في دفتر قديم قرأت له مذكرات فيها صبيانيات الغرام: «اليوم قبلت فلانة فأحسست برعشة.» لقد تزوج فوزي مرارا، وهو يعتقد أن البدوية هي أفضل نساء الدنيا، بدليل أن زوجها أبدا يغادر البيت مكرها ويرجع إليه مشتاقا. وأحب اللواتي تزوجهن كانت البدوية «عابدية» من بني ثقيف أم ابنته «سورية»، وكانت من الجمال «عيونها تخرق دبابة»!
إن الذي يوغل في الحياة يتعود غرائب صدفها؛ لذلك لم أهتز كثيرا حين تعرفت إلى خط المرحوم بهاء الدين الطباع في مذكرات القاوقجي. كان بهاء الدين صديقا لي حميما. لقد تصادقنا فتيين في بيروت طوال سنوات العشرين، وكان ثالثنا المرحوم نجيب الريس، حين يأتي بيروت من دمشق. وقد وثقت صلاتي ببهاء الدين أيام فيصل، وكان الصديق بهاء يطمح إلى أن يكون كاتبا، وكان يحفظ الكثير من آيات القرآن الكريم والأحاديث النبوية.
نصحته أن يكثر القراءة في كتاب «كليلة ودمنة»، وأهديته منه نسخة. بعد ثلاثين سنة، أقرأ مذكرات القاوقجي، فأتعرف إلى خط صديقي من جديد ، وأرى أن قلم بهاء يزخر بألفاظ كليلة ودمنة، وبناء عباراته متأثر بابن المقفع، ولاحظت أن الدفتر الأول يبدأ «باسم الله الرحمن الرحيم»، وتكثر كلمة «الإسلام» في عباراته، وإني أذكر أن بهاء الدين الطباع كان شديد الحماسة لإسلاميته. غير أن أحاديث القاوقجي كانت خلوا من «الإسلام»، وليس في بحوثه أثر للتقوى، كما شاعت التقوى.
سألته: «هل يهزك الإسلام؟»
أجاب من غير تردد: «إن الإسلام يهزني، ويوحي إلي، غير أني أعتقد أن الدين يجب أن ينحصر في مكانين: الضمير والمسجد. أما أن يكون لأحد منا شأن في حياتنا المدنية بسبب أنه تخرج من الأزهر، أو أنه يلبس عمة، أو يطلق لحية، فهذا شيء غير معقول.»
إن علينا أن نبني الدولة ذات الحضارة والقوة والمكانة. لا بأس أن تتوثق علاقاتها الخارجية بأية دولة سواها، ولا بأس إن عبأنا في جملة ما نعبئ أي شيء يجمعنا مع غير الدول من إسلامية ومسيحية.
إنه يؤمن بالله وبالدين، ولكن الدين هو شيء «شخصي بين المخلوق وخالقه».
ولقد أدهشني من جليسي تألق عبارات تسري على لسانه لعله التقطها من رجاله، وهم من كل السويات، ومن مختلف بيئات بلادنا. هذه مساطر من أقواله: متى سحق أعداء «عجنت بواريدهم» حين هزم كلوب باشا، وجرحه صار كلوب «مهزوم مكلوم». حين يهدد بدويا، ويقول له: «أبول بحلقك.» في الميدان «يتساوى البصل والخروف المحشي.» والخطط السرية هي دائما «شيء في الرأس»، وحين ترك عمان، وجاء إلى أراضي الجمهورية السورية ليقاتل الفرنسيين سأله مودعوه: «هل سترسل لنا أنباءك؟» أجاب: «أخبارنا تسمعونها من بلاغات الجيش الفرنسي.» والطموح من أحد رجال السياسة «إنه يوقد ناري ليهيئ طبخة زعامة.» وعلى القائد أن «يزرق» إيمانه في عروق رجاله، وفلان «أجبن من فارة.» و«المرأة كالرجل الجبان إن استبد بك تغطرس وظلم، وإن قويت عليه خضع وخنع.» وهو حين يناقش شكري القوتلي في دمشق يقول: «إن لي رأسمالا في هذا العلم.» وحين تسلل من العراق إلى فلسطين عبر الأردن بمئات المقاتلين، وعشرات السيارات، وبرغم طائرات كلوب وهجانته، وجواسيسه وكشافته: «مررت بين أصابع كلوب باشا.» ثم هو يعري كلوب باشا من عقاله، ولباسه البدوي، ولسانه العربي، ويرده بريطانيا بلفظة واحدة «مستر» غلوب.
ولا ريب أن معاشرته الطويلة للبدو قد أغنت ثروته اللفظية، وأطلقت لسانه بالبليغ وبالفصيح، حين عاش في مكة كان له عبد سمين منقش الوجه بالجدري، وكانت زوجة فوزي البدوية تتطير من رؤيته، وقد زعقت ذات يوم «هالوجيه» (هذا الوجه الصغير) اللي شنه (الذي كأنه) روث منقرة (نقره) غراب.
ومن الأغاني التي يحفظها أحدوة كان بدو العراق يحدونها سنة 1922 إذ ثاروا على الإنكليز: «بيع أمك (والأم أقدس المخلوقات عند البدوي)، واشر الألماني (اشتر البارودة الألمانية)، وعدن (احسب كل شيء) أشقر (أجنبي) قوماني (عدوا).»
অজানা পৃষ্ঠা