فسأله المهندس وكأنه لم يسمع قوله: «هل حضر هذا الصباح كعادته؟» - «نعم يا سيدي.» - «ألا ينقطع عن الحضور أحيانا؟» - «يوم الجمعة.»
فعض الشاب مرة أخرى على شفته، ولم يزد على أن قال وهو يغادر الصالون: «إني أشكر لك مروءتك، وأرجو أن تفتح عينيك حتى أعود إليك صباح الغد.»
وكان البيت قريبا على قيد خطوات، ولكنه لم يشخص إليه - مع أن الوقت كان ظهرا - وأحس في نفسه برغبة طاغية في المشي، فهام على وجهه بغير هدف معين.
كان حمدي شابا في الثلاثين من عمره، يلفت الأنظار؛ لضآلة حجمه ورقة أعضائه وشحوب لونه، ولكن كانت تلتمع في عينيه نظرة تدل على حدة الذكاء، وكان ذقنه يلتوي التواءة يعرف بها ذوو الإرادات الحديدية، وكان أخص ما يعرف به الهدوء والرزانة والبرود، فلا يذكر أحد من معارفه أنه رآه مرة منفعلا أو متهيجا لحزن أو لفرح، ولكن لم يكن طبعه هذا ضعفا أو جبنا، فإنه يغضب إذا انبغى له الغضب، ولكن على طريقته في الغضب، فلا هياج ولا سب ولا شجار، وإنما عقاب صارم أو انتقام مهول، هكذا يتقدم في حياته ك «وابور الزلط» بطيئا رصينا، ولكنه لا يقاوم ولا يبقي ولا يذر.
وقد قال لنفسه وهو يسير على غير هدى: يلمح الرجل إلى خيانة زوجية، خيانة زوجية في شهر العسل! لا شك أنها أول خيانة من نوعها، هي كالإجهاض سواء بسواء، الذي يهلك الجنين قبل أن يكتمل .. كيف يستطيع أن يصدق هذا؟ .. بل كيف يمكن وقوعه؟ كيف استطاع ذلك الشاب أن يشق طريقا إلى بيت عرسه؟ هل كان يعرف زوجه من قبل أن يعرفها هو؟ مهما كان الواقع فهو أمر بعيد عن التصديق .. وذكر حياته الزوجية القصيرة؛ فذكر بها سعادة وصفاء ومتعا لا تحصى ولا توصف، فلم يشك في أنه سيكشف في غده خطأ مضحكا، لن ينفك يضحك كلما ذكره ما امتد به العمر.
ومع هذا ...
ومع هذا فهو لا يستطيع أن يخدع نفسه عن العاطفة الذميمة التي تقاتل في قلبه .. عاطفة الشك المعذبة. وها هي ذي تتشبث ببعض الذكريات التي مر بها مر الكرام، فتعرضها من جديد على مخيلته في إطار أسود مخيف لا يملك إلا أن يتأملها متحيرا متفكرا. فهو يذكر كيف كانت زوجه تلقاه - على أيام خطبتهما - بجمود ووجوم كأنها تلقى جدا لا خطيبا، وكيف أنها لم تحاول قط أن تفاتحه بحديث أو تشترك في أحاديثه بحماس، وكيف أنها كانت تقنع بالإجابات الضرورية؛ فتلفظها في اختصار ساسة الإنجليز!
لقد حمل ذلك كله على محمل حسن، وقال فخورا إنه حياء جميل. ويجوز أن يكون قوله حقا، ولكن يجوز أيضا أن يكون وهما، وأن يكون الباعث شيئا غير الحياء، من يعلم؟ ربما كان نفورا وكراهية وكان ينبغي له أن يدقق ويتحقق!
ويذكر أيضا أن الحال لم تتغير بعد الزواج، فلا تزال محافظة على رزانتها وتحفظها أو برودها - ولم يجر ذكر هذه الكلمة على لسانه من قبل - وكم تمنى لو كانت عروسه لعوبا طروبا، أما الآن فمن يدريه أنها ليست كذلك، وأنها لا تصطنع البرود إلا في حضرته؟ وا أسفاه! أي شقاء وأي تعاسة! ولم يكن حمدي خبيرا بالنساء ولا ذا حظوة لديهن، فاضطر - في عزوبته - إلى الاستقامة والزهد، وقضى تلك الأيام محزونا مفعم الثقة بنفسه، وقد ظن أن الزواج دواؤه ونجاته، فاستغاث به واطمأن إليه، وحمد الله على نعمته، ولكن ها هو ذا يوشك أن يخيب في زواجه؛ فيفقد الأمل الوحيد في السعادة والحياة المطمئنة، وها هي ذي الزوجة تكاد تنكشف عن امرأة ككل النساء اللاتي لم يفز منهن بحظوة .. فأي شقاء وأي تعاسة!
على أنه لم يستسلم للتشاؤم كل الاستسلام ولم ينغمس في اليأس كل الانغماس، وتعلق بالأمل الباقي له، وهو أن يكون الأمر غير ما قدر والظن غير ما أساء .. وتمنى لو يستطيع أن يبدد هذه السحابة القاتمة الغاشية على قلبه وأن يسترد بعض ما كان له من الصفاء والغبطة.
অজানা পৃষ্ঠা