وخرجت تمشي في دلال وعجب، والقطة تدخل بين قدميها وتخرج في أثناء مشيها، وهي تكاد تعثر بها في كل خطوة، حتى نزلت إلى أمها في الطبقة الثانية من المنزل، فلما رأتها أمها قالت: أهلا بعروسي الحسناء، تعالي بجانبي يا فتاتي وأنصفيني من ابن خالتك هذا، فقد حطم رأسي بكثرة حديثه هذا الصباح! ولولا حبي له وإعجابي بخلقه وأدبه ورجولته، وضعفي أمام وجهه الوسيم، لكان لي معه شأن آخر.
فحيت زبيدة ابن خالتها بعينين مطبقتين تصنعت فيهما الحياء والخفر، ثم جلست إلى جانب أمها ورفعت رأسها قليلا نحو محمود، وقالت: كيف حال خالتي زينب اليوم؟ - الحمد لله، ولكنها لا تزال عاجزة عن المشي، ولا تزال تقاسي آلاما مبرحة في ساقيها، وبخاصة في الليل. - كانت هنا بالأمس «بدور» الدلالة وقالت: إنها كانت أصيبت بهذا المرض، ولم يشفها منه إلا دهن ساقيها بزيت ساخن خلط به دقاق الفلفل الأسود، والقرفة والمر. - عملنا يا زبيدة كل شيء، ولم نترك في تذكرة داود علاجا إلا جربناه، واضطررت آخر الأمر إلى استشارة الطبيب الفرنسي «شوفور» فقال لي: إنه مرض في المفاصل، وإن له مرهما في فرنسا، ولكن هذه الحرب بين الدول سدت سبل البحار، فلم يصل إلى مصر إلا قليل جدا من البضائع التي كانت تغرق الأسواق. - صحيح، إن أبي يقول: إن التجارة في كساد لقلة البضائع التي تسافر من رشيد أو تأتي إليها؛ لأن ناسا يقفون في البحر ويغرقون السفن.
كانت نفيسة أم زبيدة جالسة تعبث بسبحتها، وهي بادية العبوس تكاد تحترق غيظا من الحديث في السفن والتجارة؛ لأنها كانت تود لو أن محمودا قذف بنفسه على قدمي زبيدة يبللهما بدموعه، ويشتكي لها لوعة الحب والغرام، وليس أشهى لدى المرأة في سن اليأس من أن تشهد منظرا للحب، أو تسمع عنه حديثا، لقد حرمتها الطبيعة الحب الذي لم تنس حلاوته، فلا أقل من أن تراه في غيرهما، ولقد ودعت راحل الشباب من عهد بعيد، فهل يحال بينها وبين أن تسمع عنه خبرا؟!
وهل يجوز في شرعة الإنصاف أن تجحد هذا الحق الضئيل، الذي اكتفى به أبو نواس حينما نهاه المأمون عن الخمر فقال:
جل قصدي منها إذا هي دارت
أن أراها وأن أشم النسيما
وهل عليها من حرج إذا طافت بها ذكريات الماضي، فحنت إلى رؤية أطيافها في فتى أو فتاة؟!
ثم إن نزوات القلوب لا تموت، ولكنها تفقد وسائلها من صحة وفتاء، وحسرات الشيخ على الشباب إنما هي حسرات الجائع يرى الطعام عن بعد، فلا يستطيع إليه وصولا، ولا يجد له سبيلا، إن ألذ شيء عند العجائز أن يقضين النهار كله في أن فلانة خطبت، وفلانة تزوجت، وأن يحضرون الأفراح ويشاهدون العروس ليلة جلائها.
لما رأت أم زبيدة الحديث تافها، خطر لها بحق أن وجودها قد يكون سببا في كبح جماح عاطفة محمود فقامت مسرعة وهي تقول: يا حسرتي! لقد نسيت أن أنظر فيما تعده الطاهية لغداء اليوم، ثم ذهبت نحو المطبخ ولقبقابها العالي جلبة وقعقعة.
وهنا نظر محمود إلى زبيدة في ذل واستجداء، وقد أحست في لمحة خاطر ما وراء هذه النظرة، وهدتها فطرتها النسوية الماكرة إلى السكوت حتى تتفتح لها السبيل التي يجب أن تسلكها، فأطرقت إطراق المذنب الخاضع الذي وطد النفس على تلقي ما يقذف به من تهم، وهنا قال محمود: لقد وعدتني في آخر لقاء لنا يا زبيدة أنك ستفكرين في الأمر، وستصارحينني بما انتهى إليه رأيك، وسألتك الرحمة بي فيما تفكرين، والإشفاق علي فيما تبتين، ووالله ما لقيتك بعدها إلا خفت أن أسألك عما هداك إليه التفكير من الحكم لي أو علي؛ لأني رأيت من الخير لي أن أعيش في نعمة من الشك، وأن أستمر في مداعبة أمل واهن أضعف من أنفاس المحتضر، والذي قال: إن اليأس إحدى الراحتين لم يكن يعرف أن العشاق كالغريق يتوكأ على الثمامة، وأنه لولا ما يلازم الحب من الرجاء والخوف لكان إحساسا حقيرا كإحساس الجوع والعطش، مضى شهران يا زبيدة وأنا في هذا الشك، فهل لديك اليوم كلمة أقوي بها أملي، وأتوسم فيها وجه سعادتي؟ لا تقولي: «لا» يا زبيدة، فإنه لم يبق لي إلا وتر واحد ضعيف من أوتار الأمل، أعزف عليه أنشودة غرامي، فإذا قطعته يا زبيدة سكتت أنشودتي، وسكتت معها نبضات قلبي، قولي: «نعم» يا حبيبتي، وإذا عز عليك أن تقوليها فلا تقولي: «لا».
অজানা পৃষ্ঠা