فظهر على شفتيه تبسم السويداء، ونظر إلي بإنكسار وقال: أي «شرف» تعني؟ ولكني أعدك بإظهار الحقيقة، فعجل بالسؤال. - لقد أخبرني ماكيري أنه قتل ذاك الشاب دفعا للعار، وذلك لأنه كان مشغفا ببولينا. زوجتي ...
فاحتدم سنيري غيظا، ورفس الأرض برجله، وانتصب واقفا وعيناه تقدح شرارا، وصرخ بصوت عال: يا لك من شقي يا ماكيري! لا تظن أن الله يتغافل عن معاقبتك، فلا بد لك من أن تشاركني هذه البلية آجلا أم عاجلا. وبعد ذلك عاد فجلس مكانه وساد السكوت في الغرفة، ثم حول وجهه الشاحب نحوي ونظر إلي بأعين مغرورقة بالدموع، وقال: إن ذاك القتيل الذي سقط بيد ماكيري لم يكن سوى أخا بولينا ... ابن شقيقتي ... أنتونيس مارك.
الفصل الثالث عشر
الإقرار
وبعد أن لفظ سنيري هذه الكلمات ستر وجهه بيديه، وجعل يذرف الدموع السخنة، وأنا شاخص إليه أردد في ذهني ألفاظه الأخيرة. ثم سألته أن يقص علي كل ما يتعلق بتلك الحادثة المشئومة.
فاستوى جالسا ومسح بكمه العبرات المنحدرة على خديه، وقال: ولدت من أبوين إيتاليين، وكان لي شقيقة بارعة الجمال، فهام بها أحد أشراف الإنكليز الموسرين واسمه مارك، فتقدم من والدي لطلب يدها، فلم يجيبا أولا طلبه لاختلاف الأهواء وتضارب العوائد بين الإنكليز والإيتاليان. ولكن عندما رأيا أن فتاتهما تميل إليه كل الميل ولا ترتضي بعلا سواه، منحاها حق الاختيار، فاقترنت به، ثم ذهبا إلى إنكلتره مسقط رأسه.
ومضى عليهما عدة سنين وهما في أرغد عيش وأحسن حال، ثم توفي زوجها عن ولدين وهما: أنتونيوس وهو في الثانية عشرة، وبولينا في العاشرة من العمر، وقد أوصى لزوجته بجميع ما ملكت يداه.
أما هي فعندما فقدت زوجها المحبوب لم يعد لها أرب بالسكن في أرض ضمت عظامه، فعادت إلى إيطاليا وانضمت إلى الأهل والأصدقاء، فصادفت بينهم كل ترحيب وإكرام، وكانت تميل إلي بنوع خاص وتستحسن كل الأعمال التي أبديتها، فأطلعتها ذات يوم على مقاصدي السياسية وأني عضو في جمعية سرية يترأسها غاريبالدي الرجل العظيم وزير فرنسا، وأن غاية هذه الجمعية ليس إلا المدافعة عن إيطاليا، وبذل النفس والنفيس في سبيل حريتها وجعل حكومتها جمهورية ، فاستصوبت أفكاري ووعدتني بالمساعدة متى حان الوقت، غير أن حزنها الشديد أنهك قواها وأذبل زهرة حياتها، فلحقت بزوجها وذلك بعد موته بأشهر قليلة، وقد سلمتني ثروة ولديها وعهدت إلي في تربيتهما على المبادئ الإنكليزية بحسب وصية زوجها الأخيرة.
وبعد وفاتها أرسلت الولدين إلى مدارس كلية في إنكلتره، فكانا يصرفان معظم السنة هناك، ويأتيان إيطاليا أيام العطلة، ولذلك لعدم وجود أصدقاء يأنسان بهم. فتمكنت منهما طباع الإنكليز وعوائد الإيتاليان معا. أما أنا فلم أنكث بوعدي لشقيقتي، ولا حنثت بيميني، بل كان دأبي الاهتمام بولديها والمحافظة على أموالهما إلى أن أزفت الساعة التي بها وقعت إيطاليا في ضيق وعسر مالي هددها بالخذلان والذل والقهر.
فلم يعد بإمكاني إمساك الدراهم عن الجيوش المستغيثة بأهل الغيرة ومحبي الوطن، فأنفقت الألوف من ثروة ولدي شقيقتي في هذا السبيل، ولم أبق سوى دريهمات قليلة تكفيني إلى أن يبلغا سن الرشاد، وقد فعلت ذلك دون أن أجاهر به لدى أحد من الناس، ورفضت جميع ما استحققت من الوسامات وألقاب الشرف من رئيس الحزب الذي كنت أقاتل معه بحمية لأني لم أحسب ذلك إلا فرضا واجبا على كل وطني، فلو قدر أن أقتل حينئذ وانتصر بعد ذلك حزبي لما قام أحد يطالب بحقوقي فتندثر أعمالي ويتلاشى ذكري. وعندما بلغ أنتونيوس الثانية والعشرين من العمر أرسل من إنكلترا يطالبني بثروته، فوعدته بالموافاة حالا، وكنت أضرب أخماسا لأسداس لا أدري بما أعتذر إذا سئلت عن المال، وحينئذ لا يكون نصيبي سوى السجن إذ لا يلبث أنتونيوس بعد أن يتحقق فقد المال أن يستنجد بالعدالة فيقتص مني. أما بولينا فلبثت في المدرسة إلى أن بلغت الثامنة عشرة وعند ذلك أتت إيطاليا، وقد وشحها الصبا بثوب من الجمال عزيز المثال فضلا عما كانت عليه من الذكاء وسمو الإدراك، فكنت مطمئنا من نحوها لأنها عريقة بهذه الصفات التي تؤهلها من أحد الأغنياء، وبذلك تحصل على السعادة. ولا يبقى علي حينئذ سوى التخلص من أخيها وهناك الطامة الكبرى، فبعد أن مضى عليها سنتان في إيطاليا، طلبت إلي بلجاجة أن تذهب إلى أخيها في إنكلترا. وكنت في أثناء هاتين السنتين قد تعرفت بماكيري الذي كان من حزبنا واستصحبته بالحروب، فكان يقاتل بغيرة وبسالة لأنه كان يصبو إلى الحرب وتتوق نفسه للقتال، وكان يأتي بعض الأحيان لزيارتي فيتظاهر بالاحتشام لا سيما بحضور بولينا، فكان يطنب بمدح نفسه ويدعي بعلو المنزلة ويتكلف بكل حركة يظن أنه يستجلب بها رضى بولينا التي كانت تمقته قدر ما تحتقره. أما أنا فما كنت لأتحمل منه ذلك لولا احتياجي الشديد لذراعه القوية، ولما لم يعد بإمكاني السكوت عن مطالبة أنتونيوس بماله رحلت مع بولينا إلى إنكلترا وقد لحق بنا ماكيري، وكان لا يفتر عن ملاطفتها واستمالتها. ولكن أتعابه ذهبت أدراج الرياح، ومع ذلك فإنه لم يقنط من الحصول عليها، فتقدم من أخيها حين وصولنا إلى إنكلترا وأظهر رغبته في ذلك، فضحك أنتونيوس على جسارته، ثم بين له عدم أهليته لها، فكاد يتميز ماكيري من الغيظ، ولم ير وسيلة تقربه من بولينا سوى الانتقام من أخيها زاعما أنها لا تلبث أن تجيب طلبه بعد أن ترى نفسها بدون نصير.
অজানা পৃষ্ঠা