فقال: لقد أصبت، ولا فائدة من بقائي هنا وأنت في قصر الخليفة، ولكنني سأتنكر وأدخل دمشق لأتنسم الأخبار، وأوصيك أن تدبري الأمر بالتأني والحيلة عسى أن يوفقك الله إلى ما فيه الخير.
قالت: ليطمئن بالك، ولا تعبأ بما تراه في الآن من ظواهر الحدة، وتذكر كيف رأيتني حين جئتني بخبر يزيد.
قال: إني والله معجب بثبات جأشك يا سلمى، ولكنني أخاف عليك. قال ذلك وشرق بدموعه.
قالت: لا تكن أقل ثباتا مني، وأنا فتاة وأنت كهل عركه الدهر، ولا يخفى عليك أننا نهضنا لعمل كبير، إذا فزنا فيه كان خيرا وسعادة لسائر المسلمين، أفلا يجدر بنا أن نعرض أنفسنا للخطر من أجل ذلك؟!
فجثا عامر على ركبتيه ورفع يديه إلى فوق وقال: اللهم إني أستودعك وديعة أودعنيها عبدك حجر بن عدي، شهيد الحق ونصير صاحب الحق، فلا تفجعني فيها، إنك فاحص القلوب وعالم الغيب وأرحم الراحمين.
ثم نهض ونهضت سلمى وقد سكن روعها، وارتاحت لما تم لها من أمر الذهاب وحدها، وتعزت بما عولت عليه من التفاني في سبيل الحب الصادق ونصرة الحق القويم.
وكانت الشمس قد توارت وراء الأفق وهم الليل بإرسال النقاب، وأخذ التعب من سلمى وعامر مأخذا عظيما؛ لما مر بهما من الأهوال في أثناء ذلك النهار، فقضيا ليلتهما والقلق سائد عليهما.
واستيقظ عامر قبل الفجر وسلمى لا تزال في الفراش، فظنها نائمة وانسل خارجا من الغرفة وهو يريد الخلوة ليستخير ربه فيما يرجوه من ذهاب سلمى إلى دار الخليفة وفيما يخشاه من عواقب اندفاعها.
فصعد إلى السطح في هدوء لئلا يشعر به الرئيس، فلما أطل على الغوطة رأى الأطيار فيها بين تغريد وزقزقة ومداعبة، لا يشغلها شاغل عن التمتع بما خلقت له، فاتجه فكره إلى ما هو فيه وقال في نفسه: هنيئا لهذه الخلائق الصغيرة، إني إخالها أسعد حالا من بني الإنسان، وإذا فاخرناها بما نعتقده في أنفسنا من السلطان عليها وما نرجوه من ثواب أو نتوقعه من نعيم فالواقع أنها أسعد منا حالا؛ لا تجزع على حبيب ولا تخاف من رقيب، وما أدرانا أنها ترجو ثوابا مثلنا؟ واعترض تفكيره معاء الماعز في الحظيرة وخوار الثيران فقال: ولا إخال هذه أتعس حالا من أسيادها بني الإنسان، ونحن إنما نخدمها التماسا لسعادتنا، ولكن السعادة تبعد عنا لما يقف في سبيلها من عقبات الطمع والشره مما لا نعرف له حدا.
ولم تطل أحلامه في عالم الخيال لما قام في نفسه من الاهتمام الشديد بأمر سلمى وذهابها إلى يزيد، فلما عاد إلى هذه الهواجس اقشعر بدنه خوفا عليها، ولكنه لم يدر ما يفعل وقد نفذت حيلته في استبقائها، فلم يشأ التسليم، وعزى نفسه بما سمعه تحت الجوزة من قول الهاتف: «وبشر الذين ظلموا بعذاب أليم»، فارتاح باله وتحول ذهنه إلى عبد الرحمن وخاف أن يستعجل يزيد قتله فيذهب سعيهم هباء منثورا.
অজানা পৃষ্ঠা