كنت أرى ذلك بالخيال، ولكنني ما كدت أفتح باب غرفتي - تلك الغرفة التي تشرف على البحر - إلا ورأيت بعين الحقيقة ما كنت أراه بعين الخيال، وها هو العجل - عفوا أردت أن أقول العلج - في سريره، وقد كان مضطجعا، فلم أكد أدخل الغرفة حتى هرول العلج إلي فعرفني إلى نفسه أنه روسي، وأنه كان في الحرب جنرالا، وما جئنا على ذكر الحرب حتى طفر الدمع في عينيه فقال: كان لي ثلاثة أولاد كلهم قتلوا في زمن الحرب، وكان صغيرهم في مثل عمرك يا ابني، قتل أولادي وعمي، وجرحت زوجتي، وتعذبت أنا، ولماذا كل هذا؟ أما والله إني لأجن كلما سألت نفسي: لماذا أشعلت تلك الحرب؟ ومن ربحها؟
قلت إن صاحبنا كان لطيفا، ولكنه تناهى في اللطف حتى ...
كلما أردت أن أحول مجرى الحديث عاد فحدثني عن زوجته: «نعم إن زوجتي شجاعة، نعم هي شجاعة هذا أمر لا ريب فيه.»
قلت في نفسي: «وكيف لا تكون شجاعة وقد أقدمت على الاقتران بذلك العلج؟!»
طره يما نقشي
من المسائل السيكولوجية المختلف عليها «الفراغ العقلي»، وهي تختصر بهذا السؤال «هل يمكن للمرء أن يفكر في لا شيء؟» وعلماء السيكولوجيا مختلفون في الجواب؛ فالسلبيون منهم يقولون إنه يستحيل على الدماغ أن يكون خاليا، وكنا نحن في مقام المفاضلة بين النظريتين، ولكن الثابت أن العقل الإنساني ميال بطبيعته إلى الافتكار بشيء، ولو كان تافها، ونحن - جماعة المسافرين - حين فرغت جعبة أخبارنا ومحادثاتنا قعدنا واجمين، ويظهر أن أدمغتنا أبت «الخلو» فرحنا نلعب - كصغار الأولاد - «طره يما نقشي»!
درجة واحدة
أحمد الله أنه لم يكن بين المسافرين لا بلاشفة ولا اشتراكيون متطرفون؛ إذ إنهم لو كانوا بيننا لأوقعوا الفتنة لا محالة؛ فإن بين «عفش» الباخرة نحوا من ثلاثماية بقرة، وضعت في ما يسمونه «الدرجة الخامسة»، وبين الدرجة الخامسة والدرجة الرابعة سلم يفصل الاثنتين، وكان في الدرجة الرابعة مهاجرون من الأروام - لله من منظرهم - أربعون أو خمسون، رجال ونساء وأطفال، افترشوا ظهر الباخرة، وتدثروا بعباءات الرجال وناموا، يقلقهم خوار الحيوانات، وتمزق أنوفهم الرائحة النتنة المنبعثة من الأبقار.
سبحانك ربي! لقد جعلت سلم البشر عاليا جدا، فأجلست البعض في قمة، ثم لم تجعل بين الآخرين وبين الحيوانات إلا درجة واحدة؛ فالأروام ركبوا الدرجة الرابعة، والبقر ركبت الدرجة الخامسة، أما تلك «المدموازال» التي عمرها ستون سنة لا غير، والتي غضبت علي حين عثر لساني فدعوتها ب «مدام»، تلك المدموازال تأففت كثيرا، وندمت على ركوبها باخرة فيها أناس من العرمط.
إني أسأل الله يا مدام - عفوا مدموازال - أن لا يمسي «عرمط» العالم كعرمط روسيا، وإذ ذاك لا تعودين تتأففين.
অজানা পৃষ্ঠা