الفصل الخامس
حينما جاوزت السفينة بنيكلسون وابنته لورا معالم رشيد، أحست لورا بكثير من الحزن على فراق وطنها الثاني، وموطن حبيبها الأول، وذكرت أيام سرورها ومجالس البهجة والأنس بين صديقاتها، وتفتت قلبها حسرة على فراق محمود؛ لأنها رأت في لحظة أن صروح آمالها قد تهدمت مرتين: مرة بانصراف هواه إلى زبيدة، ومرة بتلك الضربة القاسية التي قضت بتفريقهما وحرمانها أن تتمتع بمشاهدة وجهه الوضاح، وسماع حديثه الساحر. وجلس نيكلسون مهموما مفكرا كثير القلق، وأخذ يستحث النوتي على الإسراع ونشر جميع القلوع، ويمنيه الأماني إذا سابق الرياح ولم يعوق؛ لأنه كان يريد أن يصل إلى القاهرة قبل وصول الحملة إليها. وصلت السفينة إلى شاطئ بولاق بعد سبعة أيام، فنزل نيكلسون ولورا واستأجرا حميرا لحملهما وحمل أمتعتهما إلى خان بالقرب من مشهد سيدنا الحسين، حتى إذا استقرا فيه يومين، كان نيكلسون قد اهتدى إلى دكان صغير بسوق المغاربة وضع فيه قليلا من البضائع، واستأجر دارا صغيرة بالكحكيين فانتقلا إليهما. وكانت تخدمهما صاحبة الدار، وهي أرملة عجوز ورهاء غاب وحيدها منذ سنوات ولم تقف له على أثر، فأصابها مس من الجنون خيل إليها أن السيدة عديلة بنت إبراهيم بك هامت بحبه، فاختطفته واحتجزته بقصرها. وحينما وضع نيكلسون قدمه بالقاهرة رآها في هرج واضطراب وذعر، فقد وصل إليها الرسل الذين بعث بهم السيد محمد كريم إلى مراد بك، وعقد اجتماع بقصر إبراهيم بك حضره مراد بك وأبو بكر باشا والي العثمانيين، وقواد المماليك، وكبار العلماء وهم المشايخ: الشيخ عبد الله الشرقاوي، وسليمان الفيومي، ومصطفى الصاوي، ومحمد المهدي، وخليل البكري، والسيد عمر مكرم وغيرهم، وفي هذا المجلس أظهر المماليك الغرور والاعتداد بالقوة، فقرروا سجن قنصل فرنسا وجميع التجار الفرنسيين بقلعة الجبل، وأن يستعد مراد بك للسفر لمقاومة الفرنسيين ودحرهم قبل أن يصلوا إلى القاهرة، وفي اليوم التاسع من شهر يولية زحف مراد بك من الجيزة، وكان بالجيش كثير من المدافع والبرود، وقد بلغ عدد جنوده من فرسان المماليك ومشاة الإنكشارية ما يزيد على ثمانية آلاف، وصحبه في النيل نحو خمس وعشرين سفينة مسلحة، يقودها علي باشا الطرابلسي، ونحو خمس وثلاثين من السفن التي تحمل الجنود والذخائر والمئونة، وبقي إبراهيم بك الكبير معسكرا في بولاق في ألفين أو أكثر من المماليك، ينضم إليهم بعض الجنود المرتزقة والعربان والأهلين المتحمسين، ووصلت الأخبار بعد أيام بهزيمة مراد بك في موقعة شبراخيت، واحتراق ذخائره بقذيفة ألقتها العمارة الفرنسية على إحدى سفنه، وعلم أهل القاهرة أن طلائع التمرد بدت في جنود نابليون، لطول الشقة وقلة الغذاء، وشدة الحر وقحول الأرض، حتى وصلوا بعد جهد إلى قرية أم دينار في اليوم التاسع عشر من يولية، ورأوا الأهرام شامخة متحدية، وفي اليوم التالي رأوا جيش المماليك على ضفة النيل اليسرى، وقد امتدت صفوفهم بين إمبابة وسفح الأهرام، وكانوا في نحو أربعين ألفا، وكان الفرنسيون في نحو ثلاثين ألفا، وهنا وقف نابليون يستحث جنوده، ويشير إلى قمم الأهرام وهو يقول قولته المشهورة: «إن أربعين قرنا من الزمان تنظر إليكم».
ولكن الأهرام التي سمعته أرسلت إليه نظرة ساخرة من مؤخر عينيها، ثم ابتسمت في ازدراء وأنفة لهذا المخلوق الذي توهم إنه يستطيع أن يخرق الأرض، وأن يبلغ الجبال طولا. ولو أن إنسانا استطاع أن يسمع الحديث الصامت لسمعها تقول لنابليون: ومن تكون أيها المعتز بقوتك؟ وما هذه الشراذم التي ضللت بها في سبيل غنم كاذب ومجد موهوم؟ وما هذا الذي مسك فقذفت بخيرة رجالك في شرك لا خلاص لهم منه؟ نعم إن أربعين قرنا مني تنظر إليكم، ولكنها تنظر دهشة مبهوتة؛ لأنها ترى أن حب العظمة والسلطان لا يزال ينقلب في الناس هوسا وجنونا، إنك لو نظرت في سفحي وكان في استطاعتك أن تميز الأجناس البشرية من جماجمها، لرأيت جماجم الفرس مبعثرة يعفرها التراب بين جماجم الهكسوس واليونان، والرومان والعرب، والفاطميين والأيوبيين.
ذهبوا جميعا فهل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا؟ من أنت إلى جانب هؤلاء؟! وماذا يكون جيشك بين هذه الجيوش! تريد أن تكون خليفة الإسكندر الذي بكى كما يبكي الطفل المدلل؛ لأنه يريد أن يلعب بكرة الأرض فلعبت به، وكان كل نصيبه منها في النهاية حفرة لا تزيد على أربع أذرع في ذراعين! إن مصر يا هذا بلاد الفراعنة والسحر، وموطن الرسل والأنبياء، يرد الله عنها كل سهم، ويقصم كل من أرادها بسوء، وهي مقبرة الجبارين وقاصمة العتاة الطاغين.
خرج نيكلسون صباح اليوم الحادي والعشرين إلى معسكر إبراهيم بك ببولاق مع طائفة من المغاربة، فرأى الطرق وقد ازدحمت بالذاهبين إليها؛ لأن جميع المتاجر والحوانيت بالقاهرة أغلقت في هذا اليوم، ولم يبق منها إلا النساء والأطفال والشيوخ، وبدأت المعركة بين الفرنسيين وجيش مراد بك عند الظهيرة، وفتك الفرنسيون بالمماليك، وتم لهم الغلب عند الغروب، وفر مراد بك إلى الجنوب، وتقدم نابليون ببعض قواده حتى وصل إلى قصر مراد بك بالجيزة، وكان قصرا فخما رفيع البنيان، ثمين الأثاث والرياش به كثير من مخازن الزاد والذخيرة، ولما وقعت الواقعة رجع نيكلسون مع الراجعين والهموم والأحزان تخيم على الجموع، والذعر يعصف بالقوم عصفا، فلا تسمع إلا نادبا أو محوقلا، أو ساخطا على المماليك، أو ضاربا بكف على كف، أو مستنجدا بالأنبياء والأولياء وعباد الله الصالحين.
ذهب نيكلسون إلى داره فطرق الباب، فأسرعت لورا ففتحته وهي ترتعد من الخوف، وقد طار الدم من وجهها، فلما رأت أباها رمت بنفسها بين ذراعيه، ولم تستطيع أن تحبس عاصفة من البكاء كانت قد كبحتها طول يومها فضمها أبوها إلى صدره في رفق وحنان وتركها تبكي لتروح عن نفسها وتخفف من أعباء أحزانها، ثم أخذت تضحك كالمحموم، وتملأ وجه أبيها قبلا، حتى إذا هدأت النوبة التفتت إلى أبيها كالمتفرسة وقالت: أنت بخير يا أبي؟ - بكل خير أيتها الفتاة المحبوبة المعربدة، الباكية الضاحكة. - إن أفواجا من الناس مروا منذ لحظة من الحارة وهم يلطمون وجوههم ويصيحون يا لطيف ... يا لطيف ...
ومن أحوج منهم إلى الاستغاثة بالله يا فتاتي، بعد أن قضي الأمر وامتلك الفرنسيون مصر؟! - انهزم المماليك؟! - شر هزيمة! فقد هجم مراد بك بنحو خمسة آلاف من فرسانه على فرقة «دوجا» فصدته مدافعها، ثم هجم على فرقة «ديزيه» وكان هجوما شديدا، فحصد ديزيه المماليك حصدا، فانقلبوا إلى فرقة «رينييه» فقابلتهم بنار حامية، وهنا ثبت المماليك وزلزل الفرنسيون زلزالا شديدا، وكانت المدافع تقصف كالرعد، ودخانها يسد الأفق، ولكن الفرنسيين صبروا وصابروا حتى حصروا المماليك بين فرقتي «ديزيه» و«رينييه» فأخذهم الموت من كل جانب، وقذف كثير منهم بأنفسهم في النيل واستطاعت شرذمة قليلة أن تفر مع مراد بك إلى الجنوب، بعد أن أحرقوا سفنهم، فسقط في يد الجيش كله، واستولى الفرنسيون على مدافعه وأسلحته ومئونته، وكانت النكبة ماحقة، أما إبراهيم بك ومماليكه بالشاطئ الشرقي: فقد فروا بأموالهم وذخائرهم إلى بلبيس ثم إلى الشام، عندما تبينت لهم الهزيمة، ولا أدري لم فرق المماليك جيوشهم على الشاطئين؟ ولم تهاونوا فلم يدهموا نابليون في طريقه بين الإسكندرية ودمنهور، حينما كان الجوع والظمأ والقيظ قد فك عزائم الجنود وأوهن قواهم؟! - يا للخيبة؟ لقد كان مراد يظن أن ضربة من سوطه تكفي لسوقهم إلى بلادهم! - إن المماليك متنافروا القلوب مفككو العزائم، وقد استناموا إلى الراحة منذ عهد بعيد وأهملوا الاستعداد لكل مفاجأة، ثم إنهم اعتادوا الحرب على نمط قديم، فلم يستطيعوا الوقوف أمام فنون أوربا وآلاتها الحديثة. - وأين نابليون الآن؟ - نائم يا حبيبتي ملء جفنيه، على سرير مراد بك بعد أن ملأ بطنه من شهي طعامه وشرابه، وسيدخل القاهرة غدا فاتحا منصورا. - مساكين هؤلاء المصريين! لقد أصبحوا نهبة لكل ناهب، ولم جاء نابليون إلى مصر يا أبي؟ - جاء ليسد على إنجلترا طريق الهند أو ليفتح الهند كما يزعم، ثم ابتسم ابتسامة حزينة وقال: عجيب شأن هذا الرجل المغامر! كيف يترك أوربا الآن ومراجلها تغلي بالثورات والفتن والحروب، ليطوح بجيشه في بلاد بعيدة، بينها وبين فرنسا بحر يتحكم فيه الإنجليز بأساطيلهم؟ والأدهى والأمر أنه ضمن الخلود في مصر قبل الوصول إليها، فأحضر معه طوائف من العلماء والفنانين في أكثر شعب العلوم والفنون. - وهل تغضي عنه إنجلترا، يا أبي، وتترك له الحبل على الغارب، يتحكم في بلاد الله كما أراد؟ - سنرى أيتها السياسية الخطيرة، ثم قرص خدها في حنان وقال: ولو كنت في كرسي «وليم بت» فماذا كنت تصنعين؟ - لا تسخر مني يا أبت، فلو كنت في كرسي وليم بت لدرست الموضوع من جميع أطرافه، وقررت ما يهديني إليه رأيي، بعد استشارة رجال الجيش والأسطول. - وإذا هداك رأيك بعد كل ذلك إلى ترك نابليون، أتتركينه؟ - أتركه ولا أدع عيني تفارقه حتى يحين حينه، وحتى يفتل لنفسه حبلا ليشنق به رقبته. - حقا إنك إنجليزية إلى أطراف بنانك! إن إنجلترا لن تغضي طويلا على رجل يريد أن يعبث بسيطرتها على البحار. - والمصريون! أينامون على الضيم؟ - إن المصريين سيكونون أشد ويلا على الفاتح من الإنجليز؛ لأن دخول الفرنسيين في نظرهم ليس مشكلا وطنيا فحسب، وإنما هو مشكل ديني قبل كل شيء، وقد ظن نابليون أنه يستطيع أن يضحك من ذقونهم بالمنشورات التي يعلن فيها أنه يحب الإسلام ويبغض المسيحية، ويدين بالاحترام والطاعة للدولة العثمانية، رأيت اليوم طالبا من الأزهر يقرأ منشورا من هذه بين جمع حافل من إخوانه، فلما انتهى من قراءته قال ساخرا: ما شاء الله! إن الشيخ الشرقاوي سيجد له منافسا في مشيخة الأزهر. وقال ثان: ما أحقرها حيلة! إنه يبيع دينه ليلتهم مصر، ثم يظن أننا نصدقه. وقال ثالث: هنيئا للمسيحية حين نقصت واحدا، ويا ويلتا للإسلام بزيادة هذا الواحد!
هذه يا حبيبتي نفسية هذه الأمة الهادئة الوادعة، إن فيها ذكاء مكبوتا، وفيها بطولة مدفونة، وهي كالنار تحت الرماد تضطرم وتستشري إذا مستها جائحة في دين أو عرض أو وطن، فاصبري قليلا فتري كثيرا. - كيف حال محمود العسال يا ترى في وسط هذه العواصف؟ - إني لشديد الخوف عليه، فإنه عظيم الأنفة قوي الشكيمة، مخاطر في حب وطنه، وقد سبق هذا الشاب أوانه، فظهر فيه كثير من صفات البطولة التي تعز في سواه، وتفتح ذهنه عن لمحات بعيدة المرمى قل أن ترى في أنداده. - لا تخف عليه يا أبي، فإنه إلى ذلك حازم حذر، لا يضع قدمه إلا حيث ترى عيناه. آه، لقد كانت أيام رشيد هانئة سعيدة، ولقد لقينا فيها أهلا بأهل ، وأوطانا بأوطان. - إن نظام الكون مؤسس على الإعادة والتكرار، فالشمس تعود، والقمر يعود، وفصول السنة تعود، فهل من البعيد أن نعود كما كنا إلى رشيد؟ - وماذا ستعمل الآن يا أبي حيال هذه الكارثة المصرية الإنجليزية؟ - سأخدم وطني، وسأخدم مصر بكل ما في مكنتي من فكر وقوة وحيلة، وسأنتظر ما تجيء به الأيام.
قضى نيكلسون وابنته لورا هذه الفترة في القاهرة، في درس الحوادث وتتبع ما يجول في نفوس المصريين من اضطراب وغضب، وفي أثناء هذه المدة دخل نابليون القاهرة واستقبله علماؤها وأعيانها بما يستقبل المغلوب الضعيف غالبه القوي الظافر، ونزل بيت محمد الألفي الكبير، وكان قد تم بناؤه وتأثيثه قبل الحملة بأيام، وأظهر البشر والمجاملة والعطف على المصريين، ورأى أن يجتذب إليه العلماء وكبار البلد، فألف منهم ديوانا للأحكام، وأغدق عليهم، مدعيا أنه يدع للأمة حكم نفسها بنفسها، ثم عين من قواده حكاما لأقاليم الوجه البحري، وترك «دوجا» يتعقب مراد بك بالصعيد، وكان نيكلسون يختلف في كل يوم إلى قهوة مجاورة للأزهر، ليلتقط الأحاديث، ويتعرف نفوس الشعب، فكان لا يسمع إلا سخطا على الفرنسيين، وسخرية من وعودهم، وحنقا على العلماء وعلى كل من يمد يدا لمعونتهم، وفي ذات يوم دخل القهوة حشد من طلاب الأزهر، يتقدمهم الشيخ إسماعيل البراوي، وهو عالم أزهري ضخم الجثة، عرف بالجرأة والسلاطة وبغض الفرنسيين، فما جلس الشيخ حتى صاح: أزفت الآزفة ليس لها من دون الله كاشفة، أسمعتم الأخبار اليوم؟ إنها كارثة الكوارث، وقاصمة الظهر لهؤلاء الفرنسيين! لقد سمع بعض الناس اليوم من أحمد الزرو التاجر بوكالة الصابون، أن عمارة إنجليزية حطمت أسطول الفرنسيين بأبي قير في الثامن عشر من شهر صفر وقتلت قائده وكثيرا من بحارته، حتى لم يبق منه إلا أربع سفن صغيرة، فشمل الفرح كل مكان، وهبت رياح الثورة في كل إقليم، والآن ماذا بقي لهؤلاء الفرنسيين إلا أن نصيدهم كما تصاد الفيران؟
فقال أحد الحاضرين: إنني سمعت أن رئيسهم ذهب مع جيشه لمحاربة إبراهيم بك في الصالحية.
অজানা পৃষ্ঠা