الشعر مفعم بالمعاني على نحو لا يدنو منه ضرب آخر من ضروب الانشاء؛ لأن الشاعر يريد بالألفاظ حين يستخدمها أكبر قسط من معانيها الدفينة ومشاعرها المخزونة. وإذا وزنت الألفاظ بكل محصولها من معنى وشعور، وجدتها متباينة لا يتشابه بينها اثنان؛ لأن لكل منهما تاريخا مرت به، وظروفا نشأت فيها، وتجارب اندست في حناياها، فاللفظتان المترادفتان تتقاربان كما يتقارب الشقيقان، ولكنهما لا تتماثلان تماثل الأصل وصورته، والشاعر المجيد حين يتناول المترادفات لا يغض عن هذه الفروق مهما دقت؛ ومن ثم استحال عليك أن تستبدل في القصيدة الجيدة لفظة بأخرى، دون أن يتغير معنى القصيدة كلها. والقصيدة العصماء يصيبها الفساد إن تغيرت فيها لفظة واحدة؛ لأنها نتاج شاعر عبقري عظيم، ولا يستحق الشاعر أن يرقى إلى صف العباقرة الأفذاذ إلا إن علم علم الإحاطة واليقين ماذا يريد أن يقول، وكيف يستطيع، وبأي الأدوات يستطيع أن يعبر عن هذا الذي يريد تعبيرا دقيقا لا زيادة فيه ولا نقصان، لكن الشاعر قد يريد أحيانا أن يقول ما يستحيل قوله في ألفاظ، فثم ضروب من الخيال الجامح تحطم حدود الألفاظ ثم تلوذ بالفرار؛ لأن طبيعتها تأبى عليها السكينة والقرار، وهنالك من الشعراء من يشطحون بخيالهم إلى تلك الضروب الشموس الشرود، فلا يرون من الحياة إلا جوانبها الغوامض الدقاق دون ألوانها المحددة الواضحة، وهم من يطلق عليهم في الآداب الأوروبية اسم الشعراء «الابتداعيين» تمييزا لهم من فريق «الاتباعيين» الذين يذعنون بخيالهم وتفكيرهم للقيود والحدود، فهؤلاء الشعراء الابتداعيون يريدون أن يعبروا عن تجارب مرت بهم، وخواطر طافت بأذهانهم، مما يستعصي على التعبير؛ لأنهم إن ساقوها في أدوات التعبير المألوفة باتت كالتجارب والخواطر المألوفة، وهي ليست كذلك، وبديهي أنك لو جسمت الظل لم يعد ظلا؛ لهذا ترى هؤلاء الشعر ينتقون للتعبير عما في نفوسهم ألفاظا توحي بالمعاني ولا تحددها، وذلك باستخدام كلمات لم يكثر دورانها على الألسنة ولم تألفها الأسماع، فتكون غرابتها وندرتها سببا في إبهامها وعدم تحديدها؛ لأنها عندئذ تكون كالوعاء المليء بمادة مجهولة، فلا ندري - على وجه التحديد والدقة - على أي شيء يحتوي. في مثل هذه الحالات يكون للإبهام قوة أكثر مما يكون للوضوح.
وتحضرنا في هذا الصدد أمثلة من القرآن الكريم؛ ففي القرآن لفظة غريبة هي من أغرب ما فيه، وما حسنت في كلام قط إلا في موقعها منه، وهي كلمة «ضيزى» من قوله تعالى:
ألكم الذكر وله الأنثى * تلك إذا قسمة ضيزى
فغرابة اللفظ أشد الأشياء ملاءمة لهذه القسمة التي أنكرها الله تعالى على العرب. وكقوله تعالى:
طلعها كأنه رءوس الشياطين
فههنا ليس حتما عليك أن تعلم المعنى الدقيق للكلمة، حتى يكون لها الوقع المنشود، بل إن قوة وقعها في النفس صادرة عن غرابتها وندرتها في الأسماع. أو انظر إلى هذه الآية الكريمة التي يوصيك الله فيها بوالديك:
واخفض لهما جناح الذل من الرحمة
تلمس قوة عجيبة في التعبير قبل أن تمعن النظر في حقيقة المعنى على نحو دقيق؛ فقد لا تستطيع أن تصور لنفسك جناحا للذل تخفضه لوالديك، ومع ذلك فهذا الإبهام القليل في العبارة هو سر إعجازها.
وهكذا أيضا يلجأ الشعراء أحيانا إلى اللفظ الغريب للزيادة من قوة التأثير، ولا سيما إن كانت الصورة المرسومة مما لا يألفه الناس في الحياة الجارية؛ فإذا رأيتهم يطلقون على الأشياء غير أسمائها فاعلم أنهم لا يصنعون ذلك عبثا، ولو أرادوا الأسماء المعروفة للأشياء لأطلقوها. على أننا يجب أن نكون في هذا على حذر؛ ففي العهود التي يضعف فيها الشعر ويقل النوابغ الفحول ترى الشعراء يقصدون إلى أشياء معروفة مألوفة ، لكنهم يلفونها في لفظ غريب فيبهموا الصورة ويطمسوها، وعندئذ تكون غرابة اللفظ ضعفا لا قوة. يجب أن يكون الشاعر صادقا في التعبير عن شعوره، فإن أراد شيئا مألوفا فليطلق عليه اسمه المألوف. أما إن أراد صورة فيها شيء من الغرابة لأنه أحسها في نفسه غريبة، فيجوز له أن يلجأ إلى اللفظ الغريب المبهم.
وإنما الشعر لب المرء يعرضه
অজানা পৃষ্ঠা