ثم طافت بوجهها جهومة قاتمة وقالت: وإذا حتم أن تذهب معه إلى فرنسا فماذا تفعل؟ أتذهب معه؟ إنك إن فعلت قتلت أمك يا سليمان، إني أوثر أن تنزع روحي من جسمي على أن تنزع أنت من يدي، وهنا طرق الباب خادمها «سرور» وكان معه «روفائيل» المترجم جاء يترجم الرسالة وكانت موجزة جافة يأمر فيها زبيدة بالرحيل العاجل إلى رشيد، لتدرك السفن التي ستقل جيش الجنرال «بليار» إلى فرنسا، ويهددها في آخر رسالته بأنها إن أبت الرحيل، فعليها أن تسلم ولدها إلى مسيو «إستيف» مدير الشئون المالية، ليحمله إلى أبيه بالإسكندرية.
وما كادت زبيدة تسمع الرسالة، حتى جن جنونها، وصاحت في وجه روفائيل: اذهب وقل لسيدك: إن مخلوقا في الأرض لن يستطيع أن يأخذ مني ولدي، ثم قل لسيدك: إنه لم يعد حاكما على مصر حتى يتبع معي أساليبه التي قضت عليه وعلى ملكه، ثم قل له مرة ثالثة: إن زبيدة مصرية، وإن ابنها مصري، رغم أنف القوانين التي تأنقتم في وضعها.
وحينما سمعت أمها صياحها أقبلت مذعورة، وكانت في غرفة بعيدة مع ابنها علي الحمامي، فلما علمت الخبر انفجرت بالبكاء، ووقف إلى جانبها «سرور» وهو يدافع الدمع فلا يستطيع، وأخذت زبيدة تذكر تاريخها الأسود، وتعدد ما أصابها من النكبات بين بكاء يمزق الصخر، ونشيج يذيب الحديد، وكان المترجم «روفائيل» قد خرج بعد أداء رسالته مسرعا، فلحق بالمسيو «إستيف» في دار ديوان الأحكام وأخبره الخبر، فأسرع إستيف إلى قصر مينو وطلب مقابلة زبيدة، وكان ينتفض من الغضب، فلما قابلها قال لها في حزم وتصميم: إن زواجها بالجنرال لم يكن لعبة لاعب أو سخرية ساخر، وإنما هو زواج شرعي له كل مطالب الزواج الشرعي ونتائجه، أما أن الجنرال لم يعد حاكما لمصر، فتلك مسألة ليست للنساء أن يخضن فيها، ولكن الذي يعلمه، والذي يجب على السيدة أن تعلمه ، أن من مطالب الجنرال مينو الأولى عند الاتفاق على نزوح الفرنسيين عن مصر أن تتخذ الوسائل الأمينة لسفر زوجه وابنه إلى فرنسا، فإذا كان مينو حاكم مصر أو لم يكن، فإن الترك والإنجليز سينفذون هذا المطلب، رضيت السيدة أم أبت، وإذا بلغت بالسيدة رقة العاطفة بحيث لا تستطيع أن تغادر وطنها، فإننا لن نجرؤ على مس تلك العاطفة النبيلة، ولكننا نكتفي بحمل ابن الجنرال إليه؛ لأنه فرنسي السلالة، بمقتضى المادة الحادية عشرة من عقد الاتفاق المسجل بمحكمة رشيد.
سمعت زبيدة هذا الحديث أو هذا التهديد فصعقت، وتطلعت إلى مسيو إستيف في استعطاف يفتت الصخر، فلم تجد في وجهه إلا عبوسا ويبسا، ثم تنهدت وقالت: ألا ينتظر الجنرال سنة حتى ينمو الطفل قليلا ويتحمل مشاق السفر؟ فقال إستيف في إيجاز: السفر غدا.
وهنا هزت زبيدة رأسها وقالت في شمم اليائس: سأسافر غدا، ويفعل الله ما يشاء، ثم كفكفت دموعها وقالت لسرور: أعد كل شيء يا سرور، وهمت أمها بالبكاء فصاحت بها: ليس هذا وقت البكاء يا أماه، إنما هو وقت الصبر والتسليم لأحكام القدر.
فأعد سرور كل شيء للرحيل وحتمت والدة زبيدة عليه أن يسافر مع سيدته إلى فرنسا؛ لأنها لا تطمئن على سلامتها إلا وهي في حياطته وحراسته، وذاع خبر سفر زبيدة بين أهلها بالقاهرة، فاجتمع في الصباح بالقصر: السيد المحروقي، وزوجته أمينة، وابنته وابنه، ومحمود العسال ونيكلسون، ولورا، وكانت فترة من الحزن تعلو وجوههم كأنهم جاءوا لتشييع جنازة، ونزلت زبيدة من السلم وحولها أمها وأخوها وسرور، وخادمة تحمل ابنها سليمان، فسلمت على مودعيها واحدا واحدا في صمت وتجلد، ولما جاءت للسلام على ابن خالتها محمود لم تملك إلا أن تعانقه، وتطبع على جبينه قبلة صامتة، ثم ترسل زفرة حزينة فيها كل معجمات اللغة من الحب والحنان، ولما همت لتركب المحفة إلى ساحل بولاق، اتجهت نفيسة إلى سرور وهي تحمل في يدها كيسا ثقيلا وقالت: هذا الكيس يا سرور به ألف محبوب، فاحفظه معك ولا تنفق منه شيئا، فإذا وقعت سيدتك زبيدة في ضائقة فأنفق منه ما تشاء لتخليصها، نحن لا ندري يا سرور ما يكون، ولكن إياك أن يمسها سوء وأنت معها، أنت خير أمين عليها يا سرور، ابذل روحك ومالك في أن تنجيها لوالدتها الحزينة، في وديعة الله ... في وديعة الله!
وركبت زبيدة المحفة بين بكاء الباكين وعويل المعولين، واختفت عن الأنظار كما يختفي حجر صغير يقذف به في بحر خضم.
وسار محمود ولورا مع خالته نفيسة حتى بلغا دارهما، وحينئذ قالت لورا: لم يعد لنا بقاء بالقاهرة يا محمود. - إن سرورنا بخروج الفرنسيين ضيع نشوته حزننا على زبيدة، وقد أقمنا بالقاهرة لمناجزة الغاصبين، لذلك أرى ما ترين.
فأسرع نيكلسون قائلا: لنسافر غدا إذا مع السيدة نفيسة، ولما عقد الاتفاق على السفر، خرج محمود إلى ابن عمه حسين فأخبره بما عزم عليه، ووجد عنده سعدا الشباسي المراكبي، فعلم منه أنه سيسافر إلى رشيد بعد يومين، فتركهما محمود وأخذ في الاستعداد للسفر، حتى إذا جاء اليوم الموعود ركبوا في السفينة إلى رشيد.
الفصل الثامن عشر
অজানা পৃষ্ঠা