وينتقد القاوقجي محترفو السياسة ممن يعيشون على هامش الحركات. لقيت في بيروت منذ شهور بعض هؤلاء المشتغلين بفلسطين، وراح يفصح الحديث عن نقائص فوزي القاوقجي مثبتا عيوبه بالحوادث. وإن حضرة هذا المشتغل عرفته في القاهرة خلال شهر آذار 1948 يعد للجهاد طوال النهار بلعب الطاولة في مقهى «بديعة»، وهو نفس الرجل الذي أمر بإحراق مستودع بنزين تركه البريطانيون حين خرجوا من فلسطين مخافة أن يستولي على هذا الوقود جيش القاوقجي الذي كان يحارب اليهود في فلسطين!
هنالك «مجاهد» آخر لا يزال يشغل حتى اليوم مسئولية حكومية كبرى، خاض معارك فلسطين كلها في أوتيل كونتيننتال في القاهرة.
هذا كان يفتش عن سهرة حين كان يفتش القاوقجي عن معركة، وهو اليوم من كبار المتهجمين على القاوقجي.
لقد بدأت الشائعات تهدم من صيت هذا الجندي منذ الساعة التي بدأت فيها أنباء بطولاته تملأ صحف الدنيا في الشرق وفي الغرب؛ إذ إنه بأعماله كسف أسماء فلسطينية كانت تحسب أن الله أقطعها هذا الجزء من بلادنا، فعز عليها أن يأتي هذا «الغريب» فيقضي بالدم والحديد والجهاد على أسطورة التزعمات في فلسطين، وهو لو عمل على رد الاتهامات لما بقي لديه وقت للنضال.
أما أنه سكير فهذا «علاك بعلاك»، وزوجته الألمانية ما هي من طراز الزوجات الأميركيات اللواتي يتبهنن ويسيطرن على أزواجهن، بل هي الزوجة الألمانية «هوس فراد» تهتم بأولادها وبزوجها وبيتها، وتكاد تجهل ما حياة زوجها خارج البيت، غير أنه ليس لها ميعان الزوجة الشرقية، فهي شريكة زوجها في كل أزمة.
ولكني، وأنا ما خضت الحرب في فلسطين، وليس لي مستندات كتبية عن حياة هذا الرجل، فكيف أتيح لي أن أكون القاضي العادل في ترجمة حياته؟ هل إنه رجل فوق البشر؟ أمن المعقول أن تأتي أحاديثه إلا تغنيا بنفسه وتمجيدا لمواقفه؟ إذن فأية قيمة لهذه المقدمة؟
لقد اعتمدت - أكثر ما اعتمدت - المصدر الوحيد الذي احترمه - رجاله - فإني أومن أن هنالك بغضاء أبدا تنشأ بين الرئيس والمرءوس، ورجال القاوقجي ما نالوا أجر جهادهم لا مالا ولا تقديرا؛ فإن كان هنالك من نقمة، فيجب أن تكون في نفوسهم قبل سواهم. ورجال القاوقجي - كما سبق وقلنا - هم من مختلف الأديان والبيئات والطبقات، وما كانوا رجال تجارة، بل رجال قتال، غامروا بأثمن ما يملكون - أرواحهم - وهم اليوم بين موظف صغير يقنص الرزق، وبين بائع خضار، أو «معلم عمار»، أو كل معدم. سألت القاوقجي: من أشجع من عرفت؟ قال: «من استخف بالموت تساوى مع أي سواه استخف بالموت.» ولكن بطولة ثلاثة رجال في «معركة» «قباطية»، طبعت نفسي بذكرى لن أنساها؛ هؤلاء الثلاثة هم: «أبو أنور» وهو دمشقي، «وقاسم محمد» وهو بغدادي، «وقاسم زهر الدين» من قرية كفر فاقود «الشوف، لبنان». ولما جاءني قاسم زهر الدين، وجدت أن الأملاك التي ورثها عن أبيه باعها، أو هي مهملة، ولم يكسب غرشا خلال السنوات الثلاث الماضية إلا مئتي ليرة حين عينوه بعد ألف وساطة رئيس ورشة على طريق.
من حق هؤلاء - لو لم يكونوا أبطالا - أن ينقصوا من القاوقجي، وأن يشتموه؛ فهم ما نالوا بسببه جاها ولا مالا حتى ولا تقديرا. ولكن هؤلاء - وإني تحدثت مع عشرات منهم - وقد رافقوه في الغوطة والعراق، وفي فلسطين مرتين خلال 1936، و1948، لا يقولون لك إن فوزي القاوقجي سكير أو نهاب أو جبان، هؤلاء الذين «حضروا الشرور»، وهم واثقون أنه «مش مضروب على رسنه»؛ أي إنه أصيل، يقولون: «وصلنا حقنا»، و«استغزينا». في يقيني أن أكثرهم يهرعون إليه اليوم إن استنفرهم من جديد. هم يذكرون من قائدهم جنديا مثلهم يلبس مثل ما يلبسون، آخر من يتناول الطعام، آخر من ينسحب، «منظاره أبدا في رقبته»، «دائما قدامنا»، أبدا في قلب المعمعة، وفي ذروة الأزمات وحمى القتال، باسم رصين، غير مستعجل. القيادة في جوهرها هي إيحاء الثقة بالقدوة، وهؤلاء المغمورون اليوم أبطال الأمس الذين خاطروا بأرواحهم في رفقة القاوقجي، يقدسون اسمه.
هؤلاء يعرفونه عف اليدين أبدا يتغنى برفقائه، وعند الحاجة يبيع من حاجاته ليقضي حاجاتهم.
ولم أتحدث إلى أي ممن عرفوا حقائق القتال في فلسطين من مواطنينا - أبناء فلسطين - إلا وأثنى على القائد فوزي معتزا به. أما ثرثرة سواهم فهي «علاك بعلاك».
অজানা পৃষ্ঠা