وخافت سلمى على الطفل فأرادت أن تلجأ إلى الخباء، فرآها الحسين والطفل بين يديها، فأشار إليها أن تأتي، فأتت والطفل يبكي من العطش وقد بح صوته، وهي تحنو عليه لتقيه من النبال، فتناوله الحسين من ذراعه وأسرع نحو المعركة فأسرعت إليه وشخصت ببصرها إليه وقلبها يختلج خوفا عليه، ولم تفهم معنى ذلك ولم تدر ما تعمل، فإذا بالحسين يخاطب أهل الكوفة والطفل مرفوع بين يديه ويقول لهم: «يا أهل الكوفة خافوا من الله واسقوا هذا الطفل، إذا كنت أنا في اعتباركم ظالما أستوجب الموت فما ذنب هذا الطفل الصغير؟ يا قوم خافوا من الله واذكروا عذاب يوم أليم.»
فتأثرت سلمى من ذلك الكلام وحسبت أولئك القوم يحنون على الطفل فيسقونه، ولكنها لم تكد تفكر في ذلك حتى رأت رجلا من نبالة الكوفة أوتر قوسه ورمى الطفل وهو يقول: خذ اسقه. فأصاب السهم أحشاءه، فصاح الطفل صيحة الألم، ثم تحول صياحه إلى أنين، فأحست سلمى أن السهم أصاب قلبها، وركضت إلى الحسين والطفل يختلج بين يديه وقد تدلى رأسه على صدره والدم يقطر من جبينه، فصاحت: ويلاه! ما أظلمهم! ويلاه! ما أقسى قلوبهم! وهمت بتناول الطفل فمنعها الحسين من ذلك وقال لها: «لا تبكي يا بنية، إن له أسوة بجده وعمه وأهله الصالحين.» ثم رفع يديه والغلام بينهما وشخص ببصره إلى السماء وقال: إن تكن حبست عنا النصر من السماء، فاجعل ذلك لما هو خير منه، وانتقم لنا من القوم الظالمين، ثم حمله حتى وضعه مع قتلى أهل بيته وفيهم إخوة الحسين وأولاده وأبناء عمه وأبناء أخيه، والتفت إلى سلمى وقال لها: «ارجعي يا فتاة إلى الخباء.» فتراجعت وقلبها يقطر دما وعيناها تسكبان الدمع ولم تجد سبيلا إلى مخالفة الحسين.
وبينما هي راجعة وكفاها على عينيها تستلقي الدمع وتندب القتلى أحست بيد قبضت على يدها وجرتها بعنف شديد، فأرادت أن تجذب يدها ونظرت فإذا بالشيخ الناسك وهو كالأسد الكاسر قد طوق خصرها وحملها بين ذراعيه كأنه من مردة الجان، وخرج بها من بين الخيام حتى أتى مضيقا فوق الخندق مر فوقه، وهي تظن نفسها في حلم. حتى إذا وصل بها إلى كهف وراء الخيام، ألقاها إلى الأرض وهو يلهث من شدة التعب فصاحت فيه: إلى أين تذهب بي يا عماه؟ دعني أمت مع الحسين فإنها أحسن موتة يرجوها المؤمن في دنياه.
فلم يستطع الشيخ أن يجيبها لتسارع أنفاسه من التعب، ولكنه أشار إليها أن تصبر فحاولت الإفلات منه والرجوع إلى المعركة فأمسكها وأقعدها وهو يقول بصوت متقطع: ليس الموت مما يسرع إليه. وكيف تتركين عبد الرحمن؟
فلما سمعت اسم عبد الرحمن تجددت أحزانها وزادت شجونها فبكت بصوت عال وقالت: أين هو عبد الرحمن؟ ألم يسبقني إلى العالم الآخر. دعني أمت وألحق به.
قال: من أنبأك بموته؟
قالت: نعم إنه مات وسبقني. دعني ألحق به. دعني أمت مع الحسين وأهل بيته.
قال: إن عبد الرحمن لم يمت يا بنية، فهدئي روعك واعلمي أن الحسين مائت، ولا فائدة من الدفاع عنه.
قالت: أتعلم أنه مائت وتطلب بقائي؟ وما الفائدة من بقائي وبقاء عبد الرحمن إذا مات سيد شباب المسلمين؟ دعني أمت معه. قالت ذلك ونهضت وهي تقول: لا. لا. لا يموت. من يجرؤ على قتله؟! ومن يمد يده إليه ولا تيبس؟! وأي أرض تتلقى دمه ولا تجف؟! لا. لا يجرءون على قتله وهو ابن بنت الرسول وسيد شباب المسلمين.
فأمسكها الشيخ بيدها وقال: ألا تصدقين أنه مائت؟
অজানা পৃষ্ঠা