أصول الإنشاء والخطابة
أصول الإنشاء والخطابة
তদারক
ياسر بن حامد المطيري
প্রকাশক
مكتبة دار المنهاج للنشر والتوزيع
সংস্করণের সংখ্যা
الأولى
প্রকাশনার বছর
١٤٣٣ هـ
প্রকাশনার স্থান
الرياض - المملكة العربية السعودية
জনগুলি
أصول الإنشاء والخطابة
للعلامة محمد الطاهر ابن عاشور
(المتوفى سنة ١٣٩٣ هـ)
تحقيق
ياسر بن حامد المطيري
مكتبة دار المنهاج بالرياض
الطبعة الأولى ١٤٣٣ هـ
1 / 1
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
الحمد لله منشئ الخلق ومعيده، وواهب البيان لراغبه ومستزيده، والصلاة والسلام على رسوله الذي أيده بمعجزِ القرآن، وأرسله بالبينات وأنزل معه الكتاب والميزان، وعلى آله وأصحابه أفضلُ مَنْ فَرَعَ المنابر، وسطَّرت فخرَه الأقلامُ في الدفاتر، أما بعد:
فإن مزية فن الإنشاء قد ترجَمَتْ عنها كثرةُ مطالبيه، ونباهة شأن النابغين فيه، كيف وهو الذي يُفصِحُ به المرءُ عما يريد من المقصِد، وطالما كفى قلمَ الكاتب مُهِمَّهُ فما ضرَّه أن لا يُهَزَّ المهنَّدُ.
وقد كنت أمليتُ على بعض المتعلمين عُجَالةً تُلِمُّ بالمهم من أغراضه إلماما، وتَرِيشُ لقُنَّاصِ شوارده سِهَاما، وتمكِّنُ بأيديهم لصِعَابه زِمَاما، تجنبتُ فيها طريقة جمهور المؤلفين في هذا الفن؛ إذ ملؤوا كتبهم بمسائل علم المعاني والبيان، وربما تجاوزوا إلى بقية علوم اللسان، وتركوا جانب المسائل الخاصة بهذا الفن ظِهْريًّا، إلا قليلًا منها لا يفيد المطالع كمالًا أدبيًّا، وقد تلقَّفوا ذلك الصنيع، فتابع المتأخرُ المتقدمَ وتشبَّه فيه الظالعُ بالضَّليع، والعذرُ للمتقدِّمين منهم: أنَّ علم الأدب لم يكن في عصرهم منخولًا بعضُ فنونه من بعض، أما المتأخرون فإنما
1 / 45
اتبعوا طريقة المتقدمين بعد أن تمايزت الفنون، حتى أصبح طَلبَة هذا الفن إن هم شرعوا فيه نُقِلت لهم المسائلُ التي قرؤوها في علم البلاغة فلم يجدوا فائدةً يستزيدونها، ولا مُهِمَّةً ينقلونها، فربما أُدخِلَ على أذهانهم بذلك شيءٌ من التَّهويس، زيادةً على ما أُضِيعَ من وقتهم النفيس، ولذلك جَعَلْنا بعض مسائل فنون البلاغة لهذا الفنِّ كالأصول نُحِيل عليها المتعلِّم، ونكتفي فيها بتوقيف المعلِّم؛ لئلا يطول الفنُّ بلا طائل، وأخذنا من كلام أئمة الفن المتناثر، ما جعلنا له قواعدَ وكلياتٍ وأدرجناه تحتها كالشواهد، فجاء شبيهًا بقطارٍ نُظِمَ مِنْ مُرْتَاضِ الشَّوارد، وجاء أولَ إملاءٍ فيما علمتُ ظهر به فنُّ الإنشاء مهذَّبًا ممتازًا عما سواه، ومَنْ خَبرَ ما سلف من كُتبه عَلِمَ قيمةَ ما صنعنا، وكيف تتبَّعنا مواقعَ القطر فانتجَعْنا.
وكان العزمُ معقودًا على أن نعود إلى تلك الأمالي فنهذِّبَ ديباجَها، ونعالجَ مِزَاجَها، فحالت دون ذلك شواغل، وصَرَفت الذهنَ خصومٌ ونوازل، إلى أن اشتدت حاجة الراغبين في تعلم الإنشاء إلى كتاب يبيِّنُ طرائقه، ويُدنِي لِجَانِيه حدائقَه، فرأيتُ من اختلاف طرقِ المزاولين، وتعطُّشِهم إلى كتابٍ مُذَكِّرٍ أو معين، ما حداني إلى أن نفضتُ منها عُثَّ الهِجْران، وأَمَطْتُ عنها عناكب النِّسْيان، ورجائي من أهل الأدب ورواته، وأطبَّاء اللسان وأُسَاته، أن يتلقَّوْها تلقَّيَ الجيش للرَّبيئة، ويضموا إليها ما تُوضِحُه شمسُ أفهامهم المضيئة.
1 / 46
مقدمة
الغرض من تدريس الإنشاء: هو إبلاغ المتعلم إلى الإفصاح عن مراده، كتابة أو قولًا مِن أقرب طريق، وسلوكِ سبل الإفهام بأحسن ما يُستطاع من التعبير، ومن الواضح أن ذلك لا يحصل بقواعد مطردة، بل الأصل فيه هو الممارسة، ومزاولة مآثر نوابغ الكُتَّاب في ألفاظهم ومعانيهم، لتحصل منها في ذِهْن المُطَالِع قوالبُ غيرُ جُزْئِيَّة تُفرَغُ فيها أمثالُها، وإنما القواعد التي تُدرَس في هذا الفَنِّ ليست غير أُنموذجٍ من طرق التعبير، أو كليات في حُسْن التنسيق واختلاف أغراض الكلام ونحو ذلك، مما يجعلُ بصيرةَ المتعلِّم قادرةً على الحكم والتمييز بين ما يجب أن يأخذَه وما يجب أن يتركَه.
إذن، فالإنشاء: علمٌ تُعرَف به كيفيَّةُ أداء المعاني التي تخطُِر بالذِّهْن أو تُلقَى إليه، على وَجْهٍ تتمكَّنُ به من نفوس المخاطبين، من حيث حُسْنُ رَبْطِ أجزاء الكلام، واشتماله على ما يُستَجَاد من الألفاظ ويحسن من الأساليب، مع بلاغته.
فقولنا: (تُعرَفُ به كيفيَّة أداء المعاني) يدخل فيه علوم اللغة كلُّها.
1 / 47
وقولنا: (التي تخطُِر بالذهن أو تُلقَى إليه) لقَصْد التعميم؛ لأنَّ من الناس من لا يحسن التعبير عن غير المعاني التي تخطر بذهنه، فإذا كُلِّفَ إنشاءَ شيءٍ اقتُرِحَ عليه لم يستطع، حتى قيل: إنَّ الأفضل للكاتب أن يكتب كما يريد ويُرَادُ منه. وقيل: إنَّ الحريريَّ صاحب المقامات لَمَّا أُحضِر من العراق لديوان الإنشاء ببغداد، وكُلِّفَ كتابةَ كتابٍ أُفْحِمَ حتى قيل فيه:
شَيْخٌ لنَا مِنْ رَبيعَةِ الفَرَسِ ... يَنْتِفُ عُثْنُونَهُ مِنَ الهَوَس
أنطقَه الله بالعراق كمَا ... ألْجَمَهُ في بغدادَ بالخَرَس
وقولنا: (على وَجْهٍ تتمكَّن به من نفوس المخاطبين بها) خرج به علم اللغة، والنحو، والصرف، إذ لا يشترط فيها ذلك.
وقولنا: (من حيث حسن ربط أجزاء الكلام ... إلخ) لإخراج علم
1 / 48
البلاغة؛ لأنه لا تشترط فيه تلك الحيثيَّة، وبذلك فارق هذا الفنُّ بقيةَ فنون الأدب اللساني.
وقولنا: (ما يُستَجاد من الألفاظ، ويحسن من الأساليب) إشارةٌ إلى أنَّ من أخصِّ وظائف المنشئين التَّدَرُّبَ على اختيار أخفِّ الألفاظ استعمالًا ورَوْنَقًا، وتحسين أسلوب الخطاب واختيار ما يناسب المقام منها وسيأتي الكلام على اختيار الألفاظ في القسم اللفظي والكلام على الأساليب بعد هذا.
وقولنا: (مع بلاغته) لإخراج ما ليس ببليغ، فليس من الإنشاء المبحوث عنه عُرفًا، وإنما هو التعبير عن المعاني كيفما اتفق، وذلك لا يَتوقَّف إلا على معرفة المفردات، وكيفية رَبْط الكَلِم بعضها ببعض، والبحثُ عنه في أُولَيَات علمي النَّحْو والصَّرف.
وموضوعُه: الكلامُ العربي من حيث رَبْط جُمَلِه ومحاسن كَلِمَه، وبذلك فارق موضوع البلاغة؛ إذ الإنشاء لا يتعلَّق إلا بالكلام المشتمل على جُمَلٍ كثيرة، ولا يدخُلُ الجملةَ الواحدة المفيدة، إلا أنَّ بعض أبوابٍ من البلاغة لا تخلو من شديدِ انتسابٍ بمسائل الإنشاء، كالفَصْل والوَصْل، والإيجاز والإطناب، وبعض المحسِّنَات البديعيَّة.
واستمدادُه: من كلام البُلَغَاء وخُطَبهم، ورسائلهم، وأشعارهم، وآداب العرب وعوائدهم، ومشهور أحوال الأمم المعروفة وأمثالها، قال ابن الأثير في المثل السائر: "قد قيل: ينبغي للكاتب أن يتعلَّقَ بكلِّ عِلْمٍ، وأهمُّ ما يَفتقِر إليه أنواع ثمانية: علم العربية، وأمثال العرب العَارِبَة ومَنْ
1 / 49
بَعدَهم وأيامُهم ووقائعُهم، والاطلاعُ على كلام المتقدِّمين من الكُتَّاب في النَّظم والنَّثر، وحفظ كثيرٍ منه، ومعرفةُ الأحكام السُّلْطَانية، وحفظُ القرآن والتدرُّب به، ومشهورِ الأخبار النبوية".
ولم يكن فنُّ الإنشاء مخصوصًا بالتأليف، ولكنه كان مِنْ جُمْلَة فنون آداب اللغة العربية، فيوجَد بعضُ مسائلِه متناثرًا في كتب البلاغة، ومختارات خُطَب العَرَب، ومُلَحِهم، وبَدَاهَة أجوبتِهم، وأمثالِهم، فتكون مسائلُه مشمولةً بالرِّوَاية من أواخر عصر الدولة الأموية؛ إذ كان ابن القِرِّيَّة قد عُنِي بنوادر العرب ومُلَحِهم، ثم شُمِلت بالتدوين في أوائل الدولة العباسية، ضِمْنَ كتب أدب العرب، مثل كتاب أبي عبيدة وأضرابه، ثم كان بَعْدُ مُدرَجًا في كتب بلاغة العربية إلى أن شَبَّ شباب ديوان الإنشاء في الدولة العباسية وما تفرَّع عنها، فأصبح بُلَغَاء الكُتَّاب
1 / 50
يُميِّزُون مسائل هذا الفن بالتدوين، وذلك من منتصَف القرن الثالث، فمنهم من جَمَع ما صَدَر عنه من بديع المراسلات أو الخطب أو المقامات، ومنهم من جَمَع أفضل ما يُؤثَر عن العرب ومَنْ يليهم من غُرَرِ الخطب وبدائع الجُمَل، كما صنع الجاحظ في بيانه (توفي سنة ٢٥٥ هـ)، ومنهم من جَمَع أمثال العرب ومُوجَزَ أقوالِهم، كما فعل أبو منصور الثعالبي في جُلِّ كتبه (توفي سنة ٤٣٠ هـ)، ثم جاء الذين حاموا حول ضبط الأصول وتدوين القواعد، فمزجوا الفَنَّ بمسائل علوم البلاغة والمحسِّنات، وأكثروا فيما عدا ذلك بالوصايا على تَتَبُّع مُنْشَئَات البُلَغَاء من الكُتَّاب، وأتوا بجُملة منها ووازنوا بينها؛ لتحصلَ للمتعلِّم مَلَكَةٌ يقتدِر بها على تمييز الحَسَن من غيره، والنَّسْج على مِنوال ما يراه حسنًا، وفي هذه الطريقة ظهرت أفضلُ كتب الفنِّ وأقربُها إلى الطريقة التعليمية، كما فعل ابن الأثير في (المثل السائر)، وسبقه في ذلك أبو هلال العسكري في (كتاب الصناعتين) (توفي سنة ٣٩٥ هـ) وعلى وَقْع خُطَاهم اقتفى السَّالكون، المطوِّلون كتبَهم والمقصِّرون.
ومَلَكَةُ الإنشاء تُكتَسب من جهة المعنى، ومن جهة ما يُعبِّر عن المعنى وهو اللفظ والكتابة، فالأول ينحصر في معرفة إيجاد المعنى في الفِكْر، وترتيبِه، والاستنتاج منه. والثاني يبحث عن حال اللفظ ومناسبتِه للمعنى مُفرَدًا أو مركَّبًا، وذلك أصول أساليب الكتابة.
هذا وللإنشاء فضيلةٌ واضحةٌ، فإنه لم يَخْلُ عَصْرٌ من رجالٍ تمكَّنوا
1 / 51
من سَوْقِ غيرهم بعِصِيِّ آرائهم، ففي الحديث: "إنَّ من البيان لَسِحْرًا"، وقد اختار الله تعالى المعجزةَ لأصحاب اللسان العربي بلاغةَ القرآن، وقديمًا ما عالج ديموستين -الخطيب اليوناني- من العَنَاء لِيَتدَرَّبَ على الخطابة التي تَمَكَّن بها بَعْدُ على قهر فيليبوس مَلِك مقدونيا ووالد الإسكندر، وسمع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ﵁ زياد بن أبي سفيان -وكان يومئذٍ لا يُدعَى لأبيه- يخطُب في زمن عمر ﵁ فقال:
1 / 52
"لو كان هذا الفتى قُرَشِيًّا لسَاقَ العَرَب بعَصَاه". ولولا مكانةُ عبد الله بن المقفَّع الشهير في الكتابة لَمَا سَلِم عبدُ الله بن علي بن عبدالله بن عباس -أخو السَّفاح- من غَدْر ابن أخيه أبي جعفر المنصور، فإنَّ ابن المقفع كتب له على المنصور عَهْدًا لم يترك للمنصور فيه مدخلًا للخيانة إلا سدَّه عليه.
1 / 53
كيفية الإنشاء للمعنى
الإنشاء كاسمه إحداثُ معانٍ منسَّقَةٍ ومُفْرَغَةٍ في غَرَضٍ مطلوب، فإذا أُحسِن وصلُها وجمعُها جاء الإنشاء كاملًا.
وأساس ذلك ثلاثة أمور: المعنى الأساسي، وتفصيله، وإيضاحه.
أما المعنى الأساسي: فهو الموضوع الذي يجول في الفِكْر ويجيش به الخاطِر، وهو غَرَضٌ إجماليٌّ يجب إحضارُه على إجماله، ثم يَشرَعُ في بيانه وإقناع السامعين به، فهو نظير (المطلوب) في اصطلاح المناطقة، أعني ما يُقَامُ عليه البُرْهَان. وهو في اصطلاح الكُتَّاب: ما تُتَرْجَمُ به الرِّسَالة أو تُعَنْوَنُ به المقالة، مثل قولنا: العِلْمُ أساس العُمْران، والاتِّحَاد سبب القوة. ولا نريد من إجماله كونه بسيطًا، وإنما نريد أنه غيرُ ملحوظٍ فيه التَّفريعُ ابتداء.
وأما تفصيل المعنى: فهو التَّبَصُّرُ في تقاسيمه وفروعِه، وتفكيكُه بإطالة النَّظَر فيه؛ للتنبُّهِ إلى ما ينحَلُّ إليه من الحقائق والأدلَّة والمُرغِّبَات أو المُنفِّرات.
وأما الإيضاح: فهو شرح تلك المعاني وذِكْرُ أدلتِها وفروعها، ليمكن حينئذٍ التعبير عنها بوجه سَهْلِ التصوُّر للسامعين، فإذا حصل ذلك لم يبق إلا كَسْوُ تلك المعاني بالألفاظ، فتسهُل الإفاضة في إنشاء الموضوع المرادِ، على حَدِّ ما قيل:
فإن وَجَدْتَ لسانًا قائلًا فَقُلِ
1 / 54
نُقِل عن عبد الله بن المعتز أنه قال: "البلاغة بثلاثة أمور: أن تغوصَ لحظةُ القلب في أعماق الفِكْر، وتجمعَ بين ما غاب وما حَضَر، ثم يعود القلبُ على ما أُعمِلَ فيه الفِكْرُ فَيُحكِمُ سياق المعاني، ويُحسِن تنضيدَها، ثم يبديها بألفاظٍ رشيقةٍ مع تزيين مَعارِضِهَا، واستكمال محاسنِها".
واعلم أنه قَلَّمَا يستطيع الكاتب أو الخطيب أن يتناول الموضوعَ من أوله إلى نهايته دَفْعَةً واحدة، فإن هو كَلَّف عَقْلَه ذلك أرهقه ضَجَرًا، ولاسِيَّمَا عند تَشَعُّبِ الموضوع وكثرة المعاني فيه، فيكادُ ييأسُ من المقدرة عليه؛ إذ تلوح له معانٍ كثيرةٌ فَيَرُوعُه انتشارُها ولا يدري كيف يبتدئُها، ولكنه إن اتَّبَع هاتِه الطريقةَ المشروحةَ، ورَتَّبَ المعاني الأساسية، وآخَى بين المعاني الفرعِيَّة التي هي من نَوْعٍ واحدٍ، وأحسنَ ترتيبَها، فذلك وقتُ رَفْعِ القَلَم من الدَّوَاة للكتابة، أو وقت الانتصاب للخَطابة؛ لأنَّ ثِمَار الفِكْر قد أينعت وآن قِطَافُها.
مِثالٌ للتمرين:
كتب ابن الأثير في الزُّهْد في الدنيا ما يأتي:
"الناس في الدنيا أبناء السَّاعة الرَّاهنة، وكما أنَّ النفوسَ ليست بقاطنة، فالأحوال ليست بقاطنة، ولا شبيه لها إلا الأحلامُ التي يتلاشَى خيالُها عاجلًا، وتجعَلُ اليَقَظَةُ حقَّها باطلًا، وما ينبغي حينئذٍ أن يُفرَح بها مقبلة، ولا يؤسى عليها مُدْبِرَة، وكلُّ ما تراه العَيْنُ منها ثم
1 / 55
يذهب فكأنها لم تَرَهُ، وغاية مطلوب الإنسان منها أن يُمَدَّ له في عُمُره، ويُمْلَى له في امتداد كُثْرِه. أمَّا تعميرُه فيعترضُه المشيب الذي هو عدمٌ في وجود، وهو أخو الموت في كلِّ شيءٍ إلا في سُكْنَى اللُّحُود. وأمَّا مالُه فإن أمسَكَه فهو عُرْضَةٌ لوارث يأكلُه، أو حادثٍ يستأصلُه، وإن أنفقَه كان عليه في الحلال حِسَابًا، وفي الحرام عِقَابًا، فهذه زَهْرَةُ الدنيا النَّاضِرة، وهذه عُقْبَاها الخاسرة".
فقوله: (وما ينبغي حينئذٍ أن يُفرَح بها مقبلة، ولا يؤسَى عليها مدبرة) هو المعنى الأساسي.
وقوله في الدنيا: (ولا شبيهَ لها إلا الأحلامُ ...) إلخ الفِقْرات. وقوله: (وهو أخو الموت في كلِّ شيءٍ ...) إلخ الفِقْرة. من قبيل إيضاح المعنى.
وقوله: (الناس في الدنيا). وقوله: (وكل ما تراه العين) مع بقية الكلام، ذلك كلُّه من قبيل تفصيل المعنى، وقد خَلَط ترتيبَها خلطًا تظهرُ به مقدرةُ المتعلِّم عند تمييز بعضها من بعض، بحسب المراتب الثلاثة المذكورة.
1 / 56
أساليبُ الإنشاء
للإنشاء أساليبُ متنوعةٌ باختلاف الأغراض، والمَعْنِيُّ باختلاف أساليب الإنشاء اختلافُ مستعمَل الألفاظ، واختلافُ كيفيَّةِ رَبْط الجمل تَبَعًا لاختلاف الأغراض، وذلك أمرٌ وراء اختلاف المعاني، واختلاف مقتضيات الأحوال، المدوَّن لأولِها علم اللغة والنحو والصرف، ولثانيها علمُ البلاغة، وهو الأمر الذي إذا حَصَل جاء الكلامُ عربيًّا، وبضَيَاعِه تضيع اللَّهْجَةُ العربيةُ مع بقاء المفردات اللغوية، وبقاء قواعد فنِّ البلاغة، ولهذا لا تجد مشابَهةً بين كلام المتكلِّفين من الأُدَباء، وبين
1 / 57
كلام العرب ومَنْ يليهم من البلغاء أهلِ اللِّسان، وأحسنُ قولٍ يُفْصِح عن هذا قولُ الشيخ عبد القاهر ﵀ في (دلائل الإعجاز): "إنَّ النَّظْمَ هو تَوَخِّي معاني النحو فيما بين الكَلِم على حسب الأغراض". وطريق علم ذلك: هو عَرْضُ الأساليب المختلفة من كلام البلغاء على المتعلِّمين؛ ليحصلَ لهم من اختلاف أمثلتها صُوَرٌ متنوعةٌ، يَلُوحُ لأذهانِهم منها وقتَ مُحَاولةِ الإنشاء أُنْمُوذجٌ فيما يصلح له من الأغراض، وهو الذي سمَّيْنَاه فيما مضى بـ (القوالب غير الجُزْئِيَّة).
ألا ترى أن النبي ﷺ لَمَّا راجَعَه بعضُ المسلمين في دِيَة الجَنِين بقوله: "كيف نَدِي من لا شرب ولا أكل، ولا نطق ولا اسْتَهَلَّ، فَمِثْلُ ذلك بَطَل"، قال له على وجه التوبيخ: "أَسَجْعًا كَسَجْعِ الكُهَّان؟ "، فعاب منه الأسلوبَ، وإن كان كلامُه عربيًّا بليغًا. وقد جادل عتبةُ بن ربيعة قريشًا حين أجمعوا على أن يعتذروا لوفود العرب عامَ
1 / 58
ظهورِ دعوةِ النبي ﷺ إلى الله بالقرآن بأن يقولوا: هو شِعْرٌ، أو كَهانةٌ، أو سِحْرٌ. فقال لهم: "والله ما هو بِزَمْزَمَةِ الكاهن، ولقد عرفت الشِّعْرَ ورَجَزَهُ وقَصِيدَهُ فما هو بشيءٍ من ذلك، وما هو بكلامِ بَشَرٍ". فَفَرَّقَ بين القرآن وبين غيره باختلاف الأسلوب.
ومن الغَلَط أن يَقتصِرَ متعلِّم الإنشاء على أسلوبٍ واحدٍ يعكُف عليه، مثل أن يَقتصِر على أسلوب (مقامات الحريري)، أو (رسائل ابن الخطيب) أو غيرهما، فلا يَرتَسِمُ في ذِهْنِه إلا ذلك، حتى إذا أراد أن ينشئ لم يستطع أن يعدو ذلك الأسلوب، مع أنه لا يحسن في جميع مواقع الإنشاء، كما أنه لا يحسن أن يَقتصِر على نوعٍ من أنواع الإنشاء الأدبي، كالرسائل فقط، فإنَّ للإنشاء أنواعًا كثيرة:
فمن أنواعه: المُرَاسَلَة، والخطابة، والمُحَادَثة، والتَّصْنِيف،
1 / 59
والمقامات، والوَصْف. وكلُّها فنونٌ كثيرة، ويجيء الإنشاء فيها نظمًا ونثرًا، ولكلٍّ منها لهجةٌ وأسلوبٌ يُخَالِفُ ما لغيرِه، فلا بد من ممارسة طرق البلغاء في هاتِه الأنواع وفنونِها ليحصل للمُمَارِس ذَوْقٌ ومَلَكةٌ يستطيع به أن يَعرِف ما يجب في كلِّ مَقَامٍ من هاتِه المقامات، بحسب العُصُور والعَوَائد، فليس ما يحسن للشاعر أو الخطيب يحسن للمؤرِّخ، فلو أنَّ أبا نصرٍ العُتْبِيِّ وَهَب محاسن إنشائه لغير كتابِ (التاريخ اليميني) لَمَا قَصُرت شهرتُه عن شهرة الحريري، ولكنه غلط في الوَضْع. قال بشر بن المعتمر: "ينبغي للمتكلِّم أن يعرفَ أقدارَ المعاني، ويُوازنَ بينها وبين أقدار المستمعين وبين أقدار الحالات، فيجعلَ لكلِّ
1 / 60
طبقةٍ من ذلك كلامًا، ولكلِّ حالةٍ من ذلك مَقَامًا، حتى يَقسِم أقدار الكلام على أقدار المعاني، وأقدارَ المعاني على أقدار المقامات، وأقدارَ المستمعين على أقدار تلك الحالات. فإن كان [الخطيبُ متكلِّمًا] تجنَّبَ ألفاظ المتكلِّمين (علماء الكلام)، وإن كان واصفًا أو مُجِيبًا أو سائلًا كان الأَوْلى به ألفاظُ المتكلِّمين".
1 / 61
القسم الأول: المعنوي
إنما ينشئ المنشئ معاني يعبَّر عنها بألفاظ، فمادة الإنشاء هو المعنى واللفظ ظَرْفٌ له، فإذا حاول الكاتبُ حتى ابتكرَ شريفَ المعاني أطاعَتْهُ الألفاظُ وجاء إنشاؤُه متينًا واضحًا ولأمرٍ مَّا تفاوت البلغاء والشعراء من العرب في الإجادة، مع أنهم ينطِقون بِلُغَةٍ واحدة، لا يتفاوتون في العلم بها وبخصائصها، وإنما تفاوتُهم في ابتكار المعاني والنَّبَاهة في التعبير عنها، وكذلك الأمر فيمن بعدهم من المولَّدين، فقد تجد الإمامَ في اللغة لا يستطيع إنشاء رسالةٍ ينشئُها مَنْ هو دونَه عِلْمًا، كما قيل: "إنَّ ابنَ دُرَيْدٍ شاعرُ العلماء"، مع أنَّ كثيرًا ممن هو دونه أجودُ منه شِعْرًا بكثيرٍ.
قال الشيخ عبد القاهر في (دلائل الإعجاز): "إنَّ الألفاظ لا تتفاضل من حيث هي ألفاظٌ مجرَّدَةٌ، ولا من حيث هي كَلِمٌ مفردةٌ، وإنما الفضيلة وخِلافُها في مُلاءَمة معنى اللفظة لمعنى التي تليها، وما أشبه ذلك".
1 / 62
فيدخل في قوله: (وما أشبه ذلك) ما ذكرناه هنا. وقد بَسَط هذا وكرَّرَه في مواضع من (دلائل الإعجاز). وقال التفتازاني في شرح قول المفتاح: (وأصل الحُسْنِ في جميع ذلك أن لا تكون المعاني توابعَ الألفاظ) ما نَصُّه: "إن المعاني إذا تُرِكت على سَجِيَّتِها طَلَبت لأنفسها ألفاظًا تليق بها، فيحسن اللفظ والمعنى جميعًا، وإذا أتي بالألفاظ متكلَّفةً وجُعِلت المعاني تابعةً لها فات الحُسْنُ لفوات ما هو المقصِد الأصلي والغَرَض الأوَّلي، بل ربما صارت جِهَةُ حُسْنِ الكلام جِهَةَ قبحٍ لكون الكلام كظاهرٍ مُمَوَّه على باطن مُشَوَّه".
فيجب على المتعلِّم الاهتمامُ أول الأمر بإيجاد المعاني، والبحث عن الحَسَن منها، ومحاولةُ التعبير عن الحوادث والصِّفَات ومظاهر المخلوقات، فإنَّ ذلك أسهلُ تناولًا، ثم يرتقي إلى التعبير عن الوجدانيَّات النفسيَّة، ثم إلى التعبير عن الحقائق الحِكْمَيَّة ونحوها. ولا ينبغي للمتعلِّم أن يجعل جُلَّ عِنَايته باقتباس آثار الكاتبين ونَقْل معانيهم؛ لأنَّ اعتماد ذلك يُصَيِّرُه غيرَ قادرٍ على مجاوزة معاني السَّالفين، نعم، يجوزُ له ذلك في ابتداء التعلُّم، إذا لم يستطع في وقتٍ من الأوقات إحضارَ معنى، أن يأخذَ رسالةً أو شِعْرًا فيحوي معانيه دون ألفاظِه، ثم يكلِّف نفسَه التعبيرَ عنه، ولا بد أن يكون ذلك مرادَ ابنِ الأثير في كتابه (الجامع الكبير) إذ قال: "يجب على المبتدئ في هذا الفنِّ أن يأخذَ رسالةً من الرَّسائل، أو قصيدةً من الشِّعْر، ويقفَ على معانيها، ويتدبَّر أوائلَها وأواخرها، ويقرِّر ذلك في قلبه، ثم يكلِّف نفسَه عمل مثلِها
1 / 63