وفي هذه الأثناء تماثل محمود وعادت إليه قوته، وبينما كان في منزله في أحد الأيام؛ إذ سمع طرقا على بابه، فلما فتح رأى سرورا خادم زبيدة فدهش لرؤيته، واستقبله استقبال الصديق، وشد على يديه في شوق وترحيب وقال: أهلا بسرور، ما كنت أترقب أن أراك بالقاهرة! كيف حال أهل رشيد؟ ثم تردد قليلا وقال: وكيف حال بنت خالتي زبيدة؟ - كلنا بخير يا سيدي والحمد لله على سلامتك، لقد انتقل الجنرال مينو من رشيد وعين حاكما للقاهرة، وجئنا منذ عشرة أيام، وجاءت معنا سيدتي نفيسة، وسكنا بالقلعة، وقد أحبت سيدتي زبيدة وسيدتي نفيسة أن ترياك، فسألنا عن منزلك وجئنا، وهما الآن بالحارة تنتظران.
فلما سمع محمود ذلك أسرع إلى الباب وثبا، وحينما وصل إلى الحارة رأى زبيدة وأمها، فحياهما في تكريم وحفاوة وشوق، وقادهما إلى مسكنه، وأقبلت لورا فمدت ذراعيها لزبيدة وملأت وجهها بالقبل، ثم مالت إلى يد السيدة نفيسة فقبلتها وقالت: من كان يظن أن يجمع الله الشتيتين بعد أن حالت بينهما الخطوب والأحداث؟ فالحمد لله على السلامة يا زبيدة، شرفت يا سيدتي نفيسة، لقد أراد الله بكما خيرا أن كنتما بعيدتين عن القاهرة في أثناء الثورة، لقد قضينا ثلاثين يوما كنا نموت فيها ونحيا في كل يوم ألف مرة.
فقالت زبيدة في ضجر وألم: وهل نجت رشيد من الثورة؟ إن جميع البلاد المصرية كانت شعلة من النيران، فأشارت لورا إلى محمود وقالت: لقد كدنا نفقد في الثورة هذا الولد المدلل المخاطر، فنظرت إليه زبيدة، والشوق إليه يكاد يفضحها، وقالت: لقد خلق محمود جريئا لا يبالي بالأخطار، ولا بد له من يد حكيمة حازمة تكبح جماحه، فضحك محمود وقال: إني سأتعب يدك كثيرا يا لورا؛ لأنني فرس جموح، فهال زبيدة ما تسمع، وراعها أن ترى تلك السهولة في الحديث بين لورا ومحمود وقالت: أظن أن يجدر بك يا محمود أن تذهب إلى رشيد بعد هذه الغربة الطويلة والجهاد الممض، فإن أمك تتحرق لرؤيتك.
فأجابت لورا: إنه أقسم ألا نعود إلى رشيد إلا بعد أن يغادر الفرنسيون أرض مصر، فقالت نفيسة: أتنوين العودة إلى رشيد يا لورا؟ فأطرقت لورا في حياء وقالت: أنا سأكون دائما حيث يكون محمود، وهنا أسرع محمود فقال: لقد نسيت أن أخبركما أننا أصبحنا زوجين، فقالت نفيسة وقد دهمها الخبر: مبارك، مبارك ... أرجو أن يكون زواجا سعيدا، ثم تنهدت وبلعت ريقها، واحتالت على ابتسامة خفيفة تخفي بها ما أصابها من ألم وحسرة، أما زبيدة: فقد أخذتها عاصفة من الذهول والحزن والغيرة، فأطرقت واجمة كأنها كانت تسمع صحيفة الحكم عليها بالموت، إنها تحب ابن خالتها حبا يقهر كل حب، وتهيم به هياما يعصف بكل هيام، وهو لها دون غيرها، وهو تمثال غرامها الطاهر، فكيف تمتد إليه يد؟ وكيف تجرؤ امرأة أخرى على أن تنعم بحبه؟ ولكنها هي التي نبذت هذا الحب، وأغلقت بابها دون ذلك الهيام، وحطمت ذلك التمثال بيديها، كل ذلك في سبيل أمل موهوم وأمنية كاذبة ... إن لورا لم تعمل شيئا، وإن محمودا لم يعمل شيئا، وهي وحدها التي نفسها تلوم، هي وحدها التي دمرت سعادتها، وهي وحدها التي انتزعت قلبها من صدرها وقذفت به في التراب.
رفعت زبيدة رأسها بعد لحظات وقالت: مبارك يا محمود، ثم أخذت تخوض في حديث آخر فقالت: إننا جئنا إلى القاهرة وأحببنا أن نراك فأرشدنا ابن عمك حسين إلى منزلك، فقد كنا نود أن نراك يا محمود، وهنا قالت نفيسة: إن زوجها الجنرال لا يقبل زيارة أحد من أقاربها، فقال محمود: إن كل سعادتنا أن نعلم أن زبيدة هانئة سعيدة.
فقالت زبيدة: أما السعادة والهناء فبيني وبينهما سدود وأسوار، ولكني راضية بالقضاء خيره وشره، وقد علمتني الأيام ألا أجرؤ على تغيير القدر، وألا أفسد حياتي بآرائي وآمالي. وهنا تنهدت نفيسة طويلا وقالت: هل عثرت يا محمود على مكان خالك؟ فأطرق مليا وانساب الدمع من عينيه غزيرا وقال: أعظم الله أجرك فيه يا خالتي، فقد نال شرف الشهادة، ومات في ميدان الجهاد شجاعا كريما، وانتقل إلى جوار ربه راضيا مرضيا. وما كاد يتم قوله حتى ارتفع البكاء والعويل، وكادت نفيسة يغمى عليها من هول الخبر، وأخذت زبيدة تبكي وتعدد مآثر أبيها ونبله وشرفه، وتصيح كما يصيح الهاذي المحموم: إنه مات من أجلي ... إنه مات من أجلي ... لقد قتلته ... لقد قتلته! ولما هدأت الأصوات قليلا رفعت نفيسة رأسها وقالت: هلم يا زبيدة، إن المرء لا يستطيع أن يمحو ما كتبه القدر، هلم يا بنتي، إننا لا نملك من أمرنا شيئا، وليس لنا إلا الصبر، وقد يكون ما نحن فيه اليوم خيرا مما نلاقيه غدا، ثم ودعتا لورا ومحمودا وانصرفتا.
الفصل الخامس عشر
في اليوم الثاني والعشرين من إبريل سنة 1800م استيقظت القاهرة على موكب حافل؛ أراد به كليبر أن يظهر عظمة ملكه وقوة بطشه، وأن يحتفل بالنصر المؤزر الحاسم.
فخرج من داره بالأزبكية في جمع خضم من مشاته وفرسانه، وقد انتضوا سيوفهم فكان لها بريق يكاد يذهب بالأبصار، وخفقت فوقهم رايات الجمهورية يداعبها نسيم الربيع، وجرت أمامهم المدافع الثقيلة التي تركت القاهرة ركاما، وخلفت قصورها أطلالا، وقد سار في طليعة الموكب نحو خمسمائة قواس في أيديهم العصي الغليظة ينادون بأصوات تكاد تثقب آذان السماء، كلها حمد وتمجيد للقائد العظيم، ويأمرون الناس بالقيام وحني الرءوس، وموسيقى الجيش تصدح بالأناشيد الفرنسية، وكان الجنرال يمتطي جوادا أشهب عربي السلالة، وقد بدا في وجهه العبوس والأنفة، وامتلأت خياشيمه عظمة واعتدادا.
سار الموكب يشق أحياء المدينة وأسواقها، فاختفى الناس - وقد أكمدهم الحزن - في بيوتهم، وسدوا أبوابهم دون هذا المشهد الذي عدوه احتفاء بموتهم، والمصريون بغريزتهم وفي كل أطوار تاريخهم يحبون الطبل والزمر، ويتزاحمون على المواكب كيفما كانت، ولكنهم في هذه المرة عزفوا في إباء عن أن ينقلوا في هذا الموكب قدما، أو يمدوا إليه عينا.
অজানা পৃষ্ঠা