أرسل الكوفيون رءوس القتلى إلى ابن زياد وباتوا تلك الليلة في معسكرهم بقرب كربلاء، وقد أقاموا حراسا على خيام الحسين وفيها نساؤه وجواريه وليس فيهم من الذكور إلا ابنه علي الأوسط الملقب بزين العابدين وهو مريض.
وأسدل الليل نقابه، وانقضت المعركة وقد قتل الحسين وأهله وأصبحوا جثثا هامدة لا حراك بها، واستكنت عناصر الطبيعة، وأشرق القمر وهو في ليلته الحادية عشرة، فتكبد السماء قبيل العشاء. وأرسل أشعته على كربلاء وقد كانت في صباح الأمس قاحلة ظامئة فأمست وقد ارتوت من دماء الأبرياء، ولو أدرك ذلك التراب فظاعة ما جرى فيه في ذلك اليوم المهول لفضل الظمأ على الارتواء. أو لو علم القمر بموقع أشعته تلك الليلة لحبسها ليستر ذلك الجرم الذي لم يتفق مثله في تاريخ العمران.
أما سلمى فلما أقبل الليل وهدأت الطبيعة استولى عليها الجمود، ولبثت صامتة وطنين السهام لا يزال في أذنيها بما يتخلله من أصوات الناس، ولا سيما صوت الحسين وهو يزجر الناس ويعظهم ويستعين الله، فتمثل لها ما رأته في آخر الوقعة من مقتل الحسين وحز رأسه ووطء الخيل على ظهره، فاقشعر بدنها وشعرت بانقباض شديد، وضاق صدرها وتاقت نفسها للبكاء، ولا يحلو البكاء إلا بجانب الميت، فأحبت الخروج إلى مكان الوقعة لتشاهد تلك الجثة الساكنة وتبكيها لتفرج كربتها ، فنهضت وهي تتظاهر بحاجة نفسها حتى خرجت من الخباء، ولم يمنعها الحراس لاشتغالهم بالحديث عما كان.
فانسلت بين الخيام حتى تجاوزت المعسكر وأشرفت على الموقعة وقد عرفت المكان بما ينعكس عن مستنقعات الدماء خلال الجثث من الأشعة الحمراء، فلما رأت ذلك اختلج قلبها في صدرها لما تتوقع أن تراه هناك من الأجساد المضرجة بالدماء، ولا رءوس لها، فمشت الهويناء وركبتاها ترتعشان، وتذكرت ما كان من الضوضاء في ذلك الفضاء وما آل إليه من السكون المرعب، فازدادت رهبة حتى حدثتها نفسها بالرجوع، ولكنها تجلدت وظلت في سبيلها وهي تتلمس الطريق وعيناها شاخصتان في الجثث، فارتعدت فرائصها لما عاينته من الأمر الفظيع، رأت جثثا مطروحة لا حراك بها ولا رءوس، لها وأكثرها عار من الثياب؛ لأن القاتلين سلبوها الأثواب إلا ما يستر العورات. وبينما هي تخطو خطوة الخائف الهائب سمعت صوتا خارجا من بين القتلى، فاقشعر جسمها ووقف شعرها وجمد الدم في عروقها، فوقفت وأصاخت بسمعها وقد غصت بريقها وأمسكت نفسها وتفرست في مكان الصوت وهي على قيد أذرع منه، فرأت شبحا يتحرك، فجثت في منخفض يكاد يواريها وقد ودت لو أنها لم تتجشم القدوم إلى ذلك المكان، على أنها ما لبثت أن رأت ذلك الشبح يقول: رحمك الله يا ابن بنت الرسول. رحم الله بدنا حمله الرسول على ذراعيه وقبله بشفتيه. لعن الله القوم الظالمين. كيف تجرءوا على هذه الفعلة الشنعاء؟ كيف مدوا أيديهم إلى هذا الجسم الطاهر وفيه رائحة سيد المرسلين؟
فلما سمعت سلمى الصوت عرفت أنه صوت الشيخ الناسك، فاطمأن بالها وسكن روعها، ولكنها أحبت البقاء في مكانها لتسمع ما يقوله، حتى إذا أبكاها قوله بكت وفرجت كربتها، فسمعته يبكي ويشهق ويقول: قبحهم الله! ما أقسى قلوبهم! ألم يخافوا من موقف اليوم الرهيب؟ تجرءوا على قتلك وفيك بقية من دم الرسول وأنت ابن ابنته، وقد قال فيك: «أنا من حسين وحسين مني.» كيف يلقون وجه ربهم في يوم لا تغني فيه نفس عن نفس شيئا؟ ويل لهم! قتلوا سيد شباب المسلمين قتلة لم يقتلها كافر ولا منافق ، ولم يكتفوا بقتلك وا أسفاه عليك، بل قطعوا رأسك ووطئوا ظهرك بالخيل. ولكنني أراك مستقبلا السماء وقد بسطت ذراعيك كأنك تشكو أمرك إلى ربك وتدعو للانتقام منهم. وما ربك بغافل عما يعملون. الويل لي أنا الشيخ التعس، ويل لشيخوختي. كتب علي أن أرى خير المسلمين يقتلون، وقد كنت أتوقع إذا حييت أن أرى الحسين مالكا رقاب المسلمين فتنتقم لي من ذلك الظالم الغادر قاتل الأبرياء، فآخذ بثأر فلذة الكبد وحشاشة القلب المقتول في سبيل الحق. حتى إذا لقيت أجلي فارقت الحياة مجبور القلب وقد عاينت الحق سائدا والباطل مذعورا، فقضيت شيخوختي ناسكا هائما لا آوي المنازل ولا أبيت إلا في الخلاء، ولكن أبى الله إلا أن أرى الحسين وأولاده وأبناء أخيه وأبناء عمه جثثا لا حراك بها، وأرى الدم يجري من رقابها وجوانبها، وأرى أبدانها مكشوفة وقد تلطخت بالدماء المجبولة بالتراب، أبدانا بلا رءوس، فيا لله من هذه البلية! ولما بلغ الشيخ إلى هذا الحد خنقته العبرات فسكت وأوغل في البكاء.
أما سلمى فلم تتمالك عن البكاء وهي تسمع نواح الشيخ، ولكنها استغربت ما جاء فيه من التعريض والتلميح، ولم تفقه ما وراءه، ولو علم الشيخ أنها تسمعه ما صرح بما يكنه ضميره، وقد صبر على كتمانه بضع عشرة سنة.
ولبث الشيخ صامتا برهة، وسلمى تتوقع أن تسمع منه شيئا جديدا، لعلها تستطلع حقيقة حاله، فإذا هو قد نهض ثم ألقى بنفسه على جثة الحسين، وجعل يقبلها ويتمرغ في دمائها ويقول: «ما أطيب ريحك يا حسين، وما أذكى ترابك! تبا لهم كيف يقتلونك وأنت بقية خاتم النبيين، أستحلفك بالله إذا لقيت حجرا أن تقرئه السلام، وأن تخبره أني صبرت على قتله صبر الرجال، وسأصبر حتى ألحق به، وأراه وقد أخذت بثأره، وأرجو ألا أموت قبل أن أنال هذه النعمة، وإذا لقيت جدك رسول الله أخبره بما فعل المسلمون بعده، أخبره كيف فعل الطغاة بالصالحين، قل له إنهم انقسموا على الخلافة، وباعوا الحق بالباطل، ولا غرو فقد علم
صلى الله عليه وسلم
بذلك، وتنبأ به قبل وقوعه، وها قد نزل القضاء.»
ثم نهض الشيخ عن الجثة وقد تلطخ وجهه بالدم وازدادت لحيته تجعدا واخلاطا، فرفع بصره نحو السماء، وبسط يديه وهو يقول: «اللهم أنت أعلم بما فعل أولئك الأدعياء بابن بنت نبيك وأهله، اللهم أنت أعلم بما يقاسيه أنصار الحق من الجور العظيم، اللهم أقول كما قال الحسين: «إن منعتهم إلى حين ففرقهم فرقا، واجعلهم طرائق قددا، ولا ترض الولاة منهم أبدا.» فإنهم دعوا الحسين لينصروه، ثم عدوا عليه فقتلوه.»
অজানা পৃষ্ঠা