مدينة «هيمانس» محتها الزلزلة. ترى ما حل بأحد تجارها وعائلته؛ رجل صغير أعرج اسمه «نوينس»! كانت أولى سفراتي إلى تلك المدينة لا أذكر في أية سنة، ولكني أؤرخها في العام الذي أدخلوا فيه على السيارات «الفرام الهيدروليكي»؛ لأني أذكر أني كنت أسوق سيارة، وحاولت إيقافها، وراحت قدمي تشد على «الفرام»، ولكن السيارة استمرت مسرعة نزولا فهلعت، وفتحت الباب أبغي القفز، فلما نزعت قدمي عن «الفرام» الهيدروليكي وقفت السيارة. وفي أول مرة جئت «هيمانس» نزلت ضيفا - ضيفا يدفع أجرة النوم وثمن الأكل - عند «نوينس»، وهو صاحب دكان بعقد فاتورة، وجلست في حانوته حتى أقفله في المساء بعد أن نظف جاروره من النقود: غلة البيع في ذلك النهار.
وبعد العشاء طوف الحديث إلى مختلف الشئون الهامة حتى وقف عند لعبة البوكر فشكا مضيفي من أننا اثنان فقط، والبوكر يلعبونها في الفلبين ستة لاعبين وأكثر. واقترح لعبة «البلاك جاك»، وهي لعبة ال 21، قلت إني أجهلها، ولكنك إن علمتني إياها فإني ألاعبك، فشرحها خلال دقائق، وأقبلنا نلعب وزوجته تراقبنا، وجاءني حظ غريب؛ فكانت الورقة التي أسحب عليها تأتيني، حتى طارت غلة النهار من بين يدي «نوينس»، وفتح صندوقه، ولم يطل الوقت حتى انتقلت محتوياته إلى التحصينات الأمامية التي تمترست خلفها، وثارت بين الزوج والزوجة عاصفة كلامية بلغة لا أفهمها، واحتقنت الدماء في وجهيهما، ثم استأذن الزوج وانصرف؛ ليقترض مالا من جار له، وعاد يواكبه ثلاثة لا يصلحون أن يكونوا أعضاء في جمعية العناية بالطفل، وجرى ما تتوقع؛ إذ وجهت القدر أن يفقدني أرباحي، وقليلا من رأسمالي، وانتهت السهرة على سلام. وقد صادقت «نوينس» بعد هذا، وأصبحت عرابا لأحد أطفاله؛ فاعترف لي أنه توهم أني تظاهرت بجهل تلك اللعبة حتى أنهبه أمواله بمهارة المحترف، وأن الثلاثة جاءوا كي يتفاهموا معي على إسكاني بئرا في ضواحي البلدة. في الصباح حملت شنتاتي على جاموس، والجاموس أكبر من ثور البقر، وأقوى وأطوع قيادة، يستعمل للحراثة والركوب، وتحميله الأثقال، ولكنه بطيء. وجاءوا إلي بحصان أصغر من حمار، فما إن علوته حتى وقع إلى الأرض معلنا إضرابا شاملا، حينئذ ركبت الجاموس، بين الشنتات، وانطلقنا إلى دسكرة لقنص الريالات.
هل هدمت الزلزلة «ميسامس»، أو «أوسامس»؟ لقد دفنا في الفلبين أكثر مهاجرينا، وآخرون كثر اختفوا أو تطايروا: بشارة جريديني، وعبدالله الحداد (أخوه وليم في البنك السوري) أصابتهما قنبلة مزقتهما شظايا، نقولا القدسي قتل في فراشه واختفت جثته، إيليا أخرس اغتالوه والحرب لم تنته، أربعة مشوا في جنازته؛ ديب عواد اختطفه اليابانيون وأهلكوه، وديع غبريل قتلوه، ومعروف شهاب الدين آخر من رآه قال إنه كان مربوطا إلى عمود، صموئيل عوض تحققوا أن العظام عظامه بعد أن كشف طبيب الأسنان على فكيه، وتعرف إلى جسر البلاتين الذي بناه هناك، موسى كيروز سحقته في الميدان قنبلة من طائرة، ميشال كنعان غرق مع بابور مسه لغم بحري. إنها قائمة طويلة فاجعة.
هل الفاجعة في «ميسامس»؟ إن نصري جريديني يجب أن يعود حيا، فنحن على موعد لليلة راقصة، ما كان نصري من أصدقائي، ولا عشرائي. خلال الثلاثة وعشرين سنة التي قضيناها معا في الفلبين كانت علاقتنا سطحية إلى درجة أني لم أقترض منه مالا ولا هو اقترض مني، ولكن في سلامته وعودته شيئا جميلا.
إن الظفر جميل، نصري كان في الشويفات سنة 1918حين خرج، وبعض الأهالي، وقاتلوا شرذمة من فلول الجيش التركي، كانت حصة نصري من الغنائم جملا، نصري شقي كثيرا، عرفته ودكانه محشوة بما يمتلئ به دولاب السيارة. سمعته إذ ذاك يتبجح ويتحدى أكبر شركة مواصلات أميركية، ويعد مديرها بأنه سيخرجه، بالمنافسة التجارية، من جزيرة «بوهول». رأيته ينمو إلى حيث احتكر المواصلات في جزيرة «بوهول »، وشمالي «المندناو» يسير فيهما مئتي بوسطة.
لقد رأيت الخراب، إن كان نصري جريديني قد نجا من الكارثة؛ ففي نجاته من النصر ما يمحو الكثير من البشاعة.
هل الزلزال شق هذه القشرة الصلبة من الذكريات؟ أحقا أن قلقي على نصري جريديني أملى علي هذه الذكريات؟ أم أني اليوم وحيطان الدنيا تنهدم علي، وسقفها يتواقع حول أذني، أستنجد بهذا الذي تهدمت الدنيا من حوله، فأرى نصره ظلا لنصري في غد؟ سامي بك يعود في الأسبوع القادم، قتيل وثلاثة جرحى في جونية، مظاهرة شيوعية في بيروت، صورة حفلة كوكتيل، انفجارات في نيقوسيا، اقلب الصفحة، اقلب الجريدة، اقلب الدنيا.
يا شهيد المالكية
النقيب محمد زغيب، أحد الذين استشهدوا من أجل فلسطين قبل دخول الجيوش العربية، أقيمت لهذا البطل حفلة تكريم ألقيت فيها هذا الخطاب:
منكسة بيارقنا جئنا نحييك لا نرثيك.
অজানা পৃষ্ঠা