فازداد اهتمام الحاضرين، ودل تطلعهم إليه على شوقهم إلى سماع قصته، فطلب إلى حميه أن يعطي الريال زوجه، ثم قال: إن شوشو تعرف قصة هذا الريال خيرا مني، وسأتنازل لها عن حق روايتها .. هيا يا شوشو قصي عليهم القصة العجيبة، وهي حقيقة تفتح شهيتهم للطعام.
وانصرفت الوجوه إلى الزوجة، وقد تضاعف اهتمام الجميع، وتوقعوا جميعا قصة شائقة. أما شوشو فكانت في حالة يرثى لها من الذعر والارتباك، وقد جمعت قوتها المشتتة، وقامت واقفة، وشقت طريقا بين الجالسين إلى باب الحجرة، فاحتجوا على قيامها، وحاول بعضهم منعها، ولكنها قاومت الأيدي، وهي تقول بصوت خافت مضطرب: «انتظروا دقيقة .. سأعود في الحال.»
وولت خارجة وعينا زوجها تتبعانها بنظرة قاسية. •••
يستطيع القارئ أن يستنبط الخاتمة المروعة؛ فإنه لا شك يقرأ كثيرا في الصحف عن اللاتي يرمين بأنفسهن من النوافذ العالية؛ فيسقطن مهشمات مشوهات، ولعله إذ يقرأ هذه الأخبار المقتضبة يتساءل عن أسبابها الخفية، ويذهب به الحدس كل مذهب. فهذا سر واحدة من أولئك المنتحرات، وإنه ليؤسفني أن تنتهي القصة إلى هذه النهاية المحزنة، ولكن ما حيلتي وقد بدأت بتلك البداية الأسيفة؟
والحق لا تقع علي تبعة بدايتها ولا نهايتها؛ فهكذا يرويها بطلها المحزون الذي غدا لا يفارق الحانة ليل نهار. وكم تمنيت لو كان كاتبها كما كان راويها؛ لأني - وا أسفاه! - لا أستطيع مهما أحاول أن أبلغ بعض ما يبلغ من صدق الرواية وقوة التعبير.
الذكرى
إذا لاحت في الأفق القريب بشائر عيد الفطر خفت وطأة رمضان على النفوس، وهون الفرح الموعود من جفاف شهر الصوم، واهتزت صرامة التقشف في الصدور تحت موجة طرب آن انطلاقها. هناك تجد ربات البيوت أنفسهن في مكانة الساحر، يتطلع إليهن الصغار بأعينهم الحالمة هاتفة بهن أن يبدعن آيات الكعك اللذيذ، وأن يخلقن من العجين كهيئة العرائس والحيوان والطير.
أما جماعة الموظفين الذين تقضي عليهم أشغالهم بالتغرب في أقاصي القطر، فلا يشغلهم في تلك الأيام مثل إعداد الحقائب والتأهب للسفر إلى بلدانهم؛ حيث يسعدون بالعيد بين أهليهم، وحيث تتحقق للأطفال ولهم أحلامهم.
وكان من هؤلاء الأستاذ يوسف زينهم المدرس بمدرسة أسيوط الثانوية وأسرته المكونة من زوجة وابنتيه الصغيرتين ، فما أتى يوم الوقفة حتى كان الأستاذ وأسرته في القاهرة، بل في القاهرة المعزية؛ حيث يقع بيت المرحوم والده في الدراسة قريبا من مسجد الحسين. وكان البيت من البيوت القديمة، باهت الجدران رث الهيئة، يصعد إليه الصاعد على سلم ضيق متهدم الدرجات بغير درابزين، حلزوني الشكل كسلم المآذن. ويتكون البيت من طابق واحد ذي ثلاث حجرات صغيرة الحجم. ولكنها كانت سفرة سعيدة، ودواعي لذتها متوفرة من التنقل واستقبال العيد ورؤية الأهل والأحباب.
ومهما يكن من أمر البيت من التفاهة والضعة، فما كان يوسف يطأ بقدمه أول درجة من سلمه حتى يرفرف قلبه في صدره وتمتلئ عيناه بالأحلام وقلبه بالحنين، ويذكر لفوره ذلك الطفل الصغير ذا الجلباب والطاقية الذي كان يقفز على هذا السلم صاعدا هابطا كل يوم حافي القدمين.
অজানা পৃষ্ঠা