النزعة الإنسانية في النهضات الوطنية
كل نهضة وطنية تنتهي عندما يستيقظ شعور القائمين بها وتفيض حماستهم إلى أن تتخذ شكل المذهب والعقيدة لا للوطن وحده بل للإنسانية عامة. وهذه الإنسانية تتقبل هذه النهضة وتمزج بها تاريخها وتعمل بمبادئها. وذلك لأن ما تقوم به أمة كائنة ما كانت من سن المبادئ الجديدة في السياسة أو الاجتماع ينشر منها بقوة ما فيه من حيوية إلى الأمم الأخرى فيصبح ملكا عاما للعالم.
ونحن نرى هذا عاما في جميع النهضات الكبرى. فهذه الثورة الفرنسية كادت تكون مقتصرة على تجار باريس وأبناء الطبقة المتوسطة.
فلما جاشت الأمة بها وازدادت بالتصادم غليانا وحماسة ظهرت المبادئ، فإذا بنا نرى «حقوق الإنسان» وليس حقوق «الفرنسيين». وإذا بالثائرين يتعبدون لدين إنساني جديد يريدون تعميمه في العالم، ثم بعد ذلك نرى أن الأمم الناهضة تذكر مبادئ هذه الثورة كأنها مبادئها، بل كأن هذه الثورة التي نشبت في باريس كانت ثورة العالم كله.
ونرى مثل ذلك أيضا في الثورة الإيطالية، فإن «مازيني» زعيمها لم يكن يتكلم عن حرية الإيطاليين بقدر ما يتكلم عن حقوق الإنسان وحرية الشعوب. وحسب القارئ من مرامي هذه الثورة الإيطالية أن نذكر أن قائدها العظيم «غاريبالدي» كان ينوي تأليف فرقة للقدوم بها إلى مصر سنة 1882 لمساعدة عرابي ورد عادية الإنجليز عنا.
وقد كان «نابليون» طاغية اغتنم فرصة الفوضى التي تفشت عقب الثورة، ولكنه لم يستطع أن يقود الجنود إلا وهو يتعلل بأنه يريد تعميم مبادئ هذه الثورة، وقد خدع العالم المتمدن بهذه المبادئ، كما خدع الفرنسيين أنفسهم، وليس يعيب الثورة الفرنسية أنه استغل مبادئها لفتوحاتها، فإن نابليون مات ولم تمت مبادئ الثورة.
ونحن نجد الآن في النهضة الهندية مثلا بارزا للنهضات الوطنية التي تتجاوز مبادئها حدود الوطن فتعم العالم كله. وهي إنما تعمه لأن ضمير القائمين بها قد استيقظ، وغلت حماستهم، فأخذت هذه المبادئ في نفوسهم شكل العقيدة والدين ودفعت كل وطني منهم إلى ما فوق نفسه ووطنه. فإن غاندي الآن يتكلم عن الإنسانية وينزع نزعة عالمية في كلامه عن الهند، وقد وضع من المبادئ السامية لمكافحة المستعمرين ما يسير في العالم كله وكأنه مبادئه وليست مبادئ الهند وحدها. وذلك لأن قضية كل أمة مهضومة هي قضية جميع الأمم المهضومة في العالم، فما يهتدي إليه المجاهد في إحداها يعم سائرها ويتفشى في جميع أقطار العالم. ومن هنا يمكن أن نقول إن الوطنية السامية الصادقة هي نفسها أساس للعالمية ، لأننا عندما نخلص للوطن ونجاهد من أجل تحريره نعثر ونحن في سبيل الجهاد على مبادئ سامية تخدم العالم والإنسانية جميعا.
وليس هذا فقط، بل الذي نلاحظه في تاريخ النهضات الوطنية أن رجلا مثل غاندي عندما يكافح الاستعمار الإنجليزي لا ينسى أن يكافح الاستبداد القومي. وذلك لأنه يستوي عندها أن يقع الظلم من الهندوكيين على المنبوذين أو يقع من الإنجليز على الهنود عامة. لأنه هو لم يدع دعوته لمكافحة الإنجليز، بل لمكافحة استبدادهم. وهو لذلك لا يمكنه أن يسكت إذا كان هذا الاستبداد يجيء من الإنجليزي أو من الهندوكي. وقد وقف وقفته الأخيرة من أجل الكرامة الإنسانية بمساواة المنبوذين بالهندوكيين فكان مثلا للبطولة الإنسانية التي تذكرنا ببطولة الآلهة في أساطير الأقدمين.
وهذه الصين أيضا لما نهضت تكافح الاستعمار لم تنس أن فيها استبدادا آخر يقع بالمرأة ويذلها. فكانت إلى جنب مقاطعتها للبضائع اليابانية تدعو إلى حرية المرأة، وتحطم الأحذية الحديدية التي كانت تعوق تقدمها، وتقيدها مدى الحياة، وتجعلها كأنها نعش أثاث أو بعض الفراش. ومن هنا هذا العطف الذي تجده كل من الصين والهند من العالم كله، فإنهما تبدوان وفي كل منهما رغبة صادقة في الإصلاح الإنساني كأنهما تعملان للعالم كله.
وخلاصة القول إن الأمة التي تكافح الاستعمار لا يمكنها أن تخلص في هذا الكفاح وتجلب عطف العالم عليها حتى تكون دعوتها لنفسها دعوة للإنسانية كله، ومكافحتها للاستعمار مكافحة للاستبداد بأنواعه المختلفة سواء أكان اجتماعيا أم سياسيا أم اقتصاديا. بل هي لن تنجح في مكافحة الاستعمار الأجنبي إلا إذا كرهته، وتحمست في كراهته، وعندئذ تنظر من خلاله إلى أنه نوع واحد من الاستبداد. ولا بد عندئذ من تعميم المكافحة لأنواعه الأخرى.
অজানা পৃষ্ঠা