ثم أخرج خنجره من منطقته وقال: وإذا بلغت مصر فأغمد هذا الخنجر في صدر كليبر قائد الجيش الفرنسي.
فقذف سليمان بالكيس في وجه صاحبه، وقال وهو ينتفض: إن المجاهد في سيبل الله لا يحتاج إلى مال، حسبي هذا الخنجر وسأهز به الدنيا هزا، وسأترك فيها دويا.
سافر سليمان الحلبي إلى غزة، وبقي بها أياما ينتظر قيام قافلة للتجارة تقصد إلى مصر، حتى إذا قامت صحبها، فبلغ القاهرة بعد ستة أيام، وكان ذلك في اليوم الرابع عشر من مايو، وكان يعرف القاهرة من قبل، ويعرف طرقها المعوجة، وحاراتها الضيقة، فحمل خرجه واتجه صوب الأزهر ليقيم برواق الشاميين، وقضى وقتا وهو يحضر الدروس، ويعيش من نسخ الكتب، وكانت الفكرة تنتابه كما تنتاب الحمى صريعها فينتفض انتفاضا، ويمس خنجره الذي أخفاه في طيات ثيابه، ويهم بإنفاذ خطته، ولكنه يعود فيقعده الخور، وتصده النفس المطبوعة على حب الحياة.
وهكذا بقي ريشة في مهب العواصف، وكرة تتقاذف بها العواطف، فكان بين إقدام وإحجام، وثورة وخمود، وشجاعة وجبن، «وبعض الحجا داع إلى البخل والجبن»، ولما ضاق بالأمر صدره أفشى بعض سره إلى الطلبة من أصدقائه، وهم: محمد الغزي، وأحمد الوالي، وعبد الله الغزي، وعبد القادر الغزي - فسخروا منه، وهزءوا به، ورموه بالجنون، وقال له عبد الله الغزي: إنك يا سيدي البطل المغوار أعجز من أن تقتل ذلك الفأر الذي يزعجنا في كل ليلة بالوثوب على وجوهنا! فزاد ذلك من غيظه وحفزه على التصميم، فخرج في صباح اليوم الثالث عشر من شهر يونية إلى الجيزة، يمشي مطرق الرأس مذعورا، كما يمشي الكلب المسعور، باحثا عن كليبر في كل مكان كما يبحث الصائد عن طريدته، فعلم بعد طول التساءل من نواتي سفينته، أنه يتمشى في كل مساء في حديقة قصره بالأزبكية، فرجع إلى القاهرة وكان قد أظله الليل، فحاول أن يصل إلى حديقة القصر فلم يستطع، فقضى ليلته في مسجد قريب، ولما أصبح تتبع خطوات الجنرال وسار في إثره إلى «الروضة»، ثم عاد خلفه إلى القاهرة، واستطاع التسلل إلى الحديقة فكمن فيها خلف ساقية، وكم جال بخياله في هذه اللحظة من صور: جال بخياله سخرية والي حلب، وجال بخياله ما فعل الفرنسيون بيافا، وجال بخياله أن الملائكة يستعدون الليلة للقائه في جنة الخلد بين المجاهدين والشهداء، وجال بخياله أن ذلك الخنجر الذي ترتعش به يده، سينقذ أمة كاملة من ويلات الذل والاسترقاق، ثم جال بخياله أن اسم سليمان الحلبي المغمور المجهول، سيجلجل في الآفاق ويدونه التاريخ بين أسماء أبطاله الأمجاد، وهنا أغمض عينيه وتشهد، وأخذ يتلو آيات من القرآن في الجهاد وفي ثواب المجاهدين، وما كاد يفتح عينيه حتى دخل كليبر ومسيو «بروتان» المهندس الحديقة، فنهض سليمان واقترب من الجنرال في ذل متصنع، فظنه مستجديا فلم يأبه له، ولكن سليمان وثب عليه كما يثب النمر الجائع، وطعنه بخنجره طعنة قاتلة فسقط مضرجا بدمائه، وهم مسيو بروتان أن يتعقب القاتل، فلما أمسك به طعنه سليمان ست طعنات، خر بعدها لليدين والفم، ثم عاد إلى كليبر فطنعه ثلاث طعنات ليقضي على آخر مسكة من حياته، ولم تحدثه نفسه بالفرار، ولكن غريزة حب البقاء دفعته إلى جدار في الحديقة فاختفى عنده، وجاء الحراس فرأوا قائدهم وقد أسلم الروح، فهالهم الأمر وتملكهم الجزع، وأقسموا على الانتقام من مصر وأهلها، وأن يدكوا أركانها دكا، ونفخوا في أبواقهم ليجمعوا شتات الجنود المنتشرين بالقاهرة، واهتزت أرجاء المدينة وزلزلت للحادث الجلل.
الفصل السادس عشر
كانت القاهرة يلفها غبش الظلام، حينما انطلق جنود الفرنسيين في أنحائها غاضبين مهددين بمحو القاهرة من صحيفة الوجود، وقد تسابقوا إلى القلاع والتلال، وصوبوا مدافعهم نحو المدينة المسكينة، واعتزموا أن يجعلوها نسفا وألا يبقوا بها نفسا، ووصل الخبر المشئوم إلى السكان المنكوبين فهرعوا إلى ديارهم ليفروا من الموت إلى الموت، وعلا الضجيج، وصاح النساء من نوافذ المنازل مولولات ناعيات، وبكى الأطفال مفزوعين لهذا الهول العظيم، وتذكر الناس ما أصابهم في الثورة القريبة العهد من فوادح فأخذتهم الرجفة، وانطلقوا في الطريق يصيحون: يا لطيف ... يا لطيف!
وكان نيكلسون ومحمود بقهوة بخطة سيدنا الحسين، فلما وصل إليهما الخبر بهتا وأخذهما أول الأمر ما يشبه الذهول، ثم قال نيكلسون: من يكون القاتل يا ترى؟ - يكون من يكون، فلن تفلت مصر من أكبر نكبة في تاريخها، وتكون النازلة أعظم إذا لم يعثروا على القاتل. - ويل للقاهرة ثم ويل لها! لقد أصبحت منذ دخل الفرنسيون غرضا لا تخطئه السهام، هلم بنا إلى الدار فقد تركنا بها لورا وحيدة، وأخاف أن يمسها سوء.
وبينما هما في الطريق قابلهما السيد أحمد المحروقي، وصاح بهما: لقد وجدوا القاتل، فعاجله نيكلسون: وأين وجدوه؟ - الحق أنه هو الذي أوجد نفسه، فإنه - كما يبدو لي - لم يحاول الفرار، ولم يغادر حديقة القصر، وقد علمت أنه طالب علم حلبي، والفرنسيون يعتقدون أن وراء الأكمة ما وراءها.
فقال محمود: غدا يتبلج الصبح لذي عينين، إن القاهرة في هذه الليلة لن تنام، وكيف تنام من تنصب له أشراك الحمام؟!
ثم انطلقا حتى بلغا دارهما، فوجدا لورا لدى الباب والهة حزينة، حتى إذا رأت محمود سقطت بين ذراعيه ، وأخذت تبكي وتضحك في آن، ثم اتجهت إلى أبيها وقالت: لقد قتلني طول انتظاركما في هذه الليلة الليلاء، وقد أصمت صفارات الفرنسيين أذني وهم يجوسون خلال الطرق في شبه جنون محموم، هل قتل كليبر حقا؟
অজানা পৃষ্ঠা