إني رجل روماني الأصل، كاثوليكي المذهب، مقيم في إنكلترا، وقد توفي والدي وأنا صغير السن، ثم لحقت به والدتي رحمهما الله بعد أن بلغت من العمر ثلاثا وعشرين سنة، أي قبل بداءة حوادث قصتي بسنتين. وقد خلفا لي مالا وافرا لا يقل دخله عن خمسة آلاف ليرة سنويا. وكنت قوي البنية شديد العزم مطلق الإرادة والتصرف بما ورثته من والدي، ومع ذلك فإني كنت أتعس البشر محروما من ملذات هذا العالم، لا أتمتع بمناظر الطبيعة ولا أتعزى برؤية الأكوان ومشاهدة المخلوقات البشرية. وكثيرا ما كنت أغبط بل أحسد من هم دوني منزلة، حتى بلغ بي الأمر أني تمنيت الاستعطاء والتسول ممن تقوى عيناي على مشاهدتهم؛ لأني كنت فاقدا حاسة البصر محروما - وا أسفاه - من لذة النظر!
فلا ريب أن من يطلع على هذه العبارة الأخيرة تتأثر شعائره، ويرثي لحالتي ويشعر بما يستولي علي من الكدر، عندما أتقلب على فراش الأحزان متفكرا بحالتي التعيسة التي ستنتهي بي على هذا المنوال لا رفيق لي سوى الظلام، ولا ما أتمناه سوى الموت الزؤام.
ففي إحدى ليالي شهر آب الحارة بينما كنت جالسا في غرفتي إذا بالباب يقرع، وسمعت صوت الخادم معلنا بقدوم الطبيب - وهو الذي آلى على نفسه بمعالجة عيني، وكان صديقا لوالدي المرحوم - فانتعش قلبي بقدومه وترحبت به، وبعد أن جلسنا سألني عن كيفية استعمالي الدواء، فأجبته أني مثابر على الخطة التي أرشدني إليها. وبعد ذلك شعرت أنه نهض من مكانه وأدنى من وجهي مصباحا، وسألني إغماض إحدى عيني ففعلت، فقال لي: ماذا ترى بالثانية؟ - نورا طفيفا وشيئا خفيفا. - أغمضها وانظر بالأخرى.
فأطعت. - ماذا ترى؟ - ضوءا قد تشعب منه ثلاثة أنوار. - الحمد لله فقد توطد مني الأمل، وتحقق عندي نجاح العمل. - أفلا يوجد خطر؟ - إن الخطر ما زال مترصدا فرص الإهمال، وما دمت محافظا على الاعتناء فالشفاء قريب بإذن الله.
فشكرت اهتمامه بي، ثم ودعني وانصرف.
ولبثت بعد ذهاب الطبيب برهة صامتا متفكرا بما ستصير إليه حالتي، فكنت أرى أحيانا من خلال الظلام المخيف المحدق بي نجما يتلألأ فيبتهج قلبي سرورا، إذ تتمثل لي الدنيا بزخرفها فتطيب لي الحياة، ثم تحجبه الغيوم المتكاثفة فلا أعود من ثم أرى سوى الظلمة التي تعيد إلي الأحزان وتوجه فكري إلى حقيقة الحال التي أنا فيها، فأشعر إذ ذاك بأن الدم يجري في عروقي تارة حارا وأخرى باردا، وتظمأ نفسي لتجرع كأس الردى، فناديت الله والدموع سائلة على وجنتي متضرعا إليه أن ينظر إلى حالتي ويعيد إلي ما فقدت، ثم نهضت متثاقلا وانطرحت على سريري ملتمسا الرقاد متمنيا من صميم الفؤاد أن يكون رقادا أبديا.
وبعد أن صرفت مدة ساعتين متقلبا على مثل القتاد لا يقلق سكينة الغرفة إلا هبوب النسيم الحار مارا على وجهي من إحدى النوافذ، تشوقت للخروج من غرفتي كالعادة مصحوبا بأحد الخدم، ولكني لم أشأ إيقاظهم هذه المرة، فألقيت علي لباسي، وقصدت باحة الدار ومنها إلى الرواق الخارجي حتى انتهيت إلى الباب، وفي أثناء ذلك لم أسمع إلا صوت أنفاس النائمين، فوصلت إلى الطريق مسرورا لأني لم أعثر بما يزعجني، وأقفلت الباب وحفظت مفتاحه بيدي اليسرى وباليمنى عصا أسترشد بها. وسرت متمهلا متأنيا حذرا أن أتيه عن الطريق، ولما أتيت على ستين خطوة تقريبا عطفت في طريق آخر كان طوله نحوا من ثمانين خطوة، ثم عرجت على شارع طويل أفضى بي إلى زاوية هناك، وكنت قد غلطت في الحساب فانثنيت راجعا، وبينما أنا ماش لطمت بجدار لم أعثر به حين قدومي، فتحققت الغلط، وعلمت أني وقعت في الشطط.
وبعد إعمال الفكرة رأيت من الأوفق أن أتربص في مكاني إلى أن يمدني الله بمساعدة أحد المارة، فلم يمض إلا القليل حتى سمعت صوت وطء أقدام مقبلة نحوي، فاستغثت بالقادم أن يرشدني إلى شارع ويل بول، فأجاب: شارع ويل بول؟ سأفتكر بهذا الأمر حال وصولي إلى البيت.
فتضرعت إليه قائلا: تكرم علي يا سيدي وقدني إلى شارع ويل بول. - شارع ويل بول. ها. ها. لقد سمعت كثيرا بهذا الاسم لما كنت صغير السن لا أفقه المعاني العويصة جيدا، وأما الآن فإني المالك العادل والفيلسوف ال... - رحماك يا سيدي إني ضرير، وقد ضللت عن الطريق فاهدني إلى شارع ويل بول، ولك أجر عظيم عند رب السموات. - ها. ها. أعمى يا مسكين ... تقصد شارع ويل بول. ها. ها. ها. تأبط ذراعي إذن لنسير كأصحاب، بشرط أن تعيرني ساقيك وأعيرك عيني، وبذلك نأمن على أنفسنا الخطر. قال ذلك وهوى علي من فعل الخمرة التي فاحت رائحتها من فيه فكادت تزهق روحي، فقلت في نفسي: «أعمى يقود أعمى وكلاهما يسقط في الحفرة.»
وبعد أن سرنا قليلا، وقد أراني الموت ألوانا بثرثرته وشقشقة لسانه وقف بغتة، وقال: ها قد وصلنا إلى الشارع المطلوب فدعني أذهب بك إلى منزلك. - لا لا. أشكرك من صميم قلبي فاذهب بسلام. قلت هذا ووضعت يدي على الحائط متهاديا حتى انتهيت إلى آخر العطفة، فلم أشعر إلا وأنا واقف أمام الباب، فأولجت المفتاح الذي كان بيدي في القفل، وبأقل من دقيقة صرت داخل الحديقة، ثم جعلت أفكر في الوقت الذي صرفته ذهابا وإيابا راجيا ألا تكون قد طالت مدة تغيبي فيفتقدني الخدم وربما تتبلبل أفكارهم لغيابي.
অজানা পৃষ্ঠা