أصول التصحيح العلمي - المبيضة - ضمن «آثار المعلمي»
أصول التصحيح العلمي - المبيضة - ضمن «آثار المعلمي»
তদারক
محمد أجمل الإصلاحي
প্রকাশক
دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع
সংস্করণের সংখ্যা
الأولى
প্রকাশনার বছর
١٤٣٤ هـ
জনগুলি
الرسالة الأولى
أصول التصحيح العلمي
23 / 3
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، وأشهد ألَّا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.
أما بعد:
فهذه رسالة فيما على المتصدِّين لطبع الكتب القديمة مما إذا وفوا به فقد أدَّوا ما عليهم من خدمة العلم والأمانة فيه، وإحياء آثار السلف على الوجه اللائق، وتكون مطبوعاتهم صالحة لأن يثق بها أهل العلم. وهي مُرتَّبة على مقدمة و... (^١) أبواب وخاتمة.
* * * *
_________
(^١) ترك المؤلف هنا بياضًا لعدد الأبواب.
23 / 5
المقدمة
كان العلم في صدر الإسلام يُتَلقَّى من أفواه العلماء، ويُحفَظ في الصدور. وكان الناس مختلفين في الكتابة، منهم مَن يثق بجودة حفظه فلا يكتب شيئًا، ومنهم مَن يكتب ما يسمع ليتحفظه ثم يمحو الكتاب، ومنهم مَن يكتب ويحفظ كتابه حتى يراجعه عند الحاجة.
ثم اتسع العلم، وطالت الأسانيد، وصُنِّفت بعض الكتب، فأطبق الناس على الكتابة. وكان أكثرهم يحرصون على الحفظ، وإنما يكتبون ويحفظون كتبهم ليتحفظوا منها، ثم يراجعونها عند الحاجة. ومنهم مَن لا يحفظ، فإذا احتيج للأخذ عنه روى من كتابه.
وكانوا يبالغون في حفظ كتبهم، فلا يمكِّن أحدهم أحدًا من كتابه إلا أن يكون بحضرته، [ص ٢] أو يشتد وثوقه برجل فيسمح له.
وفي "صحيح البخاري" في كتاب الحج، باب: من أين يخرج من مكة [١٥٧٦]: "سمعت يحيى بن معين يقول: سمعت يحيى بن سعيد يقول: لو أن مسددًا أتيتُه في بيته فحدثتُه لاستحق ذلك، وما أبالي كُتُبي كانت عندي أو عند مسدد".
وكانت كتب العلماء التي يعتمدون عليها بخط أيديهم، وذلك على أوجه:
- قد يملي الشيخ، والطالب يكتب ثم يحفظ ذاك الكتاب نفسه، أو ينقله إلى كتاب آخر فيحفظه.
23 / 6
- وقد يثق الطالب بجودة حفظه، فيحضر إملاء الشيخ فيحفظ، ثم يرجع إلى بيته فيكتب ما حفظه.
- وقد يسمح له الشيخ بكتابه بحضرته فينقل منه، أو ينقل من نسخة أخرى قد كتبها صاحبها عن الشيخ، ثم يقرأ ما كَتبه على الشيخ؛ فإن كان الشيخ حافظًا اكتفى باستماع ما كتبه الطالب، وأصلح ما يحتاج إلى إصلاحه من حفظه، أو أخذ كتابَ الطالب وأملاه عليه. وإن لم يكن الشيخ يحفظ أخَذَ أصلَه، فقابل له (^١) ما كتبه الطالب؛ إما بأن يملي الشيخ من أصله والطالبُ ينظر في نقله، وإما بأن يقرأ الطالب من نقله والشيخ ينظر في أصله.
- وربما تسامح بعضهم، فحضر إملاءَ الشيخ أو القراءةَ عليه ولم يكتب هو، ولكن كان معه مَن يكتب عند السماع أو كتَبَ قبل ذلك. ثم بعد ذلك يعتمد ذاك الذي لم يكتب على كتاب صاحبه، فينقل عنه.
- وربما لم يكن هناك سماع ولا قراءة، وإنما ينقل الطالب من أصل الشيخ، أو من فرع قد قرأه الشيخ أو قرئ عليه، ثم يعرض على الشيخ؛ فإذا كان الشيخ حافظًا لعلمه تصفَّحَ هذا النقلَ، [ص ٣] وأصلح ما يحتاج إلى الإصلاح، ثم ناوله الطالبَ وأذن له بروايته عنه.
- وربما استغنى الشيخ عن بعض كتبه، فوهبه لبعض أصحابه، وأذن له أن يرويه عنه.
- وربما أوصى الشيخ بكتابه لبعض أصحابه، وأذن له أن يرويه عنه.
- وأشد تسامحًا من هذا أن ينقل الطالب من كتاب طالب آخر ما رواه
_________
(^١) كذا في الأصل، والمقصود: "به" أو "عليه".
23 / 7
عن شيخ حي، ثم يجيء إلى الشيخ بكتابه فيقول: هذا من روايتك، فأرويه عنك؟ فيقول: نعم؛ مع أنه لم ير الكتاب، ولم يقرأه، ولا قرئ عليه. وكان مثل هذا نادرًا، وإنما يتفق مثله إذا كان الطالب كبيرًا من أهل العلم والثقة، فإذا وثق بكتاب صاحبه لثقته عنده، ووثق الشيخ بعلمه وإتقانه ومعرفته= أجازه.
لكن لما كثرت المصنفات، واشتهرت نسخُها، وطالت الأسانيد وتعددت، وضعفت الهمم= توسع الناس في الإجازة. يجيز الشيخ للطالب الكتابَ وإن لم يكن عنده نسخة منه، ولا قرأه، ولا سمعه، ولا رأى نسخة منه. ثم إذا طال عمر هذا الطالب احتاج الناس إلى الرواية عنه، فبحثوا عن نسخة يوثق بها من ذلك الكتاب، فقرأوا عليه، ورووه عنه.
وربما اكتفى بعضهم بالاستجازة منه. فقد يجيز رجلًا، ويجيز هذا الثاني ثالثًا، فيظفر هذا الثالث بنسخة من الكتاب فيمليها على الناس أو يقرؤونها عليه، ويعتمد عليها في القضاء والفتوى والنقل في مصنفاته وغير ذلك؛ مع أن شيخه وشيخ شيخه لم يريا تلك النسخة، بل ولا نسخة [ص ٤] من الكتاب.
وتوسعوا في ذلك حتى كانوا يجيزون للأطفال وللرجل ولمن يولد له بعد، ويجيز أحدهم لجميع أهل عصره جميع مصنفاته ومروياته!
وبالجملة صارت الرواية في الآخر صورة لا روح لها، وانحصر الأمر في أن تكون النسخة موثوقًا بها. والثقة بالنسخة على درجات:
- أعلاها: أن تكون بخط المصنف وقرئت عليه، أو قرأها هو على الناس، أو كرر النظر فيها.
- ودون ذلك: أن تكون فرعًا عن أصل المصنف، وقابله ثقة مع المصنف.
23 / 8
- ودون هذا: أن تكون فرعًا عن أصل المصنف، وقابله ثقة على أصل المصنف مع ثقة آخر غير المصنف.
- ودونه: أن تكون فرعًا قد قابله ثقتان على فرع قابله ثقة مع المصنف.
ثم هكذا، كلما بعُدَ الفرعُ عن أصل المصنف ضعفت الثقة به بالنسبة إلى ما قبله. وذلك لما قضت به العادة من أن الفرع وإن قوبل على الأصل لا يخلو عن مخالفة للأصل في مواضع. ولذلك أسباب، منها:
التصحيف؛ فإنَّ أكثر الحروف تتحد صورة الحرفين منها، وإنما يميز بينهما النقط. وذلك الجيم والخاء مع الحاء، والدال مع الذال، والراء مع الزاي، والسين مع الشين، والصاد مع الضاد، والطاء مع الظاء، والعين مع الغين، وثلاثة من أحرف "بثينته" مع السين. ومنها ما يتحد الحرفان فأكثر في الصورة، وإنما التمييز بصورة النقط. وذلك الجيم [ص ٥] مع الخاء، والفاء مع القاف، وكل من أحرف "بثينته" مع الباقي، وثلاثة منها مع الشين؛ حتى إن هذه الكلمة "بثينته" إذا لم تنقط احتملت أكثر من ثلاثة آلاف وجه
فإن قيل: أكثر تلك الوجوه لا معنى لها في اللغة، والسياق قد يُعيِّن أحد المحتملات التي لها معنى.
قلت: كثير من المحتملات لها معنى في هذا المثال وفي غيره، والسياق كثيرًا ما يحتمل وجهين أو أكثر. والناظر إذا كان متحريًا لا يأمن أن يكون في الوجوه المحتملة ما له معنى يناسب السياق، وإن جهله هو لعدم إحاطته باللغة؛ ولاسيما إذا كان السياق إنما يقتضي أن تلك الكلمة اسم شجرة أو علم موضع أو علم إنسان، فإن هذا السياق لا يغني شيئًا، لكثرة أسماء الشجر والأماكن والناس، وكثرة الغريب منها.
23 / 9
قال ابن قتيبة في كتاب "الشعر والشعراء" (ص ٩) (^١): "كلُّ العلم محتاج إلى السماع (يعني التلقي من أفواه العلماء الضابطين)، وأحوجُه إلى ذلك علم الدين، ثم الشعر لما فيه من الألفاظ الغريبة واللغات المختلفة والكلام الوحشي، وأسماء الشجر والنبات والمواضع والمياه؛ فإنك لا تفصل في شعر الهذليين ــ إذا أنت لم تسمعه ــ بين "شَابَة" و"سايَة" وهما موضعان، ولا تثق بمعرفتك في حَزْم نُبايِع (^٢)، [ص ٦] وعرْوان (^٣) الكَرَاث، وشَسَّي عبقر (^٤)، وأُسْد حَلْيَة، وأُسْد تَرْجٍ، ودُفاقٍ (^٥) وتُضارِ ع (^٦) [وأشباه هذا]؛ لأنه لا يلحق بالفطنة والذكاء كما يلحق مشتق الغريب ... ".
ثم ذكر أمثلة مما يقع فيه الخطأ في بعض الألفاظ.
وقال عبد الغني بن سعيد المصري في أول كتابه "المؤتلف والمختلف" (ص ٢): "أنبأنا أبو عمران موسى بن عيسى الحنيفي قال: سمعت أبا إسحاق إبراهيم بن عبد الله النَّجِيرَمي يقول: أولى الأشياء بالضبط أسماء الناس، لأنه شيء لا يدخله القياس، ولا قبله شيء ولا بعده شيء يدل عليه".
_________
(^١) طبعة أحمد شاكر (١/ ٨٢ - ٨٣) وما بين الحاصرتين منها.
(^٢) "نُبايع" بضم النون. ضبطه ياقوت وغيره. ووقع في المنقول عنه كأنه "تبايع". [المؤلف].
(^٣) بضم العين. وقيل: بفتحها. [المؤلف].
(^٤) قالوا: عبقر بوزن جعفر. لكن جاء في الشعر بفتح العين وفتح الباء وضم القاف وتشديد الراء. انظر توجيه ذلك في معجم البلدان. [المؤلف].
(^٥) في الأصل: "دقاق" خطأ. [المؤلف].
(^٦) كذا ضبط في الأصل بكسر الراء. والوجه الثاني ضمُّها، نقله ياقوت عن ابن حبيب.
23 / 10
هذا، وكان القدماء كثيرًا ما يتركون نقط ما حقه أن ينقط، كما هو مشاهد في كثير من النسخ القديمة؛ وإنما يدَعُونه إيثارًا لسرعة الكتابة، واتكالًا على أن أهل العلم يأخذون الكتب بالسماع من أفواه العلماء، فيحفظون الأسماء بضبطها. وقد يكون بعض العلماء كان يتعمد ترك النقط إلجاءً لطالبي العلم إلى السماع من أفواه العلماء، كيلا يتكلوا على الصحف. وما كان منقوطًا من النسخ القديمة كثيرًا ما يشتبه فيه النقط، فتشتبه النقطة بالنقطتين، والنقطتان بالثلاث. ويقع كثير من النقط بعيدًا عن الحرف الذي [ص ٧] هو له، فيظن أنه لحرف آخر عن يمين ذلك الحرف، أو يساره، أو فوقه في السطر الأعلى، أو تحته في الأسفل.
والناقل قد ينقط بعض ما لم يُنْقَط في الأصل برأيه، فيخطئ. وقد يترك نقطَ ما هو منقوط، فيكون ذلك سببًا لخطأ مَن بعده. وقد يجعل نقط حرف لغيره عن يمينه أو يساره أو فوقه أو تحته، بناءً على ما تراءى له من الأصل لبعد النقط عن الحرف الذي هو له.
السبب الثاني: أن كثيرًا من الأصول يَشتبه فيها حرف بآخر وكلمة بأخرى، وإن كانت صور الحروف في أصل وضع الخط مختلفة. وذلك لتعليق الخط، أو رداءته، أو قرمطته، فيلتصق منه ما حقُّه الافتراق، ويفترق ما حقُّه الالتصاق؛ أو لأن لكاتب الأصل اصطلاحًا لا يعرفه الناقل، أو غير ذلك. ولبيان هذا أُثبت هنا بعض الكلمات التي وقع فيها التحريف في نسخ "تاريخ البخاري"، ونبهت عليها في التعليق عليه، التقطتها من التعاليق على القسم الأول من المجلد الأول من "التاريخ" المطبوع. أذكر أولًا صورة ما
23 / 11
وقع في النسخ خطأً في سطر، ثم أكتب في السطر الثاني تحت الكلمة ما هو الصواب فيها:
هشام ... النمر ... عثمن ... السجود ... الحنفي ... يماني ... طويح ... عقية ... [ص ٨]
مسافر ... اليمن ... عمر ... السحور ... الجعفي ... يمامي ... طريح ... عتبة
الذهلي ... فقال ... وائل ... يزيد بن نشيط ... عمر ... اليمامي ... علي بن قدامة (^١)
الدَّهَكي ... يقال ... ليلى ... يزيد وابن قسيط ... عم ... اليماني ... علي عن قدامة
سمع ... معلى ... ست ... السكري ... يشفى ... العنزي ... محمد ... الهدير ... نمير
مع ... يعلى ... ثنتين ... اليشكري ... تسع ... القنوي ... نجيح ... الهرير ... شمير
صيح ... السعيدي ... أبو ... الزبير ... ميثم ... محمد ... قيس ... سعيد ... جعفر
صبيح ... السعدي ... ابن ... الزبيدي ... ضيثم ... عمرو ... عتيق ... سفي؟ ن ... جعدة
جبير ... أبيه ... الحدسين ... أخبرنا ... محمد ... العامري ... محمد ... عقبة (^٢) ... وقران سأله
حنين ... أمه ... المجذمين ... أبا ... عمر ... المعافري ... محمود ... عتبة ... وقرأ رسالة
معاذ ... معتمر ... وثمانين ... عبد الرحمن بسام ... عبد الملك ... العدوية ... ثقة
معان ... معشر ... ومأتين ... عبد الرحيم هشام ... عبد الله ... العذرية ... يعد
قرير ... قريم ... سالم ... مسلمة ... مسلم ... عقبة ... محمد وزيد ... شيبة
قرين ... قرين ... بسام ... سلمة ... سلمة ... عصمة ... محمد بن وزير ... سمينة
الحضرة ... التميمي ... دليم ... يعفور ... زيد ... شعبة ... الطفيل ... سويد ... [ص ٩]
الحكرة ... التيمي ... دليلة ... يعقوب ... زبر ... سعيد ... الفضيل ... شعوذ
سليمن ... المخزومي ... سليم ... بشر ... إسمعيل ... البصريين ... عبد الرحيم
سلمى ... المخرمي ... سليم؟ ن ... مبشر ... إسحاق ... المصرين ... عبد الرحمن
المِنهَال ... كدير ... القطان ... عكرمة عن سيعد ... أبو بكير ... عنبسة ... عبد الحميد
الموال ... كريز ... القصاب ... عكرمة وسعير ... أبو مكين ... عبسة ... عبد الصمد
مزيد ... الأنباري ... عبد الله ... خثعم ... القطيعي
بديل ... الأبناوي ... عبد الملك ... جعثم ... الغطيفي
_________
(^١) يتكرر مثل هذا كثير [كذا في الأصل] من وقوع "بن" والصواب: "عن"، وكذا عكسه. [المؤلف].
(^٢) سبق في السطر الأول.
23 / 12
السبب الثالث: أن الخمسة الأحرف الأول من "بثينته" صورة كل منها كما تراه نبرة واحدة، فكثيرًا ما تخفى النبرة، وكثيرًا ما تُترك، وكثيرًا ما يُكتفى عنها بمدة بين الحرفين: الذي قبلها والذي بعدها، فيشتبه أسد وأسيد، وبشر وبشير، وجبر وجبير، وحسن وحسين، وسعد وسعيد، وعبد الله وعبيد الله، وغير ذلك.
[ص ١٠] السبب الرابع: أن الناقل قد يرى بحاشية الأصل أو بين السطور عبارة فيظنها لحقًا فيُدرجُهَا في المتن، أو يراها حاشية فيدعها. وقد يخطئ في ظنه: يظنها لحقًا وهي حاشية، أو عكسُه. وقد يصيب في ظنه أنها لحق، ولكن يخطئ في موضعها من المتن، فيضعها في غير موضعها.
السبب الخامس: أن النُسَّاخ كثيرًا ما يكررون بعض العبارات، وكثيرًا ما يسقطون. والغالب أن يكون ذلك عن زيغ النظر من كلمة إلى نظيرتها: ينظر الناسخ أو المُمْلي عليه في الأصل فيأخذ عبارة، ثم يصرف نظره عن الأصل فتُكتب تلك العبارة في النقل؛ ثم يكُرُّ ببصره على الأصل، فيقع بصره على كلمة مثل الكلمة التي انتهى إليها في الكتابة، فيظنها إياها، فيأخذ ما بعدها. وأكثر ما يتفق مثل هذا إن كانت كلمة في سطر، وبإزائها في السطر الذي يليه نظيرتها. وقد يحتاط بعض النساخ، فلا يكتفي بكلمة بل ينظر جملة، ولكن كثيرًا ما يتفق في الأصول إعادة الجملة الواحدة مرارًا.
تصفَّحْ ــ إن أحببت ــ أوراقًا من القسم الأول من المجلد الثالث من كتاب ابن أبي حاتم المطبوع بدائرة المعارف، وتأمل المواضع التي نبه المصحح على سقوطها من أحد الأصلين يتضح لك ما تقدم، وعلى الأخص صفحات ٩ و١١ و١٢ و١٥ و١٦ و١٨ و٢٢ و٢٣ و٢٦.
23 / 13
فأما التكرار فلم ينبه عليه المصحح، ولكن يمكنك قياسه على الإسقاط؛ لأن سببهما واحد.
[ص ١١] السبب السادس: التحريف السمعي. وذلك بما إذا كان الأصل بيد رجل يُملي على الناسخ، والناسخُ يكتب؛ فإن كثيرًا من الحروف تتقارب مخارجها بل تتحد في ألسنة بعض الناس ولاسيما الأعاجم، كالهمزة مع العين ومع القاف، والباء مع الفاء، والتاء مع الدال والطاء، والثاء مع السين والصاد، والجيم مع القاف والكاف، والحاء مع الهاء، وغير ذلك. فقد يُملي المملي "أطعنا"، فيكتبها الناقل "أتانا"، وقس على ذلك.
وقد يتحد لفظ كلمة بكلمتين، وإنما التمييز بالفصل والوصل، فيُملي المملي مثلًا "إن جاز"، فيكتبها الناسخ "إنجاز"، أو عكسه.
وحروف المد تسقط في الوصل، فيتحد لفظ "سمعا القول" و"سمع القول"، وكذا "ادعوا القوم" و"ادع القوم"؛ وقس على ذلك.
السبب السابع: أن الناسخ أو المملى عليه قد يتصرف برأيه، فيزيد أو ينقص أو يُغيِّر.
وقع في "لسان الميزان" (٣/ ٦) في الكلام على سالم بن هلال: "ذكره ابن حبان في "الثقات" وقال فيه: الناجي يروي عن أبي بكر الصديق رضي الله [ص ١٢] تعالى عنه، روى عنه يحيى بن سعيد القطان".
والذي في "الثقات" (^١): "سالم بن هلال الناجي، يروي عن أبي الصديق الناجي، روى عنه يحيى بن سعيد القطان". وأبو الصديق الناجي
_________
(^١) طبعة حيدراباد (٦/ ٤٠٩).
23 / 14
تابعي مشهور اسمه بكر بن عمرو.
ووقع في "الميزان" (^١) في ترجمة محمد بن عمر الجعابي: "حدَّث عن أبي حنيفة ومحمد بن الحسن وابن سماعة وأبي يوسف القاضي".
وفي "لسان الميزان" (٥/ ٣٢٢): "حدَّث عن أبي حنيفة ﵁ ومحمد بن الحسن بن سماعة وأبي يوسف القاضي".
والصواب إنما هو: "حدَّث عن أبي خليفة ومحمد بن الحسن بن سماعة ويوسف القاضي".
وفي "تذكرة الحفاظ" (٣/ ١٣٠): "سمع محمد بن الحسن بن سماعة ويوسف بن يعقوب القاضي و... وأبا خليفة الجمحي".
السبب الثامن: التحريف الذهني. قد تستولي كلمة على فكر الإنسان وتشغله، فإذا حاول أن يملي غيرها أو يكتب سبقت هي إلى لسانه أو قلمه، فينطق بها أو يكتبها، وهو لا يشعر. وقد جرى لي مثل هذا مرارًا.
فهذه الأسباب وغيرها تُوقع الناسخ في الغلط. فإن لم يقابل الفرع على الأصل بقيت الأغلاط في الفرع، وإن قوبل فالمقابلة تختلف باختلاف درجة المقابلين في العلم والمعرفة والتثبت والاحتياط. ومع ذلك كله، فالغالب أنها تبقى أغلاط.
وإذا أنت تدبرت الأسباب المتقدمة علمت أنها قد تتفق للمقابل، كما تتفق للناسخ. والبرهان على ذلك أننا نجد النسخ القديمة التي قوبلت على
_________
(^١) طبعة الخانجي سنة ١٣٢٥ (٣/ ١١٣).
23 / 15
أصول المصنفين، أو على فروع قوبلت على تلك الأصول، ثم نجد فيها من الأغلاط ما نعلم أنه ليس من المصنف. وإذا أردت عين اليقين فاعمد إلى أصل قديم، واستنسخ منه نسخة، وكلِّف رجلين بمقابلتها على الأصل، ثم قابلها أنت على الأصل مرة أخرى بالتدقيق التام، وانظر النتيجة!
هذا، والنُسخ القديمة بعد نسخها ومقابلتها لابد أن تكون قد تناقلتها الأيدي [ص ١٣] وتعاورتها أنظار القارئين والمطالعين، وقد يكون بعضهم تصرَّف فيها بما يراه إصلاحًا وتصحيحًا، وقد يخطئ في ذلك، بل وربما يكون قد غيَّر فيها بعض الجهلة أو الخونة. أوَ لا ترى أنه ليس بين الإثبات والنفي إلا حرف النفي وقد يسهل زيادته أو حكُّه ولا يظهر ذلك، بل ربما قلب المعنى زيادةُ ألف أو نبرة أو نقطة.
وقد رأيت من تَصرُّف الجهلة ما وقع في النسخة المحفوظة بخزانة كوبريلي في إستانبول تحت رقم [٢٧٨] في الورقة [٥٢٨] (^١) وذلك في ترجمة الإمام أبي حنيفة ﵀، وذلك في موضعين، حاول جاهل أن يطمس ما في الأصل، ويكتب محله ما يخالفه؛ فلم يتم له ذلك، بل بقي ما في الأصل لائحًا. ولكن مثل هذا قليل، فقد رأينا عدة من الأصول قد اطلع عليها من ينكر بعض ما فيها، وغاية أمره أن يكتب عليه حاشية يُظهر فيها إنكاره لما في الأصل. وهذا ــ إذا تدبرت ــ من آيات الله ﷿ مصداقًا لوعده سبحانه بحفظ الذكر، و"الذكر" يتناول السنة إن لم يكن بلفظه فبمعناه، ويلزم من ذلك حفظهُ كلَّ ما فيه حفظٌ للشريعة كاللغة وغيرها، ولله الحمد.
_________
(^١) من كتاب "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم. وقد ترك المؤلف بياضًا لرقم النسخة والورقة. وانظر المطبوع بتحقيق المؤلف (٤/ ١/٤٤٩، ٤٥٠).
23 / 16
وكأنه لاحتمال تصرُّف بعض الخونة أو الجهلة كان السلف يحتاطون في شأن الكتب. وفي ترجمة الأوزاعي من "تهذيب التهذيب": "وقال الوليد بن مسلم فيما رواه أبو عوانة في صحيحه: احترقت كتبه (يعني الأوزاعي) زمن الرجفة [ص ١٤] فأتى رجل بنُسَخها (يعني بنسخٍ نُقلت من تلك الكتب) وقال له (يعني للأوزاعي): هو إصلاحك بيدك (يعني أنَّ هذه النُسخ نُقلت من كُتبِك، وقابلتَها أنت، وأصلحتَ فيها ما فيه من مخالفة) فما عرض لشيء منها حتى مات".
يعني أن الأوزاعي ﵀ لم يعتدَّ بتلك النسخ، ولا روى منها شيئًا. وإنما ذلك لأنها قد بَقيت مُدةً تحت يدِ غيره ممن لعله لا يعرفه بالثقة، فلم يأمن أن يكون وقع فيها تغيير وإن لم يظهر.
هذا حال النسخ الخطية، ثم يجيء دور الطبع. والعادة أنه ينتسخ من الأصل القلمي نسخة تكون مسودة للطبع، ثم تقابل على أصلها، ثم إن وجد أصل آخر قُوبلَت المسودة عليه، وقد تقابل على أكثر من أصلين، ثم ينظر فيها المصحح، ثم تدفع إلى مُرَكِّبي الحروف فيركِّبون كل يوم ثماني صفحات مثلًا، ويطبعون عليها التجارب (بروف). وتُرسل التجارب إلى رجلين يقابلانها على المسودة ويصلحان فيها، ثم يَكُرَّانها إلى المركِّبين، فيتتبعون ما أصلحه المصحح في التجارب، فيصلحونه في ألواح الحروف. وبعد الإصلاح يطبَعُون على تلك الألواح تجارب أخرى، ويرسلونها إلى المصحح مع التجارب الأولى. فيتتبع المصحح ما أصلحه في التجارب الأولى وينظر أأُصْلِحَ في الثانية؟ فإن وجد من المواضع ما لم يُصلَح أصلحه، وأعاد التجارب الثانية [ص ١٥] إلى المُرَكِّبين. فإن كان فيها إصلاح
23 / 17
أصلحوه في ألواح الحروف، ثم طبعوا عليها تجارب ثالثة وأرسلوها إلى المصحح.
والعادة في مطبعتنا (^١) أن يُعيد المصححون مقابلة هذه الثالثة على المسودة، فإن بقي ما يحتاج إلى الإصلاح أصلحوه، ثم ردوا التجارب الثالثة إلى المُركِّبين. فإن وجدوا فيها إصلاحًا أصلَحُوه في ألواح الحروف، ثم طبعوا على الألواح تجربة رابعة، ثم بعثوا بها مع التجارب الثالثة إلى المصحح، فينظُر في التجارب الثالثة يتتبع المواضع التي أُصلِحَت فيها وينظرها في الرابعة؛ فإن رأى تلك المواضع قد أصلحت كلها كتب على تلك الكراسة أنه قد تم تصحيحها، فترسل إلى المدير فيحكم بالطبع الأخير.
وأنت إذا تدبرت ما تقدم في حال النُسخ الخطية علمت أن ناسخ المسودة من أحد الأصول لابد أن يخطئ في مواضع كثيرة، ولاسيَّما إذا كان قليل العلم أو كان الأصل المنقول عنه رديء الخط. وتعلم أيضًا أن مقابلة هذه المسودة على أصلها تختلف باختلاف حال المقابلين في العلم والمعرفة والأمانة والتثبت، وأن المقابلة على أصل آخر كذلك، ولا تدري ماذا عسى أن يصنع باختلاف النسخ. ثم يتجه النظر إلى المصحح، فترحمه لما يكون قد اجتمع من أغلاط النُسخ وأغلاط ناسخ المسودة التي لعلها بقيت بعد المقابلة. ثم تشفق على الكتاب أن يكون [ص ١٦] المصحح ناقص المعرفة، ولاسيما إذا كان مع ذلك عريض الدعوى، أو ضعيف الأمانة، أو لم يدفع له المعاوضة الكافية، أو لم يفسح له الوقت الكافي. ثم تلتفت إلى ما عسى أن يصنعه المُركِّبون وكيف تكون مقابلة التجارب على المسودة.
_________
(^١) يعني: مطبعة دائرة المعارف العثمانية.
23 / 18
والحاصل أنه كما يرجى أن يجيء المطبوع أصح وأولى بالثقة من جميع الأصول الخطية، فإنَّه يخشى أن يكون أردأ أو أكثر أغلاطًا من أصل واحد منها. وقد جرَّبتُ هذا. نظرت في بعض الكتب المطبوعة فهالني ما فيه من كثرة الأغلاط، ثم ظفرت بالأصل الخطي الذي طبع عنه ذاك الكتاب؛ فإذا هو بريء من كثير مما في المطبوع من الأغلاط، إن لم أقُل مِن أكثرها.
فإذا أراد المُتصدي لطبع الكُتب القديمة السلامةَ من مثل هذا، والحصولَ على الغاية المنشودة، من خدمة العلم وحسن السُّمعة ورواج المطبوعات= فما عليه إلا أن يتبع النظام الآتي إن شاء الله تعالى.
23 / 19
[ص ١٧] الباب الأول
في الأعمال التي قبل التصحيح العلمي
* العمل الأول: انتخاب كتاب للطبع
أغراض الناس في طبع الكتب القديمة مختلفة: فالتاجر يؤثر الربح، ومن كان من ذرية مؤلف أو قبيلته أو أهل مذهبه همُّه أن يطبع كتب ذاك المؤلف، والمغرم بفن من الفنون يرجِّح كتب فنه، وقد تكون في ملك الرجل نسخة من كتاب فيدعو إلى طبعه لتُشترى منه النسخة بثمن غال؛ ومن كان له غرض من هذه الأغراض يسعى في حمل غيره على مساعدته. فينبغي عند انتخاب الكتب للطبع الرجوع إلى هيئة علمية من كبار العلماء المتفننين.
وحبذا لو أن الأزهر بمصر يقوم بهذه المهمة العظمى، وذلك بالإيعاز بجمع فهرس عام للكتب المهمة التي لم تُطبع، وبيان موضعها من مكاتب العالم مع ما تيسر من وصف النسخ؛ ثم يُعرض على هيئة كبار العلماء لترتيبها على مراتب في الأهمية واستحقاق تقديم الطبع، ثم يُنشر الفهرس مرتبًا ذاك الترتيب، ويُتقدَّم إلى الراغبين في طبع الكتب أن يجروا على حسب ذلك. ثم كل مَن أراد طبع كتاب كان عليه أن يراجع الهيئة لتُقيِّد اسمه عندها وتُعرِّفه بما يلزم، مثل إبلاغه أن غيره قد التزم طبع الكتاب، أو تنبيهه على اطلاع الهيئة على نسخة أو أكثر زيادةً على ما في الفهرس، وغير ذلك.
وبهذا يأمن الراغبون في الطبع من الخطأ في الانتخاب، ومن الغلط في ظن أن الكتاب لم يطبع، ويعرفون مواضع النسخ. وفي ذلك مصلحة للعلم
23 / 20
وأهله ولأصحاب المطابع. ويمكن توسيع دائرة التعاون إلى حد بعيد.
هذا، وينبغي أن يراعى في الانتخاب أمور:
١ - أن يكون الكتاب عظيم النفع، كثير الفائدة، يرجى أن يكون لنشره أثر عظيم في إحياء العلم ونشره. ومِن لازم ذلك أن لا يكون قد طُبع ونُشر كتاب يغني عنه.
٢ - أن يقدَّم الأهم فالأهم.
٣ - أن يكون في متناول ملتزم الطبع من نُسخ الكتاب القلمية نسختان جيدتان على الأقل، اللهم إلَّا الكتب العزيزة التي لا توجد منها إلا نسخة واحدة في العالم.
٤ - أن يكون الملتزم مستعدًّا لبذل النفقات التي يقتضيها أداء الواجب في استحضار النسخ، وتصحيحه كما ينبغي، وغير ذلك. فإن من الناس مَن يتصدى لطبع بعض الكتب المهمة، فيشرع في العمل، ثم يقعد به ضيق ذات اليد أو النفس عن توفية ما يجب، فيطبع الكتاب على هيئة يضجُّ منها الكتاب والعلم وأهله.
* العمل الثاني: انتخاب نسخة للنقل
العادة أن تُنتسخ من بعض الأصول القلمية نسخة تكون مسودة للتصحيح فالطبع. فقد تنتسخ المسودة من نسخة رديئة، فيؤدي ذلك إلى كثرة العمل وصعوبته فيما بعد ذلك من المقابلة على النسخ الأخرى والتصحيح، وقد يؤدي إلى ما هو أشد ضررًا؛ فينبغي أن تكون النسخة التي تنتسخ منها المسودة:
23 / 21
١ - واضحة الخط.
٢ - سليمة من الخروم والبياضات ما أمكن.
٣ - جيدة الصحة.
وإنما يوثق بهذا بأن يتصفحها عالم عارف بالفن خبير بأعمال الطباعة.
* [ص ١٩] العمل الثالث: انتخاب ناسخ للمسودة
ينبغي أن يكون:
١ - واضح الخط.
٢ - موثوقًا بأمانته.
٣ - مشاركًا في العلم وعلى الأخص في فن الكتاب.
٤ - يسهل عليه قراءة الأصل الذي ينقل منه على الصحة.
٥ - إذا كان مستأجرًا فينبغي أن يسمح له بالأجرة الكافية والوقت الكافي، فإن قلة الأجرة يحمل على التهاون، وضيق الوقت يحمل على الاستعجال وهو مظنة الإخلال.
* العمل الرابع: نسخ المسودة
يلزم الناسخَ أمور:
١ - أن يدع في الحواشي وبين السطور بياضًا كافيًا يسع التخاريج والإلحاق وغيرها، وينبغي أن يراجع المصححَ في مقدار ذلك.
٢ - أن تكون الكتابة واضحة مفصلة يؤمن فيها الاشتباه. فقد يشتبه حرف بآخر، وعلامة بغيرها، والنقط بالعلامة، والنقطة بالنقطتين؛ ويقع
23 / 22
الاشتباه في موضع بعض الحروف أو النقاط أو العلامات= فعليه أن يتوقى ذلك.
٣ - ليكن همه النقل على الوجه. فلا يزيد شيئًا باجتهاده، ولا ينقصه، ولا يغيِّره حتى الشكل والنقط والعلامات مثل كلمة التصويب (صح) والتضبيب وهو علامة الشك (صـ)، وعلامة الإهمال، وعلامة تمام الجملة، وعلامة التقديم والتأخير، وعلامة النفي (لا ــ إلى)، وعلامات اختلاف النسخ وغير ذلك.
٤ - [ص ٢٠] لا يوضح مشتبهًا، بل إن تيسر له أن يصوِّر كما في الأصل فليفعل وإلَّا فليدع بياضًا.
٥ - إذا وجد في الأصل كلمة أو عبارة مضروبًا عليها، فليثبتها ولينبِّه في الحاشية على أنها مضروب عليها في الأصل. وكذلك إذا رأى حكًّا أو محوًا وتغييرًا نبَّه عليه في الحاشية. وكذلك إذا ارتاب في كلمة أو جملة يخشى أن تكون بخطٍ غير خط الأصل، فلينبِّه عليها أيضًا.
٦ - إذا وجد زيادة بين السطور أو بالهامش فلا يدرجها في الأصل، بل يثبتها في مثل موضعها، وينبه بالحاشية على أنها كذلك في الأصل، اللهم إلا أن يثق بأنها لحق صحيح كأن تكون بخط كاتب الأصل بلا ريب وبعدها "صح أصل" أو نحوها، وعلامة موضع الإلحاق من الأصل واضحة.
٧ - ينبغي أن يكون نقله من الأصل مباشرة. فإن إملاء إنسان وكتابة آخر يخشى منه الخطأ السمعي الذي تقدم بيانه في المقدمة في السبب السادس، ويخشى منه غير ذلك كما يأتي في العمل الخامس.
23 / 23