى بن هشام، عندما سأله عن مطلع شمس العلم:
إسكندرية داري
لو قر فيها قراري
لكن بالشام ليلي
وبالعراق نهاري
فكانت الإسكندرية مشعل الثقافة والاستنارة في ذلك العصر الذي كانت فيه مصر تتمتع بالاستقلال، أما البطالمة فكانوا ملوكا عظماء، وكان المصريون يكونون مع الإغريق أمة واحدة عظيمة.
ومن ثم فقد توجه كاتولوس إلى أدباء الإسكندرية، غير أنه لم يكن محاكيا ذليلا لأدبائنا العظماء؛ نظرا لما كان بينه وبين أسلافنا من اختلاف بين.
فكاتولوس أولا وقبل كل شيء كان غاليا عاطفيا من الوافدين من الشمال، ولم يكن يعرف تلك القسوة الباردة التي اشتهر بها الرومان القدماء، ولا تلك الكراهية نحو الأدب العاطفي.
ولقد عاش أدباء الإسكندرية وفنانوها تحت حماية القصر الملكي، وكانوا يكتبون أولا وقبل كل شيء إرضاء للقصر الملكي وإشباعا لأهواء أنفسهم، لما كان بالمتحف مكتبة وجامعة، فقد نشأ هؤلاء الرجال أدباء وعلماء ومعلمين، لا يكرسون جل وقتهم لغير نقد الكتب القديمة والتعليق عليها.
رفض كاتولوس وأبى أن يحاكي هؤلاء السكندريين في عاداتهم وطرقهم العلمية؛ وذلك لأنه لم يكن بحال من الأحوال ناقدا مثلهم، فقد كانت أولى أشعاره قصيدة كتبها عن ليسبيا، تعتبر ترجمة لإحدى أشعار سافو، وكان لكاتولوس هدفان من ترجمتها:
أولا:
لأنها كانت خير قصيدة وأصلحها للتعبير عن مشاعره.
ثانيا:
لأن القصيدة لو وقعت في يد زوجها، أو تعرضت للنقد اللاذع؛ لكان في مقدوره عندئذ أن يدعي بأنها محض ترجمة لقصيدة سافو منكرا علاقته بليسبيا.
ومما لا شك فيه أن كاتولوس في بعض أشعاره قد حاكى كاليماخوس
Callimachus
في مراثيه. ومع أن كاليماخوس كان من سادة كتاب هذا اللون، فقد مني كاتولوس بالفشل في كتابته؛ لأنه نسي الفارق بين اللغتين اللاتينية واليونانية، وتناسى طبيعة الشخصية التي تختلف عن طبيعة كاليماخوس.
أما خير مرثاة كتبها كاتولوس فتلك التي نظمها عندما توفي أخوه (القصيدة 101).
ومما لا جدال فيه أن كاتولوس عندما ترجم منظومة سافو، كان يعبر عن مشاعره الشخصية وعن عواطفه ناقلا إياها عن اللغة اليونانية إلى اللغة اللاتينية.
كان كاتولوس يقلد الوزن اليوناني على النمط الذي كان يتبعه كاليماخوس في كتابة مراثيه، مصدرا القصيدة بصفات وألفاظ كثيرة غير مفهومة، مقتبسا هذه الصفات من الأساطير. فلقد حاول كاتولوس كتابة أشعاره مفعمة بالثقافة، ولكننا في الواقع نحب كاتولوس لما يكتبه تلقائيا، لا لما في أشعاره من علم وثقافة.
كان كاتولوس يترجم ترجمة حرفية، ولقد ثبت هذا بعد اكتشاف ما نقله نقلا حرفيا عن بعض كسر كاليماخوس؛ فقد كانت أشعار الأخير مفقودة، فلما عثر على بعض كسر منها، وجدنا أن كاليماخوس قد استعمل فيها جميع كلمات كاتولوس، مشيرا إلى جميع الأساطير الواردة في منظومة كاتولوس، ومقترفا نفس الأخطاء التي ارتكبها كاتولوس.
وإذ انحدر كاتولوس من عائلة ثرية، فقد اختلط مع عظماء الشخصيات، ومقت بومبي لانضمامه إلى قيصر، كما مقت قيصر كزعيم للعامة. أما هجوم كاتولوس على قيصر فقد كان غاية في القسوة، ويعلق كوينتيليانوس
Quintilianus
على ما ورد بالمنظومة الثالثة والتسعين عن قيصر، بأنه محض جنون ؛ إذ كيف يجرؤ كاتولوس فيتكلم بهذه الطريقة وتلك اللهجة عن رجل له عظمة قيصر ومكانته في التاريخ؟! ولم يكن هجاء كاتولوس لبومبي بأقل من هجائه لقيصر، رغم حرصه على عدم ذكر اسم بومبي بقوله: «أيها الحم، لقد دمرت كل شيء.»
كان كاتولوس زعيم المدرسة السكندرية وكان صديقه كالفوس
Calvus
زعيم المدرسة الأتيكية، فوقف كاتولوس إلى جانب صديقه ضد شيشيرون. والحقيقة أنه ليس لدينا برهان واحد يؤيد ذلك، ولكن هناك إشارة به فيما كتبه شيشيرون إلى الشعراء الجدد، بعد وفاة كاتولوس بعشر سنوات.
أما القصيدة التاسعة والأربعون التي وجه فيها كاتولوس كلامه إلى شيشيرون قائلا إنه خير الخطباء، وأفصح أحفاد رومولوس، ناعتا نفسه بأنه أسوأ جميع الشعراء؛ فتدفعنا إلى التساؤل عما فعله شيشيرون حتى يستحق كل هذا الإطراء والتقريظ، وما تضمنته المنظومة من عبارات الشكر على لسان كاتولوس. غير أن هناك احتمالا في أن هذه القصيدة كتبت بهذا الأسلوب من باب السخرية؛ إذ لم يكن هدف كاتولوس مدح شيشيرون بل ذمه ونقده، وذلك لأن كاتولوس كان يعتبر صديقه كالفوس أفصح خطباء روما قاطبة ولا أحد سواه. وهكذا نعثر على دليل قاطع بأن كاتولوس لعب دوره في تلك المعركة الأدبية التي قامت بين شيشيرون من جهة وبين كالفوس وآخرين من جهة أخرى. لقد كان كل إعجاب شيشيرون منحصرا في الشاعر القديم إينيوس
Ennius ، ولم يكن لديه وقت لشعراء الإسكندرية أبدا.
أما أشعار كاتولوس فقد صدرها الشاعر بقصيدة للمؤرخ المشهور كورنيليوس نيبوس، ويبدو أن كورنيليوس كان معجبا بأشعار كاتولوس نظرا لأنه شمالي مثله.
كان كاتولوس رائد شعراء الوزن الحادي عشر؛ لأن معظم أشعاره الوجدانية تتركب أبياتها من أحد عشر مقطعا. أما الوزن السداسي فقد اكتفى باستعماله في مطولاته، بينما استعمل في مراثيه الوزنين السداسي والخماسي معا. ولكن ما من شاعر آخر قد كتب شعرا من الوزن الحادي عشر في جمال ما كتبه كاتولوس بهذا الوزن.
كان كاتولوس شاعرا فطريا انبعاثيا تلقائيا؛ ولهذا كانت أشعاره رقيقة، حرة طليقة. والعجيب في أمر كاتولوس أنه في الأشعار التي يبدو فيها مقصرا أو مهملا، نراه يبذ مارتيالوس
Martialus
وبيترونيوس
؛ وهما الرومانيان الوحيدان اللذان كتبا بالوزن الحادي عشر.
أما النقص الذي نلمسه في مراثي كاتولوس؛ فمرجعه محاكاة النماذج الإغريقية.
إن أول ميزة لأسلوب كاتولوس هو أنه «طبيعي» خال من التكلف الممقوت، ولا يستخدم فيه أي ألفاظ متكلفة، ومن ثم كانت أشعاره الوجدانية جديرة بمقارنتها بأي أشعار وجدانية كتبها أي شاعر إغريقي أو روماني.
ولو شاء فرجيل أن يكون انبعاثيا ذاتيا لما أمكنه أن يصل إلى الدرجة التي وصل إليها شاعرنا كاتولوس.
كان كاتولوس مغرما بالمصطلحات اليومية، ولم يكن يتحاشى أي كلمات عامة، بل وصل به العشق وبلغ به الهيام إلى استخدام عبارات قد تستخدم في الكلام المرسل البسيط والنثر العادي، وكثيرا ما كان يكرر نفس الألفاظ. ومجمل القول وقصاراه، كان كاتولوس يكتب كل ما يحلو له ويروق في ذوقه، ويسجل جميع ما يمر بخاطره.
ولقد أباح كاتولوس لنفسه الحرية المطلقة في كل ما يكتب؛ ولذلك كان عبقريا دون أن يعرف ذلك.
ولذلك فهو يختلف عن جميع الشعراء الرومان؛ لأنه كان فنانا عبقريا دون إدراك لما عنده من مهارة وحنكة شعرية.
لم يكن من السهل على شاعر مثل كاتولوس أن يحاكي الشعراء السكندريين تماما؛ لأنه يختلف عنهم تمام الاختلاف في كل شيء، وإن كانوا قد علموه شيئا فذلك هو النقد والحرص في كل ما يتعلق بالتركيب والشكل.
ومما كان يميز كاتولوس عنهم، أنه شاعر وجداني عاطفي حار، بينما هم نقاد مجردون من هذه الأحاسيس. كان هو أرستقراطيا رومانيا، أما هم فكانوا مستشرقين، عاشوا في حماية وكنف القصر الملكي، بينما كان هو يهيم حبا بمعارضة ساسة عصره، مهما علا شأنهم وعظم قدرهم وذاع صيتهم.
الباب الرابع
قصائد كاتولوس
في حب ليسبيا
51
إنه لقرين الإله
كما يبدو لناظري،
إنه أسمى من الآلهة
لو كان ذلك ممكنا؛
من إذا جلس تجاهك،
رفع بصره إليك،
وظل يحدق فيك،
مرة بعد مرة،
فيسمعك تضحكين،
في عذوبة مطربة.
إن هذا يا ليسبيا
يسلبني جميع مشاعري؛
فيا لتعاستي وشقائي !
فكلما أرى طيفك؛
ينعدم صوتي على الفور،
ويختلج لساني في فمي،
ويدب في سائر أوصالي
سعير لظى رقيق،
وتجلجل آذاني
بطنين داخلي،
وتحجب عيناي
في أكفان من الدجى.
2
أي عصفور فتاتي،
يا جل سلوتها،
ومن تداعبك
قابعا في حجرها،
وتعطيك أنملتها؛
عسى أن تنقرها،
وتحثك دائما؛
لتجد في التنقير.
كلما ألحت على فتاتي،
فتاة حبي المشرقة،
رغبة في أن تلهو،
آملة أن تجد - كما يخيل إلي -
بلسما لجراحها.
يوم تخبو في قلبها
لواعج الحب المتأججة.
آه لو أستطيع مداعبتك
كما تداعبك هي،
فأزيح عن قلبي
أثقاله المبرحة.
3
يا أهل العشق والهوى،
وكل من تختصهم بعطفها فينوس،
نوحوا، ثم نوحوا، ثم نوحوا؛
فعصفور حبيبتي قد طواه الردى. •••
كان هذا العصفور دعابة غادتي،
وكانت تحبه كعينيها؛
لأنه كالشهد حلاوة.
ويعرف سيدته،
كما تعرف أي بنت أمها. •••
وعصفور فتاتي يهيم بحجرها،
يقفز فيه من هنا ومن هنا،
ويخصها بالغناء وحدها. •••
والآن يا عصفور غادتي،
أنت تجتاز طريقا
في دياجير الظلام،
لا يعود منه فرد
كما أجمع الأقوام. •••
أي رب العالم السفلي! أي رب الظلمات!
لعنتي عليكما، لعنة ما لها مثال؛
فقد سلبتما عصفورها،
وكان آية في الجمال. •••
أي عمل من الشيطان هذا؟!
آه يا عصفور الحبيبة،
يا عصفورها الصغير،
وا حسرتاه عليك يا عصفور! •••
محبوبتي تقرحت عيونها؛
من عدم النوم وطول العويل،
فأضناها الفراق ولوعته،
وشوقها إليك وإلى تغريدك الجميل. •••
غن لفتاتي أيها العصفور غن،
فموتك المبكر وفراقك حالا؛
قد أدميا عينيها حرقة وبكاء.
فحرام عليك ورحمة بفتاتي.
5
أي ليسبيا، أي حبيبتي وحياتي،
تعالي نعش في دنيا الغرام،
لا نبالي بحديث العجائز؛
فهم من التزمت بمكان،
وكلامهم سخافات وهراء. •••
تغرب الشموس مساء؛
لتشرق من جديد في الصباح،
أما أنا وأنت فليس لنا،
متى غاب عن ناظرينا
شعاع الحياة القصير،
إلا أن ننام طويلا،
في ليل ليس له صباح. •••
هيا أعطيني ألف قبلة ثم مائة،
ثم ألفا أخرى، من بعدها مائة،
وبعد الألف الثالثة، هاتي مائة وهكذا.
حتى إذا طبعنا على الشفاه
آلافا من القبلات؛
كففنا عن العد
لاختلاط الأرقام.
فلا ندري كم ارتشفنا من رضاب. •••
ويحك يا حبيبتي، ثم ويحك،
وحذاري أن تنسي الحسود،
فعينه الشريرة لو أحصت قبلاتنا؛
لهالها ذلك الفيض العظيم.
فتبا لها، ثم تبا لكل حسود.
7
تسألينني يا ليسبيا
كم قبلة من قبلاتك
تشفي غليلي، وتكفي
أو تزيد لتطفي الأوار؟
فأقول عدي رمال ليبيا،
وذرات تربتها الخصيبة،
ما بين معبد جوبيتر اللافح،
والقبر المقدس لباتوس العجوز،
أو بقدر نجوم السماء
وسط القبة الداجية،
التي إذا عسعس الليل اطلعت
على اختلاس العشاق لشهد الهوى.
فإن تقبيلك يا ليسبيا
قدرا كهذا من القبل،
فيه ما يكفي كاتولوس
حبيبك المتيم المجنون،
وما يزيد على الكفاية.
فما أحلى هذه القبلات
التي لن يستطيع العذول عدها
بعيونه اليقظة الفضولية،
ولا مجال لأخي الشر
أن يحسدها بلسانه الثرثار!
82
عزيزي كونتيوس،
إن شئت من كاتولوس
أن يفديك بمقلتيه،
أو بما هو أعز منهما - لو صح وجود الأعز -
فاتركه ولا تسلبنه،
ما هو أثمن عنده،
وأغلى من عزيز عينيه،
أو يزيد ويعظم.
86
يرى الكثيرون كوينتيا
جميلة فتانة،
لكنها في عيني
أزكى من الريحانة،
مليحة القسمات،
بمقلة وسنانة،
ممشوقة القوام،
طويلة فرعانة.
ولا أنكر أبدا
بلوغها في كل حالة
حد الكمال طبعا،
دون شك ولا إطالة،
ولكنها ليست جملة
جميلة في ناظري؛
فالجمال عندي لا يعرفها
كما هي لا تعرفه،
ولا أخال جسمها
تبدو به ذرة واحدة
تغريني فأستسيغها.
أما فتاتي ليسبيا
فكلها حسن وكلها إغراء؛
إذ قد سرقت من السيدات طرا
كل فتنة وكل بهاء،
فاختصت بالجمال وحدها،
دون سائر النساء.
92
تسيء ليسبيا القول في،
دائما، دائما.
وسيرتي على لسانها،
دائما، دائما.
فليتني أموت، وليتني أندثر.
لو كانت ليسبيا حقيقة،
لا تحبني، لا تحبني.
وأي دليل عندي؟
وعلاقتها معي،
هي، هي، كما هي. •••
إنني أصب عليها اللعنة،
دائما، دائما.
ولكن هل لي أن أموت؟
لو أنني لا أحبها،
لو أنني لا أحبها.
36
أي سفر فولوسيوس التاريخي،
أي تلك الصحيفة الدنسة،
هيا ونفذ النذر،
من أجل حبيبتي؛
فإنها قد قدمت
لفينوس المقدسة،
وكيوبيد المبارك
نذرها ونصه:
لو أنني عدت
ثانية إلى حبها،
وكففت عن قذفها
بأشعار الهجاء
ذات الوزن المفعولي؛
فسوف تعطي الإله
ذا القدم العرجاء
خير ما كتب وأنتج،
أسوأ الشعراء؛
كي يدمر حرقا
بحطب شجيرة لعينة. •••
ولقد رأت فتاتي
أنك أسوأ الأشعار
التي نذرتها للآلهة
في نوبة من الفرح،
ولحظة من المرح.
والآن بربك،
أيتها المولودة
من البحر الأزرق،
يا قاطنة إيداليوم المقدسة،
وأوريي الفسيحة الأرجاء،
يا مقيمة في أنكونا
وكنيدوس ذات الأحراش،
وفي أماثيوس وجولجي،
وفي منطقة ديراخيوم
ملتقى البحر الأدرياتي. •••
هيا سجلي في سجلك
أن النذر قد وفي،
وقدم كما اشترط،
ولم يكن سقيما،
ولا عديم الرواء. •••
تعال في الوقت نفسه،
تعال إلى النيران،
يا سفر فولوسيوس التاريخي،
يا أيتها الصحيفة الدنسة،
يا حشاشة السذاجة،
يا لمامة السماجة.
83
تحدثني ليسبيا
في حضرة زوجها
بما لا يستباح قولا،
ولا يستساغ سمعا،
ماجنة سادرة،
خليعة مستهترة. •••
ولأقوالها هذه
في نفس بعلها
أبلغ السرور وأعظمه.
فيا له من غفل أحمق! •••
فيا أيها البغل الغبي،
لست تفهم شيئا.
يا عديم الإحساس،
ويا قصير النظر. •••
لئن نسيتني ليسبيا،
وقنعت بالصمت الطويل؛
برأ قلبها،
وصح جسمها. •••
ولكنها في الحقيقة
تنصب لي شباكها،
وتكثر من حديثها؛
فتنجلي أسرارها. •••
وهذا يعني أنني
أحتل كل عقلها،
وأنها لا تذكر غيري،
ولا أحد سواي قط. •••
وليس كل ذا فقط،
بل يرمي لشيء خفي،
أشد من هذا وأنكى،
والخفي في كل أمر أعظم. •••
فجل مغزاه أنها
تحمل لي غيظا دفينا؛
فإذا بالقلب منها يشتعل،
ولظى الهيام يستعر،
فتبدؤني مغازلة،
قولا ولفظا سادرة.
104
أيدور في خلدك أبدا
أنه في استطاعتي
أن أقول عن حياتي
ما يفرح الأعادي؛
فأتحدث عن حبيبتي
بالسوء والضر معا،
وهي التي أعزها
أكثر من عيوني.
كلا وايم الحق كلا!
فما يمكنني أبدا
أن آتي فعلا كهذا،
ولو سلمنا جدلا
أني فعلت هذا الأمر،
ما كان حبي لك
هكذا مبتذلا،
ولا قبيحا هكذا،
ولكنك مع تابو
تبالغان دائما؛
فتهولان اليسير،
وتجسمان النقير.
107
إن مما يسعد المرء،
ويفرح قلبه وعقله
أن يتوق إلى الشيء،
في شوق جارف،
فلا تحدوه أو تداعبه،
كي يقتنيه ويملكه
بارقة من أمل. •••
ومصدر غبطتي وسعادتي ،
اللتين هما في ناظري
أغلى من النضار قيمة؛
أن تفيقي يا ليسبيا،
وتعودي ثانية إلي؛
فقد أضناني في صبابتك
كل شوق عارم. •••
بلى، لقد برح بي الهوى،
والشوق إلى جسمك البض،
بيد أنه لم يحدث قط
أن داعبني الأمل
في أن تلبي رغبتي،
فتعودي إلى حظيرتي. •••
أيها اليوم السعيد،
أيها المفعم بالبياض،
إنك لأنصع ما رأيت
منذ وجودي في الدنيا.
قل لي بربك صادقا،
هل أحسست في الدنيا بمخلوق
أسعد مني حظا؟ •••
اصدقني أيها اليوم المجيد،
ولا تخش لوم اللائمين،
أي كائن آنست في العالم
يمكنه أن يثبت ويقول:
إن في الحياة حظا
يتوق إليه التائقون،
أكثر من حظي هذا؟
أو هل يوجد في كنوز الدنيا
ما يطمع فيه المرء،
أعظم من سعادتي هذه؟
87
لو دار حي من الدنيا
يسأل النساء قاطبة؛
ما رأى واحدة منهن
في مقدورها أن تدعي
أن شخصا ما قد هام بحبها،
أو أن امرأ قد جن صبابة
بعشقها وغرامها،
كما جننت أنا
بحبك يا ليسبيا،
يا محبوبتي أنا وحدي. •••
فلو درست قصص الأولين،
وأساطير الحب أجمعها؛
ما عرفت روعة الإخلاص
الذي فاقت به واتصفت
أسطورة هيامي بحبك،
وقصة غرامي بشخصك.
70
تقول حبيبتي؛
لا يروقها امرؤ
كما أروقها أنا،
زوجا أشاركها الحياة.
ولو أن جوبيتر جاءها،
بمجده وجلاله،
وسأل أن يتزوجها،
طالبا يدها؛
لردته عنها خائبا،
يجر أذيال الفشل. •••
وكذا تقول حبيبتي؛
إن ما تهمسه الفتاة
في أذن حبيبها
الصب غراما في هواها،
لا بد وأن يسجل توا
على نسمات الرياح،
وفوق صفحات المياه
السريعة الجريان.
72
لقد اعترفت يا ليسبيا
ذات يوم علنا،
وجاهرت أمام الملأ،
بأن صديقك الأوحد
ليس سوى كاتولوس.
وكان من عادتك أيضا
أن تقولي وترددي،
بأنك لا تفضلين
أحدا علي، ولا تؤثرين،
حتى ولو أتاك جوبيتر،
وطلب صداقتك بنفسه. •••
وكنت يومئذ أحبك يا ليسبيا،
لا كما يحب السابلة
سيدة أو فتاة عابرة،
بل كما يحب الأب أبناءه،
وكما يحب أيضا صهره.
وها أنا ذا الآن يا ليسبيا
أتمتع منك بالصداقة،
ورغم أن عواطفي
على أشدها وتضطرم،
ورغم أن قلبي
متأجج بحبك،
ويزداد في التلظي
والاحتراق والتردي؛
فإنك في ناظري
أحط قيمة وأقل شأنا. •••
أراك تسألين؛
وكيف كان ذاك؟
فردي عليك دائما
يكون فظا قاسيا؛
لأن إهانة كهذه
إن تلحق أبدا محبا؛
دفعته من توها
إلى المزيد في الهوى،
وساقته إلى الحماقة،
أو الإقلال من شأن الصداقة.
85
إنني أكره وأحب،
وأمقت وأود،
وخليق بك أن تتساءلي؛
ما العلة في هذا؟ •••
فأقول يا حبيبة قلبي؛
علم ذاك ليس عندي،
ولكن هذه أحاسيسي،
وأحاسيسي تمعن في عذابي.
79 «إن ليسبيوس لفتى رشيق.»
وما الغرابة في ذلك؟
طالما أن ليسبيا
تفضله عليك يا كاتولوس،
وعلى جميع قومك طرا. •••
ولكن دع هذا الفتى الرشيق
يبيع كاتولوس وعشيرته
إن حظي بتزكية
ثلاثة من معارفه.
75
ألا فاعلمي يا ليسبيا
أن عقلي ضل السبيل،
هكذا كما تبصرين.
وليس غيرك يا ليسبيا
مسئولا عما حل بي. •••
فبجريرتك يا ليسبيا
قد حطم الإخلاص قلبي،
وصيره خرابا بلقعا،
هكذا كما ترين.
حتى إنك لو أصبحت
الآن خير السيدات؛
لما استطاع مطلقا
غمرك بالأماني الطيبات،
ولما أمكنه نبذ حبك
مهما اقترفت منكرا،
أو أتيت من الأفعال،
أشر ما يخطر بالبال.
77
أما بان منك يا روفوس حقا؟!
أحقا، وأنا صديقتك؟!
لقد وثقت بك عبثا،
وعبثا كنت أثق بك.
كلا وايم الحق كلا،
فقد كلفتني أغلى الثمن،
وكان ثمنا باهظا؛
إذ قد سمحت لك
أن تتسلل إلى أعماق نفسي،
وتضرم النيران في أحشائي،
بعد أن مزقتها إربا،
وتسلبني أنا المسكينة
جل سعادتي وهنائي.
أواه، وا حسرتاه،
يا من سلبتني نفسي،
وأقصيتها عني وأقصيتني عنها.
يا ترياق نفسي وسمها،
وزعاف حياتي القتال.
فيا ويلتى وحسرة على الشباب.
يا من قتلت صداقتي،
ودفنت آثارها بيديك.
73
إليك أقول: كف،
كف وألف مرة كف،
كف أن تنتظر
من سائر البشر
رد الجميل بالشكور،
ولا الشكور على الجميل.
وإليك أقول: إياك،
إياك وألف مرة إياك،
إياك أن تعتقد
أن من بين البشر
من للجميل عنده قدر
من فضة أو ذهب.
إن الجمائل كلها منكورة؛
فالجميل فعله لا يحتسب،
ينسى ويطويه الزمن.
وما فعله مشوب بالتعب،
بل حسب عقباه الأذى،
فضلا عن المشقة والنصب.
وهذه هي الحال معي.
فالآن لا يغيظني،
ولا يمعن في إزعاجي،
سوى الذي استأثر بي،
ولم يتخذ له صديقة
إلاي من دون البشر.
60
أمن لبؤة في جبال ليبيا
قد ولدت يا قاسية؟
أم من وحش ذي ستة رءوس،
يقبع في برزخ مسينا،
قد نشأت يا ضبعا ضاربة؟
حتى تزدري وتحتقري،
نداء ذا المتضرع،
في أشد ساعات حاجته. •••
أواه منك يا عاتية؛
فإن قلبك صخر
في القسوة المتناهية.
8
أي كاتولوس!
أيها الشقي التعس،
كف عن حماقتك،
واعتبر ما ضاع منك
كأنه لم يكن.
كانت أيامك فيما مضى
ساطعة مشرقة،
يوم كانت عادتك
مرافقة حبيبتك،
أينما رغبت وحيثما اشتهيت.
وكانت يومئذ تحظى بحبي،
كما لن تحظى فتاة أبدا بحب.
وحيثما كنت يومذاك،
تمتعت بفيض المداعبات
التي كنت تمعن فيها،
كما تمعن فيها فتاتك.
حقا ما أسعد تلك الأيام
التي أطلت عليك بمشرقها!
بيد أن معشوقتك
بعد كل هذه المتعة والهناء،
ما عادت ترغب فيك أبدا؛
فعليك إذن أيها المجنون
أن تكف عن الرغبة فيها،
بل وتعدل عن اقتفائها،
فهي تكويك بهجرانها.
وإياك ثم إياك أن تعيش
مكمودا حزين الفؤاد،
ولا ذليلا مهيض الجناح،
ولكن تأس بعقل رزين،
وكن حازما شديد المراس.
وداعا، حبيبتي، وداعا؛
فكاتولوس الآن حازم،
إنه حازم شديد المراس،
ولن يلح أبدا في طلبك،
وهو مغلوب على أمره،
ولكنك لن تلومي غير نفسك،
يوم لا يرغب فيك أحد.
حسراتي عليك ولعناتي،
أيها المخلوق التعس.
ما أتعس الحياة التي تنتظرك!
فمن ذا سيطرق باب مخدعك؟
ولمن سوف تتبرجين؟
ومن ستحبينه الآن؟
وما اسم الحبيب الذي ستنادين به؟
ومن الذي سترتشفين شفتيه؟
أما أنت يا كاتولوس،
فكن حازما صارما،
ثابتا شديد المراس.
76
إن يجد المرء لذة ما
في استعادة ذكرى صنيع قديم،
يوم يعتقد أنه صديق صادق،
لم يحنث قط في يمين مقدس،
ولم يخدع الناس أبدا.
تحت ستار مجد الآلهة ،
في أي عهد له معهم.
ففي حياتك الطويلة إذن،
مباهج جمة يا كاتولوس،
تستطيع أن تستخلصها
من حبك المجحود هذا،
فما من جميل أو صنيع
يستطيع أحد فعله
بالقول إن يكن أو بالعمل،
إلا وقمت يا كاتولوس
بإنجازه قولا وفعلا حتى تم.
بيد أن صنائعك وجمائلك
إلى ذلك القلب الجحود،
قد ضاعت في مهب الريح.
فلم تعذب نفسك بإمعان؟
لم لا تقطع برأي أخير؟
لم لا ترجع إلى الصواب؟
ولم لا تكف عن البأساء؟
رغم عين الآلهة،
لا ريب أنه أمر عسير
أن تتخلى بغتة
عن حب طال عليه الأمد،
إنه حقا لأمر عسير.
ولكن لا مناص من فعله،
سواء رضيت أو أبيت؛
فهذا وحده سبيل الخلاص،
وهذا وحده ما ستعمله،
عليك وربي أن تفعله،
سواء قدرت أو عجزت.
أيتها الآلهة!
لو أن الرحمة من شيمتك،
لو أنكم حقا قد ساعدتم
أحدا من الناس في الرمق الأخير،
فلترعوني في محنتي.
ولئن ثبت لكم طهر حياتي؛
فلتبعدوا عني هذا البلاء،
ولترحموني من هذا الدمار.
فيا ويحي ويا مصيبتاه!
ما هذا الفتور
الذي يدب في أوصالي؟
فأخلي قلبي وفؤادي
من شتى مباهج الحياة،
إنني ما عدت بعد اليوم أطلب
أن أحظى بحب حبيبتي،
أو أنها - وهذا محال -
ترضى معي بعلاقة طاهرة؛
عندئذ أستعيد صحتي،
وأتخلص من مرضي الفتاك.
أواه! أيتها الآلهة،
حسبك أن تمنحيني كل هذا
مقابل إيماني وتقواي.
58
ليسبيتنا، يا كايليوس،
ليسبيتنا التي أحبها كاتولوس،
فأحبها أكثر من نفسه،
بل وأكثر من جميع أقاربه. •••
إنها الآن في مفترق الطرق،
وفي الأزقة والحواري،
تقوم بإشباع الشهوات الدنيئة،
لنسل ريموس النبيل،
ذي العقل الراجح والرأي السديد.
11
أي فوريوس وأوريليوس،
يا رفيقي رحل كاتولوس،
سواء شق طريقه إلى الهند النائية،
حيث الشاطئ تتلاطم عنده
أمواج الشرق الصاخبة،
أو توغل في هيركانيا،
وبلاد العرب الملساء.
وسواء زار السكيثيين،
أو البارثيين المحاربين،
أو توغل في السهول الناضرة
التي يصبغها النيل بفروعه السبعة.
وسواء عبر جبال الألب الشامخة
ليرى آثار قيصر العظيم،
ويشاهد نهر الرين الغالي،
ويبصر البريطانيين المهولين
القاطنين أقاصي المعمورة.
يا أيها المستعدان لهذه الأهوال كلها
مهما كانت إرادة الآلهة،
أعلما فتاتي واحملا إليها
هذه الرسالة القصيرة،
غير الرقيقة ولا اللطيفة.
بلغاها ألا تنتظر مني
حبا كسابق عهدها بي
فيما مضى من الزمان،
ذلك الحب الذي بخطئها
حطمته وهوت به إلى الحضيض،
كما تهوي الزهرة على حافة المرعى،
وقد بترها بحد سلاحه،
عندما مر بها المحراث.
43
سيدتي، إليك تحيتي،
يا طويلة الأنف،
يا بشعة القدمين،
يا ذات العيون الكالحة،
يا قصيرة الأنامل،
يا مبللة الشفاه،
يا ذات اللسان غير العفيف،
إنني أحييك،
يا صديقة مفلس فورمياي.
أأنت هي الجميلة الفتانة
التي يتحدث بذكرها أهل الولاية؟
أبك تقارن ليسبيا حبيبتي؟
لعمري! يا لهذا الجيل!
ويا لقلة ذوقه!
ويا لسوء نشأته!
الباب الخامس
غراميات كاتولوس الأخرى
تطالبني أميانا الشمطاء،
لقاء قبلة واحدة،
بعشرة آلاف كاملة!
تلك السيدة المفطوسة الأنف،
صديقة مفلس فورمياي.
فيا ذوي قرباها،
وأولياء أمور هذه الفتاة،
هيا اجمعوا الأصدقاء، هيا،
ونادوا الأطباء، هيا؛
فأميانا ليست سليمة العقل.
إنها لا تكلف نفسها
سؤال المرآة مطلقا،
عن جمالها أو شكلها.
110
أي أوفيلينا
كثيرا ما تذكر الصديقات الطيبات
بكلمات الإطراء والمديح،
إنهن يؤدين العمل،
ولهن يدفع الثمن.
أما أنت فلست صديقة صدوقة؛
لأنك قد وعدتني،
وباطلا كانت وعودك.
أنت تأخذين كل شيء،
ولا تعطين أي شيء،
وهذه خدعة حقيرة. •••
فالإذعان أمر مليح،
وعدم الوعد شيء جميل،
ولكن أخذك كل ما تقدرين عليه،
وسلبك كل ما يملك المرء،
ولا تبرين بوعدك لقاء ما تأخذين؛
ليظهرك أمامي امرأة
في غاية النهم والجشع،
بما يفوق حد المألوف،
بين أسفل الساقطات الخليعات.
111
أي أوفيلينا،
إن حياة الزوجة مع بعلها
دون رجل سواه،
يتوج العرائس بأكاليل المجد،
ويهبهن غاية السعادة والهناء.
بيد أن الأفضل لك،
أن تعيشي مشاعا
من أن تكوني أما،
ثم تنجبين من أحد أعمامك ،
أبناء يكونون إخوة لك.
48
أي جوفينتيوس،
يا ذا العيون المعسولة،
آه لو كان يسمح لي
بالمضي في تقبيل عيونك؛
لطبعت عليها ثلاثمائة ألف قبلة،
ولما اقتنعت بعدئذ
بأني أخذت كفايتي.
كلا وايم الحق كلا،
لا، ولو كان حصاد قبلاتنا
أكثر من سنابل القمح الناضجة.
59
روفا القادمة من بونونيا،
زوجة مينينيوس،
والتي كثيرا ما أبصرتها
بين ممرات القبور،
تسرق قرابين اللحوم المطبوخة،
من فوق أكوام الحطب. •••
عندما أقبلت تجري،
خلف رغيف يتدحرج،
من بين ألسنة اللهب؛
أمسك بتلابيبها
عبد لحاد نصف حليق.
100
يهيم كايليوس بحب أوفيلينوس،
ويهيم كونتيوس بحب أوفيلينا؛
فالأول متيم بحب الشقيق،
والثاني متيم بحب الشقيقة.
وكلاهما زهرة شباب فيرونا،
ومثل جميل للأخوة الصادقة. •••
فمن منهما إذن أزكى؟
طبعا، أنت يا كايليوس.
فما أروع صداقتك لي!
وما كان أندرها!
يوم اضطرمت في أحشائي
نار متأججة ولهيب مستعر.
فليكن الحظ معك يا كايليوس،
وليكتب لك التوفيق في كل حب.
78
لجالوس شقيقان؛
لأحدهما زوجة من أجمل النساء،
وللثاني صبي آية في البهاء.
وجالوس هذا شهم رقيق. •••
فإنه خير مساعد في طريق الحب اللذيذ،
يربط بين قلوب الأحبة؛
فيقود الفتاة المليحة،
إلى أحضان الفتى المليح. •••
لكن ما أحمق جالوس هذا!
ألا يرى أن له زوجة؟!
عندما يلقن ابن الأخت،
كيف يغتصب زوجة الخال؟ •••
بيد أن ما يكدرني الآن،
أن يكون ذلك البصاق القذر،
الذي في فمك النجس،
قد لمس الشفاه الطاهرة،
لفتاة حرة طاهرة. •••
ويحك! فلن يتم هذا بلا عقاب؛
فستعرف أمرك جميع الأجيال،
كما أن شائعات العجائز،
ستتخذ منك فريسة لأحاديثها.
74
قد سمع جيليوس،
ويا هول ما سمع!
سمع أن عمه
قد تعود أن يزجر
كل من ينغمس في الشهوات،
أو حتى يتحدث عنها. •••
يتجنب جيليوس هذا الزجر،
اغتصب زوجة ذاك العم.
وهكذا صيره في لمح البصر،
أخرس كالتمثال لا يتكلم.
ومن ثم صار يفعل ما يشتهي،
حتى ولو سمحت نفسه يوما
بهتك عرض عمه،
لما اعترض الأخير،
ولما فاه ببنت شفة.
45
يقول سبتيميوس،
وقد احتضن في ذراعيه
حبيبته أكمى: «أي أكمى، أي حبيبتي،
إن لم أتفان في حبك،
وإن لم أكن مستعدا أبدا
لأن أمضي في حبك
طوال سني حياتي بلا انقطاع،
كأقصى ما يكون من الحب عمقا؛
فليقابلني وحيدا في ليبيا،
أو في بلاد الهند المحرقة،
أسد مكشر أخضر العينين.» •••
وما إن قال ذا الكلام؛
حتى سعط الحب شمالا،
كما سبق أن سعط يمينا،
مؤيدا صدق كلامه،
وداعيا بأطيب الأماني. •••
عندئذ أمالت أكمى رأسها،
وألقت به قليلا للوراء،
وقبلت بفمها الوردي ذاك
عيون حبيبها الجميلة السابحة،
ثم قالت له وهي هكذا: ••• «إذن يا سبتيميوس،
يا حياتي وقرة عيني،
هل لنا أن نخلص لهذا السيد،
ولا نخلص لأحد سواه،
أبدا إلى مدى الحياة؛
لأن في نخاعي المنصهر
نار الحب قسما تضطرم،
أعظم وهجا وأشد لظى.» •••
وما إن قلت ذا الكلام؛
حتى سعط الحب عن يمين،
كما سبق أن سعط عن شمال،
مؤيدا صدق كلامها،
وداعيا بأطيب الأماني. •••
والآن بعد ذا الفأل الحسن،
عاشا معا في هناء ورغد،
متحدين قلبا وقالبا،
يرتشفان كئوس الحب مترعة. •••
وسبتيميوس المسكين في هواه
لا يفضل على سائر السوريين،
ولا على البريطانيين أجمعين،
غير أكمى العزيزة وحدها. •••
وأكمى المخلصة بدورها
لا تشبع لظى حبها،
أو نهم ملذاتها،
إلا مع سبتيميوس،
ولا أحد غير سبتيميوس.
فمن رأى في عمره
أناسا أسعد منهما؟
ومن رأى أبدا
حبا أسعد من حبهما؟
109
تعدينني يا حياتي،
بأن يكون حبنا سعيدا،
وبأن يدوم فيما بيننا
خالصا إلى الأبد في عمرنا. •••
فيا أيتها الآلهة العظيمة،
امنحيها القدرة الكاملة
على البر بعهدها؛
فتكون فيه من الصادقات قولا،
ومن المخلصات قلبا وقالبا •••
فيكون من حظنا
دوام هذا الرباط الأزلي،
من الصداقة المقدسة،
طوال أيام حياتنا.
32
أي إبسيثيلا الفاتنة،
أي حبيبتي المعبودة،
ومصدر هناءتي المنشودة،
لكم أشتهي أن أتلقى أمرا،
منك بالحضور فورا؛
فأحظى بقربك ظهرا. •••
فلئن سمحت لي بذا،
فهل لذا العطف أن يحظى
بعطف آخر لمحب يتلظى،
فلا يصدني أمام عتبة دارك
معترض ولا عزول حاقد،
ولا يستهويك أبدا لتخرجي
ميل ولا أمر من الأمور،
حتى تظلي دائما في منزلك؟ •••
فلو سمحت وأذنت بالرضا،
وأمرتني لبيتك أن أحضر،
تم هنائي وبلغت أقصى المأرب.
الباب السادس
مختارات من قصائد كاتولوس
1
لمن أهدي كتابي،
وإنه لجديد جميل،
وغلافه مصقول بالحجر الخفاف
منذ عهد قريب؟
إليك يا كورنيليوس،
يا من تقدر أعمالي،
وتعتبر التافه منها
جديرا بأعظم التقدير.
فمن زمن بعيد،
يوم واتتك الشجاعة
من دون سائر الإيطاليين،
أن تستعرض في مجلدات ثلاثة
تاريخ العالم كله؛
فكانت، وحق جوبيتر،
موسوعات مثقفة،
آية في دقة الصنع.
والآن أهدي إليك هذا الكتيب،
راجيا قبوله على علاته،
أيا كانت قيمته،
واحتفظ به لنفسك.
ويا عذرائي، يا نصيرتي،
ليت كتابي هذا يعيش،
ليته يدوم جيلا وأكثر من جيل.
13
عزيزي فابولوس،
إنك بعد أيام قلائل
ستحظى بوليمة عظيمة،
لو باركتك الآلهة.
فلئن جلبت معك من الطعام
مقدارا طيبا وفيرا،
ولم تفتك الفتاة الجميلة،
ولا الخمر ولا الدعابة،
ولا جميع ما يبهج القلوب،
فلو جئتنا يا صديقي اللطيف،
بكل ما طلبت منك؛
لحظيت معنا بوليمة طيبة،
فكاتولوس مفلس خاوي الوفاض،
نسج العنكبوت خيوطه في كيسه،
مطمئنا، وقد عفا على الكيس الزمان.
بيد أنك ستحصل مني
مقابل هذه الأشياء،
على حب طاهر نقي،
أو ما هو أحلى من الحب وأبهى؛
فلسوف أعطيك عطرا،
تكرمت به علي حبيبتي،
إلهة الحب والجمال،
وهو عطر لو شممته،
تمنيت يا فابولوس
وطلبت من الآلهة،
أن تمسخك منخارا فحسب.
9
أي فيرانيوس،
يا من أوثره وحده
على ثلاثمائة ألف صديق،
هم جميع أصدقائي. •••
هل عدت حقا إلى بيتك،
وإلى آلهة منزلك،
وإلى أشقائك المحبوبين،
وإلى والدتك العجوز؟ •••
ها أنت ذا قد عدت،
فيا له من نبأ تبتهج له نفسي!
وكم يكون سروري عظيما
عندما أراك سالما،
وأصغي إلى صوتك العذب
وأنت تتحدث عن رحلاتك،
وعن مخاطراتك ومغامراتك،
وعن قبائل الهيبيريين،
كما عودتنا دائما. •••
وسأطوق عنقك بذراعي،
وأقبل فمك وعيونك النجلاء.
ويحي من ذا الذي يفوقني
في سعادتي وهناءتي،
من بين جميع المستمتعين،
بقسط أوفر من السعادة؟
49
يا أبرع نسل رومولوس
الأحياء منهم أجمعين،
وجميع الذين ماتوا،
وكل من سيحيا بعد ذلك
في السنوات المقبلة. •••
أي ماركوس توليوس،
إليك يقدم الشكر الحار.
كاتولوس أسوأ جميع الشعراء ،
فبقدر ما هو أسوءهم قاطبة،
فإنك خير المحامين أجمعين.
52
ماذا دهاك يا كاتولوس؟
لم لا تعجل بالموت؟
إن نونيوس ستروما
متقعمس في مقعد القناصل،
وفاتينيوس يقسم بقنصليته.
ماذا دهاك يا كاتولوس؟
لم لا تستعجل الموت؟
53
أضحكني في التو والحين
شخص من بين الجماهير؛
فعندما وجه كالفوس العزيز
اتهامه ضد فاتينيوس،
بأسلوب رائع بليغ
رفع ذاك أنمله
وصاح في دهشة المتعجب: «أيتها الآلهة العظيمة،
يا له من قزم فصيح!»
56
أي كاتو، أيا كاتو،
يا له من شيء سخيف مضحك،
جدير بأن تسمعه فيضحكك!
فلتضحكن ملء شدقيك يا كاتو،
وبالقدر الذي به تحب كاتولوس،
فالأمر غاية في السخافة،
ومثير للضحك جدا.
80
بم أعتذر يا جيليوس،
كي أفسر السبب
في أن شفاهك الوردية
تبيض حتى تصير
أنصع من الثلج،
كلما استيقظت في الصباح،
أو حانت الساعة الثامنة،
فأيقظتك من قيلولتك
في ساعات النهار الطويلة؟
لا بد أن في الأمر شيئا.
فهل حقيقة ما يشاع،
من انغماسك في الرذيلة؟
فمن الأكيد إذن أن الأمر هكذا،
والظواهر كلها تؤيد ذلك.
81
ألم تستطع يا جوفنتيوس
أن تجد وسط جموع الناس هذه،
صديقا يروق جماله ناظرك،
إلى جانب صديقك هذا،
القادم من منطقة بيزاوروم الموبوءة،
والذي يزيد لونه شحوبا
عن تمثال مذهب،
والذي تعزه الآن وتؤثره،
وتزعم أنك تفضله علي،
وتتجاهل أي جرم يقترف؟
93
لا تحدوني، يا قيصر
أي رغبة جامحة
في أن أدخل السرور إلى قلبك،
ولا أن أعرف أو أعلم
إن كنت أبيض البشرة
أم أسودها؟
96
لو أن القبر الصامت
يشعر بالسرور واللذة
من جراء حزننا يا كالفوس،
ذلك الحزن والأسى
الذي نحيي به حبنا القديم،
ونجدده مرة أخرى.
وبكاؤنا الشديد يا كالفوس،
على الصداقة الطويلة المفقودة.
فلا ريب أن حزن كوينتيليا
على موتها المبكر،
أقل من غبطتها بحبك لها.
101
آن الأوان لآتي إليك،
بعد طول التجوال في مدن كثيرة ،
وعناء الأسفار في بحار عديدة.
اليوم آتي لأودعك الوداع الأخير،
وأحضر مراسيمك الجنائزية،
التي تحزن النفس وتهز كيان المرء،
فأقدم آخر هدية لك مني،
وأخاطب رفاتك الصامت،
دون أن أتلقى جوابا لحديثي؛
إذ اختطفتك يد المنون.
فيا لهفي عليك أيها الشقيق المسكين،
يا من سلبت مني وشيكا
بهذه الصورة القاسية.
والآن فلتقبلن مني
هديتي هذه، التي بللتها
وخضبتها دموع أخوية حارة،
فقد عودنا آباؤنا
أن نقدمها هدية جنائزية،
لتعبر عن حزننا وعميق ألمنا.
سلام عليك يا أخي،
ثم وداعا إلى الأبد.
105
يكافح مينتولا محاولا
تسلق جبل بيليوس،
ولكن ربات الفن والشعر
يطردنه من فوقه بالمذارى.
106
لو يرى المرء فتى جميلا
في صحبة تاجر المزاد،
فماذا يظن المرء سوى
أنه يريد بيع نفسه؟
108
لو أن شيخوختك الشهباء،
يا كومينيوس،
التي لوثتها حياة الدنس
يكتب لها الموت،
بمحض اختيار البشر،
فلست أشك من جانبي
في أن لسانك عدو جميع الأخيار،
سيقطع أولا وقبل كل شيء،
ثم يلقى به سريعا
إلى نسر جائع نهم.
أما عيونك فسوف تنزع
ليلتهمها الغراب في بلعومه الأسود،
بينما تنهش الكلاب أحشاءك،
والذئاب باقي أعضائك.
4
رفاقي، وضيوفي،
يقول ذلك الزورق
الواقف أمام عيونكم؛
إنه كان أسرع السفن،
وإن سرعته الفائقة
قد عجزت عن قهرها
كل خشبة طافية،
سواء أبحر بالشراع أو بالمجذاف. •••
ويقول زورقي؛ إن هذه الحقيقة
لا يمكن بأي حال نكرانها،
فلا شاطئ البحر الأدرياتي الصاخب،
ولا جزر كيكلاديس،
ولا رودس الشهيرة،
ولا بروبونتيس التراقي المتوحش،
ولا خليج بونتس الكئيب،
تستطيع نكران هذه الحقيقة. •••
وزورقي قبل أن يصبح زورقا،
كان حفنة من الأشجار المورقة.
وهناك فوق قمة كوتوريس،
كثيرا ما كان يبعث حفيفه
بأوراق أشجاره المتكلمة. •••
فيا أماستريس البنطية،
ويا كوتوريس حاملة الأشجار،
إن هذا الزورق يقول
إنكما عرفتما هذه الأنباء،
وما زلتما تعرفانها جيدا. •••
ويقول زورقي إنه قد وقف
فوق قمتك منذ نشأته،
وغمس مجاذيفه في بحرك،
ثم حمل سيده وأبحر به
عبر بحار عديدة صاخبة،
سواء هب النسيم
عن شمال أو يمين،
أو هبت على جانبي الشراع
ريح هادئة مواتية. •••
ويقول زورقي إن النذور
لم تقدم قط من أجله،
لأرباب الشاطئ وآلهته،
يوم عاد لآخر مرة
من جولته البحرية،
مباشرة إلى هذه البحيرة الصافية. •••
ولكن حدث هذا في الماضي
وزورقي يقضي الآن شيخوخته،
في عزلة مريحة،
واهبا نفسه لك،
يا كاستور التوأم،
ولك يا توأم كاستور.
31
أي سيرميو،
أي درة أشباه الجزر،
بل ودرة الجزر قاطبة،
سواء في بحيرات نبتون الصافية،
أو في بحره الفسيح.
ما أسعدني وما أبهجني
إذ أعود لزيارتك مرة أخرى!
غير مصدق أبدا
أنني قد غادرت ثونيا،
والسهول البيثونية،
وأنني أراك ثانية في سلام. •••
فأي شيء أكثر غبطة للمرء
من أن تزاح عن قلبه الهموم؟
يوم يلقي العقل عن كواهله
عبء الأثقال والهموم،
يوم نعود إلى بيتنا
مرهقين من عناء السفر،
ثم نستلقي على الفراش
الذي طال حنيننا إليه.
إن هذه اللحظة وحدها
لخير مثوبة حقا،
لمثل الآلام الجسيمة
التي تكبدناها في حياتنا.
فمرحبا بك يا سيرميو الساحرة،
ومرحى بعودة سيدك.
وأنت، يا أمواج البحيرة اللودية،
فلتفرحي أيضا وتهللي،
ولتنعمي بكل ما في بيتنا
من وسائل اللهو والضحك.
47
أي بوركيوس وسوكراثيون،
يا يدي بيسو اليسريين،
يا محض الوباء والقحط. •••
أحقا أن بريابوس،
ذلك الرجل البذيء،
قد آثركما على فيرانيوس وفابولوس،
وكلاهما عزيز علي؟ •••
أحقا أنكما تنفقان المال،
ذات اليمين وذات الشمال،
وتقيمان الولائم الفاخرة،
الحافلة بكل ما لذ وطاب،
وتسرفان في تكاليفها الباهظة،
جهرا وفي وضح النهار؟ •••
بينما على أصدقائي الأعزاء
أن يهيموا في الطرقات،
بحثا عن وليمة تسد رمقهم؟
38
هيا كورنيفيكوس، إن كاتولوس
لمريض يشكو السقم،
وعلته تشتد سوءا،
أضعافا مضاعفة
كلما مر يوم،
وكلما انقضت ساعة،
بيد أنك لم تسر عني بكلمة واحدة
تشد بها أزري إبان مرضي،
مع أنها لن تكلفك شيئا،
أو تستنفد منك جهدا؛
لذا تأثرت منك كثيرا،
فما هكذا يعامل الصديق صديقه،
وحبيبه وعزيزه وشقيقه.
إذن فلتمنحني من الألفاظ
ما يسري عني همومي،
وأجد فيه عزائي،
وما قد يثير أشجاني،
التي أثارتها دموع سيمونيديس.
13
أي أسينيوس ماروكينوس،
إنك لا تجيد استخدام يسراك،
فتنتهز فرصة ضحكنا وثمولنا،
وتسحب من الغافلين مشوشاتهم.
أتظن أن هذا مزاح مقبول؟ •••
إنك لمخطئ أيها الأحمق،
ويا لها من عادة قبيحة سيئة،
يوصم ذوقك بالجدب والسقم!
ولو خامرتك ريبة في قولي؛
فلتصدق أخاك بوليو،
الذي يسره أن تقدر السرقات،
على قدر جميع المواهب بأسرها. •••
فرغم كونه لا يزال صبيا،
إلا أنه ملم بدنيا المزاح والطرب،
فعليك إذن أن تبحث الآن
عن ثلاثمائة بيت من الشعر،
من الوزن الحادي عشر،
أو أن تعيد إلي مشوشي،
الذي لا يهمني من أمره
سوى أنه هدية صديق قديم. •••
ففابولوس وفيرانيوس
قد بعثا إلي من هيبريا
بهدية من المشوشات الساتيابية،
فكيف يمكنني ألا أعتز بها
اعتزازي بفيرانيوس وفابولوس؟
অজানা পৃষ্ঠা