الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
الفصل الثالث والعشرون
الفصل الرابع والعشرون
الفصل الخامس والعشرون
الفصل السادس والعشرون
الفصل السابع والعشرون
الفصل الثامن والعشرون
الفصل التاسع والعشرون
الفصل الثلاثون
الفصل الحادي والثلاثون
ملحقات
بعض المراجع
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
الفصل الثالث والعشرون
الفصل الرابع والعشرون
الفصل الخامس والعشرون
الفصل السادس والعشرون
الفصل السابع والعشرون
الفصل الثامن والعشرون
الفصل التاسع والعشرون
الفصل الثلاثون
الفصل الحادي والثلاثون
ملحقات
بعض المراجع
الفتنة الكبرى (الجزء الأول)
الفتنة الكبرى (الجزء الأول)
عثمان
تأليف
طه حسين
الفصل الأول
هذا حديث أريد أن أخلصه للحق ما وسعني إخلاصه للحق وحده، وأن أتحرى فيه الصواب ما استطعت إلى تحري الصواب سبيلا، وأن أحمل نفسي فيه على الإنصاف لا أحيد عنه ولا أمالئ فيه حزبا من أحزاب المسلمين على حزب، ولا أشايع فيه فريقا من الذين اختصموا في قضية عثمان دون فريق؛ فلست عثماني الهوى، ولست شيعة لعلي، ولست أفكر في هذه القضية كما كان يفكر فيها الذين عاصروا عثمان واحتملوا معه ثقلها وجنوا معه أو بعده نتائجها.
وأنا أعلم أن الناس ما زالوا ينقسمون في أمر هذه القضية إلى الآن، كما كانوا ينقسمون فيها أيام عثمان رحمه الله؛ فمنهم العثماني الذي لا يعدل بعثمان أحدا من أصحاب النبي
صلى الله عليه وسلم
بعد الشيخين، ومنهم الشيعي الذي لا يعدل بعلي رحمه الله بعد النبي أحدا، لا يستثني الشيخين ولا يكاد يرجو لمكانهما وقارا؛ ومنهم من يتردد بين هذا وذاك، يقتصد في عثمانيته شيئا أو يقتصد في تشيعه لعلي شيئا، فيعرف لأصحاب النبي كلهم مكانتهم، ويعرف لأصحاب السابقة منهم سابقتهم، ثم لا يفضل بعد ذلك أحدا منهم على الآخر، يرى أنهم جميعا قد اجتهدوا ونصحوا لله ولرسوله وللإسلام والمسلمين، فأخطأ منهم من أخطأ وأصاب منهم من أصاب، ولأولئك وهؤلاء أجرهم؛ لأنهم لم يتعمدوا خطيئة ولم يقصدوا إلى إساءة. وكل هؤلاء إنما يرون آراءهم هذه يستمسكون بها ويذودون عنها ويتفانون في سبيلها؛ لأنهم يفكرون في هذه القضية تفكيرا دينيا، يصدرون فيه عن الإيمان، ويبتغون به ما يبتغي المؤمن من المحافظة على دينه والاستمساك بيقينه، وابتغاء رضوان الله بكل ما يعمل في ذلك أو يقول.
وأنا أريد أن أنظر إلى هذه القضية نظرة خالصة مجردة، لا تصدر عن عاطفة ولا هوى، ولا تتأثر بالإيمان ولا بالدين، وإنما هي نظرة المؤرخ الذي يجرد نفسه تجريدا كاملا من النزعات والعواطف والأهواء، مهما تختلف مظاهرها ومصادرها وغاياتها.
وقد قضى جماعة من المسلمين، بل من خيار المسلمين، نحبهم قبل أن تحدث هذه القضية وتثار حولها الخصومة، فلم ينقص هذا من إيمانهم ولا من أقدارهم، وإنما عصمهم من الشبهة وجنبهم مواطن الزلل، فمضوا بخير ما كتب الله للمسلمين، ونجوا من شر ما كتب عليهم؛ وعاش قوم من أصحاب النبي حين حدثت هذه القضية وحين اختصم المسلمون حولها أعنف خصومة عرفها تاريخهم، فلم يشاركوا فيها ولم يحتملوا من أعبائها قليلا ولا كثيرا، وإنما اعتزلوا المختصمين وفروا بدينهم إلى الله؛ وقال قائلهم سعد بن أبي وقاص رحمه الله: لا أقاتل حتى تأتوني بسيف يعقل ويبصر وينطق فيقول: أصاب هذا وأخطأ ذاك!
فأنا أريد أن أذهب مذهب سعد وأصحابه رحمهم الله، لا أجادل عن أولئك ولا عن هؤلاء، وإنما أحاول أن أتبين لنفسي وأبين للناس الظروف التي دفعت أولئك وهؤلاء إلى الفتنة وما استتبعت من الخصومة العنيفة التي فرقتهم وما زالت تفرقهم إلى الآن، وستظل تفرقهم في أكبر الظن إلى آخر الدهر. وسيرى الذين يقرءون هذا الحديث أن الأمر كان أجل من عثمان وعلي وممن شايعهما وقام من دونهما، وأن غير عثمان لو ولي خلافة المسلمين في تلك الظروف التي وليها فيها عثمان لتعرض لمثل ما تعرض له من ضروب المحن والفتن، ومن اختصام الناس حوله واقتتالهم بعد ذلك فيه.
وأكاد أعتقد أن الخلافة الإسلامية، كما فهمها أبو بكر وعمر، إنما كانت تجربة جريئة توشك أن تكون مغامرة، ولكنها لم تنته إلى غايتها، ولم يكن من الممكن أن تنتهي إلى غايتها؛ لأنها أجريت في غير العصر الذي كان يمكن أن تجرى فيه، سبق بها هذا العصر سبقا عظيما.
وما رأيك في أن الإنسانية لم تستطع إلى الآن، على ما جربت من تجارب وبلغت من رقي، وعلى ما بلغت من فنون الحكم وصور الحكومات، أن تنشئ نظاما سياسيا يتحقق فيه العدل السياسي والاجتماعي بين الناس على النحو الذي كان أبو بكر وعمر يريدان أن يحققاه!
وقد ذهبت الإنسانية في الحكم مذاهبها المختلفة؛ فكان فيها حكم الملوك الذين كانوا يرون أنفسهم آلهة، وكان فيها حكم الملوك الذين كانوا يرون أنفسهم ظلالا للآلهة، ثم كان فيها حكم الملوك الذين كانوا يرون أنفسهم ظلالا لإله واحد. وهؤلاء الملوك جميعا كانوا يرون مخلصين أو غير مخلصين أن سلطانهم لا يأتيهم من الناس، وإنما يأتيهم من آبائهم الآلهة إن رأوا أنفسهم آلهة، ويأتيهم من الإله أو من الآلهة الذين اتخذوهم لأنفسهم ظلالا واستخلفوهم على عبادهم من الناس؛ فكان هؤلاء الملوك يصدرون فيما يأمرون وما ينهون وفيما يأتون وما يدعون عن أنفسهم، لا يعنيهم أن يرضى الناس أو يسخطوا، فليس للناس أن يرضوا أو يسخطوا، وإنما عليهم أن يذعنوا، وليس من شأن رضاهم أو سخطهم أن يغير من سيرة ملوكهم شيئا؛ فأنت تستطيع أن ترضى عن الشمس حين تضيء، وتسخط عليها حين تحتجب، فلن يغريها رضاك بالإشراق، ولن يمنعها سخطك عن الاحتجاب.
عرفت الإنسانية حكم هؤلاء الملوك فسعدت به قليلا وشقيت به كثيرا، وحاولت أن تغيره فأتيح لها هذا التغيير في بعض الظروف؛ فعرفت حكم القلة الأرستقراطية التي تستأثر بالعدل فيما بينها من دون الناس، وعرفت حكم الطغاة الذين أقبلوا لينقذوا الشعب من ظلم هذه القلة واستئثارها، وليشيعوا العدل بين الناس جميعا لا يفرقون بين الأقوياء والضعفاء، ولا بين الأغنياء والفقراء، ولا بين القادرين والعاجزين، فلم يتح لهم إلا أن يشيعوا الظلم بين الناس جميعا، وأن يذلوا القلة مع الكثرة ويردوها من الضعة والهوان، إلى مثل ما حاولت أن تخرج منه أو إلى شر مما حاولت أن تخرج منه.
ثم عرفت الإنسانية بعد ذلك نظاما من نظم الحكم، ظنت أنه من خير النظم وأرقاها وأقومها وأمثلها وأجدرها أن يحقق العدل السياسي والاجتماعي بين الناس، وهو هذا النظام الذي يرد إلى الشعب أمور الشعب يصرفها كما يشاء ويدبرها كما يحب. ولكن الإنسانية جربت هذا النظام فنالت به قسطا من العدل، ولم تنل به العدل كله، بل لم تنل به من العدل إلا أيسره وأهونه شأنا؛ فلم يتح للناس إلى الآن أن يتفقوا على رأي ولا أن يجتمعوا على هوى، ولا أن تتحد لهم كلمة أو يلتئم لهم شمل, وهم من أجل ذلك يرون أمر الشعب إلى الشعب في ظاهر الأمر، ثم لا يصنعون من ذلك شيئا في حقيقة الأمر: يستفتون الشعب في أمره؛ فإذا كان الاختلاف - ولا بد من أن يكون الاختلاف - أنفذوا أمر الكثرة وأهدروا أمر القلة، وأتاحوا بذلك للأكثرين أن يستذلوا الأقلين، أو أن يحكموهم على غير ما يريدون؛ ولو قد ضمن للأكثرين أن يحكموا أنفسهم، وأن يحكموا الأقلين لكان هذا النظام مقاربا للعدل مباعدا للظلم المنكر إلى حد ما. ولكن الأكثرين لا يحكمون بأنفسهم ولا سبيل إلى أن يحكموا بأنفسهم، فهم يكلون أمر الحكم إلى ممثلين لهم يختارونهم لذلك اختيارا، ويكلفونهم بذلك تكليفا، وقد يخلص هذا الاختيار في نفسه من العنف والإغراء، ومن الرغب والرهب، أو لا يخلص؛ ولكن ليس من شك في أن هؤلاء الممثلين الذين تكل الكثرة إليهم أمور الحكم، ناس من الناس، فيهم القوة وفيهم الضعف، وفيهم الشدة وفيهم اللين، وفيهم القناعة وفيهم الطمع، وفيهم الإيثار وفيهم الأثرة؛ فهم معرضون لأن يجوروا عن القصد، وينحرفوا عن الطريق، ويحملوا أنفسهم ويحملوا الناس معهم على غير الجادة، ويتورطوا كما تورط الملوك المستبدون، وكما تورطت الأرستقراطية المستأثرة، وكما تورط الطغاة المستعلون في الظلم والجور.
هذا كله ولم نتجاوز العدل السياسي، فكيف إذا قصدنا إلى العدل الاجتماعي الذي يراد منه ألا يجعل الناس سواء أمام الحاكم فحسب، وإنما يجعلهم سواء أمام الثمرات التي قدر للناس أن يعيشوا عليها؛ فقد عجزت نظم الحكم التي عرفتها الإنسانية، على اختلاف العصور والبيئات والظروف، عن أن تحقق هذا العدل الاجتماعي تحقيقا ينتهي بالناس إلى اطمئنان لا يشوبه قلق، ورضا لا يشوبه سخط، وأمن لا يشوبه خوف. والإنسانية المعاصرة ترى من ذلك ما لا يحتاج إلى أن نطيل القول فيه؛ فالديمقراطية قد ضمنت للناس شيئا من حرية وقليلا من مساواة أمام القانون، ولكنها لم تكد تضمن لهم من العدل الاجتماعي شيئا؛ والشيوعية قد ضمنت للناس قليلا أو كثيرا من العدل الاجتماعي، فألغت ما بينهم من الفروق، وأتاحت للعاملين منهم أن يعملوا وينتفعوا بثمرة أعمالهم، وأتاحت للعاجزين منهم أن يعيشوا غير معرضين لذلة أو ضعة أو هوان، ولكنها ضحت في سبيل ذلك بحريتهم كلها فلم تدع لهم منها شيئا، أو لم تكد تدع لهم منها شيئا؛ والفاشية قد ضحت بالحرية والعدل جميعا، فاستذلت الناس لسلطان الدولة استذلالا بعيد المدى، واستغلتهم لقوة الدولة أبشع استغلال وأشنعه، ثم لم ترد عليهم من نتائج عملهم شيئا، ولم تحفظ عليهم من حريتهم قليلا ولا كثيرا.
سلكت الإنسانية في سبيل الحكم الصالح كل هذه الطرق، وجربت كل هذه النظم، فلم تنته إلى غاية، وما زالت تشكو الظلم والجور، وتضيق بالاستذلال والاستغلال، وتبحث عن النظام القويم الذي يضمن للناس الحرية والعدل جميعا. وهذا النظام القويم هو الذي حاولت الخلافة الإسلامية لعهد أبي بكر وعمر أن تنشئه، فمات أبو بكر رحمه الله ولم يكد يبدأ التجربة، وقتل عمر رحمه الله وقد خطا بالتجربة خطوات واسعة، ولكنه لم يرض عنها أولا؛ فقد روي عنه أنه كان يقول في آخر خلافته: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت، لأخذت من الأغنياء فضول أموالهم فرددتها على الفقراء.» فقد رأى عمر إذن أنه لم يبلغ من تحقيق العدل الاجتماعي ما كان يريد، فكيف ولم يعرف المسلمون ولا غير المسلمين أميرا حاول من العدل ما حاول عمر وحقق منه ما حقق عمر. ولم يرض الناس عن تجربة عمر في أيامه ثانيا؛ فقد كانوا يهابونه ويشفقون من سلطانه، ويعطيه أكثرهم خوفا ورهبا؛ وكان أشد الناس حبا لعمر وأشد الناس حبا إلى عمر يبتغون إليه الوسيلة ليرفق بنفسه وبهم وبعامة الناس فلا يبلغون منه شيئا؛ لأنه كان يؤثر العدل على كل شيء، ثم لم يرض المغلوبون عن هذه التجربة آخر الأمر؛ فقد كانوا يرون أنهم يكلفون ما لا يحبون وفوق ما لا يطيقون، وكانوا يرون أنهم أصحاب سابقة في الحضارة، وأن العرب طارئون على هذه الحضارة، وأن مما يخالف أهواء نفوسهم أن يتسلط البادون على الحاضرين. وقد قتل عمر رحمه الله نتيجة لهذا السخط؛ قتله أحد هؤلاء المغلوبين الذي شكا إليه شدة سيده المغيرة بن شعبة، فلما حقق شكاته لم يعتبه، فكانت نتيجة ذلك أن طعن وهو يستقبل الصلاة.
على أن من الإسراف أن نقضي في هذه التجربة الجريئة بهذه السرعة السريعة، فمن حقها علينا أن نقف عندها وقفة فيها شيء من تمهل وأناة، لنرى أكان من الممكن أن تبقى، ولنرى أكان من الممكن أن تنجح وتبلغ غايتها؛ فقد نحقق بهذه الوقفة المتمهلة المستأنية ما أخذنا به أنفسنا من الإنصاف أولا، وقد تعيننا هذه الوقفة المتمهلة المستأنية على أن نفقه هذه المشكلات الكثيرة التي ثارت من نفسها، أو أثيرت أيام عثمان، لا لأن عثمان كان هو الخليفة، بل لأن الوقت كان قد آن ليثور بعض هذه المشكلات من تلقاء نفسه، وليثير الناس بعضها الآخر.
الفصل الثاني
كانت القاعدة الأساسية التي أقام أبو بكر وعمر عليها نظام حكمهما، هي أن يسيرا سيرة النبي في المسلمين ما وجدوا إلى ذلك سبيلا. وسيرة النبي في المسلمين معروفة إلى أبعد حد ممكن. وكان قوام هذه السيرة تحقيق العدل الخالص المطلق بين الناس، وما نحتاج فيما نظن أن نقيم على ذلك دليلا، وحسبنا أن نذكر من لا يذكر أن الإسلام إنما جاء قبل كل شيء بقضيتين اثنتين؛ أولاهما: التوحيد، وثانيتهما: المساواة بين الناس، والله عز وجل يقول:
يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير .
وكان أغيظ ما غاظ قريشا من النبي ودعوته أنه كان يدعو إلى هذا العدل وإلى هذه المساواة، ولم يكن يفرق بين السيد والمسود، ولا بين الحر والعبد، ولا بين القوي والضعيف، ولا بين الغني والفقير، وإنما كان يدعو إلى أن يكون الناس جميعا سواء كأسنان المشط، لا يمتاز بعضهم من بعض، ولا يستعلي بعضهم على بعض. وقد يقال: إنه لم يلغ الرق، ولم يمنع الناس من أن يملك بعضهم بعضا! ولكن الذين يفقهون الإسلام ويعرفونه حق معرفته لا ينكرون أن هذه الخطوة الهائلة التي خطاها الإسلام حين سوى بين الحر والعبد أمام الله كانت وحدها حدثا خطيرا في تاريخ الناس، وحدثا خطيرا له ما بعده لو مضت أمور المسلمين على وجهها ولم يعترضها ما اعترضها من الفتن والمحن والخطوب؛ فالله قد فرض الصلاة على الأحرار والرقيق، كما فرض عليهم الصوم، وكما فرض عليهم أن يخلصوا قلوبهم له؛ والله قد عصم دماء أولئك وهؤلاء على السواء؛ والله قد شرع دينه واحدا لأولئك وهؤلاء، لم يشرع بعضه للأحرار وبعضه للعبيد. وهذا وحده خليق لو مضت الأمور على وجهها أن يمحو الرق محوا ويحرمه تحريما؛ فكيف وقد جعل الله فك الرقبة وإعتاق الرقيق من الأمور التي يتنافس فيها المسلمون، يدخرون بها الأجر من الله والمثوبة عنده، وكيف والله قد فتح في الدين أبوابا كثيرة لا يكاد يلجها الرقيق حتى يعتق، والله قد مد في أسباب الإعتاق والتحرير لمن شاء أن يتصل بها، فجعل الإعتاق - كما قدمت آنفا - من الأعمال الصالحات التي يقصد إليها المسلم، وجعل الإعتاق كفارة لبعض الخطايا، ولم يدع وسيلة تيسر الإعتاق وتغري به وتعين عليه وتفرضه على الناس فرضا إلا دعا إليها ورغب فيها وشرعها للمسلمين.
وقد سخطت قريش أشد السخط وأعنفه على النبي لما أظهر من ذلك، حتى لأكاد أعتقد أنه لو قد دعاها إلى التوحيد دون أن يعرض للنظام الاجتماعي والاقتصادي، ودون أن يسوي بين الحر والعبد وبين الغني والفقير وبين القوي والضعيف، ودون أن يلغي ما ألغى من الربا، ودون أن يأخذ من الأغنياء ليرد على الفقراء - أقول: لو قد دعاهم النبي إلى التوحيد وحده دون أن يمس نظامهم الاجتماعي والاقتصادي، لأجابته كثرتهم في غير مشقة ولا جهد؛ فما كانت قريش مؤمنة بأوثانها إيمانا خالصا، ولا كانت قريش حريصة على آلهتها حرصا صادقا، وما كانت قريش إلا شاكة ساخرة، تتخذ الأوثان وسيلة لا غاية، وسيلة إلى استهواء العرب واستغلالها - أو لأجابه من قريش من أجاب، وامتنع عليه منها من امتنع، دون أن يلقى في ذلك مشقة أو عنتا، إلا أن يكون حرص قريش على آلهتها نتيجة حرصها على مكانتها من العرب وانتفاعها بما كان يجلب إليها من الثمرات. ومهما يكن من شيء فقد سخطت قريش على النبي لأنه عرض لنظامها الاجتماعي، وفرض عليها نوعا من العدل لا يلائم منافع سادتها وكبرائها، أكثر مما سخطت عليه لأنه عاب آلهتها ودعاها إلى أن تلغي الواسطة بينها وبين الله.
والناس جميعا يعلمون أن النبي
صلى الله عليه وسلم
ربما رفق ببعض السادة من قريش طمعا في أن يستميله إلى الإسلام، فيكون ذلك قوة للدعوة الجديدة، وربما دعاه هذا الرفق إلى شيء من الإعراض عن بعض المستضعفين، فلامه الله في ذلك أشد اللوم وأعنفه، وأنزل الله في ذلك قرآنا، وما زال الناس يقرءون ما أنزل الله في قصة ابن أم مكتوم من قوله عز وجل:
عبس وتولى * أن جاءه الأعمى * وما يدريك لعله يزكى * أو يذكر فتنفعه الذكرى * أما من استغنى * فأنت له تصدى * وما عليك ألا يزكى * وأما من جاءك يسعى * وهو يخشى * فأنت عنه تلهى * كلا إنها تذكرة * فمن شاء ذكره * في صحف مكرمة * مرفوعة مطهرة .
فالتسوية بين الناس إذن هي مظهر أحد الأساسين اللذين قام عليهما الإسلام، وهما التوحيد والعدل؛ وقد سار النبي في أصحابه بمكة ثم بالمدينة سيرة قوامها العدل في الجليل من أمرهم والخطير، حتى استقر في نفوس المسلمين أن العدل ركن أساسي من أركان الإسلام، وأن الانحراف عنه انحراف عن الإسلام، والإخلال به إخلال بالدين؛ ومن أجل ذلك لم يتردد بعض المسلمين في أن ينكر على النبي نفسه بعض ما رأى، ولم يفهم حين كان النبي يقسم الغنائم بعد حنين، ويتألف بعض من كان يتألف من العرب فيعطيهم أكثر من حقهم في الغنيمة، فقال له: اعدل يا محمد فإنك لم تعدل. وقد أعرض النبي
صلى الله عليه وسلم
عنه أول الأمر، ولكنه أعاد كلمته وأعادها، فظهر الغضب في وجه النبي وقال: «ويحك! فمن يعدل إذا لم أعدل؟!»
وهم بعض المسلمين أن يبطشوا بهذا الرجل، ولكن النبي كفهم عنه لأنه كان يحفظ لأصحابه حريتهم وحقهم في المشورة والاعتراض والنقد. والنبي مع ذلك لم يتألف من تألف من العرب إلا عن وحي من الله وإذن في القرآن؛ فالله قد أذن له في سورة «براءة» أن يتألف قلوب بعض الناس من أموال الصدقة، وجعل تألف بعض القلوب مصرفا من مصارف الصدقة.
فهو إذن لم يجر عن القصد حين أعطى من الغنيمة جماعة من هؤلاء الذين أذن الله له في أن يتألف قلوبهم؛ وليس أدل على أن النبي مضى في رعاية العدل إلى أبعد حد ممكن، من هذه السنة التي استنها في نفسه فأحب الخلفاء أن يسنوها بعده في الناس فلم يبلغوا من ذلك ما أرادوا؛ فقد أقص النبي من نفسه، وزعم عمر أثناء خلافته أن أي عامل آذى بعض رعيته بغير الحق فهو عرضة لهذا القصاص، ويقال إن بعض الرعية شكا إلى عمر في الموسم أن عامله قد ضربه بغير الحق، فلما استبان ظلم العامل لعمر قضى بأن يقتص منه شاكيه، وفزع العمال إلى عمر يطلبون إليه أن يقيل هذا العامل من هذا القصاص؛ لأنه يغض من هيبة السلطان، ويطمع الرعية في أمرائها، فلم يقبل منهم عمر على كثرة ما ألحوا، ثم رضي آخر الأمر أن يعفي العامل من هذا القصاص إذا أرضى شاكيه، وقد استطاع هذا العامل أن يرضي شاكيه فلم يتعرض لهذا القصاص؛ وكانت حجة عمر أن النبي قد أقص من نفسه وهو خير أمته، فلا على غيره من الخلفاء والولاة أن يقصوا من أنفسهم عن رضا أو أن يقص منهم السلطان وهم كارهون. وقد احتج خصوم عثمان عليه بإقصاص النبي من نفسه، وبما أراد عمر من إقصاص الرعية من ولاتها، وطلبوا إليه أن يقص من نفسه، فلم يجبهم إلى ما أرادوا. والذين قرءوا سيرة النبي وسنته يعلمون أنه لم يكن يؤثر نفسه بخير دون أصحابه، إلا أن يؤثره الله بهذا الخير في أمر يوحيه إليه في القرآن؛ فهو كان يشاورهم وينزل عند مشورتهم، وهو كان يحارب معهم إذا حاربوا ويسالم معهم إذا سالموا، وهو كان يبني معهم المسجد ويحفر معهم الخندق ويتغنى معهم وهم يتغنون، يستعينون بالغناء على مشقة الحفر والبناء، وهو كان يحمل معهم الأحجار والتراب، يرى نفسه واحدا منهم قد آثره الله بالوحي والنبوة، فلم يؤثر نفسه بأكثر مما آثره الله به، والسيرة والسنن تروي أنه حين مرض مرضه الذي خرج به من الدنيا سأل عن شيء من ذهب كان قد بقي عنده من مال المسلمين، فلما جيء به أخرجه إلى الناس ولم يبق منه شيئا، وتوفي وهو لا يملك من الدنيا بيضاء ولا صفراء. وقد اشتد على نفسه في ذلك، واشتد الله عليه فيه أيضا، إذ كان لا ينطق عن الهوى، فلم يكتف بالارتفاع عن أن يؤثر نفسه بشيء من دون أصحابه، وإنما أبى إلا أن يسير في أهله سيرته في نفسه، فقال: «نحن معاشر الأنبياء لا نورث؛ ما تركناه صدقة.» وقد جاءت فاطمة رحمها الله تطلب إلى أبي بكر ميراث أبيها: فدك، فلم يجبها إلى ما طلبت وروى لها هذا الحديث.
فقد قامت سيرة النبي إذن على العدل بين الناس فيما يكون بينهم وبين أنفسهم، وعلى العدل بين الناس وبين نفسه، وعلى العدل بين الناس وبين أهله أيضا. واجتهد صاحباه من بعده أن يذهبا مذهبه ويسيرا سيرته ما استطاعا إلى ذلك سبيلا؛ بل هم أبو بكر أن يكلف نفسه فوق ما تطيق، فأراد أن يكون إماما للمسلمين ينظر في أمرهم ويقف عليهم وقته وجهده، وأن يسعى مع ذلك ليكسب قوته وقوت أهله، ورآه المسلمون ذات يوم يحمل بعض العروض يسعى بها إلى السوق ليبيع ويشتري كما كان يفعل قبل أن يستخلف، وكما كان المسلمون يفعلون من حوله؛ ولكن المسلمين أشفقوا عليه من ذلك، أو أحس هو العجز عن أن يكون كاسبا وخليفة في وقت واحد، على اختلاف في الروايات؛ فرزقه المسلمون من بيت المال؛ ولم ييسروا عليه في الرزق، وإنما أعطوه ما يقيم أوده وأود أهله.
وقد سار أبو بكر سيرة النبي نفسه، فتحرج أن يموت وعنده من أموال المسلمين شيء، وأوصى آل أبي بكر أن يردوا على عمر هنات كانت عنده من أموال المسلمين، وقد ردت هذه الهنات على عمر فبكى وهم أن يقبلها، فأنكر عليه عبد الرحمن بن عوف ذلك، ولكن عمر أبى إلا أن يتحرج في ذات صاحبه كما تحرج هو في ذات نفسه، وكره أن يلقى أبو بكر ربه فيسأله عما بقي عنده من هذه الهنات، وكره أن يقول أبو بكر لربه: ردها أهلي، وأبى عمر أن يقبلها.
وكذلك بلغ حرص النبي وأبي بكر على العدل أن يتأثما مما لا إثم فيه، وأن يتحرجا مما لا تتحرج منه ضمائر الأتقياء. ولو قد طالت خلافة أبي بكر لرأينا منه في ذلك الأعاجيب، ولكن خلافة عمر جاوزت عشر سنين، فأرانا من ذلك ما لا تكاد تصدقه النفوس. ومن الناس من يزعم أن الرواة قد تكثروا على عمر، وأضافوا إليه من الشدة أكثر مما كان فيه، ولكن الذين يقرءون سيرة عمر في كتب السنن والطبقات والتاريخ يفرقون في غير مشقة بين ما يمكن أن يكون الرواة قد تكلفوه وبين ما يلائم سيرة عمر وطبعه ومزاجه من الأحداث والواقعات؛ فقد كان عمر شديدا على الناس إلى أقصى حدود الشدة في ذات الله، ولكنه كان على نفسه أشد منه على الناس. وما أعرف أن التاريخ الإنساني كله يستطيع أن يجد لعمر نظيرا في هذا الضمير الحي الحساس المتحرج المتأثم الذي يخاف على نفسه ما لا يخاف، وينكر من نفسه ما لا ينكر، ويأخذ نفسه من ضروب الشدة والعنف بما لا يأخذ الرجل به نفسه إلا أن يكون من أولي العزم. والناس يعلمون أن عمر رأى الشدة التي نزلت بالمسلمين في عام الرمادة، فأبى إلا أن يشارك الناس في شدتهم، وأبى إلا أن يشارك من الناس في هذه الشدة أعظمهم حظا من الفقر والضيق.
عرف أن عامة الناس من حوله لا يجدون السمن، فحرم السمن على نفسه وصبرها على الخبز الجاف والزيت؛ ثم شق عليه الزيت، فخيل إليه أنه لو طبخ لانكسرت حدته ولكان أيسر إساغة وهضما، فتقدم إلى مولاه في أن يطبخ له الزيت، فلما طعمه مطبوخا كان أوجع له وأشد عليه، وقد أثر ذلك في صحته فتغير له لونه، وعرف المسلمون ذلك فلم يستطيعوا أن يردوه عنه؛ لأنه أبى أن يخصب حتى يخصب عامة المسلمين.
ولم يؤمن عمر قط فيما بينه وبين نفسه بأنه مدبر هذه الدولة الضخمة ذات الآفاق الواسعة والفتح البعيد، وإنما كان فيما بينه وبين نفسه يرى ولايته عجبا من العجب وغريبة من الغرائب، ويقول لنفسه إذا خلا إليها: بخ بخ يابن الخطاب؛ أصبحت أمير المؤمنين! وما يزال يذكر أنه كان قبل الإسلام ترعية يرعى على أبيه الخطاب غنيمة، يحدث الناس بذلك ويحدثهم بالمكان الذي كان يرعى فيه، ويحدثهم بما كان يلقى من الخطاب في عمله ذاك من الشدة والجهد. ولم يكن عمر يبخل بنفسه على عمل من أعمال المسلمين مهما يكن عسيرا شاقا، وقد رئي ذات يوم في حظيرة إبل الصدقة يحصي هذه الإبل ويصفها وصفا دقيقا مستقصى، يقول ذلك لعلي ويؤدي علي عنه ذلك إلى عثمان، فيكتبه عثمان في الصحف، حتى أعجب علي منه بذلك فتلا ما جاء في القرآن على لسان ابنة شعيب في موسى:
يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين ، ثم قال: هذا هو القوي الأمين. ورأى الناس عمر يطلي إبل الصدقة بالقطران يهنأ منها مواضع النقب، كما يفعل الرعاة والمستضعفون من الناس، لا يجد في ذلك مشقة ولا يرى منه بأسا؛ وكان بعد شدته هذه العنيفة على نفسه يشتد على أهله حتى يرهقهم من أمرهم عسرا، وكان إذا نهى الناس عن شيء وحذرهم العقوبة إن فعلوه، جمع إليه أهله وقال لهم: إني قد نهيت المسلمين عن كذا وحذرتهم العقوبة إن أتوه، وإن الناس ينظرون إليكم لمكانكم مني؛ فلا أعرفن أن أحدكم قد أتى ما نهيت عنه الناس إلا أضعفت له العقوبة.
وكان في عام الرمادة يتتبع طعام أهله تتبعا دقيقا؛ فإن رأى عند أحدهم يسرا أو سعة رده عن ذلك ردا عنيفا، ثم كان بعد أن يعنف بنفسه وبأهله هذا العنف لا يتحرج في أن يأخذ الناس بسياسته تلك التي وصفها حين قال: «شدة في غير عنف، ولين في غير ضعف.»
روي أنه كان يقسم مالا بين المسلمين ذات يوم وقد ازدحم الناس عليه، فأقبل سعد بن أبي وقاص رحمه الله، ومكانه من النبي مكانه، وبلاؤه في فتح فارس بلاؤه، فزاحم الناس حتى زحمهم وخلص إلى عمر؛ فلم يكن من عمر إلا أن علاه بالدرة، وقال: لم تهب سلطان الله في الأرض، فأردت أن أعلمك أن سلطان الله لا يهابك!
كذلك كان حرص عمر على أن يسوي بين الناس وبين أنفسهم، وعلى أن يسوي بين الناس وبين نفسه وأهله. كل هذا بالقياس إلى سيرته الخاصة التي كان يسيرها في كل يوم.
ولكن هذه الناحية من حياة عمر أيسر النواحي وأهونها على ما فيها من الشدة والجهد؛ فهناك السياسة العامة التي أخذ عمر نفسه بها وجعلها لخلافته شريعة ومنهاجا؛ وأول ذلك سياسته لهؤلاء النفر من كبار الصحابة وأعلام المهاجرين والأنصار؛ فهؤلاء هم أصحاب السابقة في الإسلام وأصحاب المكانة الممتازة من النبي، إليهم الحل والعقد في كل أمور المسلمين، يؤدي إليهم عمر حسابه عن تصرفه في كل أمر من الأمور العامة، ويستشيرهم في الجليل والخطير من المصالح، ويرى أنه قد ولي عليهم وليس خيرهم، فما عسى أن تكون سيرته فيهم مع ذلك؟ ما عسى أن تكون سياسته لهم؟ أخذهم بالحزم والرفق جميعا، فجعلهم نظراءه وخاصته وأصفياءه وذوي مشورته؛ ولكنه خاف عليهم الفتنة، وخاف منهم الفتنة أيضا، فأمسكهم في المدينة لا يخرجون منها إلا بإذنه، وحبسهم عن الأقطار المفتوحة لا يذهبون إليها إلا بأمر منه. خاف منهم أن يفتتن بهم الناس، وخاف عليهم أن يغرهم افتتان الناس بهم، وخاف على الدولة أعقاب هذا الافتتان. وما من شك في أن هذا قد شق على كثير من أصحاب النبي ومن المهاجرين منهم خاصة.
وآية ذلك أن عثمان لم يكد يتولى أمر المسلمين حتى فك عنهم هذا العقال وأذن لهم فتفرقوا في الأرض، فرضوا عنه كل الرضا، ثم لم تمض أعوام حتى ضاقوا به أشد الضيق، وكانت الفتنة التي خشي عمر أن تكون. ثم كان عمر قد فرض لكل واحد من أصحاب النبي عطاءه على مكاناتهم وسابقاتهم في الإسلام، وعلى منازلهم وقرابتهم من النبي، وكان عمر يرى أن فيما فرض لهم من العطاء ما يغنيهم ويكفيهم السعي والاكتساب، ولكنهم مع ذلك اكتسبوا واتجروا، وكان منهم من ضارب، فعظم ثراؤهم وكثرت أموالهم، فتوسعوا في الغنى وتوسعوا في العطاء أيضا، ولم يستطع عمر أن يمنعهم من ذلك أو يردهم عنه؛ فهم كانوا يتجرون ويكتسبون أيام النبي فلم يردهم النبي عن التجارة ولا عن الاكتساب، ولكن عمر رأى ثراءهم وثراء غيرهم من المسلمين، بفضل ما أفاء الله عليهم من غنائم الفتح، وبفضل هذه الأعطيات التي كانت توزع عليهم كل عام، فلم يرض عن ذلك، ولم تطب به نفسه، حتى كان يقول: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت، لأخذت من الأغنياء فضول أموالهم فرددتها على الفقراء.» ولو قد مد لعمر في أسباب الحياة لكان من الممكن أن يرى التاريخ الإسلامي منه في ذلك عجبا.
وقد كثرت أموال المسلمين بفضل الفتح أيام عمر، فوقف من كثرتها موقف الحيرة أولا وشاور أصحابه؛ فأما علي فأشار عليه بما يلائم السنة الموروثة ولا يلائم تطور الحياة، فقال له: تقسم ما يرد من الأموال، حتى إذا حال الحول لم يبق في بيت المال درهم ولا دينار إلا ذهب إلى مستحقه. وأما عثمان فقال له: أرى مالا كثيرا، وإذا لم يضبط خشيت أن ينتشر الأمر. ثم انتهى عمر في القصة المعروفة إلى أن دون الدواوين، وفرض للناس أعطياتهم، وأمسك في بيت المال لمصالح المسلمين العامة ما يتجاوز هذه الأعطيات.
ولم تلبث الحوادث أن أظهرت صواب هذا الرأي الذي أشار به عثمان والذي كان يلائم طبيعة الأشياء في دولة متحضرة أو تريد أن تتحضر؛ فلما كان عام الرمادة وجد عمر في بيت المال ما أتاح له أن يقيم أمر الناس حتى يأتيه الغوث من الأقاليم، وكان يقول: نطعم المسلمين من بيت المال، حتى إذا لم نجد فيه شيئا أدخلنا على كل أهل بيت من الأغنياء مثلهم من المحتاجين، وما نزال نفعل ذلك حتى يطعم المسلمون جميعا.
على أن هذا النحو من سياسة المال كان أيسر ما ذهب إليه عمر، وهو على ذلك قيم له حظه العظيم من إيثار العدل والرفق بالناس. ولكن هناك مذهبا لعمر في سياسة المال ذهب إليه ومضى فيه إلى مدى بعيد، ويخيل إلي أن الأمم المتحضرة تحاول الآن أن تذهب إليه، فلا يتاح لها ذلك إلا في مشقة شاقة، وعسر عسير.
فقد كان عمر يرى ويعلن أن هذا المال الذي يأتي من الفيء ومن جباية الجزية والخراج، ملك للمسلمين جميعا، لا يستأثر به واحد دون الناس، ولا يستاثر به فريق من الناس دون غيرهم من الرعية، وكان يرى أنه المسئول الأول والأخير عن حفظ هذا المال أولا، وعن رده إلى أهله ثانيا، وكان يقول: لو ند جمل من إبل الصدقة في أبعد الأرض أو أصابه مكروه لخشيت أن يسألني الله عنه يوم القيامة. وكان يقول: إن عشت ليأتين الراعي في جبل صنعاء نصيبه من هذا المال.
وكان قد فرض للناس أعطياتهم من هذا المال؛ للرجل عطاؤه، وللمرأة عطاؤها، وللطفل عطاؤه، وللشيخ الفاني وذي العاهة عطاؤه. وكان يحسب أنه بذلك قد بلغ من العدل ما أراد، ولكنه مر ذات ليلة فسمع صبيا يبكي، فمضى لشأنه، ثم مر به ثانية فسمعه يبكي، فسأل أمه عن ذلك فأجابته جوابا ما، ولكنه مر الثالثة فسمعه يبكي، فلما ألح على أمه في السؤال أنبأته بأنها تريغه عن الرضاع: لأن عمر لا يفرض للأطفال إلا حين يفطمون، فلما سمع عمر ذلك جزع له جزعا شديدا. ثم أصبح فأمر من أذن في الناس: لا تعجلوا بفطام أطفالكم، فإنا نفرض لأطفال المسلمين منذ يولدون.
وكان عمر ينفذ أمر الله في أخذ الصدقات، ولكنه كان يتحرج في أخذها وتوزيعها تحرجا شديدا، والناس يعلمون أن أعرابيا سأل النبي ذات يوم: آلله أمرك أن تأخذ هذه الأموال من أغنيائنا فتردها على فقرائنا؟ فقال له النبي: اللهم نعم.
فكان عمر رحمه الله يعزم على سعاته أن يتحروا العدل في أخذ الصدقة من كل حي من أحياء العرب، وأن يردوا صدقة كل حي على فقرائه حتى يستغنوا عن المسألة، وأن يعودوا عليه بفضل ذلك؛ فإذا عادوا عليه بهذا الفضل حبسه على المصارف التي فرضها الله في القرآن، فأعان بها الفقير والمسكين وابن السبيل والغارمين، وما إلى ذلك من هذه المصارف التي ذكرها الله في آية الصدقات.
وما أذكر الاشتراكية وما أذكر الشيوعية، فلم يكن عمر صاحب اشتراكية ولا شيوعية؛ لأنه أقر الملك كما أقره النبي والقرآن، ولأنه أذن في الغنى كما أذن فيه النبي والقرآن. ولكن أذكر العدل الاجتماعي الذي يستطيع أن يتحقق في غير إلغاء للملك ولا تحريم للغنى، والذي تحاول بعض الديمقراطيات الحديثة أن تحققه محتفظة للمالكين بما يملكون، وللأغنياء بكثير مما يجمعون.
وأذكر مشروع بيڨردج الذي حاول أن تكفل الدولة للناس حياتهم وصحتهم وحاجتهم وكرامتهم، دون أن تضطرهم إلى أن يستذلوا أو يستغلوا، ودون أن تغريهم بالتبطل والفراغ.
أذكر طموح الديمقراطية في هذا العصر وقصورها عن تحقيق ما تطمح إليه، ثم أذكر ما حاول عمر من ذلك وما حقق، فلا أتردد في أن الشاعر الذي رثاه إنما أثنى عليه بالحق حين قال:
جزى الله خيرا من إمام وباركت
يد الله في ذاك الأديم الممزق
فمن يجر أو يركب جناحي نعامة
ليدرك ما أدركت بالأمس يسبق
قضيت أمورا ثم غادرت بعدها
بوائق في أكمامها لم تفتق
ثم لم يكن عمر رفيقا بعماله وولاته ولا مسمحا لهم، وإنما كان يراقبهم أشد المراقبة، كان لا يولي عاملا إلا أحصى عليه ماله حين التولية وأحصاه عليه حين العزل، فإن وجد فرقا قاسم العامل هذا الفرق، فترك له شطرا ورد الشطر الآخر إلى بيت المال، ثم كان يتتبع سيرة هؤلاء العمال في الرعية من قريب جدا، ويعزم عليهم سرا وإعلانا ألا يؤذوا المسلمين في أنفسهم ولا في أبشارهم ولا في أشعارهم ولا في أموالهم، وكان يلوم بعض ولاته في بعض ذلك فيقول: «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟!»
وكان يشاور من عنده في المدينة من أصحاب النبي فيما يلم من الخطوب كل يوم، ويضرب لعماله موعدا إذا كان الموسم، فيحج بالناس ويسمع من العمال في أمر الرعية ومن الرعية في أمر العمال، ويرد الأمر في ذلك كله إلى نصابه. وأكاد أعتقد أن عمر لو قدمت له أسباب الحياة لنظم الشورى في أمر المسلمين نظاما مستقرا باقيا، يعصمهم من الفتنة والاختلاف، ويكف الولاة عن الظلم والاستعلاء.
ولم أتحدث عن بلاء عمر رحمه الله فيما دبر من أمور المسلمين، حتى فتحوا الأقطار ومصروا الأمصار وأنشئوا هذه الدول العربية الإسلامية الضخمة، فأنا لم أحاول أن أكتب تاريخ عمر ولا أن ألم بحياته إلماما يسيرا، وإنما أردت إلى أن أبين أن السيرة التي سارها النبي واجتهد صاحباه من بعده في أن يتبعاها، إنما كانت سيرة قوامها العدل الخالص المطلق الذي لا يخشى في الحق لومة لائم، والذي يعلم أن الله يراقبه من جهة في كل لحظة من لحظات الليل والنهار، يراقب منه ما ظهر ويراقب منه ما خفي ويسأل منه عن كل شيء، ويعلم من جهة أخرى أن الناس يراقبونه مراقبة شديدة أذن لهم فيها، بل فرضت عليهم فرضا، فهم مكلفون أن يطيعوا الخليفة ما استقام، وأن يقوموه إن اعوج، وأن يسألوه عما يلتبس عليهم من سيرته ليتبعوه عن علم، ويشيروا عليه عن بصيرة ويخالفوه عن عزيمة وإعذار.
فهل كانت هذه السيرة التي سارها النبي، واجتهد صاحباه في أن يسيراها ما استطاعا إلى ذلك سبيلا، ملائمة لما فطر الناس عليه من الأثرة والطمع والحرص على المنافع العاجلة؟ وهل كانت هذه السيرة قادرة على أن تبقى حتى تغير من طباع الناس فترقى بهم إلى المثل العليا التي دعا إليها النبي وصاحباه؟
الفصل الثالث
وأول ما ينبغي أن نتبينه لنستطيع الإجابة عن هذا السؤال هو طبيعة هذه الحكومة التي حكمت المسلمين منذ أسست الدولة حين هاجر النبي وأصحابه إلى المدينة إلى أن قتل عمر واستخلف عثمان، فقد يظن بعض الذين تخدعهم ظواهر الأمور أن هذه الحكومة، أو بعبارة أدق أن نظام الحكم في هذا العهد القصير، قد كان نظاما ثيوقراطيا يعتمد قبل كل شيء وبعد كل شيء على الدين. ولما كان الدين في هذه البيئة الخاصة دينا سماويا منزلا، فقد يظن أصحاب هذا الرأي أن الحكومة التي كانت تحكم المسلمين في هذا العهد إنما كانت تستمد سلطانها من الله، ومن الله وحده، لا ترى أن للناس شأنا في هذا السلطان، ولا ترى أن من حقهم أن يشاركوا فيه، أو يعترضوا عليه، أو ينكروا منه قليلا أو كثيرا . وقد يخيل إلى الذين يذهبون هذا المذهب أن من أصرح الدلائل على ذلك وأصدقها، أن النبي هو الذي أسس هذه الدولة بأمر من الله عز وجل، فالله أمره أن يهاجر إلى المدينة، والله دعا المسلمين من أهل مكة إلى أن يهاجروا معه، والله أوحى إلى النبي بمجملات ومفصلات من الحكم، والله قال في سورة النجم:
ما ضل صاحبكم وما غوى * وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى .
والله أمر المسلمين أن يطيعوا الله ورسوله، وبين لهم أنهم لن يؤمنوا حتى يحكموا النبي فيما شجر بينهم، وقد يضيفون إلى ذلك أن أبا بكر كان خليفة رسول الله، وأن عمر كان خليفة أبي بكر؛ فقد تنزل الحكم إذن من النبي إلى هذين الإمامين الراشدين، والنبي إنما تلقى السلطان من الله عز وجل؛ فنظام الحكم إذن في هذا العهد إنما هو النظام التيوقراطي الإلهي لا أكثر ولا أقل. ولا أشك في أن هذا الرأي أبعد الآراء عن الصواب؛ فقد كان الإسلام وما زال دينا قبل كل شيء وبعد كل شيء، وجه الناس إلى مصالحهم في الدنيا وفي الآخرة بما بين لهم من الحدود والأحكام التي تتصل بالتوحيد أولا، وبتصديق النبي ثانيا، وبتوخي الخير في السيرة بعد ذلك، ولكنه لم يسلبهم حريتهم ولم يملك عليهم أمرهم كله، وإنما ترك لهم حريتهم في الحدود التي رسمها لهم، ولم يحص عليهم كل ما ينبغي أن يفعلوا، وكل ما ينبغي أن يتركوا، وإنما ترك لهم عقولا تستبصر، وقلوبا تستذكر، وأذن لهم في أن يتوخوا الخير والصواب والمصلحة العامة والمصالح الخاصة ما وجدوا إلى ذلك سبيلا.
وقد أمر الله نبيه أن يشاور المسلمين في الأمر، ولو قد كان الحكم متنزلا من السماء لأمضى النبي كل شيء بأمر ربه لم يشاور فيه أحدا ولم يؤامر فيه وليا من أوليائه، فكيف والله يقول له:
ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر . ومن قبل هذه الآية التي نزلت فيما نزل من القرآن بعد محنة أحد، قبل النبي مشورة أصحابه في غزوة بدر حين نزل بهم منزلا فسأله بعضهم: أعن أمر من الله نزل بهم هذا المنزل، أم هو الرأي والمكيدة؟ فقال: بل هو الرأي والمكيدة. فأشير عليه حينئذ أن يمضي بالمسلمين عن هذا المنزل الذي لم يكن يلائم خطط الحرب حتى ينزل بهم في المنزل الملائم قريبا من الماء. ثم قبل رأي أصحابه بعد وقعة بدر فيما كان من أمر الأسرى، وتعرض في ذلك لما أصابه من اللوم الذي نزل به القرآن في قول الله عز وجل:
ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة . وكان النبي يرى حين بلغه سير قريش إليه في وقعة أحد أن يقيم في المدينة ولا يخرج بأصحابه للقاء قريش بالعراء، وأن يذود قريشا إن هاجمت المدينة، ولكن أصحابه، والأنصار منهم خاصة، ألحوا في الخروج إلى عدوهم، فنزل النبي عند رأيهم، ثم دخل ليلبس لأمته، وندم المسلمون أثناء ذلك لأنهم استكرهوا رسول الله على ما لم يحب، فلما خرج إليهم في سلاحه اعتذروا إليه واستأذنوه في الرجوع إلى رأيه، فأبى ومضى على عزيمته. ولو كان الحكم إلهيا يتنزل دائما من السماء لما استطاع المسلمون أن يستكرهوا رسول الله على ما لا يريد، ولما قبل النبي منهم ذلك مهما تكن الظروف. وعن المشورة والاعتماد على رأي أصحابه صدر النبي حين أمر بحفر الخندق في غزوة الأحزاب.
ففي هذه المواطن كلها وفي مواطن أخرى شاور النبي أصحابه وقبل رأيهم عن رضا، أو نزل عند رأيهم إيثارا لرضاهم، فلما كان يوم الحديبية شاور النبي أصحابه بعد أن عرضت عليه قريش ما عرضت من الرجوع عن مكة عامه ذاك دون أن يزور البيت، فكره أصحابه إجابة قريش إلى ما طلبت، وألح النبي في ذلك، وضاق بعض أصحابه بهذا الإلحاح، حتى قال له عمر: لم نعطي الدنية في ديننا؟! هنالك ظهر الغضب في وجه النبي، وقال: أنا رسول الله وعبده. فعلم المسلمون أن الأمر ليس أمر مشورة ومفاوضة، وإنما هو أمر قد نزل به الوحي من السماء، فتابوا إلى الله وثابوا إلى نبيهم، وأنزل الله في ذلك:
إنا فتحنا لك فتحا مبينا
إلى آخر الآية.
ولو أردنا أن نستقصي المواطن التي شاور فيها النبي أصحابه لطال بنا الحديث إلى أبعد مما نريد. ولكن في هذه الأحداث اليسيرة التي رويناها ما يكفي لإثبات أن الحكم في أيام النبي لم يكن يتنزل من السماء في جملته وتفصيله، وإنما الوحي كان يوجه النبي وأصحابه إلى مصالحهم العامة والخاصة دون أن يحول بينهم وبين هذه الحرية التي تتيح لهم أن يدبروا أمرهم على ما يحبون في حدود الحق والخير والعدل. وربما كان من أصدق الأدلة وأقطعها على ما نذهب إليه أن القرآن لم ينظم أمور السياسة تنظيما مجملا أو مفصلا، وإنما أمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى ونهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، ورسم لهم حدودا عامة، ثم ترك لهم تدبير أمورهم كما يحبون على ألا يتعدوا هذه الحدود، وأن النبي نفسه لم يرسم بسنته نظاما معينا للحكم ولا للسياسة، ولم يستخلف على المسلمين أحدا من أصحابه بعهد مكتوب أو غير مكتوب حين ثقل عليه المرض، وإنما أمر أبا بكر فصلى بالناس، وقال المسلمون بعد ذلك: رضيه رسول الله لأمور ديننا فما يمنعنا أن نرضاه لأمور دنيانا؟! ولو قد كان للمسلمين نظام سياسي منزل من السماء لرسمه القرآن أو لبين النبي حدوده وأصوله، ولفرض على المسلمين الإيمان به والإذعان له في غير مجادلة ولا مناضلة ولا مماراة.
وأخرى تدل على أن نظام الحكم في أيام النبي وصاحبيه لم يكن إلهيا منزلا من السماء، وهي البيعة التي سنها رسول الله للمسلمين حتى في أيامه هو، والناس جميعا يعلمون أنه استنفر أصحابه لوقعة بدر ولم يأمرهم بها أمرا، وإنما دعاهم إليها ورغبهم فيها ووعدهم بأمر الله إحدى الحسنيين، وكان العهد بينه وبين الأنصار ألا يخرجهم لقتال، وأن يدافعوا عنه إذا تعرض للأذى، فلما كانت غزوة بدر شاور أصحابه وانتظر أن يدلوا إليه بآرائهم، ولم يمض بهم إلى القتال حتى قال له زعماء الأنصار: لو سلكت بنا هذا البحر لاتبعناك، فعرف أنهم يرضون أن يخرجوا معه للقتال. والناس جميعا يعلمون أنه لم يأمر أصحابه بقتال قريش حين بلغه أنها مكرت بعثمان يوم الحديبية، وإنما ندبهم لذلك فبايعوه على الموت، ولو قد شاء أحدهم ألا يبايع لكان له مخرج، ولكنهم بايعوه جميعا؛ لأنهم كانوا يؤمنون به وبالله الذي أرسله ويستجيبون إذا دعاهم. وقد أنزل الله في هذه البيعة من سورة الفتح:
إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم . وفي القرآن آيات كثيرة ترغب المؤمنين في الجهاد وتدعوهم إليه، وتذكر الذين تخلفوا عن الجهاد فعذرهم الله ورسوله، والذين تخلفوا وتكلفوا الأعذار فلم يقبل منهم، ولكن النبي مع ذلك لم يعاقبهم ولم يعرض لهم بما يكرهون، وإنما ترك أمرهم إلى الله إن شاء عذبهم وإن شاء تاب عليهم.
وليس أقل من هذا خطرا أن أمر الخلافة كله قام على البيعة، أي على رضا الرعية، فأصبحت الخلافة عقدا بين الحاكمين والمحكومين، يعطي الخلفاء على أنفسهم العهد أن يسوسوا المسلمين بالحق والعدل، وأن يرعوا مصالحهم، وأن يسيروا فيهم سيرة النبي ما وسعهم ذلك، ويعطي المسلمون على أنفسهم العهد أن يسمعوا ويطيعوا وأن ينصحوا ويعينوا.
وما من شك في أن خليفة من خلفاء المسلمين ما كان ليفرض نفسه وسلطانه عليهم فرضا، إلا أن يعطيهم عهده ويأخذ منهم عهدهم، ثم يمضي فيهم الحكم بمقتضى هذا العقد المتبادل بينه وبينهم. ومن أجل ذلك لم يورث السلطان عن النبي وراثة؛ لم يرثه عنه أهل بيته، ولم يرثه عنه أبو بكر نفسه، وإنما تلقى هذا السلطان من الجماعة التي بايعته به وائتمنته عليه، ثم لم يرث أبناء أبي بكر عنه الخلافة، ولم يرثها عنه عمر نفسه، وما كان استخلاف أبي بكر لعمر إلا مشورة على المسلمين، وآية ذلك أن عهد أبي بكر لم ينفذ ولم يصبح عمر خليفة إلا بعد أن بايعه المسلمون رضا برأي أبي بكر وقبولا لمشورته، وآية ذلك أيضا أن عثمان خرج بعهد أبي بكر إلى الناس مختوما وأبو بكر لم يمت بعد، فقال لهم: أتبايعون لمن في هذا الكتاب؟ قالوا: نعم؛ لأنهم كانوا يثقون بأبي بكر ويرضون رأيه ويرون أنه لهم ناصح وبهم رءوف. ولم يرث أبناء عمر عنه الخلافة، وكره عمر أن تكون الخلافة بعده في أحد من ولده، وأشرك ابنه عبد الله في الشورى على ألا يكون له في الأمر شيء، ومن أجل ذلك أيضا سخط عامة المسلمين على توريث السلطان في أيام معاوية، وقال قائلهم: إنه جعلها هرقلية أو كسروية. فإذا دل هذا كله على شيء، فإنما يدل على أن الحكم أيام النبي لم يكن مفروضا من السماء لا رأي للناس فيه. وإذا كان الأمر كذلك أيام النبي الذي كان يتنزل عليه الوحي، فأحرى أن يكون الأمر كذلك أيام صاحبيه بعد أن تقطع عن الناس خبر السماء.
والذين يظنون أن نظام الحكم في هذا الصدر من حياة المسلمين كان إلهيا، يخدعون عن رأيهم هذا بما يجدون في أحاديث الخلفاء وخطبهم، وفي أحاديث الناس عنهم وإليهم من ذكر الله وأمره وسلطانه وطاعته؛ يحسبون أن هذا كله يدل على أن نظام الحكم منزل من السماء، مع أنه لا يدل في حقيقة الأمر إلا على شيء يسير خطير في وقت واحد، وهو أن الخلافة عهد بين المسلمين وخلفائهم، وأن الله أمر المسلمين بأن يوفوا بعهد الله إذا عاهدوا سواء أكان هذا العهد متصلا بشئون الحكم، أم متصلا بالعلاقات الخارجية، أم متصلا بما يكون بين الأفراد من العهود والمواثيق؛ فالله يأمر باحترام العهود، والله شاهد على ضمائر الناس حين يوفون بالعهود أو ينكثونها، والله يثيب من وفى بالعهد ويعاقب من نكثه عقابا شديدا.
فليس بين الإسلام وبين المسيحية مثلا فرق من هذه الناحية؛ فالإسلام دين يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويوجه إلى الخير ويصد عن الشر، ويريد أن تقوم أمور الناس على العدل وتبرأ من الجور، ثم يخلي بعد ذلك بينهم وبين أمورهم يدبرونها كما يرون ما داموا يرعون هذه الحدود. ولا تزيد المسيحية على هذا ولا تنقص منه، ولأمر ما قال عيسى عليه السلام للذين جادلوه من بني إسرائيل: «أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله.» وما أشك في أن عيسى عليه السلام لم يرد أن يعطي ما لقيصر لقيصر بغير حقه، أو أن تقوم الصلة بين قيصر وبين الناس على الظلم والجور والخوف.
وسنرى في غير هذا الموضع من هذا الحديث أن من المسلمين من أنكر على بعض العمال أيام عثمان قولهم: إن ما كان يأتي من الفيء ويجنى من الخراج مال الله، وقالوا: هو مال المسلمين، وتعرضوا في سبيل ذلك لبعض الأذى. ولو قد فهم المسلمون نظام الحكم في ذلك الصدر من حياتهم على أنه نظام إلهي، لما أنكروا أن يقال مال الله؛ لذلك اعتذر معاوية من هذا التعبير حين أنكر عليه، بأن الناس وما ملكوا لله، فهم عباد الله ومالهم مال الله.
لم يكن نظام الحكم إذن أيام النبي تيوقراطية مقدسة، وإنما كان أمرا من أمور الناس، يقع فيه الخطأ والصواب، ويتاح للناس أن يعرفوا منه وأن ينكروا وأن يرضوا عنه ويسخطوا عليه.
ويظن آخرون أن نظام الحكم أيام النبي وصاحبيه قد كان نظاما ديمقراطيا، وهذا تجوز في الألفاظ وخروج بها عن الدقائق من معانيها. وقد ينبغي أن نتبين معنى الديمقراطية بالدقة قبل أن نقول إن نظام الحكم هذا كان أو لم يكن ديمقراطيا. والديمقراطية لفظ يدل به على حكم الشعب بالشعب وللشعب، أي على أن يختار الشعب حكامه اختيارا حرا، ويراقبهم مراقبة حرة؛ ليتبين أنهم يحكمونه لمصلحته هو لا لمصلحتهم هم، ويعزلهم إن لم يرض عن حكمهم ولم يطمئن إلى الثقة بهم.
كذلك فهمت الديمقراطية في العصور القديمة عند اليونان، وكذلك تفهم الديمقراطية في العصور الحديثة عند الأمم التي تصطنع هذا النظام، على اختلاف مع ذلك في فهم كلمة الشعب؛ فهذه الكلمة كانت تضيق في أيام اليونان مثلا، حتى لا تدل إلا على جماعة ضئيلة من المواطنين لهم وحدهم جميع الحقوق يستوون فيها أمام القانون، على حين لا تستمتع الكثرة الكثيرة من هذه الحقوق بشيء ولا تساهم من أمور الحكم بنصيب. وكان هذا اللفظ يتسع بعد الثورة الفرنسية إلى حيث يشمل عددا ضخما من المواطنين يكون لهم الاستمتاع بالحقوق السياسية، ولكنه لا يشملهم جميعا؛ فهو محدد بملك مقدار من المال، أو أداء مقدار معين من الضرائب، أو تحصيل قدر معين من الثقافة. ثم اتسع في آخر القرن الماضي حتى شمل المواطنين جميعا من الرجال منذ يبلغون الرشد، ثم اتسع في هذا القرن حتى شمل المواطنين من الرجال والنساء منذ يبلغون الرشد. وللديمقراطية بعد ذلك، سواء أكانت ضيقة أم واسعة، نظم مقررة تكفل استمتاع الشعب بحقوقه واختياره لحكامه ومراقبته لهؤلاء الحكام.
فإذا فهمت الديمقراطية على هذا المعنى الدقيق، فليس من شك في أن نظام الحكم في الصدر الأول من حياة المسلمين لم يكن ديمقراطيا؛ فالشعب لم يكن يختار حكامه بهذا المعنى الدقيق، وليس الشعب هو الذي اختار النبي ليبلغه رسالات ربه وليقيم الأمر فيه بالقسط والعدل، ولكن الله أرسل رسوله فاتبعه من اتبعه وخالف عنه من خالف عنه، وإذا قلنا إن الذين اتبعوا النبي من أصحابه قد اختاروه ليكون لهم حاكما، فهم لم يختاروه على النحو الذي يختار عليه الحكام في النظام الديمقراطي، وهم لم يكونوا يراقبونه ولا يحاسبونه، وإنما كان النبي يستشيرهم فيشيرون عليه، وكانوا يشيرون عليه حسبة أحيانا، وكان يقبل منهم أو لا يقبل. وليس من الدقة في شيء أن يقال إن حكم أبي بكر وعمر قد كان حكما ديمقراطيا بالمعنى التدقيق، فليس كل المسلمين قد اختاروا أبا بكر وعمر لأمر الخلافة، وإنما اختارهما فريق بعينه من المسلمين، وهم أولو الحل والعقد من المهاجرين والأنصار، على ما كان بينهم في ذلك من اختلاف أول الأمر.
ولم يستأمر العرب الذين مات النبي وهم مسلمون من أهل مكة والطائف والبادية في اختيار أبي بكر أو عمر، وإنما اختارهما أهل المدينة فسمع لهما سائر المسلمين وأطاعوا؛ ولذلك لم يكن غريبا قول من قال من أصحاب الردة:
أطعنا رسول الله ما كان بيننا
فيا لعباد الله ما لأبي بكر
ثم لم يكن للشعب، بل لم يكن لهذا الفريق من المهاجرين والأنصار، نظام معين مقرر محدد يراقبون به سيرة الخلفاء ويحاسبونهم على ما يأتون وما يدعون، وإنما كان الخلفاء يستشيرونهم فيشيرون عليهم؛ يستشيرونهم مجتمعين حينا ومتفرقين حينا آخر. وكان لمن شاء من المهاجرين والأنصار أن يشير على الخليفة حسبة، فيقبل الخليفة منه أو لا يقبل؛ وإذن فلم يكن نظام الحكم في ذلك الصدر من حياة المسلمين نظاما ديمقراطيا بمعناه الدقيق في الفقه الدستوري عند القدماء أو المحدثين.
فإذا أطلق لفظ الديمقراطية على هذا المعنى العام الذي يفهم منه حاجة الحكام إلى رضا الشعب عنهم وثقة الشعب بهم، وأخذ الحكام أنفسهم بأن يسيروا في الشعب سيرة تقوم على العدل والمساواة، وتبرأ من التسلط والاستعلاء؛ فأنت تستطيع أن تقول: إن نظام الحكم في الصدر الأول للإسلام قد كان نظاما ديمقراطيا بهذا المعنى العام الذي ليس له مقاييس ولا معايير ولا حدود، وسترى أثر ذلك فيما عرض للمسلمين من أمور الفتنة أيام عثمان.
وقوم آخرون قد يظنون أن نظام الحكم في ذلك الصدر من الإسلام قد كان نظام السلطان الفردي العادل، فلم يكن للنبي ولا لصاحبيه من بعده شركاء في الحكم، وإنما كان لهم من أصحابهم مشيرون لا يلزمون بمشورتهم أحدا. ولكن النبي وصاحبيه كانوا على ذلك يتوخون العدل ولا يتوخون غيره. وهذا النحو من التفكير يقرب نظام الحكم إلى حد ما من النظام الذي عرفه الرومان أيام الملوك والقياصرة؛ فقد كان ملوك روما وقياصرتها لا يتوارثون الحكم حتما، وإنما ينتخب أكثرهم له انتخابا، وكان أحدهم إذا انتخب ولي الأمر حياته كلها إلا أن تخلعه منه ثورة أو انتقاض. وكل ما يكون من الفرق بين هذا النظام الروماني وبين النظام الإسلامي أيام النبي وصاحبيه، هو أن العدل كان وحده قوام الحكم فيما عرف المسلمون من هذا النظام؛ على حين كان ملوك الرومان وقياصرتهم يتجاوزون العدل والقسط في كثير من الأحيان. وليس هذا الرأي أكثر دقة من الرأيين السابقين.
فنحن نعلم أن قد كان للدين سلطانه في اختيار الملوك والقياصرة عند الرومان، وفيما يكون من سيرة هؤلاء الملوك والقياصرة. ولكن الفرق بين النظام الروماني والإسلامي، هو الفرق بين دين ودين، كما أنه الفرق بين جنس وجنس وبين بيئة وبيئة؛ فلم يكن للدين الذي سيطر على ملوك الرومان خاصة وعلى قياصرتهم إلى حد ما، من النقاء والسمو ما يشبه نقاء الديانات السماوية من قريب أو بعيد. إنما كان دين الرومان يقوم على العيافة والزجر واستطلاع ضمائر الغيب بطرق نقرؤها الآن فنبتسم لها ونضحك منها، وكان تطور الشعب الروماني من حياته الساذجة الأولى إلى حياته المعقدة مباعدا كل البعد لتطور الشعب العربي من جاهليته إلى إسلامه؛ فقد كان التطور الروماني ماديا، إن صح هذا التعبير، نشأ من تقدم الحضارة قليلا قليلا؛ على حين كان التطور العربي معنويا، نشأ من تغير النفس العربية بتأثير الإسلام، فكأنه كان تطورا من داخل إلى خارج، تغيرت النفس العربية فتغيرت الحياة المادية للعرب؛ على حين كان التطور الروماني من خارج إلى داخل، تغيرت ظروف الرومان الخارجية فتطورت نفوس الرومان وضمائرهم.
والبيئتان من بعد ذلك مختلفتان بمقدار ما يكون الاختلاف بين إيطاليا والحجاز: فليس غريبا ألا يكون هناك تشابه بين نظام الحكم الروماني أيام الملوك وأيام القياصرة، ونظام الحكم في الصدر الأول للإسلام.
وأكاد أتصور تشابها بعيدا أو قريبا بين نظام الحكم الروماني أيام الجمهورية ونظام الحكم الإسلامي بعد وفاة النبي؛ فقد كان الرومانيون يختارون قناصلهم على نحو يوشك أن يشبه اختيار المسلمين لخلفائهم، وإلى شيء من ذلك نحا الأنصار حين قالوا للمهاجرين: منا أمير ومنكم أمير. ثم كان سلطان القنصل بعد اختياره يشبه في عمومه وشموله سلطان الخلفاء، إلا أن سلطان القنصل كان موقوتا بسنة واحدة، وكان سلطان الخلفاء يمتد مدى الحياة بعد اختيار الخليفة، وكان سلطان القنصل مقيدا بالقوانين التي تصدرها جماعة الشعب والقرارات التي يصدرها مجلس الشيوخ، كما كان سلطان الخليفة مقيدا بالحدود التي رسمها الدين، وبما يرى كبار الصحابة من رأي، وبما تميل إليه أو تنحرف عنه عامة المسلمين. ولكن هذه كلها وجوه للتشابه يظهر فيها التكلف والتصنع والإبعاد، فإذا أضفنا إليها مظاهر الحكم التي كانت تحيط بالقنصل ولم يكن يحيط منها بالخليفة شيء. وإذا أضفنا إلى ذلك بعض النظم التي اقتضتها ظروف الجمهورية الرومانية لتقييد سلطان القنصل وحماية العامة من تحكمه، كنظام الزعماء الذين كانت الدهماء تنتخبهم ليكفوا عنها جور القنصل إن هم القنصل بشيء من الجور - أقول: إذا أضفنا هذه الفروق إلى وجوه الشبه تلك المتكلفة، كان من الواضح أن ليس هناك صلة قريبة أو بعيدة بين نظام الحكم العربي في ذلك العهد القصير وبين نظم الرومان في عهد الملوك أو عهد الجمهورية أو عهد القياصرة.
ليس من شك في أن المسلمين قد اقتبسوا كثيرا من نظم القياصرة والأكاسرة في السياسة والإدارة والحرب، ولكن هذا الاقتباس جاء متأخرة جدا عن العصر الذي نتحدث فيه؛ فلننصرف إذن عن هذا التشابه الذي لا يقوم على أساس متين.
لم يكن نظام الحكم الإسلامي في ذلك العهد إذن نظام حكم مطلق، ولا نظاما ديمقراطيا على نحو ما عرف اليونان، ولا نظاما ملكيا أو جمهوريا أو قيصريا مقيدا على نحو ما عرف الرومان، وإنما كان نظاما عربيا خالصا بين الإسلام له حدوده العامة من جهة، وحاول المسلمون أن يملئوا ما بين هذه الحدود من جهة أخرى.
وقد قلت في بعض أحاديثي عن نشأة النثر عند العرب: إن القرآن ليس شعرا ولا نثرا، وإنما هو قرآن له مذاهبه وأساليبه الخاصة في التعبير والتصوير والأداء، فيه من قيود الموسيقى ما يخيل إلى أصحاب السذاجة أنه شعر، وفيه من قيود القافية ما يخيل إليهم أنه سجع، وفيه من الحرية والانطلاق والترسل ما قد يخيل إلى بعض أصحاب السذاجة الآخرين أنه نثر؛ ومن أجل هذا خدع المشركون من قريش، فقالوا إنه شعر، وكذبوا في ذلك تكذيبا شديدا، ومن أجل هذا خدع كذلك بعض المتتبعين لتاريخ النثر فظنوا أنه أول النثر العربي، وتكذبهم الحقائق الواقعة تكذيبا شديدا. فلو قد حاول بعض الكتاب الثائرين - وقد حاول بعضهم ذلك - أن يأتوا بمثله لما استطاعوا إلا أن يأتوا بما يضحك ويثير السخرية.
قلت ذلك بالقياس إلى القرآن، وأريد أن أقول شيئا قريبا منه بالقياس إلى نظام الحكم العربي الإسلامي في ذلك العهد، فهو لم يكن ملكا، ولم يكن يؤذي النبي وصاحبيه شيء كما كان يؤذيهم أن يظن بهم الملك، وهو لم يكن جمهوريا، فلم نعرف في نظم الجمهورية نظاما يتيح للرئيس المنتخب أن يرقى إلى الحكم فلا ينزله عنه إلا الموت، ولم يكن قيصريا بالمعنى الذي عرفه الرومان، فلم يكن الجيش هو الذي يختار الخلفاء، فهو إذن نظام عربي إسلامي خالص لم يسبق العرب إليه، ثم لم يقلدوا بعد ذلك فيه، وهذا لا يعفينا مع ذلك من أن نحلله ونتبين دقائقه لنرى أكان قادرا على البقاء أم كان خليقا أن يتغير متى تغيرت الظروف التي أحاطت بنشأته ثم بتطوره.
وأول ما نلاحظ من العناصر التي كان هذا النظام يأتلف منها، العنصر الديني؛ فلم يكن هذا النظام، كما قلت آنفا، نظاما سماويا، وإنما كان نظاما إنسانيا، ولكنه على ذلك تأثر بالدين إلى حد بعيد جدا. لم يكن الخليفة يصدر عن وحي أو شيء يشبه الوحي في كل ما يأتي وما يدع، ولكنه على ذلك كان مقيدا بما أمر الله به من إقامة الحق وإقرار العدل وإيثار المعروف واجتناب المنكر والصدود عن البغي.
وهذا الوحي الذي اتصل ثلاثة وعشرين عاما يصابح المسلمين ويماسيهم، ينزل قرآنا مرة، وينطق به النبي حديثا مرة أخرى، ويجريه النبي بسيرته العملية سنة متبعة مرة ثالثة، قد أيقظ في نفوس المسلمين من خاصة النبي ضميرا دينيا قويا دقيقا حيا إلى أبعد غايات القوة والدقة والحياة، فلم يكن من الممكن أن يتخلص منه المسلم في قول أو عمل أو تفكير، بل لم يكن من الممكن أن يخلص منه في يقظة أو نوم، فصلته بالرعية إن كان حاكما، وبالحاكم إن كان رعية ، وبنظرائه في حياته اليومية؛ متأثرة دائما بهذا الضمير، وهذا هو الذي يخيل لكثير من الناس أن نظام الحكم في ذلك الوقت قد كان نظاما يتنزل من السماء إلى الأرض؛ وليس الأمر كذلك، وإنما هو يدور مع مقدار ما يكون لضمير الخليفة ورعيته من التأثر بالدين.
أما العنصر الثاني من العناصر التي ائتلف منها هذا النظام، فهو عنصر الأرستقراطية التي لا تعتمد على المولد ولا على الثروة ولا على ارتفاع المكانة الاجتماعية بمعناها الشائع العام، وإنما تعتمد على شيء آخر أهم من هذا كله: وهو الاتصال بالنبي أيام حياته، والإذعان لما كان يأمر به وينهى عنه في غير تردد ولا شيء يشبه التردد، والإبلاء بعد ذلك في سبيل الله في أوقات السلم والحرب جميعا.
هذه الخصال أنشأت منذ ظهر الإسلام طبقة ممتازة من الناس، لم تستأثر من دونهم بحق من حقوق الدنيا، ولم تجن لنفسها منفعة عاجلة أو آجلة، وإنما آثرها النبي بحبه وأعلن إليها وإلى الناس أن الله قد آثرها بحبه أيضا؛ فالذين سبقوا إلى الإسلام، والذين عذبوا في الله، والذين هاجروا بدينهم إلى بلاد الحبشة ثم إلى المدينة، والذين آووا ونصروا، والذين جاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، والذين لزموا النبي يسمعون له ويكتبون عنه - كل أولئك كونوا هذه الطبقة التي أحبها الله ورسوله وأكبرتها عامة المسلمين. وهذه الطبقة لم تكن ترى نفسها أحق بالامتياز ولا أجدر بالاستعلاء، وإنما كانت ترى نفسها كغيرها من الناس، وكان تواضعها نفسه يزيدها حبا عند رسول الله، ويرفعها درجات عند الله، ويعلي مكانتها في نفوس عامة الناس، ولم تكن هذه الطبقة مؤلفة من ذوي المولد الممتاز والنسب الصريح والثراء العريض وحدهم، وإنما كانت مؤلفة من بعض هؤلاء ومن آخرين كان منهم العبد الذي فتن في دينه حتى صادف من المسلمين من اشتراه وأعتقه، وكان منهم الضعيف الذي أقبل مستجيرا بمكة يعيش في حمى حلف عقدها مع هذا الحي أو ذاك من أحياء قريش ومع هذا العظيم أو ذاك من عظمائها، وكان منهم من أقبل على مكة ذات يوم فوجد فيها أمنا ومكسبا فأقام؛ ثم كان منهم من صرح نسبه وحسن مولده، ولكنه كان قصير اليد قليل المال، فهو في عزة من قومه ولكنه في ضيق من عيشه يكسب حياته كما يستطيع.
كان منهم كل هؤلاء، وكل هؤلاء سوى بينهم الإسلام في الحقوق والواجبات، ولم يفرق بينهم إلا في حظوظهم من حسن البلاد في سبيل الإسلام، والصبر على المكروه حين يلم المكروه، ومؤازرة النبي بنفسه وماله حين يحتاج النبي إلى المؤازرة بالأنفس والأموال.
ولم يكد الإسلام ينتشر حتى امتازت هذه الطبقة في نفوس المسلمين امتيازا طبيعيا، وحتى أعطاها المسلمون من الحقوق ما لم تكن هي تعطي نفسها، فأعضاؤها كانوا يعلمون الناس دينهم، ويشيرون عليهم فيما يلم بهم من الأمر. وما أكثر ما كانت أحياء العرب تطلب إلى النبي أن يرسل إليها من يفقهها في الدين، فيختار لها من هؤلاء معلما وفقيها وإماما، ثم لم تكد الشهور تمضي على هجرة النبي حتى كانت غزوة بدر التي رفعت مكانة الإسلام في بلاد العرب وجعلت له شوكة ترهب وتخاف، ولا يكاد الزمن يمضي حتى يصبح الذين شاركوا في هذه الغزوة طبقة ممتازة بين المسلمين؛ فإذا أتيح لهم أن يشهدوا غيرها من المشاهد مع النبي، فهم أشد امتيازا؛ فإذا أتيح لهم أن يثبتوا في القلة التي ثبتت مع النبي يوم أحد، فهم أشد امتيازا أيضا؛ فإذا أتيح لهم أن يثني النبي عليهم، ويجعلهم لغيرهم قدوة وإماما، ويبشرهم بالجنة، ويعلن أنه عنهم راض، فقد بلغوا أرقى درجات الامتياز. وليس في شيء من هذا كله غرابة أو عجب؛ فهذا كله ملائم لطبيعة الأشياء، وإنما المهم هو أن هذه الطبقة الممتازة من أصحاب النبي على ما يكون بينها من تفاوت في الامتياز، قد أصبحت بعد وفاة النبي صاحبة الحل والعقد في أمور المسلمين كلها بعد أن مضى النبي إلى ربه وانقطع الوحي وعاد ما بين السماء والأرض إلى البعد بعد القرب.
فمن هذه الطبقة وحدها يختار من يخلف النبي في أمته ، وعلى هذه الطبقة وحدها يعتمد الخليفة في أن يسمع له الناس ويطيعوا، وإلى هذه الطبقة وحدها يلجأ الخليفة حين يحتاج إلى التشاور وإدارة الرأي.
على أن الأمر لم يقف عند هذا بعد وفاة النبي، فلم تكد تمضي أيام بل ساعات على وفاة النبي حتى عرف الإسلام نوعا جديدا من الأرستقراطية يتصل بالحكم نفسه اتصالا شديدا؛ وذلك حين تحدث المسلمون في أمر الخلافة، فقال الأنصار: منا أمير ومنكم أمير. وروى أبو بكر عن النبي أنه قال: الأئمة من قريش، ثم قال للأنصار: نحن الأمراء وأنتم الوزراء. وقبل الأنصار ذلك لم يكادوا يعارضون فيه، ولم يأبه منهم إلا سعد بن عبادة، رحمه الله.
منذ ذلك الوقت نشأت في الإسلام أرستقراطية قوامها القرب من رسول الله؛ فأصبح الحكم إلى قريش وحدها، وأصبحت المشورة إلى الأنصار. والمشورة حق عام لكل مسلم؛ فلقريش أن تحكم، ولقريش أن تشير، وللأنصار وغيرهم من العرب أن يشيروا، وليس لهم أن يحكموا. ومع ذلك فقد ينبغي أن نستأني في تحقيق هذه الأرستقراطية كما فهمها أبو بكر وأصحابه من المهاجرين، وكما فهمتها قريش بعد ذلك؛ فما من شك في أن أبا بكر وعمر وأبا عبيدة بن الجراح لم يفكروا في إطلاق الإمامة لقريش كلها بغير تحديد، وأكبر الظن أنهم إنما فكروا في المهاجرين الذين سبقوا إلى الإسلام، فآمنوا قبل أن يؤمن غيرهم، وآزروا النبي بأنفسهم وأموالهم على نشر دعوته في مكة أيام الجهد والشدة والضيق؛ فالكثرة العظمى من هؤلاء المهاجرين قرشية، والمهاجرون يذكرون مع الأنصار في القرآن والحديث وعلى ألسنة الناس، فيبدأ بهم ويثني بالأنصار، وما أرى إلا أن أبا بكر إنما قصد إلى هذه الطبقة الممتازة من قريش؛ طبقة الذين سبقوا إلى الإسلام وجاهدوا مع النبي أثناء الفتنة في مكة، ثم جاهدوا معه وجاهد معهم الأنصار أثناء القوة في المدينة.
ولو أن أبا بكر وعمر وأبا عبيدة فكروا في قريش من حيث إنها الحي الذي يتصل نسبه بنسب رسول الله، أي من حيث القرابة من النبي؛ لاقتضاهم هذا التفكير أن يؤثروا بالخلافة أقرب قريش من رسول الله، وأن يرشحوا لها العباس عمه أو عليا ابن عمه وصاحب صهره وربيبه حين كان صبيا. فأبو بكر وأصحابه إذن لم يفهموا من قريش إلا هذا المعنى الذي يتصل بالمهاجرين، وبأصحاب السبق والفضل من المهاجرين خاصة، ومن أحمق الحمق أن يقول قائل إن أبا بكر وأصحابه فكروا في قرابة قريش من النبي، وجعلوا هذه القرابة مصدر امتياز قريش بالإمامة، فلو قد كان هذا لكان الطلقاء من قريش أحق بالإمامة عند أبي بكر وعمر وأبي عبيدة من الذين آووا ونصروا، ولكان أبو سفيان أو صفوان بن أمية أو الحارث بن هشام، أحق بالإمامة من أعلام الأنصار الذين تبوءوا الدار والإيمان؛ ولكن قريشا فهمت قول أبي بكر على غير ما أراده هو وعلى غير ما فهمه أصحابه في ذلك الوقت، فاستيقنت أن الإمامة حق لها لا ينبغي أن يعدوها إلى غيرها، وأنها حق لها لمكانها من النبي. وقد كانت قريش في هذا الفهم خاطئة متكلفة، ما في ذلك شك، ولو قد صح فهمها وتأويلها لظهرت عليها حجة بني هاشم، ولكان بنو هاشم أحق المسلمين بالإمامة ما استطاعوا أن ينهضوا بأعبائها.
ذلك إلى أن الإسلام لم يقدم أحدا على أحد بمولده ولا بمكانه الاجتماعي، وإنما فاضل بين الناس عند الله بالتقوى، وفاضل بين الناس عند الناس بالتقوى والكفاية وحسن البلاء.
ويدل على صواب ما نذهب إليه أن عمر حين طلب إليه أن يستخلف قال: لو كان أبو عبيدة حيا لاستخلفته، ولو كان سالم مولى أبي حذيفة حيا لاستخلفته. وسالم مولى أبي حذيفة لم يكن قرشيا، بل لم يكن له نسب في العرب، وإنما جلب صبيا من إصطخر، فأعتقته امرأة من الأنصار كانت تملكه، وتولى هو ولاء أبي حذيفة من قريش، وقد كان المسلمون يقدمونه في أمور دينهم أيام النبي؛ فهو كان يؤم المهاجرين في الصلاة، وفيهم عمر، أثناء انتظارهم لمقدم النبي على المدينة. وقد قتل باليمامة في حرب الردة في خلافة أبي بكر.
وما ينبغي أن يؤبه لما قيل من أن سالما كان قرشيا بالولاء، فلو قد عاش واستخلفه عمر لما خرجت الإمامة من قريش. فهذا كله كلام لا يستقيم، ونحن نعلم أن الولاء على ما كان يعقد بين الموالي من الصلات لم يكن ليرفع الموالي إلى طبقة الذين يتولونهم من الأحرار. ولم تكن العرب تعرف لسالم نسبا، حتى إنهم كانوا يدعون زيد بن حارثة لأبيه حين أمر الله أن يدعى الموالي إلى آبائهم، وكانوا يقولون إن سالما من الصالحين؛ لأنهم لم يكونوا يعرفون له أبا بعد أن ألغى الإسلام تبني أبي حذيفة إياه، فقد كان عمر إذن يود لو استخلف على المسلمين رجلا ليس من قريش، بل ليس من العرب إلا بالولاء، لا يرى بذلك بأسا. وكان عمر مصيبا في مذهبه هذا موافقا لأصول الإسلام الذي لا يفضل أحدا على أحد بالنسب والمولد، وإنما يفاضل بين الناس بالكفاية والتقوى وحسن البلاء، وقد كان سالم تقيا كافيا حسن البلاء.
ومهما يكن من شيء فقد نشأت هذه الأرستقراطية القرشية فجاءة على غير حساب من الناس، وكانت أرستقراطية قد غلط بها: أراد أبو بكر أن تكون الإمامة في المهاجرين ما وجد بينهم الكفء القوي على النهوض بها. فحولت قريش ذلك فيما بعد إلى منافعها وعصبيتها، وخرجت بذلك عن أصل خطير من أصول الإسلام وهو المساواة بين المسلمين.
ولم تكد قريش تخطو هذه الخطوة حتى أتبعتها خطوة أخرى كان لها أبعد الأثر في حياة المسلمين، وهي تفضيل العرب على غيرهم من الذين اعتنقوا الإسلام، ولم يكن لهم في العرب نسب صريح. والناس جميعا يعلمون أن استئثار قريش بالخلافة جر على المسلمين كثيرا من الفتن، وأن استئثار العرب بالسلطان والفضل أدال من بني أمية لبني العباس بفضل من ناصرهم من الموالي.
فلنظام الحكم في هذا الصدر في الإسلام عنصران متميزان إذن: أحدهما معنوي، وهو الدين الذي يأمر بالعدل والمعروف يفرضهما على الرعاة والرعية جميعا، والآخر هذه الأرستقراطية الخاصة التي قام أمرها على الكفاية والتقوى وحسن البلاء والاتصال برسول الله ، والتي انحرفت بها قريش بعد ذلك عن طريقها. وواضح جدا أن هذين العنصرين لم يكن من شأنهما أن يطاولا مر الدهر، وتقلب الخطوب وتتابع الأحداث؛ فأما أولهما وهو هذا الضمير الديني القوي اليقظ الحي، فشيء يتاح لأصحابه، وليس من المكفول ولا من المحتوم أن يرثه عنهم الأبناء والحفدة، فالذين اتصلوا برسول الله اتصالا قريبا وتعلموا منه وتأدبوا بأدبه، خليقون أن يتأثروه في سيرته وأن يتمثلوه كلما عملوا أو قالوا أو فكروا، فأما الأجيال التي تأتي بعدهم من الأبناء والحفدة فقد يتأثرون بهم وقد لا يتأثرون، وهم لم يتصلوا بالنبي إلا قليلا أو لم يتصلوا به أصلا، فليس غريبا ألا يتاح لضمائرهم الدينية من اليقظة والقوة والحياة ما أتيح لخاصة النبي وصفوة أصحابه الأقربين.
وأخرى لا ينبغي أن تفوتنا، وهي أن أمور الحكم إنما تستقيم حين يكون التعاون والتضامن بين الحاكمين والمحكومين في الأصول التي يقوم عليها النظام، فليس يكفي أن يكون الحاكم يقظ الضمير مؤثرا للعدل مصطنعا للمعروف حريصا على رضا الله كافيا بعد ذلك لمشكلات السياسة خراجا منها إذا ادلهمت، وإنما يجب أن يكون لرعيته حظ من هذا الضمير الحي اليقظ، ومن حب العدل وإيثار المعروف والحرص على رضا الله.
وهذه هي المشكلة الأولى التي واجهت نظام الحكم الجديد، فلم يكن العرب كلهم أصحاب رسول الله، بل لم تكن كثرة العرب قد صاحبت النبي واتصلت به، وإنما كان أصحاب رسول الله كالشعرة البيضاء في الثور الأسود، أو كالشعرة السوداء في الثور الأبيض، ولم يكن إيمان العرب بالدين الجديد مطابقا أو مقاربا لإيمان هذه الطبقة من أصحاب النبي، وإنما كان من العرب من حسن إيمانه، ومنهم من أسلم ولم يؤمن، كما جاء في القرآن:
قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا إن الله غفور رحيم .
بل كان من العرب من جرت كلمة الإسلام على لسانه، ولكنه احتفظ بجاهليته كاملة في قلبه ونفسه وضميره، والله يقول في بعض هؤلاء:
الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله .
فلم يكن هناك توازن بين الحاكم والمحكوم، ولم يكن هناك تضامن صحيح بين الخليفة والكثرة الضخمة من رعيته العربية، وإنما كان التضامن والتوازن قائمين بين الخليفة وهذه الطبقة الممتازة من أصحاب النبي، وبفضل هذا التضامن والتوازن استطاع أبو بكر أن يعيد العرب إلى الإسلام بعد أن ارتدوا، وأن يشغلهم بعد ذلك بما وجههم إليه من الفتوح. وأخرى لا ينبغي أن ننساها ولا ينبغي أن يضيق بها المتحرجون الذين يغلون في حسن الظن بالإنسان، وهي أن هذا الضمير الديني الحي اليقظ قد يتعرض للفتنة والمحنة، وقد يلقى أخطارا كثيرة من الأحداث والخطوب، فما أكثر ما يخلص الإنسان نفسه وقلبه وضميره للحق والخير والعدل والإحسان، ثم تلم به أسباب الفتنة وتلح عليه وتسرف في الإلحاح حتى تضطره إلى أن يتأول في بعض الأمر، ثم ما يزال ينتقل من تأول إلى تأول ومن تعلل إلى تعلل ومن تحلل إلى تحلل، حتى ينظر ذات يوم فإذا بينه وبين الإخلاص الأول أمد بعيد، ومن أجل هذا ألح القرآن وألح النبي وألح الخلفاء والصالحون في تحذير الناس من الدنيا وغرورها ومما تمد لهم من أسباب الفتن وما تعرضهم له من ضروب المحن، ومن هذه السيئات التي تذهب بالحسنات، ومن بعض النيات والأعمال التي تأكل الصالحات كما تأكل النار الحطب؛ فليس من الغريب في شيء أن يتعرض كثير من الصالحين ومن أصحاب النبي أنفسهم لأسباب الفتن ودواعي الغرور، وأن يطرأ عليهم من الأحداث والخطوب ما يباعد بينهم وبين عهدهم الأول حين كان الإسلام غضا، وحين كانوا يتصلون بالنبي مصبحين وممسين، وحين كانوا إذا ذكروا الله وجلت قلوبهم، وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون.
وسنرى أن أسباب الفتن ودواعي الغرور كانت كثيرة قوية خلابة، لا يثبت لها إلا أولو العزم، وأولو العزم قلة في كل زمان ومكان.
وما أريد أن أتزيد ولا أن أتكلف، ولا أن أوذي بعض الضمائر، ولا أن أحفظ بعض الصدور، ولكني مع ذلك ألاحظ أن جماعة من أصحاب النبي قد حسن بلاؤهم في الإسلام حتى رضي النبي عنهم وبشرهم بالجنة أو ضمنها لهم، ثم طال عليهم الزمن واستقبلوا الأحداث والخطوب، وامتحنوا بالسلطان الضخم العظيم، وبالثراء الواسع العريض، ففسدت بينهم الأمور، وقاتل بعضهم بعضا، وقتل بعضهم بعضا، وساء ظن بعضهم ببعض إلى أبعد ما يمكن أن يسوء ظن الناس بالناس، فما عسى أن يكون موقفنا نحن من هؤلاء؟ لا نستطيع أن نرضى عن أعمالهم جميعا، فلا نلغي عقولنا وحدها، وإنما نلغي معها أصول الدين التي تأمر بالعدل والإحسان وتنهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، ولا نستطيع أن نحكم بالخطيئة على من نظن أنه قد خطئ؛ لمكانهم من النبي أولا، ولما بشرهم به النبي من الجنة ورضا الله ثانيا، ولحسن ظنهم بالله ورسوله وثقتهم بما وعد الله ورسوله، وإيمانهم بالجنة التي بشروا بها، وما نحب أن نذهب في أمرهم مذهب الذين عاصورهم من خصومهم وأنصارهم، فنحكم على بعضهم بالخير، ونحكم على بعضهم الآخر بالشر؛ فالذين عاصروهم من الأنصار والخصوم كانوا شركاءهم فيما ألم بهم من الفتنة، فكانوا يرضون أو يسخطون حسب مكانهم من أولئك أو هؤلاء. أما نحن فلسنا نعاصرهم ولا نشاركهم فيما شجر بينهم من الخلاف، وليس من المعقول لذلك أن نقحم عواطفنا في أمرهم إقحاما، وإنما سبيلنا أن ننظر في أعمالهم وأقوالهم من حيث صلتها بحياة الناس وأحداث التاريخ، وأن نخطئ من نخطئ ونصوب من نصوب منهم من هذه الجهة وحدها دون أن نقضي في أمر دينهم بشيء؛ فإن الدين لله، ودون أن نستبيح لأنفسنا أن نقول كما كان يقول أنصارهم وخصومهم: هؤلاء مؤمنون وهؤلاء كافرون، وهؤلاء في منزلة بين بين، وهؤلاء في الجنة وهؤلاء في النار؛ ذلك شيء لا نخوض فيه وليس لنا أن نخوض فيه، وإنما أمره إلى الله وحده. فأما الذي إلينا فهو أن نتبين من أعمالهم وأقوالهم وسيرهم ما يلائم الحق والعدل والصواب وما لا يلائمها، وهذا في نفسه كثير، ولكن لا بد مما ليس منه بد.
فالعنصر الأول إذن من عنصري نظام الحكم في ذلك الصدر من الإسلام، وهو الضمير الديني اليقظ الحي، معرض كما رأيت لكل هذه الأخطاء، ولو قد عصم أصحاب النبي جميعا من الخطأ وأمنوا التعرض للفتنة واستقامت لهم أمورهم على ما يلائم تلك العصمة وهذا الأمن، لما كان بد من أن يتعرض أبناؤهم وحفدتهم لضروب الفتن والمحن والغرور.
فلم يكن بد إذن من أن يصل المسلمون في ذلك العصر إلى ما يمكنهم من ألا يتركوا أمورهم إلى حساب الضمير وحده، أو إلى ما بين الخليفة وبين الله، إلى ما يمكنهم من أن يضعوا النظام المقرر المكتوب الذي يبين حدود الحكم جملة وتفصيلا، ويبين للخلفاء ما يجب عليهم أن يفعلوا، وما يجب عليهم أن يتركوا، وما يجوز لهم أن يترخصوا فيه، ويبين للشعب حقوقه وواجباته مفصلة، والوسائل التي يختار بها الخليفة ويراقبه بها بعد اختباره ويعاقبه بها إن حاد عن الطريق؛ كان المسلمون في حاجة إلى أن ينشئوا لأنفسهم في حدود القرآن والسنة دستورا مكتوبا مبين الحدود والأعلام يعصمهم من الفرقة والاختلاف، ولو قد فعلوا لما تعرضوا لما تعرضوا له من الشر أيام عثمان. وانظر إلى هذا المثل الذي يقف الناس أمامه حائرين يرضى منهم الراضي ويسخط منهم الساخط؛ فقد كلم عثمان فيما أعطى لذوي قرابته من بيت المال فقال: «إن عمر كان يحرم قرابته احتسابا لله، وأنا أعطي قرابتي احتسابا لله، ومن لنا بمثل عمر؟» فقد كان عمر إذن محسنا حين كان يحرم ذوي قرابته مال المسلمين، وكان عثمان محسنا حين كان يصل أرحامه من مال المسلمين؛ لأن الله أمر أن توصل الأرحام.
فهذا كلام قد يستقيم عند الذين يحاولون أن يتأولوا في الفقه؛ فأما المصالح العامة فلا تحتمل هذا التأول، فالأموال العامة إما أن تكون للشعب فلا يحل للإمام أن يتصرف فيها إلا بإذنه، وإما أن تكون للإمام فلا يحل للشعب أن يعترض عليه إن تصرف فيها؛ فأما أن يتقرب بعض الأئمة إلى الله بحفظها على المسلمين ، وأن يتقرب بعضهم الآخر إلى الله بصلة رحمه منها؛ فهذا شيء لا يستقيم. وواضح أنا نذهب في ذلك مذهب عمر؛ لأنه وحده يلائم الحق والعدل وما ينبغي للأئمة من التعفف، ويلائم فقه الأمور العامة كما نفهمه الآن.
ومثل آخر يرويه المؤرخون، وما ندري أنقف منه موقف الإعجاب أم نقف منه موقف العجب؟ فقد قال عثمان لخصومه حين اشتد عليه الحصار: «إن رأيتم في كتاب الله أن تضعوا رجلي في القيد فافعلوا.» أقال هذا معتبا لهم نازلا عند حكم الله في كتابه؟ وإذن فأين هذا الحكم الذي يبيح للمسلمين أن يضعوا رجلي إمامهم في القيد؟ أم قال هذا متحديا؛ لأنه يعلم أن ليس في كتاب الله نص يبيح للمسلمين أن يضعوا رجلي إمامهم في القيد حين يخطئ أو حين ينحرف عن الجادة عن عمد؛ لأن القرآن لم يعرض لشيء من هذا؟ وإذن فقد كان عثمان على هذا الفرض يرى أن ليس لخصومه عليه سبيل من كتاب الله، وأن له أن يفعل ما فعل دون أن يكون قد قارف ذنبا أو تورط في إثم، ولو قد كان للمسلمين هذا النظام المكتوب لعرف المسلمون في أيام عثمان ما يأتون من ذلك وما يدعون دون أن تكون بينهم فرقة أو خلاف.
وربما كان من أوضح الأمثلة على حاجة المسلمين في ذلك الوقت إلى هذا النظام المكتوب ما يروى من أن عليا حين عرض عليه عبد الرحمن بن عوف أن يبايعه على أن يلزم الكتاب والسنة وسيرة الشيخين لا يحيد عن شيء من ذلك، أبى أن يعطي ما طلب إليه من العهد وقال: «اللهم لا، ولكن أجتهد في ذلك رأيي ما استطعت.» يريد أنه لا يستطيع أن يلتزم ما لا سبيل إلى التزامه، فالقرآن مكتوب محفوظ في الصدور، ولكنه لم يعرض لسياسة الحكم في تفصيلها ووقائعها اليومية.
وسنة النبي معروفة في جملتها، ولكن منها ما يجهله الحاضر ويحفظه الغائب، ومنها ما ذهب مع من ذهب من أصحاب النبي فيما كان من حرب الردة والفتوح، وسيرة الشيخين كسنة النبي؛ منها المعلوم ومنها ما قد يكون النسيان عرض له، ولعلي بعد الحق كل الحق في أن يخالف عن سيرة الشيخين إن تغير الزمن أو رأى في المخالفة عن هذه السيرة منفعة للرعية ونصحا للمسلمين، فلما عرض عبد الرحمن هذا العهد على عثمان قبله وأعطى مثله وقال: «اللهم نعم!» يريد أنه سيجتهد في إنفاذ كتاب الله وسنة نبيه وسيرة الشيخين، وأنه متى اجتهد في ذلك مخلصا فقد التزم الكتاب والسنة ونهج الشيخين. وقد أصاب علي ما في ذلك شك، ولم يبعد عثمان، ولكن انظر إلى ما حدث بعد أن مضت أعوام على إمرة عثمان: ذهب في أموال المسلمين مذهبا مخالفا لمذهب عمر وسيرته؛ فأما الذين بايعوه على التزام هذه السيرة فيما التزم فقد رأوا أنه خالف عنها ولم يف بالعهد كاملا، وأما هو فرأى أنه لم يخالف بحال من الأحوال؛ لأن قوام سيرة عمر إنما هو التقرب إلى الله، وهو قد وصل رحمه تقربا إلى الله، فهو يتقرب إلى الله كما كان عمر وأبو بكر يفعلان، ولا عليه أن تختلف وسائل هذا التقرب إلى الله. ولو قد كان للمسلمين في ذلك الوقت نظام مكتوب بين الحدود واضح الأعلام، لما أبى علي أن يبايع على هذا الدستور، ولما احتاج عثمان إلى أن يبايع ثم يتأول، ولما انقسم الناس بعد ذلك فريقين: فريقا يشتد ويتحرج كما تحرج علي ومن لاموا عثمان، وفريقا يتأول كما تأول عثمان.
نعم، ولكن ينبغي ألا ننسى أن عمر قد قتل سنة ثلاث وعشرين للهجرة، أي قبل أن يمضي على الهجرة وتأسيس الدولة ربع قرن، وأن هذه المدة القصيرة لم تنفق في حياة هادئة مطمئنة قد استقرت فيها الأمور وفرغ فيها البال، وإنما أنفق منها عشرة أعوام في حمل العرب على الإسلام، ثم أنفق منها عام وبعض عام في رد العرب إلى الإسلام بعد أن انتقضوا عليه، ثم أنفق سائرها في دفع العرب إلى نشر الإسلام في أقطار الأرض: في الإدالة من الفرس، وإخراج الروم من الشام ومصر، ثم في تمصير الأمصار وتجنيد الأجناد، ووضع النظم الأولى لسياسة الحرب والسلم، وللإدارة خارج بلاد العرب وداخل بلاد العرب؛ فليس من العدل ولا من الإنصاف أن يقال إن المسلمين في صدرهم ذاك قد قصروا أو تخلفوا أو تركوا ما كان يمكن أن يفعلوا دون أن يفعلوه.
فإذا أضفت إلى ذلك أن الشيخين إنما كانا يبتكران ما كانا يقبلان عليه من تنظيم أمور الحكم ابتكارا في هذه البيئة العربية البدوية التي لم تكن لها سابقة ذات خطر في الإدارة أو السياسة أو الحضارة بوجه عام، ثم لم يكونا يبتكران فحسب، وإنما كانا يسوسان قوما لم يتعودوا أن يساسوا، ويحضران قوما لم يتحضروا من قبل، عرفت أن من الشطط أن يقال إن الشيخين لم يضعا للمسلمين من النظم السياسية ما كان ينبغي أن يضعا. وقد كان عمر رحمه الله يجتهد في ذلك ما وسعه الاجتهاد، لا يكاد يعرف من نظم الأمم التي سبقت إلى الحضارة شيئا إلا استقصاه واستخلص منه ما يلائم المزاج العربي، وما يلائم الإسلام، وما يلائم هذه الدولة الناشئة التي أسرعت إلى النمو والانتشار إسراعا عظيما سبقت به تفكير المفكرين وتدبير المدبرين.
أما العنصر الثاني من عناصر هذا النظام السياسي، وهو هذه الأرستقراطية الممتازة من أصحاب النبي؛ فقد كان بطبعه معرضا للزوال حين يمضي الزمن ويبلغ الكتاب أجله، وتنشأ أجيال جديدة ليس لها ما كان لهذا الجيل من الامتياز. وقد كان من الطبيعي أن يوضع لهذه الأجيال النظام الذي يعلمها كيف تختار خلفاءها وكيف تراقبهم وتحاسبهم وتعاقبهم إن تعرضوا لما يقتضي العقاب. ولو قد وضع هذا النظام لما تفرق أمر المسلمين بعد مقتل عثمان على النحو الذي عرفه التاريخ، ولما ذهب فريق من المسلمين مذهب المحافظة الهوجاء على سنة النبي والشيخين: وهم الخوارج، وفريق آخر مذهب المحافظة على أن تكون الإمامة في آل بيت النبي، وفريق ثالث على أن تستحيل الخلافة ملكا قيصريا أو كسرويا، وفريق رابع إلى أن يكون الأمر شورى بين المسلمين دون أن يعرفوا لهذه الشورى نظاما ولا حدودا. ولكن ما قلناه بالقياس إلى العنصر الأول نقوله بالقياس إلى هذا العنصر الثاني؛ فلم يتح للشيخين وأصحابهما من الوقت ولا من الفراغ والدعة ولا من التطور والاتصال بأسباب الحضارة ما كان من شأنه أن يمكنهم من وضع هذا النظام. إنما السبيل على الذين جاءوا بعدهم فأتيحت لهم السعة والدعة والفراغ، ولم يفكروا مع ذلك لا في أن يضعوا نظاما لتداول الحكم، ولا في أن يضعوا نظاما يكفل رعاية العدل السياسي والاجتماعي، وإنما أهملوا ذلك إهمالا وآثروا أنفسهم بالحكم والغلب والاستعلاء.
وبعد فهؤلاء أيضا خليقون ألا يلاموا؛ فقد ينبغي أن نسأل أنفسنا: متى عرف العالم وضع الدساتير؟ وقد ينبغي أن نلاحظ أن وضع النظم السياسية المكتوبة ذات الأعلام الواضحة والحدود البينة ظاهرة حديثة لم يكد العالم يعرفها إلا في عصور متأخرة جدا، وأنا أعلم أن قد كانت للمدن اليونانية القديمة نظم سياسية مكتوبة، وأعرف كذلك أن قد كانت لروما نظم سياسية مقررة؛ ولكني أعرف أن الملك في الشرق والغرب قد ألغى هذه الدساتير وباعد بينها وبين الناس، حتى نسيتها الإنسانية نسيانا يوشك أن يكون تاما، ولم تستكشفها إلا قليلا قليلا بعد النهضة في هذا العصر الحديث.
على أن من الحق أن نلاحظ شيئا أشرت إليه في بعض هذا الحديث، وهو أن عمر رحمه الله قد كان يلقى عماله وأهل أقاليمه في الموسم من كل عام، فيسمع من العمال في أمر الرعية، ويسمع من الرعية في أمر العمال. وقد جعل هذا نظاما مقررا، فكان يحج بالناس طول خلافته ليلقى المسلمين في موسمهم؛ لا نستثني من ذلك إلا العام الأول لخلافته، فلو قد مدت أسباب الحياة لعمر لكان من الممكن، وهو من نعرف في حدة الذكاء وتوقد الذهن ونفاذ البصيرة وبعد الرأي والنصح للمسلمين، أن يتطور هذا الاجتماع الموسمي بين عمال الأقاليم والحجيج من أهل هذه الأقاليم إلى نظام ثابت إلا يكن هو النظام البرلماني الذي عرفه القدماء أو الذي استنبطه المحدثون، فهو قريب منه قربا شديدا. ولم يكن عمر رحمه الله يكتفي بهذا الاجتماع الموسمي، وإنما كان يستقصي أمور الناس ما وسعه الاستقصاء: يستقصي ذلك بنفسه في المدينة وما حولها وحين يلقى أهل الأقاليم في موسم الحج، ويستقصي ذلك بوساطة عماله وأمنائه الذين كان يرسلهم بين حين وحين لتتبع أمور العمال، ويستقصي ذلك بما كان يرفع إليه من أمور الناس؛ يرفعه إليه العمال حينا والرعية أحيانا، ثم كان رحمه الله يفكر في آخر أيامه في زيارات تفتيشية للأقاليم؛ فكان يتحدث بأن لو عاش لتنقل فأقام في كل مصر شهرين، ويرى بنفسه كيف يعمل الولاة وكيف رضا الرعية عما يعملون، ولكن الموت أعجله عن هذا كله، ولم يكد رحمه الله يوارى في قبره مع صاحبيه حتى سلكت سياسة المسلمين طريقا غير الطريق التي سلكوها.
وقد يكون من الإنصاف إذا أردنا أن نستوفي هذا البحث أن نلاحظ سياسة عمر لهذه الطبقة الممتازة من أصحاب النبي، فهو قد أمسكها في المدينة كما قلنا آنفا؛ لم يأذن لها في أن تتفرق في الأرض، خوفا عليها وخوفا منها. فكان راشدا في هذه السياسة كل الرشد، ولم لا نسمي الأشياء بأسمائها؟ أو لم لا نترجمها بلغة العصر الحديث فنقول إن عمر إنما أمسك هذه الطبقة الممتازة في المدينة ضنا بها وضنا بالمسلمين على ما نسميه في هذه الأيام باستغلال النفوذ؛ فقد استقامت أمور المسلمين وأمور هذه الطبقة نفسها ما أمسكها عمر في المدينة ووقفها عند حدود معينة من الحركة والاضطراب، فلما تولى عثمان وخلى بينها وبين الطريق لم تلبث الفتنة أن ملأت الأرض شرا، لا لأن هذه الطبقة أرادت الشر أو عمدت إليه، بل لأنها استكثرت من المال والأنصار من جهة، ولأن الناس افتتنوا بها من جهة أخرى، فكان لكل واحد من زعمائها مواليه وأنصاره وشيعته. ولم يكن عمر يحب أن يعطي من أموال المسلمين فلانا أو فلانا صلة منه له أو عناية منه به أو تألفا منه إياه، وإنما كان يفرض لكل واحد منهم ومن الناس عطاء ويبيح لهم ما باح الله لهم من الاكتساب، لا يضيق عليهم في ذلك إلا بهذا المقدار الذي عرفناه. فلما استخلف عثمان لم يفتح لهم الطريق إلى الأقاليم فحسب، وإنما وصلهم أيضا بالصلات الضخمة من بيت المال، فيقال إنه أعطى الزبير ذات يوم ستمائة ألف، وأعطى طلحة ذات يوم مائتي ألف، وإذا كثر المال على هذا النحو لفريق بعينه من الناس، وأتيح لهم أن يشتروا الضياع في الأقاليم، ويتخذوا الدور في الأمصار، ويتخذوا القصور في الحجاز، ويستكثروا من الموالي والأتباع والأشياع في كل مكان؛ فقد فتحت لهم أبواب الفتنة على مصاريعها، وكان من أعسر العسر عليهم أن يتجنبوا الولوج في هذه الأبواب، وقد تجنبها منها متجنبون: تجنبها سعد بن أبي وقاص الذي لم يشارك في فتنة وإنما اعتزل الناس حين أخذهم الشر، وتجنبها عبد الرحمن بن عوف الذي يقال إنه ندم على ما كان من اختياره لعثمان، والذي أقام في دار الهجرة مصرفا تجارته في الأقاليم متصدقا بكثير من ريعه، كما كان يفعل أيام النبي وأيام الشيخين، وتجنبها علي رحمه الله، فلم نعلم أنه اتجر أو اتخذ الضياع والدور في الأقاليم، وإنما أقام في المدينة حيث بوأه رسول الله، وكان له مال في ينبع يذهب إليه من حين إلى حين، ولكن لعلي قصة أخرى كما يقول القائلون.
ومغزى هذا كله أن عمر قد حمى هذه الطبقة الممتازة، وحمى المسلمين من استغلال النفوذ، وأمسك عليهم جميعا دينهم، وحال بينهم جميعا وبين الفتنة، واتخذ من خاصة أصحاب النبي مجلسا يوشك أن يكون مجلس شوراه، ولو مد له في العيش لكان خليقا أن يضطرهم إلى أن يرضوا بهذه المنزلة فيكونوا أصحاب الحل والعقد؛ يشيرون على الخلفاء دون أن يدخلوا في أمور الحكم التفصيلية من قريب أو بعيد.
فهذه واحدة، والثانية أن عمر رحمه الله حين أحس أنه ميت قد اقتدى بالنبي فلم يستخلف شخصا بعينه، واقتدى بأبي بكر فلم يترك المسلمين دون أن يشير عليهم وينصح لهم؛ فاختار أصحاب الشورى لمكانهم من رضا النبي عنهم، ولمكانهم من زعامة المهاجرين ، ولمكانهم من زعامة قريش، ثم لمكانهم من رضا المسلمين عنهم وثقة المسلمين بهم، ثم ترك لهم أن يختاروا من بينهم خليفة.
وسنرى أن نظام الشورى هذا كما وضعه عمر لم يكن كافيا ولا مقنعا، ولكن المهم هو أن عمر فكر في الشورى واتخذها أصلا لاختيار الخلفاء، وليس هذا بالشيء القليل. ولا ينبغي أن ننسى أن عمر إنما وضع نظام الشورى هذا بعد أن طعن؛ وضعه في هذا الوقت الذي كان يخرج فيه من الدنيا ويدخل فيه إلى الآخرة، ويعاني فيه ما يعاني المطعون من الألم، ويعاني فيه ما يعاني المشرف على الموت حين يكون له ضمير يقظ حي دقيق كضمير عمر من خوف الله، والإشفاق من حسابه، ومن حساب نفسه على ما قدم بين يديه من الجليل والخطير، ثم يعاني فيه بعد ذلك ما يعاني من تدبير أمر نفسه وأهله والاحتياط لهم من أن يحتملوا من الأعباء مثل ما احتمل، والاحتياط لنفسه من أن يلقى الله وفي ذمته شيء من مال المسلمين، ثم هو يعاني بعد هذا كله ما يعاني من التفكير في الاحتياط لقبره؛ فقد كان حريصا على أن يدفن مع صاحبيه، وعلى أن يدفن معهما بإذن من عائشة صاحبة البيت الذي دفن فيه، وعلى أن يطمئن إلى أنها قد أذنت له في ذلك قبل أن يموت، وعلى أن يطمئن إلى أن عبد الله بن عمر سيستأذن عائشة في إدخاله بيتها بعد أن يموت - في أثناء هذا كله فكر عمر في نظام الشورى، فاحتاط للمسلمين ما وسعه الاحتياط.
وكان المسلمون خليقين بعد أن مات عمر، وبعد أن اختاروا خليفتهم أن يفكروا في نظام الشورى هذا، فيقيموه على أساس ثابت مضطرد متين، يؤمنهم الفرقة أولا، ويؤمنهم أن تعجل الأحداث خليفتهم عن أن يعهد لهم كما عهد أبو بكر، وعن أن يشير عليهم كما أشار عمر. ولكن الغريب أنهم لم يفكروا في شيء من ذلك، وإنما استخلف عثمان، فلم يكد يستخلف حتى زاد في العطاء، ويسر على الناس ما كان عسر عليهم عمر، وأذن لهم فتفرقوا في الأرض، ثم أذن لهم فاستكثروا من المال والأنصار.
ونظن أن هذا الحديث الذي قد تراه طويلا، وما أراه إلا قصيرا مسرفا في القصر، قد مهد لما ينبغي أن نعرض له الآن من الحديث عن عثمان، وما أثير في خلافته من فتنة، وما أثير حوله من جدال. وما نظن إلا أن هذا الحديث، على طوله فيما قد ترى وعلى قصره فيما أرى، يدل منذ الآن على أن الأحداث التي حدثت والنتائج التي ترتبت عليها كانت أكبر وأوسع وأضخم من الأشخاص الذين شاركوا فيها من قريب أو بعيد؛ فما ينبغي أن يلام فيها هذا أو ذاك، وإنما ينبغي أن تلام فيها الظروف إن كان من الممكن أو من المعقول أن تلام الظروف.
الفصل الرابع
وعثمان كغيره من أصحاب النبي: ذهب الصدر الأول من حياتهم في الجاهلية على التاريخ، فلم يكد يحفظ منه شيئا، ولم يخلقهم الإسلام خلقا جديدا من حيث حياة نفوسهم وعقولهم وقلوبهم فحسب، وإنما خلقهم خلقا جديدا في تاريخهم أيضا؛ فجب ما كان من حياتهم قبل أن يسلموا، حتى كأنهم ولدوا حين أسلموا. وكان يقال إن عثمان ولد في العام السادس بعد وقعة الفيل، وكان يقال كذلك إنه ولد بالطائف؛ ولعل هذا كل ما حفظ من تاريخه الأول على غير ثقة من الذين رووه. وليس أدل على ذلك من الاختلاف في سنه حين قتل؛ فقد كان قوم يرون أنه قتل وهو ابن خمس وسبعين سنة، وكان قوم آخرون يرون أنه قتل وهو ابن تسعين أو ثمان وثمانين أو ست وثمانين سنة، وكان آخرون يرجحون أنه قتل في الثانية أو الثالثة والثمانين من عمره. ولو أنهم عرفوا تاريخ مولده بالضبط لما اختلفوا في سنه هذا الاختلاف، بل لما قال قائل منهم: إنه قتل وهو ابن ثلاث وستين سنة؛ يريد بذلك أن يلحقه بالنبي وخليفتيه، فقد اختارهم الله لجواره في هذه السن، مع بعض الاختلاف في ذلك بالقياس إلى عمر.
ولا يعلم الرواة من أمر عثمان في جاهليته إلا نسبه، فهو ابن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي. فهو يلتقي مع النبي في عبد مناف من قبل أبيه، ولكنه يلتقي مع النبي من قبل أمه لقاء أقرب من هذا؛ فأمه أروى بنت كريز، وأم أروى هي البيضاء بنت عبد المطلب بن هاشم؛ فقد كانت أروى إذن بنت عمة النبي.
وقد تعلق الأمويون فيما بعد على علي وأصحابه من بني هاشم بهذه الرحم، فلاموا عليا لأنه خذل ابن عمته وابن عمه، وهو ابن عمته لما رأيت، وهو ابن عمه لالتقائه مع بني عبد المطلب في عبد مناف الذي ولد هاشما جد الهاشميين وعبد شمس جد الأمويين. وكان عفان، كما كان أبوه، وكما كان بنو أمية جميعا، بل بنو عبد شمس، بل كثرة قريش، صاحب تجارة يخرج فيها إلى الشام. وقد مات في إحدى خرجاته وترك لابنه ثراء حسنا. وذهب عثمان مذهب أبيه، بل مذهب قومه جميعا في التجارة، فأفاد منها مالا كثيرا.
وعاد من الشام ذات يوم، فسمع بالدعوة الجديدة التي كان النبي قد أخذ يدعوها: سمع بذلك في أهل بيته في حديث طويل يرويه المحدثون وأصحاب السير؛ فقد زعموا أن خالته سعدى أنبأته بأمر النبي ورغبته فيه، وكانت كاهنة، وزعموا كذلك أنه أنبئ بأمر النبي أثناء عودته من الشام مع طلحة بن عبيد الله. سمع وهو بين النائم واليقظان مناديا ينبئ بخروج أحمد في مكة، فلما عاد إلى مكة أنبئ النبأ فوقع في قلبه منه شيء. والذي يتفق عليه الرواة هو أنه لقي أبا بكر فتحدث إليه وسمع منه، ودعاه أبو بكر إلى الإسلام فمال قلبه إليه. ثم صحب أبا بكر إلى النبي، فدعاه النبي ووعظه، فاستجاب له ولم يقم عنه إلا بعد أن أسلم. ويقال إن طلحة أسلم معه في ذلك المجلس، ويقال إنهما أسلما، في أثر الزبير بن العوام. ومهما يكن من شيء فقد كان عثمان من السابقين إلى الإسلام؛ كان أحد العشرة الرابعة من الرجال الذين سبقوا إليه، وكان إسلامه قبل أن يستقر النبي بدعوته في دار الأرقم.
ثم أصهر عثمان إلى النبي فتزوج ابنته رقية، وأصبح بعد هذا الصهر من أقرب الناس إليه وآثرهم عنده، ثم كانت المحنة؛ أصابته كما أصابت غيره من المسلمين، فقد قيل: إن عمه الحكم بن أبي العاص لما علم بإسلامه عنفه تعنيفا شديدا وأوثقه، وأقسم لا يضع عنه وثاقه حتى يعود إلى دين آبائه، فلما رأى تشدد عثمان في دينه رد إليه حريته. ويقال كذلك إن أمه أعرضت عنه إعراضا شديدا، فلما لم يغن عنها ذلك شيئا ثابت إليه. ولما أذن النبي لأصحابه في الهجرة إلى الحبشة هاجر عثمان ومعه زوجه، ثم عاد بها، ثم هاجر معها الهجرة الثانية إلى الحبشة أيضا، ثم هاجر إلى المدينة حين اتخذها النبي للإسلام دارا، فلما خرج النبي بأصحابه إلى بدر لم يخرج معه عثمان؛ كانت زوجه رقية مريضة فأقام على تمريضها، وأنزل الله نصره على المسلمين يوم بدر، فأسهم له النبي مع الذين شهدوا الموقعة وعده منهم. وماتت رقية فجزع لموتها جزعا شديدا لانقطاع الصهر بموتها بينه وبين النبي، ولكن النبي زوجه أختها أم كلثوم، فلم تلبث عنده إلا قليلا حتى ماتت.
وقال النبي فيما يروي أصحاب السير: لو كانت عندنا أخرى لزوجناها عثمان. وكانت رقية قد ولدت له عبد الله، ولكنه مات في السادسة من عمره. وكذلك كاد عثمان أن يعقب من إحدى بنات النبي، ولو قد عاش ابنه عبد الله لكان له ولأبيه شأن أي شأن، ولكان أمره غير بعيد من أمر الحسن والحسين ابني فاطمة، رحمهم الله جميعا.
وشهد عثمان مع النبي أحدا، ولكنه لم يثبت مع القلة التي ثبتت معه، وإنما فر مع كثرة المسلمين التي تولت، فأنزل الله عفوه عنها في الآية الكريمة:
إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم .
ثم شهد المشاهد كلها مع رسول الله كما شهدها غيره من كبار أصحابه ، ولكنه كان كريما سخي النفس واليد بماله في سبيل الله، فعل من ذلك ما لم يفعله غيره من أغنياء المسلمين حينئذ، فهو اشترى بئر رومة من ماله بألوف كثيرة وجعلها للمسلمين يدلي فيها كما يدلون، ووعده النبي بخير منها في الجنة. وهو كذلك اشترى أرضا وسع بها النبي المسجد حين ضاق بالناس ووعده النبي خيرا منها في الجنة، فلما كانت غزوة تبوك واشتد العسر وندب النبي الناس إلى الإنفاق في سبيل الله، قام عثمان بتجهيز الجيش، فقيل: إنه حمل المسلمين على ما احتاجوا أن يحملوا عليه من الإبل والخيل، وقيل: إنه أقبل بألف دينار فوضعها في حجر النبي واستعان النبي بها على تجهيز الجيش، ودعا لعثمان أن يغفر له الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر ووعده بالجنة.
وكان عثمان أبر الناس بالناس، وأرفق المسلمين بالمسلمين وأحرصهم على صلة الرحم وأسخاهم يدا وأسمحهم نفسا وأعظمهم حلما، وكانت الخصلة التي ميزه بها النبي فيما روى المحدثون وأصحاب السير، صدق الحياء، وكان النبي يقول: إن الملائكة لتستحيي من عثمان. وكان النبي يلقى أصحابه متفضلا غير متكلف، فإذا أذن لعثمان احتشم وقال: كيف لا نستحيي من رجل تستحيي منه الملائكة. وكان النبي يعلل احتشامه حين يأذن لعثمان بأنه إن لم يفعل استحيا عثمان أن يثبت بين يديه وأن يبلغه حاجته ويأخذ حظه من التحدث إليه. ولما كان يوم الحديبية اختار النبي عثمان سفيرا إلى قريش؛ لمكانه من بني أمية، ولمنزلته من قريش، وللينه وسماحة خلقه وحسن تأتيه لما كان يراد من الأمر، فلما جاء الخبر إلى النبي بأن قريشا قد كادت لعثمان، بايع أصحابه على الجهاد لنصره، وأنزل الله في ذلك قرآنا:
إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما ، وبايع النبي بإحدى يديه عن عثمان. وقد روى المحدثون وأصحاب السير أحاديث كثيرة، منها الصحيح الظاهر الصحة، ومنها الموضوع الذي يظهر وضعه، ومنها ما يتعرض لشك قليل أو كثير، وكلها تحدث بأن عثمان كان عند النبي محببا إلى نفسه مقربا إليه بين المقربين إليه من خاصة أصحابه، وبأن النبي قد بشر عثمان بالجنة غير مرة، وأنبأه برضا الله عنه غير مرة أيضا. وقد تحدث عبد الله بن عمر رحمه الله بأن المسلمين كانوا في أيام النبي يقدمون أبا بكر وعمر وعثمان، ثم لا يفاضلون بين أصحاب رسول الله؛ فهؤلاء النفر الثلاثة - إن صح هذا الحديث - كانوا في طليعة أصحاب النبي في أيام النبي نفسه. ومهما يكن من شيء فقد كان السلف يسمون عشرة ضمن النبي لهم الجنة، وهم: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وسعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبد الله والزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف وأبو عبيدة بن الجراح وسعيد بن زيد بن نفيل.
فقد كان عثمان إذن أحد هؤلاء العشرة، وليس من المسلمين إلا من عرف لعثمان سابقته في الإسلام، وإصهاره إلى النبي مرتين، وحسن بلائه في الجهاد بنفسه وماله في سبيل الله.
ولما انتقل النبي إلى جوار ربه، وكانت البيعة لأبي بكر، كان عثمان من الذين أسرعوا إلى هذه البيعة ونصحوا للخليفة، وهو الذي كتب عهد أبي بكر إلى المسلمين باستخلاف عمر؛ أملى أبو بكر وكتب عثمان، ويقال إن أبا بكر أخذته أثناء الإملاء إغماءة وقد وصل إلى قوله: «إني استخلفت عليكم»، فأتم عثمان جملة أبي بكر وسمى عمر، فلما أفاق أبو بكر من غشيته طلب إلى عثمان أن يقرأ عليه ما أملى، فقرأ حتى أتى على اسم عمر، فكبر أبو بكر وجزاه خيرا عن الإسلام والمسلمين وقال: خشيت ألا أفيق فسبقت إلى ما أريد، وإنك لها لأهل. فلما بويع عمر كان عثمان من أول الذين بايعوه، وأنفق أيامه ناصحا له مشيرا عليه، حتى إذا طعن عمر وطلب إليه المسلمون أن يعهد لهم، لم يرد أن يعهد ولم يرد أن يتركهم بغير مشورة عليهم، فاقترح عليهم نظام الشورى وجعلها في هؤلاء الستة الذين مات النبي وهو عنهم راض، ولم يرد أن يضم إليهم ابن عمه سعيد بن زيد بن نفيل، مع أنه من العشرة الذين كان الناس يرون أن رسول الله قد ضمن لهم الجنة؛ لأنه كره أن تكون الخلافة في عدي مرتين، ولم يحضره الشورى لأنه خاف أن يميل إليه بعض أهل الشورى لرضا النبي عنه ولمكانه من عمر. وأحضر ابنه عبد الله الشورى ولم يجعل له من الأمر شيئا؛ لأنه كره أن يليها من آل الخطاب رجلان من جهة، ولأنه كان يرى في ابنه ضعفا عن النهوض بأعباء الخلافة من جهة أخرى.
وأحسب أن أبا بكر لو عمر وأدرك ما أتيح لعمر أن يدرك من الفتح واتساع رقعة الدولة وتشعب أمورها وتعقد المصالح فيها، وهذه المشكلات الكثيرة الخطيرة التي كانت تنشأ في كل يوم، يتصل بعضها بشئون السياسة، ويتصل بعضها بشئون الإدارة، ويتصل بعضها بالمحافظة على حقائق الدين ودقائقه مع هذا التطور العنيف الذي كان يطرأ على أمور المسلمين بين يوم ويوم - أقول: لو قد عمر أبو بكر وشهد من هذا كله ما شهد عمر، لكان خليقا أن يقف الموقف الذي وقفه عمر وأن يتردد بين الاستخلاف وترك الاستخلاف كما تردد. ولعله كان خليقا أن يقترح نظاما يشبه النظام الذي اقترحه عمر لانتخاب الخليفة شبها قويا أو ضعيفا، فقد مات أبو بكر رحمه الله وأمر المسلمين قريب من حالهم التي تركهم عليها النبي: قد أعاد العرب إلى الإسلام بعد أن ارتدت عنه، ثم رمى بها إلى الأقطار الخارجية فبدأت الفتح ولكنها لم تمعن فيه. أما في أيام عمر فقد بدأ المسلمون سيرة جديدة من كل وجه؛ أمعنوا في الفتح إمعانا عظيما، فأخرجوا الروم من الشام والجزيرة ومصر، ونقضوا سلطان الفرس في بلادهم نقضا، احتلوا جزءا عظيما جدا من هذه البلاد، ونظروا فإذا هم مضطرون بحكم الإمعان في الفتح إلى أن يزدادوا فيه إمعانا، يشددون ضغطهم على الروم حتى يخرجوا من الساحل الشرقي للبحر الأبيض، وحتى ينشئوا بينهم وبينهم حدودا يمكن الاطمئنان إليها، بل حتى يبلغوا قسطنطينية ويزيلوا ملك الروم كما أزالوا ملك الفرس، ثم ليمضوا في فتحهم بلاد الفرس حتى يحسموا أمرهم حسما، وحتى يبعدوا حدود الدولة في الشرق إلى أقصى ما كان يمكن أن تصل إليه الجيوش، وقد اضطرهم هذا إلى أن تكون لهم سياسة حربية مستقرة مطردة تلائم التوسع في الفتح والانتشار في الأرض؛ فقد يجب أن ينشئوا لهذا الفتح المتصل أداته الدائمة، وهي الجيوش التي تمضي للغاية التي رسمت لها، وهذه الجيوش يجب أن تأتلف من هذه المادة الغريبة التي لم تألف الحرب المنظمة بعد، من هؤلاء العرب البادين الذين عرفوا الغارات وأتقنوها، ولكنهم لم يعرفوا مقابلة الجيوش المنظمة المدربة في أرض لا علم لهم بها ولا خبرة لهم بما يكون فيها من المصاعب والعقاب.
ونحن نقرأ تاريخ الفتح الإسلامي فنعجب به، ويبهرنا ما أتيح للعرب فيه من قوة وسرعة ومضاء، ثم نريح أنفسنا من البحث والتحليل والاستقصاء، فنرد أمر هذا كله إلى تصديق الوعد الذي قدمه الله للمسلمين في القرآن، وإلى الإيمان الذي استقر في قلوب المسلمين فدفعهم إلى مواجهة المصاعب عن ثقة بالله واطمئنان إلى تصديق وعده وإنزال نصره عليهم في المواطن كلها.
وما من شك في أن هذا كله حق، وفي أن المسلمين قد اندفعوا إلى فتوحهم بهذا الإيمان القوي الذي يقهر المصاعب، ويذلل العقبات ويحل المشكلات. ولكن لكل شيء أسبابه ووسائله، وهذه الأسباب والوسائل قد احتاجت إلى كثير من الجهد، وإلى كثير من التدبير والتقدير وإعمال الرأي لتجتمع هذه القلوب المفترقة أولا، ولتندفع إلى مغامراتها خارج بلاد العرب ثانيا، ولتهاجم هذه القوى الهائلة المنظمة بقوى هائلة منظمة أيضا؛ فلم يكن من الأمور السهلة ولا من المشكلات اليسيرة، إنشاء هذه الجيوش القوية الضخمة المنظمة التي رمى أبو بكر وعمر بها أقطار العالم القديم، ولم يكن من السهل ولا من الهين إمساك هذه الجيوش في مواقفها بعد المواقع وبعد الانتصار أعواما متصلة، مع ما نعلم من عادة العرب في غاراتها وحروبها القديمة؛ فقد كانت تحارب لتنتصر وتغنم، ثم لتعود بعد ذلك مسرعة إلى منازلها فتنعم بالغنيمة والسلم. فأما أن تقدم على حرب تعرف أولها ولا ترى آخرها، وهي بعد ذلك لا تشبه ما ألفت من حروبها في الجاهلية ومن غزواتها مع النبي، بل من حروبها أيام الردة؛ فهذا هو الشيء الجديد الذي احتاج إلى جهد لا نكاد نتصوره. وقد بذل عمر وأصحابه وقادته هذا الجهد مقدمين غير محجمين، وحازمين غير مترددين؛ فكتب لهم ما تمنوا من التوفيق، ويكفي أن نتصور تمصير الأمصار وإنزال الجيوش فيها وتنظيم المناوبات بين هذه الجيوش التي استقرت في هذه الأمصار، وأن نتصور أن هذه الجيوش قد ألفت من قوم بادين لم يألفوا الحضارة أو لم يألف كثير منهم الحضارة - يكفي أن نتصور هذا كله لنقدر بعض المشكلات الحربية الخطيرة التي نفذ منها عمر وأصحابه نفوذا حقا.
ونحن كذلك نقرأ في التاريخ تدوين الدواوين، فنمر به مسرعين معجبين، ولو قد وقفنا عنده وقفة قصيرة وتبينا أن هذه الكلمة القصيرة لا تدل على أقل من إحصاء دقيق للمحاربين وقبائلهم ومنازلهم من هذه القبائل وأسرهم التي يعولونها أو ينبغي أن تعولها الدولة عنهم - لو قد فعلنا هذا لعرفنا أن هذا التجديد الخطير في حياة أمة بادية لم تعرف من قبل كتابا ولا حسابا ولا إحصاء؛ لم يكن من الأشياء الهينة التي يمر الناس بها مسرعين. فإذا صحبنا هذه الجيوش في مسيرها إلى الحرب، ثم في استقرارها بالأمصار بعد أن كانت المصادمات الكبرى بينها وبين جيوش الفرس والروم، ثم فكرنا في هذا النظام الرائع الذي وضعه عمر عن استشارة أصحابه لتنظيم المناوبة بين هذه الجيوش المستقرة في الأمصار بحيث لا يغيب الرجل في الغزو أو في الحرب العاملة عن أهله أكثر من ستة أشهر، حتى أصبح التجمير - وهو تجاوز هذه المدة بالمحاربين - إثما لا يصح للسلطان أن يتورط فيه - عرفنا مقدار ما كان ينبغي للخليفة وأعوانه أن ينفقوا من الجهود المادية والمعنوية المتصلة الملحة ليواجهوا مشكلات السياسة الحربية.
ولم تكن مشكلات هذه السياسة وحدها هي التي تشغل الخليفة وأعوانه ومشيريه؛ فقد كانت هناك مشكلات إدارية ليست أقل منها خطرا ولا أهون منها شأنا، فهذه البلاد التي فتحت على المسلمين كانت بلادا لها سابقة في الحضارة، وتفوق في العمران، ولها نظمها المألوفة التي تتباين فيما بينها بتباين الأقطار والأقاليم. ولم يكن بد لهذه البلاد من أن تدار بعد الفتح كما كانت تدار قبل الفتح، فلم يكن الفتح الإسلامي فتح تخريب وتدمير، وإنما فتح تأمين وتعمير، ولم يكن من الممكن أن يصبح العرب فجأة مهرة في الإدارة متقنين للسياسة قادرين على أن يكفوا عن أنفسهم شر المغلوبين من ورائهم، ويؤمنوا هؤلاء المغلوبين على أنفسهم وأموالهم ومرافقهم، ويأخذوا من هؤلاء المغلوبين ما يمكنهم من إقرار الأمن والمضي في الحرب والاتساع في الفتح، فلم يكن لهم بد إذن من أن يحتفظوا بالإدارات التي وجدوها في تلك البلاد حين أخضعوها لسلطانهم، ومن أن يراقبوا هذه الإدارات مراقبة دقيقة متصلة تكفيهم ما يمكن أن تقدم عليه من غش لهم أو مكر بهم أو تأليب عليهم، وليس شيء من هذا كله بالأمر اليسير.
ثم هناك مشكلات أخرى تتصل ببلاد العرب نفسها؛ فقد ينبغي للسلطان أن يجد السياسة التي يضبط بها هذا الشعب البادي الذي لم يألف الطاعة ولم يتعود الخضوع، وأن يضبطه في الوقت الذي يأخذه فيه شبابه وأولي القوة من رجاله؛ ليرسلهم إلى أماكن نائية قد يعودون منها وقد لا يعودون. ونحن نقرأ في غير مشقة أنباء التعبئة العامة حين تفرضها الظروف على هذا الشعب الحديث أو ذاك، فنعجب لذلك ونعجب به. ولكنا لا نتعمق في دقائق التعبئة العامة ومشكلاتها، ولا نقدر أن لهذه التعبئة في الشعوب الحديثة نظما مقررة متقنة لم ترتجل ارتجالا، وإنما صنعت صنعا بعد التجربة الدقيقة والمراس الطويل، فكيف بأمة بادية ليس لها في الحروب العظيمة سنة، وليس لها بالتعبئة المنظمة عهد، وإنما هي تواجه هذا كله للمرة الأولى من غير تجربة ولا مغالاة ولا معاناة ولا اختبار!
هذه ألوان يسيرة من المشكلات التي واجهت عمر، وكانت خليقة أن تواجه أبا بكر لو مدت له أسباب الحياة، وكان من الطبيعي أن تواجه الخلفاء الذين يأتون بعد عمر. فأي غرابة في أن يشقى عمر بخلافته شقاء عظيما! وأي غرابة في أن يحزم أمره ويمضي عزمه ويشمر عن جد هائل فلا ينام ولا ينيم! ثم أي غرابة بعد ذلك في أن يلتمس بين أصحابه ومعاصريه من يستطيع أن يعهد إليه بمواجهة هذه المشكلات وما هو أعسر منها عسرا وأشد منها تعقيدا، فلا يكاد يظفر به أو يطمئن إليه!
والمشكلة بعد ذلك ليست مشكلة إدارة وسياسة وحرب ليس غير، ولكنها مشكلة تتعقد بهذا التراث الديني الذي يجب أن يقوم الخليفة عليه ليحميه ويحفظه ويصونه، ويمضي به في الطريق التي مضى فيها النبي بأمر من ربه. فلو قد كان الأمر أمر فتوح وإدارة وسياسة ليس غير، لمضى فيها العرب كما مضى غيرهم من الأمم التي خرجت من البداوة إلى الحضارة، ومن الضعف إلى القوة، ومن الخضوع إلى التسلط والاستعلاء؛ ولكن الأمر أمر فتح في حدود معينة قد رسمها الإسلام، وقوامها رفع المغلوبين إلى مكانة الغالبين بإذاعة العدل الكامل الشامل فيهم من جهة، وبينهم وبين الذين قهروهم من جهة أخرى؛ فلم يكن الفتح كما صوره الإسلام وكما تصوره النبي وصاحباه فتح تغلب وجباية، وإنما كان فتح إصلاح وهداية.
فلم يكن بد للخليفة إذن من أن يجمع إلى كفايته في أمور السياسة والإدارة والحرب كفاية أخرى هي أشق منها مشقة وأعسر منها عسرا، وهي الكفاية في حماية الدين وحياطته وصيانته من أن يكيد له المغلوب أو يستغله الغالب أو يفتر فيه القائمون عليه الذين يجب عليهم ألا يخشوا في حياطته لومة لائم مهما يكن.
أضف إلى هذا كله تراثا آخر لم يكن بد لعمر من أن يفكر فيه ومن أن يلائم بينه وبين مصالح الناس وحقائق الدين، وهو هذه الأرستقراطية الجديدة التي أتيحت للعرب في هذه الطبقة الممتازة من أصحاب النبي أولا، وفي هؤلاء القواد المظفرين ثانيا: أرستقراطية جاءت من الدين لفريق من الناس، وأرستقراطية جاءت من الدنيا لفريق آخر، وأرستقراطية جاءت من الدين والدنيا جميعا لفريق ثالث.
هذا الصحابي الذي سبق إلى الإسلام، وهاجر الهجرتين، وشهد المشاهد مع النبي، ثم أقام بعد ذلك في المدينة، له أرستقراطيته الدينية. وهذا القرشي أو العربي الذي أسلم بأخرة ثم أبلى في الفتح بلاء حسنا وامتاز بين الفاتحين، له أرستقراطيته الدنيوية. وهذا الصحابي الذي سبق إلى الإسلام وهاجر لله ولرسوله وشهد المشاهد مع النبي وامتاز بعد ذلك في الفتح، له أرستقراطية الدين والدنيا جميعا. ولا بد للخليفة إن أراد أن يعهد ويستخلف من أن يلائم بين هذه المصالح المختلفة، ويخرج من هذه المشكلات المعضلات إلى حل يرضي مصالح الدين والدنيا وآراء الناس في أنفسهم وفي نظرائهم. فليس العجيب ألا يستخلف عمر، وليس العجيب أن يتردد حين يطلب إليه الاستخلاف؛ وإنما العجيب هو نقيض هذا، وقد اجتهد عمر ما وسعه الاجتهاد، واجتهد في أيام حرج وضيق، وأعجله الموت عن أن يطيل التفكير ويشاور من حوله من كبار الصحابة وزعماء المسلمين.
وما من شك في أن النظام الذي وضعه للشورى قد كان نظاما لا يخلو من نقص، ولعله لا يخلو من نقص شديد، وأول ما نلاحظه على هذا النظام ضيق مجلس الشورى؛ فقد ائتلف هذا المجلس من سبعة أحدهم يشير وليس له في الأمر شيء: وهو عبد الله بن عمر، فكان هو المشير الوحيد الذي لا مطمع له في شيء، ولم يكد المشيرون يجتمعون حتى تبينوا الآفة الخطيرة التي كانت توشك أن تذهب بمجلسهم غير مذهب، وهي أن ستة منهم كانوا مشيرين، وكانوا جميعا مرشحين للخلافة، فلم يكن لهم بد من أن يحملوا أنفسهم على ما لم تتعود النفوس أن تحمل عليه، لا لأنهم كانوا يؤثرون أنفسهم بالسلطان حبا للسلطان وحده، بل لأنهم كانوا يؤثرون أنفسهم بالسلطان نصحا للإسلام والمسلمين. يرى كل واحد منهم مخلصا أنه أقدر على احتمال العبء وأجدر أن يرعى ما ينبغي له من حق، وقد فوجئ المسلمون الذين كلفوا حراسة هؤلاء المشيرين مفاجأة أليمة حين رأوا هؤلاء المشيرين يختلفون في غير ائتلاف ، ويتنافسون في غير وفاق، حتى قال أبو طلحة رئيس الحرس: لقد كنت من أن تدافعوها أخوف مني من أن تنافسوها.
كان رحمه الله في سذاجته وطهارة قلبه يرى - كما كان يرى عمر - أن الخلافة عبء ثقيل ينبغي ألا يطمع فيه، بل ينبغي أن يرغب الرجل عنه إيثارا للعافية في دينه ودنياه، ولكن المشيرين لم يكونوا يرون هذا الرأي، وإنما كانوا يرون أن الخلافة واجب يجب أن يتنافس المتنافسون في النهوض بأعبائه مهما تثقل، تقربا لله إن حسنت بهم الظنون، ويجب أن تحسن بهم الظنون، ورفقا بالناس إن صدقت فيهم الآراء، ويجب أن تصدق فيهم الآراء. وكان أسرع المشيرين إلى التنبه لهذه الآفة ومحاولة الطب له، عبد الرحمن بن عوف؛ فقد عرض على أصحابه أن يخلع أحدهم نفسه من الأمر وأن يختار بعد ذلك للمسلمين، فأسكتوا جميعا، أو قل أسكت منهم أربعة، هم: علي وعثمان وسعد والزبير، ولم يسكت طلحة ولم يتكلم لأنه كان غائبا لم يحضر الشورى، فلما رأى عبد الرحمن أنهم قد أسكتوا، وأنهم لا تطيب نفس واحد منهم عن هذا الأمر، خلع هو نفسه منه على أن يختار للمسلمين من هؤلاء الخمسة ناصحا لله وللمؤمنين. ولم يكن من اليسير أن يرضى الأربعة منه بما عرض عليهم؛ فقد كان علي يخاف أن يميل عبد الرحمن إلى عثمان لصهر كان بينهما، وكان غير علي يخاف أن يميل عبد الرحمن إلى سعد لقرابة كانت بينهما، ولكن القوم تعاطوا العهود والمواثيق على ألا يألو عبد الرحمن المسلمين نصحا، وعلى ألا يميل مع الهوى ولا يتأثر بقرابة أو صهر، وعلى أن يقبل القوم من يختاره لهم من بينهم.
ولو قد وسع عمر مجلس الشورى وأكثر فيه من أمثال عبد الله بن عمر من أولئك الذين يحضرون الشورى ويشاركون فيها ولا يكون لهم من الأمر شيء؛ لكان من الممكن ألا يتعرض مجلس الشورى لما تعرض له من الشك والاختلاف. وأكاد أعتقد أن الخير قد كان يكون لو تصور عمر مجلس الشورى لا على أنه مجلس مؤلف من المرشحين أيهم انتخب فهو خليفة، بل على أنه مجلس مؤلف من المشيرين الذين تعرض عليهم أسماء هؤلاء الستة ليختاروا من بينهم رجلا يستخلفونه. ولم يخطر لعمر رحمه الله ولم يخطر للمسلمين من بعده أن الأنصار كانوا خليقين أن يشهدوا الشورى، وأن يكون لهم أن يقولوا رأيهم ويشاركوا في الاختيار بين المرشحين، فقد نعلم أن الإمامة في قريش ما دام المسلمون قد اتفقوا على ذلك، ولكن لا نعلم أن معنى هذه القاعدة أن قريشا وحدها هي التي تختار الإمام، فليس الإمام إماما لقريش وحدها ولكنه إمام للمسلمين جميعا، فالمسلمون جميعا ولاة هذا الاختيار على أنهم مقيدون بأن يكون الإمام الذي يختارونه من قريش، وقد استقر في نفوس المسلمين لذلك العهد وبعد ذلك العهد أن الاختيار إنما يكون لأهل الحل والعقد، وما نعلم أن الحل والعقد قد كانا إلى قريش وحدها أيام أبي بكر وعمر، وقد قال أبو بكر للأنصار: نحن الأمراء وأنتم الوزراء، فجعلهم من أهل الحل والعقد؛ لأن الوزراء فيما نعتقد يحلون ويعقدون. كان من الطبيعي إذن أن يشهد الأنصار مجلس الشورى ويشاركوا في اختيار الإمام، بل كان من الطبيعي أن يأتلف مجلس الشورى من جماعة تتجاوز قريشا والأنصار وتشمل قوما غيرهم من زعماء العرب وقواد المسلمين في الحرب وكبار الولاة والعمال، فلو قد ائتلف مجلس الشورى على هذا النحو لكان خليقا أن يجنب المسلمين كثيرا مما تعرضوا له من الشر.
وآفة أخرى نراها في تنظيم الشورى على هذا النحو، وهي أن سلطان المشيرين كان سلطانا موقوتا حدد له عمر ثلاثة أيام وقبل المسلمون منه هذا التحديد، وكان من الطبيعي أن يختاروا من بينهم رجلا وأن يستخلفوه، وأن يبايعه من حضر من المسلمين، وأن يكتب ببيعته إلى الأمصار، أو بعبارة أدق: أن يكتب هو ببيعته إلى الأمصار وينفذ فيها أمره ونهيه بحق الخلافة التي استمدها من هؤلاء الذين بايعوه.
ومعنى هذا كله أن أهل المدينة كانوا وحدهم بمقتضى هذا النظام هم الذين إذا بايعوا ألزموا المسلمين في جميع أقطار الأرض، وعلة ذلك أن المدينة كانت مستقر أصحاب النبي من المهاجرين والأنصار ومواطن أهل الحل والعقد، وعلة ذلك أيضا أن الانتظار الطويل في اختيار الإمام كان خليقا أن يثير القلق ويحدث الأحداث، ولكن ليس من شك في أن بعض أصحاب النبي من أولي الرأي والبصيرة كانوا قد تفرقوا في الأمصار ومواطن الحرب بأمر عمر أو عن إذنه، وكانوا خليقين لو استشيروا أن يشيروا وينصحوا.
على أن الخطر كل الخطر لا يأتي من هذه العجلة التي قد تدعو إليها المصلحة، وما نشك في أن عمر قد قدر هذه المصلحة فأحسن تقديرها، وإنما يأتي الخطر من أن هذا المجلس قد كان موقوتا ينحل متى تم اختيار الإمام، ولو قد وسع مجلس الشورى أولا وجعل نظاما دائما بعد ذلك، بحيث يصبح مجلس مراقبة للإمام في عمله من جهة، ومجلس اختيار للأئمة كلما احتاج المسلمون إلى اختيار الإمام من جهة أخرى، لكان المسلمون قد سبقوا إلى النظام البرلماني، وهم كانوا خليقين أن يسبقوا إليه، فقد رأيت من سيرة عمر أنه كان يسعى إلى هذا النظام سعيا حثيثا. ولكني أعيد ما قلته آنفا من أن عمر قد أعجل عن التفكير في هذا النظام، ولو قد مدت له الحياة لكان من الممكن جدا أن يفرغ لهذا الأمر وأن يشاور فيه، وأن ينتهي إلى نظام يشبه هذا الذي صورناه. إذن لما حدثت الأحداث، ولما نشأت هذه المشكلة الخطيرة التي نشأت بين عثمان وبين الذين ثاروا به وخرجوا عليه، وهي: أيجوز للمسلمين أن يخلعوا إمامهم إن أنكروا سيرته أم لا يجوز؟ بل أيجوز للإمام نفسه أن يخلع نفسه إن ضاقت به الرعية أم لا يجوز؟
ومهما يكن من شيء فقد جعل المشيرون أمرهم إلى عبد الرحمن ثم تفرقوا فأقاموا في بيوتهم، وجعل صهيب يصلي بالناس كما أمر بذلك عمر، وقام أبو طلحة وأصحابه على باب عبد الرحمن ينتظرون به انتهاء الأيام الثلاثة ليختار للمسلمين إماما. وقيل: إن عبد الرحمن لم يكتف بتفكيره وتقديره واستخارته الله للمسلمين ، وإنما جعل يشاور الناس يسعى إليهم ويدعوهم إليه، لا يستشير الرجال منهم خاصة، وإنما يستشير ذوات الفضل من النساء وفي طليعتهن أمهات المؤمنين، حتى إذا كان يستوفي الأيام الثلاثة أرسل إلى علي وعثمان فدعاهما إليه وخلا بهما واحدا في إثر صاحبه، وسأل عليا قائلا: أرأيتك لو لم أولك فمن تشير علي أن أختار؟ فقال له: عثمان. ثم ألقى السؤال نفسه على عثمان حين خلا به فقال: علي. وإن كان هذا موضع شك، فلم يشهد أحد ما كان من الحديث بين عبد الرحمن وصاحبيه، وعلى كل حال فقد خلا عبد الرحمن إلى صاحبيه أحدهما في إثر الآخر، ثم أمر فنودي في الناس: الصلاة جامعة، فازدحم الناس إلى المسجد حتى اكتظ بهم، وصعد عبد الرحمن إلى منبر النبي وجلس منه حيث كان النبي نفسه يجلس، وكان أبو بكر قد نزل عن مجلس النبي درجة، وكان عمر قد نزل عن مجلس أبي بكر درجة أخرى، فلما استخلف عثمان قال: إن هذا يطول، ثم جلس مجلس النبي.
رقى إذن عبد الرحمن المنبر وجلس مجلس النبي، وقد اعتم بعمامة كان النبي قد عممه بها في إحدى خرجاته، ثم وقف فأطال الوقوف، ودعا دعاء لم يسمعه الناس، ثم قال: هلم إلي يا علي، فقام علي فسعى إليه، فبسط عبد الرحمن يده فأخذ بيد علي ثم قال له: هل أنت مبايعي على كتاب الله وسنة رسوله وفعل أبي بكر وعمر؟ قال علي: اللهم لا، ولكني أحاول من ذلك جهدي وطاقتي. فأرسل يده، وقال: هلم إلي يا عثمان، فأقبل عثمان حتى وقف عند المنبر، وبسط عبد الرحمن يده، فأخذ يد عثمان وقال له: هل أنت مبايعي على كتاب الله وسنة رسوله وفعل أبي بكر وعمر؟ قال عثمان: اللهم نعم. قال عبد الرحمن: اللهم اشهد، اللهم اشهد، اللهم اشهد. ثم قام الناس فبايعوا عثمان.
وبايع علي فيمن بايع لم يتردد. ويقال إنه تردد، فقال عبد الرحمن: يا علي، لا تجعل على نفسك سبيلا، ثم تلا الآية:
فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما . فأقبل علي فبايع. وأكاد أقطع بأن عليا لم يتردد ولم يحتج إلى من يذكره بالعهد الذي أعطاه على نفسه، فعلي أوفى بالعهد وأكرم على نفسه من أن يحتاج إلى مثل هذا التنبيه، وسيرته كلها تنبئنا بذلك.
ولم ينقض هذا اليوم، وهو اليوم الأخير من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين، حتى كان عثمان إماما يستقبل بخلافته المحرم سنة أربع وعشرين في أثبت ما روى المؤرخون.
الفصل الخامس
وكان أول ما عرض لعثمان من الأحداث قبل أن يستتم اليوم الأول من أيام خلافته، قصة عبيد الله بن عمر الذي قتل الهرمزان وجفينة وبنت أبي لؤلؤة، وهي قصة امتحن بها المسلمون امتحانا عسيرا، فأبو لؤلؤة هو قاتل عمر؛ طعنه بخنجر ذي رأسين حين كان يتقدم للصلاة، فتكاثر الناس على أبي لؤلؤة فأخذوه، ولكنه قتل نفسه قبل أن يسأل في ذلك أو يجيب، وقال بعض الناس: إنه رأى أبا لؤلؤة والهرمزان، وكان قد أسلم، وجفينة وكان نصرانيا، قد خلصوا نجيا وفي أيديهم هذا الخنجر يقلبونه، فلما أقبل عليهم قاموا وسقط الخنجر من أيديهم. فلما مات عمر أقبل ابنه عبيد الله شاهرا سيفه حتى أتى الهرمزان فقتله، فيقول الرواة إنه لما أحس عض السيف قال: لا إله إلا الله. ثم أتى جفينة فقتله، فيقول الرواة إنه لما أحس الموت صلب بين عينيه. ثم أتى منزل أبي لؤلؤة فقتل ابنته، وبلغ الخبر صهيبا وكان على صلاة الناس، فأرسل إليه من يكفه من المسلمين، وقد انتهى إليه سعد بن أبي وقاص فساوره وما زال به حتى أخذ منه السيف، ثم حبس حتى يقضي الخليفة في أمره.
فلم تكد بيعة عثمان تتم حتى شاور المسلمين الذين حضروه في أمر عبيد الله هذا الذي ثأر لنفسه بنفسه وثأر لنفسه عن غير بينة، فقتل رجلا مسلما وقتل ذميين بغير الحق ودون أن يخوله السلطان قتلهما. فأما أهل البصيرة والفقه وفيهم علي فأشاروا بالقود؛ لأن عبيد الله قد تعدى حدود الله كما رأيت. وقال قوم كثير من المسلمين: يقتل عمر أمس ويقتل ابنه اليوم، وزعموا أن عمرو بن العاص قال لعثمان: قد أعفاك الله من هذه القضية، فقد حدث ما حدث وليس لك على المسلمين سلطان.
وقد اختلفت الرواة في الحكم الذي أمضاه عثمان في هذه القضية: فقوم يزعمون أن عثمان قضى بالقود ودفع عبيد الله إلى ابن الهرمزان ليقتله بأبيه. وأكثر المؤرخين يزعمون أن عثمان قال: أنا ولي الهرمزان وولي من قتل عبيد الله، وقد عفوت وأدفع دية من قتل من مالي إلى بيت مال المسلمين. وهذا أشبه بسيرة عثمان، فما كان عثمان ليستفتح خلافته بقتل فتى من فتيان قريش وابن من أبناء عمر، وما كان عثمان ليهدر دم مسلم وذميين، وهو من أجل ذلك آثر العافية، فأدى دية القتلى من ماله الخاص إلى بيت مال المسلمين، وحقن دم عبيد الله بن عمر. وفي إمضائه الحكم على هذا النحو سياسة رشيدة لو نظر الناس إلى القضية نظرة سياسية خالصة. فلم يبعد من قال من المسلمين: يقتل عمر أمس ويقتل ابنه اليوم؟! ولو قد قتل عثمان عبيد الله بن عمر في القصاص لغير على نفسه قلوب آل الخطاب خاصة وبني عدي عامة، بل لغير قلوب قريش كلها وقلوب كثير من غير قريش. ولو قد عفا ولم يعقل القتلى لفتح بابا من أبواب الفوضى لا سبيل إلى إغلاقه.
ولكن هذه القضية ليست قضية سياسية فحسب، وإنما هي قضية دين أولا، ثم قضية سياسة بعد ذلك. ومن حق الإمام أن يعفو بشرط ألا يعطل عفوه حدا من حدود الدين.
ومن هنا نفهم أن كثيرا من المسلمين المتشددين لم يرضوا عن قضاء عثمان هذا؛ فكان من الأنصار من لبث يذكر عبيد الله بقتل الهرمزان وينذره بالاقتصاص منه، وكان زياد بن لبيد البياضي كلما لقيه قال له:
ألا يا عبيد الله ما لك مهرب
ولا ملجأ من ابن أروى ولا خفر
أصبت دما والله في غير حله
حراما، وقتل الهرمزان له خطر
على غير شيء غير أن قال قائل
أتتهمون الهرمزان على عمر
فقال سفيه والحوادث جمة
نعم أتهمه قد أشار وقد أمر
وكان سلاح العبد في جوف بيته
يقلبه والأمر بالأمر يعتبر
فلما كثر ذلك من زياد شكاه عبيد الله إلى عثمان، فدعا عثمان زيادا فنهاه عن ذلك فلم ينته، وإنما قال في عثمان نفسه:
أبا عمرو عبيد الله رهن
فلا تشكك، بقتل الهرمزان
فإنك إن غفرت الجرم عنه
وأسباب الخطا فرسا رهان
لتعفو إذ عفوت بغير حق
فما لك بالذي تخلي يدان
فغضب عثمان وزجر زيادا حتى انتهى. ولكن قوما من المسلمين لم يرضوا قضاء عثمان، ويقال: إن عليا كان من هؤلاء، ويقال: إنه لو قدر على عبيد الله أثناء خلافته لأقاد منه، ولكن عبيد الله خرج مع الغاضبين لعثمان وقاتل مع معاوية بصفين فقتل هناك. والذي أسخط هؤلاء المسلمين مراعاتهم لظاهر النص القرآني أولا، وتحرجهم بعد ذلك من أن يعفى عن عبيد الله لأنه ابن خليفة، ولأنه قتل مسلما أعجميا حديث عهد بالإسلام وآخرين من أهل الذمة، ففي هذا العفو ما يشبه أن يكون تمييزا بين المسلمين، تمييزا بين العربي وهو عبيد الله، وبين الأعجمي وهو الهرمزان، والله لم يفرق بين المسلمين فيما ضمن لهم من حرمة دمائهم وأموالهم وأعراضهم مهما يكن آباؤهم ومهما تكن أجناسهم، وفي هذا العفو ما يشبه أن يكون إهدارا لدماء أهل الذمة على ما تقرر لهم في الدين من الحرمة ورعاية الحقوق، ولو ترك الأمر على هذا النحو وأبيح لأبناء الخلفاء وأمثالهم من أبناء كبار الأنصار والمهاجرين أن يثأروا لأنفسهم بأنفسهم، يتبعون في ذلك شهواتهم ونزواتهم، ولا يرفعون أمرهم إلى السلطان، ولا يقيمون البينة على أصحاب ثأرهم، لفسد الأمر وضاع العدل، وكانت الفوضى وطمست آيات الدين.
ونعود فنقول: إن عثمان كان ولي أمر المسلمين، وله بحكم هذه الولاية أن يعفو، ونزيد على ذلك أنه حين عفا لم يعطل حدا من حدود الله ولم يهدر دم الهرمزان وصاحبيه، وإنما أدى ديتهم من ماله لبيت مال المسلمين الذي كان يرثهم وحده، ولكن هذا النحو من العفو لا يخلو مما يريب المتشددين في الدين؛ فعبيد الله لم يعاقب على شيء مما أتى، وإنما احتمل العقوبة عنه عثمان حين أدى الدية من ماله هو، ولو قد عفا فحقن دم عبيد الله، ثم فرض عليه وعلى أسرته دية القتلى؛ لأقام الحد في غير ريبة، ولما استطاع أحد أن ينكر من قضائه شيئا، ولو أنه إذ أدى الدية من ماله رفقا بآل الخطاب أمسك عبيد الله في السجن تعزيرا له وتأديبا، حتى يتوب إلى الله من إثمه، ويندم على إراقة الدم في غير حقه، وعلى الاستخفاف بالسلطان استجابة للحفيظة الجاهلية - لو قد فعل ذلك لكان له مخرج من هذا الحرج، ولأعلم فتيان قريش من أمثال عبيد الله أن دماء المسلمين والذميين أعظم حرمة عند الله وعند السلطان من أن تراق بغير الحق ثم لا يعاقب من أراقها عقابا يسيرا أو خطيرا، وإنما يخلى بينه وبين الحياة يحياها آمنا، ويخلى بينه وبين طيبات الحياة يستمتع بها في غير رهب ولا خوف.
ومهما يكن من شيء فقد استقبل عثمان خلافته بهذا النحو من السياسة الذي يصور رحمته ورأفته وإيثاره للعافية، وتجنبه لما يحفظ القلوب؛ قلوب العرب خاصة، وقلوب هذه الطبقة الممتازة من المهاجرين وأبناء المهاجرين بنوع أخص، فرضي عن هذه السياسة قوم وسخط عليها آخرون، وكان بدء خلافة عثمان محاطا بشيء من هذا الشك والاختلاف. ولو قد كان عمر مكان عثمان وقدم إليه فتى من فتيان قريش مهما يكن أبوه ومهما تكن عشيرته، لقام في هذا الأمر مقام صاحب الجد الذي لا تأخذه في حدود الله لومة لائم. وما من شك في أن قضاء عثمان في هذه القضية قد رسم خلافته بما يميزها تمييزا تاما من خلافة عمر، وهو الرفق واللين.
وعلى ذلك فإن الناس لم يعجلوا بالحكم على عثمان، وما كان لهم أن يعجلوا وهم أنفسهم قد انقسموا في هذه القضية، لمكان عمر في قلوبهم، ولما كانوا يرونه من رعاية حقه في أهله وبنيه. وقد أمر النبي أن تدرأ الحدود بالشبهات، فلعل عثمان قد درأ هذا الحد عن عبيد الله بالشبهة التي تأتي من غضبه لأبيه واندفاعه مع شهوته الجامحة. والله قد حبب إلى المسلمين العفو حين يقدرون وجزاهم عليه خيرا.
وقد روى المؤرخون أن عثمان لم يكد يستقبل خلافته حتى أصدر إلى الأقاليم كتبا، منها ما وجه إلى العمال، ومنها ما وجه إلى قواد الحرب، ومنها ما وجه إلى عامة الناس. وأقل ما توصف به هذه الكتب أنها تصور السياسة التي كان عثمان يريد أن يأخذ بها المسلمين والتي أخذهم بها صدرا من خلافته، فيما يقول المؤرخون. فمن حق هذه الكتب أن تروى، وأن نقف عندها وقفة ما، لنتبين إلى أي حد تمم عثمان ما رسم لنفسه فيها من خطة.
كتب إلى عماله فيما روى الطبري في أحداث سنة أربع وعشرين للهجرة يقول: «أما بعد، فإن الله أمر الأئمة أن يكونوا رعاة، ولم يتقدم إليهم أن يكونوا جباة، وإن صدر هذه الأمة خلقوا رعاة لم يخلقوا جباة، وليوشكن أئمتكم أن يصيروا جباة ولا يكونوا رعاة. فإذا عادوا كذلك انقطع الحياء والأمانة والوفاء. ألا وإن أعدل السيرة أن تنظروا في أمور المسلمين وفيما عليهم، فتعطوهم ما لهم وتأخذوهم بما عليهم، ثم تثنوا بالذمة فتعطوهم الذي لهم وتأخذوهم بالذي عليهم، ثم العدو الذي تنتابون فاستفتحوا عليهم بالوفاء.» فهذا الكتاب الموجز اليسير الذي كتب أو أملي في غير تكلف ولا تأنق ولا تفكير في غير العدل الذي فرض على المسلمين، يأمر العمال بخصال أربع: الأولى أن يكونوا رعاة ولا يكونوا جباة، أي أن تكون غايتهم من الحكم الرفق بالمحكومين لا إغناء الحكومة، ولا إرضاء حاجة الحاكمين إلى الغنى. يلح عثمان في هذه الخصلة إلحاحا شديدا، فيكرر كلمتي الرعاة والجباة تكريرا يصور هذا الإلحاح. ولا غرابة في ذلك، فهو يريد أن يبين الغاية الأساسية التي قصد إليها الإسلام حين دفع العرب إلى الفتح، وهو الإصلاح قبل كل شيء، فليس الفتح الإسلامي كما قدمنا فتح غلب وتسلط ، وإنما هو فتح رعاية ورفق وإصلاح.
وعثمان يقرر أن الأئمة في صدر هذه الأمة كانوا رعاة لا جباة، وهؤلاء الأئمة هم النبي وأبو بكر وعمر. وهو يشفق بعد ذلك من أن يصبح الأئمة جباة لا رعاة، فينقطع الحياء وتقوم مقامه القحة التي تضيع الحق وتدفع إلى الإصرار على الباطل والاستهتار بالإثم. وتنقطع الأمانة ويقوم مقامها الغش الذي يضيع حقوق الأئمة والرعاة جميعا، ويشكك بعض الناس في بعض، ويسيء ظنون بعضهم ببعض، ويقيم الأمر بينهم على المخادعة والرياء لا على المصارحة والإخلاص. وينقطع الوفاء ويقوم مقامه الغدر الذي يدفع الناس إلى شر لا آخر له، وإلى أثرة منكرة، فلا يرعى أحد لأحد حرمة ولا يرجو أحد لأحد وقارا. ليس من شك في أن هذا الهدي هو هدي النبي وصاحبيه.
الخصلة الثانية ليست إلا تفصيلا لما تقدم فيه عثمان إلى عماله، وهي رعاية العدل فيما يكون من الصلة بين المسلمين وبين أئمتهم وأمرائهم، فلا ينبغي أن يظلم المسلمون إرضاء للحكومة، ولا ينبغي أن تظلم الحكومة إرضاء لعامة المسلمين. وإنما ينبغي أن يؤخذ من المسلمين ما عليهم وأن يرد إليهم ما لهم، فلا ظلم في الحكم، ولا إسراف على الناس في أخذ الصدقات وجباية الخراج، ولا تسلط على الناس في أي أمر من أمورهم، وإنما هو القسط الذي لا يضار فيه حاكم ولا محكوم.
والخصلة الثالثة هي الخصلة الثانية نفسها، ولكنها تخص المعاهدين من أهل الذمة؛ فهم كالمسلمين في استحقاقهم للعدل، لهم ما للمسلمين من حق، وعليهم ما على المسلمين من واجب. إذا نصحوا وأخلصوا وأوفوا بما عاهدوا عليه، فلا ينبغي أن يؤخذ منهم أكثر من الحق فيظلموا، ولا ينبغي أن يترك لهم أكثر من الحق فيقع الظلم على المسلمين.
والخصلة الرابعة تتصل بالعدو الذي يواجه عمال المسلمين في أمصارهم، وهي من أروع ما أوصى به الأئمة، لم يبتكره عثمان من عنده، ولم يكن عثمان يحب الابتكار كما سترى، وإنما اتبع فيه ما أنزل من القرآن في سورة «براءة» وفي غيرها، فهو يأمر عماله أن يستفتحوا عليهم ولكن بالوفاء. فليس لهم أن يغدروا حتى بالعدو، وإنما عليهم أن يعرضوا الدعوة فإن أجابوا إليها فذاك، وإن يعرضوا الصلح فإن أجابوا إليه فذاك، وإن لم يجيبوا أذنوا على سواء.
فهذه السياسة التي رسمها عثمان لعماله هي نفس السياسة التي نزل بها القرآن ورسمها الأئمة قبل عثمان لأنفسهم وللمسلمين. وكتب عثمان إلى عماله على الخراج: «أما بعد، فإن الله خلق الخلق بالحق، فلا يقبل إلا الحق، خذوا الحق وأعطوا الحق، والأمانة الأمانة؛ قوموا عليها، ولا تكونوا أول من يسلبها فتكونوا شركاء من بعدكم إلى ما اكتسبتم. والوفاء الوفاء، ولا تظلموا اليتيم ولا المعاهد؛ فإن الله خصم لمن ظلمهم.»
وهذا الكتاب الذي يمتاز بإيجازه الرائع يلح فيما ألح فيه الكتاب الأول، ويحرص على ما حرص عليه، ولكنه يؤدي ذلك في شيء من القوة والشدة لا نكاد نجدهما في كتابه الأول؛ فالله قد خلق الخلق بالحق فهو لا يقبل إلا الحق، فما ينبغي للأئمة والعمال إلا أن يتقربوا إلى الله بما يحب، فيأخذوا الحق لا يزيدون عليه ولا ينقصون منه، ويعطوا الحق لا يضيفون إليه ولا ينحرفون عنه. وإذا لزموا الحق على هذا النحو، فأول ما يجب عليهم أن يرعوه إنما هي الأمانة فيما يجبون من الناس، وفيما ينفقون على مرافقهم، وفيما يؤدون بعد ذلك إلى الإمام لينفق في المرافق العامة للدولة كلها. وعثمان يحذر عمال الخراج من أن يكونوا أول من ينحرف عن الأمانة فيحملوا إثم انحرافهم عنها وإثم من يذهب بعدهم مذهبهم في هذا الانحراف. ثم يأمرهم عثمان بعد الأمانة بالوفاء، ويشدد عليهم فيه كما شدد عليهم في الأمانة، ثم ينهاهم عن ظلم اليتامى وأهل الذمة، ويحذرهم عقاب الله الذي هو خصم لمن ظلمهم.
وهذه السياسة أيضا هي التي أنزلها الله في القرآن وسار عليها النبي وصاحباه من بعده، فعثمان لا يزيد في هذا الكتاب كما لم يزد في الكتاب الأول على الوفاء بما بايع عليه عبد الرحمن بن عوف من كتاب الله وسنة رسوله وفعل أبي بكر وعمر. وكتب عثمان إلى أمراء الحرب في الثغور: «أما بعد، فإنكم حماة المسلمين وذادتهم، وقد وضع لكم عمر ما لم يغب عنا بل كان عن ملأ منا. ولا يبلغني عن أحد منكم تغيير ولا تبديل، فيغير الله ما بكم ويستبدل بكم غيركم. فانظروا كيف تكونون، فإني أنظر فيما ألزمني الله النظر فيه والقيام عليه.»
فانظر إلى ما في هذا الكتاب من الشدة والحزم اللذين يلائمان ما ينبغي أن يكتب إلى أمراء الحرب. وانظر بنوع خاص إلى التزام عثمان سيرة عمر فيما رسم لأمراء الحرب من نظام؛ لأن عمر لم يرسم هذا النظام إلا عن ملأ من المسلمين من المهاجرين والأنصار، وقد حضر عثمان رسم هذا النظام وشارك فيه بالرأي والمشورة، وهو يعزم على الأمراء ألا يغيروا ولا يبدلوا مما رسم عمر شيئا، وينذرهم بالعزل والعقوبة إن غيروا أو بدلوا؛ لأنه مكلف أن ينظر فيما ألزمه الله النظر فيه والقيام عليه. فعثمان إذن محافظ على سيرة عمر في الإدارة وفي سياسة المال وفي سياسة الحرب. وهو كذلك محافظ على سياسة عمر فيما كان يأخذ به عامة المسلمين من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتزام السنة الموروثة واجتناب التكلف والابتداع. يشهد بذلك كتابه الذي أصدره ليقرأ على الناس في الأمصار والأقاليم، وهو: «أما بعد، فإنكم إنما بلغتم ما بلغتم بالاقتداء والاتباع، فلا تلفتنكم الدنيا عن أمركم؛ فإن أمر هذه الأمة صائر إلى الابتداع بعد اجتماع ثلاث فيكم: تكامل النعم، وبلوغ أولادكم من السبايا، وقراءة الأعراب والأعاجم القرآن. فإن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قال: الكفر في العجمة، فإذا استعجم عليهم أمر تكلفوا وابتدعوا.»
فعثمان في هذا الكتاب ليس أقل محافظة من عمر على السنة الموروثة، وليس أقل تهيبا من عمر للابتداع والتكلف؛ فهو ينبه المسلمين إلى أنهم لم يبلغوا ما بلغوا من سعة الفتح وضخامة السلطان إلا بالاقتداء والاتباع، وهو يحذرهم من أن تلفتهم الدنيا عن أمرهم، ويخاف عليهم ثلاثة أشياء: أن يبطرهم تكامل النعم وازدياد حظهم بين يوم ويوم من الرخاء وبسطة العيش، وأن يفسد عليهم أمرهم بلوغ أولادهم من السبايا؛ فهذا الجيل الناشئ الذي لم يخلص دمه للعرب، وإنما امتزج بدمه العربي دم الأمهات الأجنبيات، خليق أن يؤثر الابتداع والتجديد على الاقتداء والاتباع، الثالث أن يدخل على الدين ما ليس منه، وأن يشاب العلم السمح اليسير بالجهل والتكلف اللذين يأتيان من إقبال الأعراب والأعاجم على الإسلام وقراءتهم للقرآن، وعجزهم بعد ذلك عن أن يفهموا النص على وجهه، واضطرارهم بعد ذلك إلى التكلف والتزيد. وما أعرف أن أحدا صور الآفات التي تعرض المسلمون لها بعد الفتح كما صورها عثمان في هذا الكتاب؛ فقد كثرت النعمة، فتعرض المسلمون للبطر والأشر والطمع، ونشأ هذا الجيل المولد، فكان التكلف والابتداع والتجديد وركوب الأحداث العظام. وأقبل على الإسلام قوم لم يفقهوا القرآن على وجهه، فكان الإسراف في التهاون من جهة، والإسراف في التشدد من جهة أخرى، وضاع الحق أو كاد يضيع بين المتهاونين والمتشددين.
وهؤلاء العمال الذين كتب إليهم عثمان إنما كانوا عمال عمر أقرهم عثمان على أعمالهم عاما بوصية من عمر نفسه، ولم يكن أرشد من هذه التوصية ولا أدنى منها إلى الحزم والرفق جميعا، فقد أشفق عمر من أن يتعجل الإمام بعده الاستمتاع بالسلطان، فيعزل ويولي ويقطع بذلك ما استأنف العمال من أعمالهم، ويضطرب لذلك أمر المسلمين في الأمصار والثغور. وقد أجاز عثمان هذه الوصية والتزمها، وألزم العمال في عهده أو في العام الأول من عهده السياسية التي كان عمر يأخذهم بها، وهؤلاء هم العمال الذين وجدهم عثمان على أعمالهم فاحتملهم عاما كاملا، وعلق سلطانه في الولاية والعزل تعليقا أثناء هذا العام.
فقد كان على مكة نافع بن عبد الحارث الخزاعي وهو غير قرشي كما ترى، وكان على الطائف سفيان بن عبد الله الثقفي وهو أيضا غير قرشي، والطائف مدينة ثقيف، وعلى صنعاء يعلى بن منية وليس قرشيا صليبة وإنما هو حليف لبني نوفل بن عبد مناف، وعلى الجند عبد الله بن أبي ربيعة وهو قرشي من مخزوم، وعلى الكوفة المغيرة بن شعبة وهو ثقفي، وعلى البصرة أبو موسى الأشعري وليس قرشيا ولا مضريا ولا عدنانيا، وإنما هو يمني، وعلى مصر عمرو بن العاص وهو قرشي من بني سهم، وعلى حمص عمير بن سعد وهو أنصاري، وعلى دمشق معاوية بن أبي سفيان وهو قرشي من بني أمية، وعلى فلسطين عبد الرحمن بن علقمة وهو كناني، وعلى البحرين وما والاها عثمان بن أبي العاص الثقفي.
فكثرة هؤلاء العمال كما ترى ليست من قريش، وليس فيهم واحد من عدي رهط عمر. ولم يقصر عمر توليته على المضرية ولا على العدنانية، وإنما اختار عماله من العرب الذين حسن إسلامهم وثبتت له كفايتهم، وكان يراقبهم كما علمت في أمور الدين والدنيا جميعا. فلم يكن للعصبية إذن أثرها فيما كان عمر يمارس من التولية والعزل.
وقد وجد عثمان هؤلاء العمال على أمصارهم وولاياتهم، ووجد الوصية بإبقائهم في مناصبهم، ففعل ولم يباشر تولية ولا عزلا في العام الأول من خلافته، ولكنه باشر ما عدا ذلك من شئون السلطان العامة، وأول ما فعل من ذلك، بعد القضاء في أمر عبيد الله بن عمر والهرمزان، وبعد إصدار ما أصدر من الكتب إلى عمال الصلاة والخراج والحرب وإلى عامة المسلمين، زيادته في أعطيات الناس؛ فقد زاد الناس في أعطياتهم مائة مائة؟ ولم يكن قد طرأ ما يوجب هذه الزيادة بين موت عمر واستخلافه، أي في أيام لا تكاد تبلغ الأسبوع، فقد أراد عثمان بهذه الزيادة إذن أن يستهل خلافته بالتوسعة على الناس. ولست أدري أكان عثمان خليقا أن يفعل هذا وأن يحمل بيت المال هذه النفقات يقتطعها من الإنفاق على المرافق العامة دون أن يطرأ على الناس ما يزيد حاجتهم إلى رفع العطاء، أو دون أن يطرأ على بيت المال من الدخل ما يدعو الخليفة إلى أن يوسع على الناس من فضوله.
وأقل ما توصف به هذه الزيادة أن فيها شيئا ولو يسيرا من الانحراف عن سياسة عمر في الإبقاء على بيت المال، وفي ألا ينفق منه إلا بمقدار الحاجة إلى الإنفاق. وقد يكون في هذه الزيادة ما يكاد يشعر بأن عثمان كان يرى تشددا في سياسة عمر المالية، وكان ينكر هذا التشدد فيما بينه وبين نفسه، وكان يرى أن في بيت المال ما يسع الناس أكثر مما وسعهم أيام عمر؛ فهو نقد غير مباشر لسيرة عمر في سياسة بيت المال.
وما لنا لا نسمي الأشياء بأسمائها ولا نقول إن عثمان قد تقرب بهذه السياسة الجديدة إلى عامة الناس، وتقرب إليهم على حسابهم؛ فبيت المال لم يكن بيت مال الخليفة، وإنما كان بيت مال المسلمين. وواضح جدا أن عثمان لم يتجاوز حقه في ذلك، فما دام المسلمون قد عرفوا للخليفة الحق في أن يفرض لهم العطاء، فهم يعرفون له الحق في أن ينقص هذا العطاء إن اقتضت سياسة بيت المال نقصه، وأن يزيد هذا العطاء إن وجد في بيت المال سعة. ولكن من الواضح أيضا أن هذه الزيادة من العطاء قد فتحت بابا لم يكن إلى إغلاقه من سبيل، فما دام الخليفة يستطيع أن يوسع على الناس، فالتوسعة على الناس لا حد لها. وهو إذا وسع على عامة الناس اليوم فقد يستطيع أن يوسع على خاصتهم غدا. وما هي إلا أن ينشأ الإيثار وتكون المحاباة، وينشأ في أثرهما التنافس والتزاحم والتطامع إلى أموال العامة. وقد كان عثمان سخيا بماله ينفق منه بغير حساب في سبيل الله، وينفق منه بغير حساب في صلة الرحم وبر الأصدقاء. وليس عليه في ذلك حرج ولا جناح، بل له في ذلك ثواب الله وحسن جزائه. ولكن مال عثمان لم يكن يسع عامة الناس، فلم يكن يستطيع أن يزيد عطاءهم من صلب ماله، فليزد عطاءهم من أموالهم، وليفتح على نفسه وعلى الناس بابا يعرفون كيف يدخلون منه، ولكنهم لا يعرفون كيف يخرجون.
فليس صحيحا إذن أن عثمان قد لزم سيرة عمر لزوما دقيقا في الصدر الأول من خلافته؛ فليس في زيادة العطاء فجاءة - لا لشيء إلا لأنه تولى الخلافة - لزوم سيرة عمر. وطبيعي ألا ينكر الناس على عثمان زيادته في أعطياتهم؛ فهو قد برهم بهذه الزيادة ووسع عليهم في الرزق. والناس لا يكرهون أن يزاد حظهم من الخير، بل طبيعي أن يتنفس الناس الصعداء حين يتولى عثمان أمورهم ويبدأ خلافته بزيادة العطاء، فيعفيهم من شدة عمر، ويأخذهم بالسعة، لا أقول بعد الضيق - فلم يكن عمر يضيق على المسلمين في العطاء - وإنما أقول يأخذهم بالسعة الواسعة بعد أن كان عمر يأخذهم بالسعة المقتصدة. وقد كان عمر يتمثل فيما يظهر في كل لحظة من لحظات حياته هذه الآية الكريمة من القرآن:
ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا .
ثم لم يكتف عثمان بزيادة العطاء، وإنما وفد الأمصار لأول مرة فيما يقول المؤرخون. ومعنى ذلك أنه دعا الأمصار إلى أن توفد إليه وفودها للعطاء والإجازة، فكان هذا توسعا في الإنفاق لم يكن عمر يعمد إليه أو يفكر فيه. وكان عمر قد جعل للناس من أهل المدينة عطاء خاصا: درهما درهما في كل يوم من أيام الصوم، ولأزواج النبي درهمين درهمين، يوسعون بها العطاء على أنفسهم وعلى عيالهم، وفضل عمر ذلك على إطعام الناس على الموائد العامة؛ إذ رأى في خطته تلك رعاية لكرامتهم وتيسيرا لهم فيما يحبون من البر بمن يعولون. فلما استخلف عثمان وأقبل شهر الصوم أجرى العطاء الذي كان يجريه عمر، ولكنه مد الموائد بعد ذلك للطارئين وذوي الحاجة.
وما من شك في أن هذا إمعان في البر والرفق، ولكن ما من شك أيضا أن في هذا إطماعا للناس في الأموال العامة، وإغواء لكثير منهم بالتزيد في الانتفاع بهذه الأموال. فليس كل الناس قادرا على أن يتعفف فلا يغشى الموائد العامة إلا حين لا يكون له من غشيانها بد، بل إن كثيرا من الناس لا يكرهون أن يضيفوا عطاء الصوم إلى عطائهم العام ثم يغشون بعد ذلك الموائد العامة فيطعمون كما يطعم الطارئون وذوو الحاجات.
كل هذا كان توسعة من عثمان على الناس قد يكون فيها الخير، ولكنها لا تخلو من بعض ما يخاف على السياسة والأخلاق جميعا. ثم هي لا تخلو مما يدعو إلى شيء من سوء الظن بل من سوء الحديث، فمن ذا الذي كان يستطيع أن يمنع النقاد من أن يقولوا لأنفسهم ويقولوا للناس إن في هذه التوسعة نوعا من أنواع الإذاعة يتحبب بها الإمام إلى رعيته ليكتسب قلوبهم بهذا السخاء؟
على أن سخاء عثمان لم يقف عند هذا الحد؛ إذ لم تكد الأيام تتقدم بخلافته حتى أخذ يصل الأعلام من أصحاب النبي بالصلات فوق ما كان لهم من العطاء المفروض. فهو فيما يروي ابن سعد، قد وصل الزبير بن العوام بستمائة ألف، ووصل طلحة بمائتي ألف ونزل له عن دين كان عنده. ويقول ابن سعد إن الزبير حين قبض هذه الصلة جعل يسأل عن خير المال ليستغل صلته، فدل على اتخاذ الدور في الأمصار والأقاليم.
ولم يقف عثمان عند هذا الحد من تجاوز سيرة عمر في سياسته العامة، وإنما خالف عن هذه السيرة مخالفة أشد من هذا كله خطرا، فأذن لكبار الصحابة في أن يتفرقوا في الأرض ويخرجوا من الحجاز ويلموا بالأقاليم، وكان عمر يحبسهم في المدينة ويأبى عليهم الخروج إلى الأقاليم إلا بإذن خاص منه. وكان يقول إنه واقف لقريش بشعاب الحرة فآخذ بحجزها فحائل بينها وبين الفتنة. فقد ألغى عثمان هذا الحجر.
وإذا زاد عثمان في العطاء، ثم تجاوز ذلك إلى الجوائز والصلات، ثم أذن لأصحاب هذه الجوائز والصلات أن يتفرقوا في الأرض ويتصلوا بالجند الغالبين وبالرعية المغلوبين، فأي غرابة في أن يعظم ثراء هؤلاء الناس من جهة، ويكثر أتباعهم وأشياعهم من جهة أخرى، ويصبح كل واحد منهم رئيس حزب من الأحزاب يراه أحق الناس بولاية أمور المسلمين، وينتهز الفرصة ليمكنه من ولاية أمور المسلمين؟
ما عسى أن يكون مصدر هذا الانحراف عن سيرة عمر وأبي بكر في العمل بعد أن التزمها عثمان في كتبه التي رويناها آنفا؟ الشيء المحقق هو أن عثمان لم يدهن في دينه، والشيء المحقق أيضا هو أن عثمان لم ير في سياسته تلك مخالفة خطيرة أو غير خطيرة لسيرة الشيخين؛ فهو لم يتعمد الجور ولا المحاباة، وإنما وسع على الناس من أموالهم، رأى في بيت المال غنى فآثر الناس به ولم يغل في الادخار. وأي حرج في أن يصل أصحاب النبي بشيء من هذا المال قليل أو كثير وهم أئمة الإسلام وبناة الدولة وأصحاب البلاء الحسن أيام النبي، وهم قد احتملوا من الشدة والحرمان شيئا كثيرا. وقد صدق الله وعده وأكثر الخير، فأي الناس أحق من هؤلاء المهاجرين أن يستمتعوا بشيء من هذا الخير الكثير؟!
نعم، لم يشك عثمان في أنه لم يخالف عن السنة الموروثة، وإنما جرى على طبعه السخي من جهة، ووسع على المسلمين من جهة أخرى، ووصل أصحاب رسول الله من جهة ثالثة. وليس في شيء من ذلك مأثم، وإنما هو الخير والبر والمعروف.
ولم ير الناس - فيما يظهر - بشيء من ذلك بأسا، خير جاءهم فلم يكرهوه ولم يردوه. وليس منهم من يرى بأسا بأن يوصل السابقون الأولون من المهاجرين وذوو المكانة من أصحاب النبي. وأحسب أن عثمان لو وقف عند هذا الحد من السخاء والتوسعة على الناس وإجزال الصلات للأعلام من أصحاب النبي، لما أنكر الناس عليه شيئا. وهذا هو السر الذي يفسر ما يقول المؤرخون مجمعين عليه غير مختلفين فيه من أن الصدر الأول من خلافة عثمان كان صدر رضا وطمأنينة، ومن أن المسلمين أحبوا خلافة عثمان للينها ويسرها وسخائها وإسماحها أكثر مما أحبوا سياسة عمر لشدتها وقسوتها وحزمها الذي كان يحتاج إلى كثير من الصبر وحمل النفوس على ما لا تطيق إلا بالجهد والعنف العنيف.
وقد يكون من الخير أن ندع عثمان في العام الأول أو في الأعوام الأولى من خلافته يباشر سياسته هذه اليسيرة السمحة التي حببته إلى الناس، وأن ننظر إلى هؤلاء الناس الذين تألفهم عثمان بهذه السياسة الرقيقة الرفيقة، لنرى أكان من الممكن أن يتألفوا بهذه السياسة دون أن ينتهي أمرهم إلى الاختلاط والانتشار.
الفصل السادس
تحدث الطبري عن السري عن شعيب عن سيف عن عمارة بن القعقاع عن الحسن البصري قال: «كان عمر بن الخطاب قد حجر على أعلام قريش من المهاجرين الخروج في البلدان إلا بإذن وأجل، فشكوه، فبلغه فقام فقال: ألا إني قد سننت الإسلام سن البعير، يبدأ فيكون جذعا ثم ثنيا ثم رباعيا ثم سديسا بازلا. ألا فهل ينتظر بالبازل إلا النقصان؛ ألا فإن الإسلام قد بزل، ألا وإن قريشا يريدون أن يتخذوا مال الله معونات دون عباده، ألا فأما وابن الخطاب حي فلا؛ إني قائم دون شعب الحرة آخذ بحلاقيم قريش وحجزها أن يتهافتوا في النار.»
قال الطبري متحدثا عن السري عن شعيب عن سيف عن محمد وطلحة قالا: «فلما ولي عثمان لم يأخذهم بالذي كان يأخذهم به عمر، فانساحوا في البلاد، فلما رأوها ورأوا الدنيا ورآهم الناس، انقطع من لم يكن له طول ولا مزية في الإسلام، فكان مغمورا في الدنيا وصاروا أوزاعا إليهم وأملوهم وتقدموا في ذلك، فقالوا يملكون فنكون قد عرفناهم وتقدمنا في التقرب والانقطاع إليهم، فكان ذلك أول وهن دخل على الإسلام وأول فتنة كانت في العامة ليس إلا ذلك.»
وتحدث الطبري أيضا عن السري عن شعيب عن سيف بن عمر وعن الشعبي قالا: «لم يمت عمر رضي الله عنه حتى ملته قريش، وقد كان حصرهم بالمدينة فامتنع عليهم، وقال: إن أخوف ما أخاف على هذه الأمة انتشاركم في البلاد. فإن كان الرجل ليستأذنه في الغزو وهو ممن حبس بالمدينة من المهاجرين - ولم يكن فعل ذلك بغيرهم من أهل مكة - فيقول: قد كان لك في غزوك مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم
ما يبلغك، وخير لك من الغزو اليوم ألا ترى الدنيا ولا تراك. فلما ولي عثمان خلى عنهم فاضطربوا في البلاد وانقطع إليهم الناس، فكان أحب إليهم من عمر.»
1
فنريد أن نبدأ من رعية عثمان بقريش، وأن نترجم إلى لغتنا الحديثة ما روي من سيرة عمر فيها؛ فعمر لم يخف الفتنة من أحد كما خافها من قريش، ولم يخف الفتنة على أحد كما خافها على قريش؛ لأنه كان يعرف هذا الحي من العرب حق المعرفة، وكان يعرف بنوع خاص مواطن القوة القوية فيه كما كان يعرف مواطن الضعف الضعيف. فقد كانت قريش التي نشأ فيها عمر قبل أن تدعى إلى الإسلام ممتازة بالقوة والضعف جميعا، وكانت قوتها تأتيها من مكانها حول البيت، واستئثارها بمناسك الحج تقيمها للعرب وتتسلط عليهم بها وتتحكم عليهم فيها، وترى لنفسها بذلك امتيازا لا يشاركها فيه غيرها من الناس؛ فهي تزعم لنفسها أرستقراطية متفوقة. وقد اعترف لها العرب بهذه الأرستقراطية في جملتهم، لا لتفوقها في الحرب ولا لتسلطها بقوة السيف، فلم تكن قريش قبيلة محاربة، بل لاستئثارها بأمر الدين وامتيازها في الجليل والخطير منه. ثم كانت القوة تأتيها من تجارتها الضخمة التي تفوقت على كل تجارة في العرب أو التي تسلطت على كل تجارة في العرب. أتاح لها ذلك أمنها في الحرم واستقرارها حول البيت، ومنحها ذلك من الذكاء والدهاء ونفاذ البصيرة وبعد الهمة ما لم يتح لغيرها من قبائل العرب لا نستثني منها إلا ثقيفا. فقد كانت قريش صلة بين الشرق البعيد والشرق القريب في التجارة، وكانت بذلك صلة بين الشرق والغرب، أو قل بين الروم والهند. وقد أفادت من ذلك مالا كثيرا، وأفادت من التجربة أكثر مما أفادت من المال. وعلمتها كثرة المال الحرص وحسن المحافظة ودقة التدبير والبراعة في الاستثمار، وعلمتها التجربة المتصلة وممارسة الأمم المختلفة وزيارة الأقطار النائية مهارة في مواجهة المشكلات والنفوذ منها والتغلب عليها؛ فكانت قبيلة ماهرة ماكرة أمكر العرب وأمهرهم من غير شك.
وقد دفعها هذا كله إلى بعد الهمة وامتداد أسباب الطمع إلى غير حد، والصبر على المكروه حتى تظهر عليه، والسخر من العقاب حتى تذللها، بل دفعها هذا كله إلى ما هو أشد من ذلك خطرا، وهو ازدراء القيم المقررة، والاستهزاء بما تواضع الناس عليه من العقائد والتقاليد، واستباحة كل شيء في سبيل المنفعة القريبة والبعيدة، وسعة الحيلة التي أتاحت لها أن تظهر للعرب أمينة على الدين، وليست من الدين في شيء. فقد كان السادة من قريش على أقل تقدير ينظرون إلى الدين على أنه وسيلة لا غاية، وإلى هذه الأوثان المنصوبة على أنها أسباب لكسب الرزق وبسط السلطان لا أكثر ولا أقل. وكان السيد من قريش رجلا أثرا شديد الطمع بعيد الهم عظيم المكر داهية، كلما حزبته المشكلات عرف كيف يستقبل ما حزب من الأمر، وكيف يخرج منه سالما معافى موفورا.
عرف عمر هذا كله في قريش، فلم تستطع أن تخدعه عن نفسها، بل لم يستطع إقبالها على الإسلام وإذعانها لسلطانه أن يغيرا رأيه فيها. وهو من أجل هذا آثر الاحتياط كل الاحتياط في سياستها، فلم يلن لها ولم يرفق بها، ولم يخل بينها وبين طمعها الشديد، وهمها البعيد واعتدادها بنفسها، وازدرائها لغيرها من الناس.
ولعل عمر أن يكون قد عرف للمهاجرين ما عرف لهم رسول الله من الفضل، فأنزلهم منازلهم، واختصهم بكثير من عنايته ورعايته؛ ولكن هذا كله لم يدفعه إلى الاطمئنان والهدوء والتخلية بين هؤلاء المهاجرين وبين ما كانوا يريدون حين استخلف على أمور المسلمين، وليس أدل على ذلك من سيرته هذه في قريش وقيامه عند شعب الحرة آخذا بحلاقيمها وحجزها أن تتهافت في النار، وقوله لمن كان يستأذنه في الغزو من المهاجرين: «لقد كان لك في غزوك مع رسول الله ما يبلغك، وخير لك من الغزو ألا ترى الدنيا ولا تراك.» وربما كان من أدل الدلائل على ذلك ما كان من شدته على خالد بن الوليد رحمه الله وعزله إياه ومراقبته له، مع ما أبلى خالد من البلاء الحسن أيام النبي وأيام أبي بكر في حرب العرب والروم جميعا. ليس لهذا مصدر إلا علمه بقريش وسوء ظنه بحسن استعمالها لما أبيح لها من قوة، وبحسن انتصارها على ما فرض عليها من ضعف. فقد كانت هذه القوة التي صورناها مصدر ضعف لقريش؛ لأنها كانت تدفعها إلى أن تغالي بنفسها فتتورط في الكبرياء، ولأنها كانت تدفعها إلى حب المال والحرص عليه فتتعرض لأخذه بغير حقه، ولأنها كانت تدفعها إلى إيثار أنفسها بالخير فتتعرض للانهزام أمام المنافع العاجلة وأمام اللذات القريبة التي لا تخلو من الإثم أحيانا. وكانت تدفعها إلى الطمع الذي لا حد له فتعرضها لتجاوز الحد والطموح إلى ما لا ينبغي الطموح إليه، كما تعرضها للظلم والاستعلاء. وإذا أشفق عمر من هذا كله بالقياس إلى المهاجرين الذين طالت صحبتهم للنبي وحسن بلاؤهم في المواطن كلها، فأحرى أن يشفق منه بل أن يشفق من أكثر منه بالقياس إلى من أسلم بأخرة من قريش، من هؤلاء الشيوخ والفتيان الذين لم يسلموا عن رغبة ولا عن رضا، وإنما أسلموا إما طمعا حين تبينوا أن كفة الإسلام راجحة، وإما قهرا حين دخلت عليهم مكة من أقطارها. وأولئك وهؤلاء لم ينظروا إلى الإسلام على أنه دين يتصل بالقلوب والضمائر، وترعى فيه حرمات الله وحقوقه، وإنما نظروا إليه على أنه صفقة خطيرة من تلك الصفقات التي كانوا يباشرونها، ومغامرة جريئة من تلك المغامرات التي كانوا يغامرونها داخل بلاد العرب وخارجها. وقد ذكروا حين أسلموا أو حين هموا بالإسلام أن النبي كان قد وعد قريشا حين دعاها إلى الدين الجديد ملك الدنيا وحسن ثواب الآخرة، ففكروا جميعا في ملك الدنيا، وفكر بعضهم في ثواب الآخرة، ودفعهم هذا التفكير إلى أن يسلموا، ثم إلى أن يحتملوا من أثقال الجهاد والفتح ما احتمل غيرهم من الناس أو أكثر مما احتمل غيرهم من الناس.
وأراد كثير منهم عن نية صادقة أو غير صادقة أن يعوضوا بحسن البلاء في الفتوح ما فاتهم من حسن البلاء مع النبي في غزواته. ومن أجل ذلك لم يبطئوا حين دفعت العرب إلى الفتح، وإنما نفروا خفافا وثقالا، كثير منهم يريدون عرض الدنيا، وقليل منهم يريدون الآخرة. وكان زعماؤهم وسادتهم يحسون أنهم الطلقاء، وأنهم أقل درجة من الذين سبقوا إلى الإسلام وأبلوا فيه بلاء حسنا؛ فكان ذلك يغيظهم ويحفظهم ويشعرهم بشيء يشبه ما نسميه تعقيد النقص أو مركب النقص. ثم كانوا يعرفون رأي عمر خاصة فيهم، فكان ذلك يغيظهم من عمر، ويدعوهم إلى أن يحسنوا البلاء في الجهاد، ليظهروا لعمر أن رأيه فيهم جائر عن القصد، وليظهروا ذلك للناس، وليظهروا ذلك لأنفسهم قبل أن يظهروه للناس.
وهذا هو تأويل ما روي من أن خالد بن الوليد أتى بعكرمة بن أبي جهل، وقد صرع في يوم من أيام الشام، فوضع رأسه على فخذه وجعل ينظر إليه ويقول: «زعم ابن حنتمة أننا لا نستشهد.» وابن حنتمة هو عمر.
كان عمر إذن يسوس قريشا هذه السياسة العنيفة على علم بدخائل نفوسها، وبعد همها وحرصها على الاستمساك بما بلغت والوصول إلى ما لم تبلغ، حتى ولو خاضت إليه الغمرات خوضا. «وقد روي أن النبي رخص لعبد الرحمن بن عوف في لبس الحرير لحكة كانت به، فيقبل عبد الرحمن ذات يوم على عمر ومعه فتى من بنيه قد لبس قميصا من حرير، فينظر إليه عمر ثم يقول: ما هذا؟ ثم يدخل يده في جيب القميص فيشقه إلى أسفله. قال عبد الرحمن: ألم تعلم أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قد رخص لي في لبس الحرير؟ قال عمر: بلى! لشكوى شكوتها، فأما لبنيك فلا.»
وعلى هذا النحو كان عمر يشفق على المهاجرين أن يتوسعوا فيما رخص لهم فيه النبي، ويشفق على غير المهاجرين من قريش أن يتوسعوا حتى فيما لم يرخص فيه النبي. وقد قام عمر دون معاوية يأبى عليه غزو البحر إشفاقا على المسلمين من هوله. وأكبر الظن أنه كان يرى غزو البحر هذا الذي كان معاوية يلح فيه مغامرة من هذه المغامرات التي لا تتردد قريش في ركوبها، كان يرى أن الحق عليه للمسلمين أن يجنبهم مغامرات فتيان قريش. وقد قدمت أن خلافة أبي بكر أتاحت لقريش أرستقراطية مفاجئة جديدة عوضتها من أرستقراطيتها القديمة، فكان عمر يشفق من هذه الأرستقراطية ويضرب لها الحدود، ويأبى أن تندفع إلى غير مدى.
هؤلاء بعض الرعية التي ابتلي عثمان بولاية أمرها. وكان على عثمان أن يسلك إحدى سبيلين لا ثالثة لهما: فإما أن يشتد كما اشتد عمر فيمسك زعماء المهاجرين في المدينة، ويظهر لعامة قريش ما كان يظهر لها عمر من سوء الظن بها، ويقف فتيان قريش وكهولهم كما كان يقفهم عمر عند حدود لا يتعدونها، ويجعل أمور الحكم والولاية كما كان يجعلها عمر شائعة بين العرب بل بين المسلمين، لا ينهض بها منهم إلا القادرون على احتمال أعبائها، وإما أن يلين فيخلي بين قريش وبين الطريق تمضي فيها إلى غير غاية، لا حد لطمعها ولا لجشعها ولا لمغامراتها ولا لإيثارها نفسها بالخير. وسنرى أن عثمان قد اختار الثانية راضيا عنها أو مكرها عليها.
الفريق الثاني من رعية عثمان الأنصار، ومكانهم في الإسلام معروف، وثناء الله عليهم في القرآن محفوظ، وأمر النبي برعايتهم موروث. وقد رأيت أن الخلافة قد صرفت عنهم حين روى أبو بكر أن الإمامة في قريش، وأن أبا بكر قال لهم: نحن الأمراء وأنتم الوزراء، وقد كان أبو بكر يستشيرهم كما يستشير غيرهم من المهاجرين، وكان عمر يستشيرهم كذلك. ولم يقصر عثمان في استشارتهم، ولكن هؤلاء الأئمة الثلاثة إنما كانوا يستشيرون أصحاب النبي من الأنصار، فأما الشباب الناشئون الذين لم يكن لهم خطر يذكر أيام أبي بكر وقد أخذوا يعقلون أنفسهم أيام عمر، ثم عرفوا أنفسهم حق معرفتها أيام عثمان - فلم يكن لهم شأن يميزهم من سائر الناس. وقد سن عمر في تولية الولاة واستعمال العمال ألا يلتمسهم عند قريش وحدها، وإنما يلتمسهم في العرب كافة. وكان خليقا لو عاش أن يظهر لهؤلاء الشباب من أبنا الأنصار أنهم كغيرهم من الناس لا تقصر الدولة بهم عن بعض حقهم، وعن حقهم في الولاية والحكم خاصة. وما من شك في أن شيوخ الأنصار وذوي المكانة منهم قد أخلصوا الرضا برأي أبي بكر وبسيرة عمر، ولكن ما من شك في أن عامة الأنصار والشباب منهم خاصة قد ضاقوا بهذه الأرستقراطية القرشية الجديدة، وهم الذين ضربوا قريشا على الإسلام في بدر، وهم الذين دخلوا مع المهاجرين مكة من أقطارها، وكان يعزيهم عن هذا أن عمر كان يشتد على قريش ولا يؤثرها بشيء من دون المسلمين، فكان موقف الأنصار بعد أن استخلف عثمان رهينا بسيرة الخليفة في قريش، فإن سار فيها سيرة عمر نال الأنصار حظهم من شئون الدنيا كما يناله غيرهم من سائر المسلمين، وإن آثرهم وحاباهم عرف الأنصار أنهم الأرستقراطية الجامحة المستأثرة، وأن مكانهم من قريش مكان المغلوبين لا مكان الذين يشاركونهم في غير الإمامة من الأمر شركة سواء. وسترى أن عثمان آثر قريشا راضيا أو كارها، وأن إيثاره لقريش وقع من نفوس الأنصار موقعا أليما كان له أثره الخطير في الفتنة، ثم فيما استتبعته الفتنة من الأحداث.
الفريق الثالث في رعية عثمان عامة العرب، أولئك الذين أسلموا طوعا أو كرها، ثم دفعهم أبو بكر وعمر إلى الفتح فبلغوا منه ما بلغوا، ثم استقروا في أمصارهم وثغورهم ردءا للمسلمين يذودون عنهم العدو من جهة، وجندا للمسلمين يفتحون عليهم أرض العدو من جهة أخرى، وهؤلاء العرب قد وعدهم الإسلام المساواة التامة بينهم، لا فضل لأحد منهم على آخر إلا بالتقوى والكفاية وحسن البلاء.
وهم بعد هذا مادة الإسلام كما كان عمر يقول، وهم الذين فتحوا الأرض، وأذلوا العدو، ونشروا دين الله في الآفاق، فلهم بهذا كله الحق في ألا يستأثر بالأمر من دونهم أحد. ثم هم بعد هذا كله حديثو عهد بالإسلام وقريبو عهد بالجاهلية، لم ينسوا ما كان بينهم من خصومة وعصبية وتفاخر وتكاثر بالأحساب والأنساب، وقد أضافوا إلى مفاخرهم التي حفظوها عن جاهليتهم مفاخر جديدة أعظم منها خطرا وأرفع منها شأنا. فالسياسة الملائمة لهؤلاء الناس هي التي تنسيهم عصبيتهم الجاهلية أولا، وتنشئهم تنشئة إسلامية خالصة ثانيا، وتصدق لهم ما وعدهم الله من المساواة بينهم والعدل فيهم. وقد سلك عمر هذه الطرق كلها، فقاوم العصبية ما وسعته مقاومتها حتى أخاف الشعراء الذين كانوا يذكرون مآثر الجاهلية فيما كانوا ينشئون ويتناشدون، وجعل في الأمصار معلمين من أصحاب النبي يقرئون أهلها القرآن ويبصرونهم بالسنة ويفقهونهم في الدين، وينشئونهم هذه التنشئة الإسلامية الخالصة. ثم لم يميز منهم فريقا على فريق، ولم يؤثر بأمور السلطان منهم حيا دون حي، وإنما أشاع فيهم المساواة والعدل الحازم، واختار ولاته من مضر وربيعة واليمن، وراقب هؤلاء الولاة جميعا أشد المراقبة. وقد رأيت فيما روينا من كتب عثمان أنه قد أخذ نفسه وولاته في هذه الكتب بسيرة عمر. ولكنك سترى أن وصية عمر بإقرار العمال على أعمالهم عاما، لم تكد تبلغ أجلها حتى أقبل عثمان على سياسة أخرى راضيا عنها أو مكرها عليها، وإذا قريش تميز من العرب وتسلط عليهم، وتستأثر من دونهم بأجل الأمصار خطرا وأرفع المناصب شأنا.
الفريق الرابع من رعية عثمان هم هؤلاء المغلوبون من أهل البلاد التي فتحت على المسلمين. والسنة الإسلامية في سياستهم معروفة، وهي أن يؤخذوا بما عليهم من الحق، فإن أدوه فلهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين، وقد عرف عثمان هذه السيرة وأخذ نفسه وولاته بها فيما روينا من كتبه آنفا.
ولم يظهر أثناء خلافته لأهل الذمة شأن فيما كان من الاختلاف، لا لأن السياسة المرسومة قد اتبعت فيهم ولم يكن عنها انحراف، بل لأنهم كانوا مغلوبين لم يتح لهم بعد أن يشاركوا في السياسة مشاركة ذات خطر، وإلا فقد نحب أن نفهم ما كان بين عثمان وعمرو بن العاص من الحوار ذات يوم حين قال عثمان لعمرو: «قد درت تلك اللقاح بعدك يا عمرو.» فأجابه عمرو: «نعم وهلكت فصالها.» فليس لهذا الحديث إلا معنى واحد وهو أن خراج مصر قد عاد إلى بيت المال أيام ابن أبي سرح بأكثر مما كان يعود به أيام عمرو بن العاص، هذا معنى ما قال عثمان، وأن زيادة الدخل هذه لم تأت إلا عن إرهاق المعاهدين من أهل الذمة أيام ابن أبي سرح، هذا ما أراد إليه عمرو بن العاص. وليس من هذا مخرج إلا إحدى اثنتين: الأولى أن يكون عمرو بن العاص قد كان يحتجز لنفسه شيئا من الخراج دون بيت المال. الثانية أن ابن أبي سرح كان يأخذ من المعاهدين أكثر من الحق. وكلا الأمرين شر . ثم لا يقف الأمر في سياسة الرعية عند هذه الحدود التي رسمناها، فقد كان عمر شديدا على قريش كلها يسوي بينها وبين العرب لا يميزها منهم، ثم لا يميز حيا من أحيائها على غيره. ولم يستطع عثمان أن يحتفظ بهذه المساواة، فآثر قريشا من دون العرب عن عمد أو غير عمد. ثم لم يستطع أن يسوي بين قريش نفسها، فآثر فريقا منها على فريق راضيا بذلك أو كارها له. ويقال إن عمر قد خاف شيئا من هذا الإيثار، فتقدم إلى عثمان إن ولي أمور المسلمين في ألا يحمل بني أمية وبني أبي معيط على رقاب الناس، وتقدم إلى علي إن ولي أمور المسلمين في ألا يحمل بني عبد المطلب وبني هاشم على رقاب الناس. ولم يستطع عثمان أن يستجيب لعمر، فحمل بني أمية وآل أبي معيط على رقاب الناس، ما في ذلك شك. وقيل: إن عليا نفسه حين ولي الخلافة لم يستجب لعمر، فولي ثلاثة من بني عمه العباس، البصرة ومكة واليمن، حتى قال مالك الأشتر: ففيم قتلنا الشيخ إذن! ولكني على ذلك أفرق أشد التفرقة بين ما صنع عثمان وما صنع علي؛ فقد لام علي نفسه عثمان في أمر الولاة، فاحتج عثمان بأن عمر قد ولى المغيرة بن شعبة الكوفة، والمغيرة بن شعبة ليس هناك، وبأن عمر قد ولى معاوية، فقال له علي: إن عمر كان يراقب ولاته ويخيفهم، وإن ولاتك يستبدون بالأمر من دونك، ويصدرون الأمر من عند أنفسهم ويحملونه عليك فلا تستطيع له تغييرا. فسيرة علي مع ولاته من بني عمه هي سيرة عمر، كان شديدا عليهم مراقبا لهم، لا يتحرج من عزلهم إن قصروا أو انحرفوا دون أن يكرهه على هذا العزل أحد، على حين لم يعزل عثمان واليا من بني أمية وآل أبي معيط إلا حين أكرهته الأمصار على ذلك إكراها.
ومهما يكن من شيء فقد كانت رعية عثمان هي رعية عمر، لم تكد تتغير إلا قليلا حتى تقدم الزمن بعثمان. وكانت سياسة عمر هي السياسة الوحيدة التي كانت تصلح لضبط هذه الرعية وتدبير أمرها وحملها على الجادة.
ولكن الناس كلهم لا يستطيعون أن يسيروا سيرة عمر؛ لأنهم لم يركبوا كما ركب، ولم يتح لهم ما أتيح لعمر من هذه الشدة التي لا تعرف هوادة في الحق، ولا تأخذها في العدل والمساواة لومة لائم. وكان عثمان نفسه يعرف ذلك حق المعرفة! فكان مرة يقول لمحدثيه إذا حضروا طعامه اللين: ومن ذا يطيق ما أطاق عمر! وكان مرة يقول للائميه في صلة رحمه من بيت المال: ومن لنا بمثل عمر، وكان مرة أخرى يقول لعائبيه من فوق منبر النبي: لقد وطئكم ابن الخطاب برجله وضربكم بيده وقمعكم بلسانه، فخفتموه ورضيتم منه بما لا ترضون مني؛ لأني كففت عنكم يدي ولساني. فهناك فرق خطير بين الرجلين في الطبيعة والمزاج وفي السن أيضا، ولكن هذا الفرق أو هذه الفروق لم تكن وحدها مصدر الشر والفرقة، وإنما كان للشر والفرقة مصادر أخرى لم يكن عثمان يستطيع لها تغييرا. وسنرى بعض هذه المصادر فيما سنستأنف من الحديث.
الفصل السابع
فلم يكد عثمان ينفق العام الأول من خلافته ويخرج مما التزم من وصية عمر بإقرار العمال عاما على أعمالهم، حتى باشر سلطته الطبيعية في التولية والعزل. وكان في مباشرته لهذه السلطة شيء من العجلة، وكثير مع ذلك من الأناة. فهو أولا لم يلق بالا إلى العمال الذين كانوا ينهضون بالأمر في الولايات التي لم يكن لها خطر في سياسة أو إدارة أو حرب، وإنما ترك عمال عمر في هذه الولايات، ولم يغير منهم إلا قليلا حين دعت الحاجة إلى هذا التغيير. ولم يحتفل لهذا التغيير كثير احتفال، وإنما سارت فيه سيرة هينة سواء. وقد كانت الولايات تختلف فيما بينها اختلافا شديدا؛ لبعضها خطر في السياسة والإدارة والحرب، وهي الولايات التي فتحت على المسلمين، واقتطع بعضها من الروم وغلب الفرس على سائرها، وكانت هذه الولايات الخطيرة أربعا: الشام ومصر والكوفة والبصرة، وكانت أمام كل واحدة من هذه الولايات ثغور يجب أن تحمى ، ودار حرب يجب أن يمعن فيها المسلمون؛ فكان البحر وبلاد الروم نفسها أمام الشام، وكان البحر وشمال إفريقية بإزاء مصر، وكان ما فتح وما لم يفتح بعد من بلاد الفرس أمام المصرين العراقيين: الكوفة والبصرة.
وكانت هذه الولايات الأربع موطن القوة الإسلامية، فيها الجند المقيمون، وبإزائها الثغور التي يقيم فيها ويخرج منها ويسعى إليها الجند المحاربون. وكانت هذه الولايات الأربع مصدر ثراء المسلمين؛ فيها الحضارة المستقرة المترفة، وفيها الأرض الخصبة التي تغل ما شاء الله أن تغل من الثمرات، وتؤتي ما شاء الله أن تؤتي من الخراج، وفيها المعاهدون الذين يؤدون الجزية. ثم هي بعد ذلك وجوه الفتح ومصادره، إليها تجلب الغنائم التي يغنمها الفاتحون في كل عام، ومنها ترسل الأخماس إلى المدينة. فإذا كان العرب مادة الإسلام ومصدر قوته العسكرية، فقد كانت هذه الولايات مادة الإسلام ومصدر قوته المالية. فلا غرابة في أن يعنى بها الخليفة عناية خاصة لا تقاس إليها عنايته بغيرها من الولايات التي لم يكن لها من الخطر والامتياز وارتفاع الشأن ما كان لهذه الولايات. فمكة والطائف واليمن ولايات لها مكانتها ولها قدرها، ولكنها لا تواجه ثغورا للحرب، ولا تغل كثيرا من مال، وليست هي مواطن القوة والأيد التي تعتز بها الدولة الناشئة.
كان لها خطرها العظيم قبل أن تفتح حين كان النبي يجد في إخضاع بلاد العرب كلها للإسلام. فلما افتتحت وعبد الله فيها وأمن الإسلام شرها، أصبحت ولايات ثانوية بالقياس إلى تلك الولايات الجديدة التي تكلف المسلمون في فتحها وتمصيرها من الأنفس والأموال والجهود ما لا يقاس إليه ما تكلفوا في فتح تلك الولايات العربية الأولى.
ومن أجل ذلك كله نرى المسلمين إذا أرادوا أن يخرجوا من المدينة لم يفكروا في الذهاب إلى مكة أو الطائف أو اليمن، أو لم يفكر أكثرهم في الذهاب إلى هذه البلاد، وإنما فكروا في الذهاب إلى العراق أو الشام أو مصر؛ في هذه البلاد كان الصالحون منهم يلتمسون ثواب الآخرة بالتزام الثغور والإمعان في الفتح، وكان المكتسبون منهم يبتغون عرض الدنيا، يتاجر منهم من يتاجر، ويزارع منهم من يزارع، ويتقلبون في ضروب الكسب والغنى على اختلافها.
وقد مات عمر وعلى الكوفة المغيرة بن شعبة الثقفي، وعلى البصرة أبو موسى الأشعري؛ فأقرهما عثمان عامه الأول. فلما انقضى هذا العام عزل المغيرة عن الكوفة وولى عليها سعد بن أبي وقاص الزهري عن وصية من عمر الذي تقدم إلى الخليفة من بعده إن أخطأت الخلافة سعدا أن يستعين به، قائلا: إني لم أعزله عن خيانة. ولكن سعدا لم يقم في الكوفة إلا عاما وبعض عام حتى اضطر عثمان إلى عزله.
وقد تحدث المؤرخون بأن عثمان قد اضطر إلى عزل سعد اضطرارا؛ حدث بينه وبين صاحب بيت المال عبد الله بن مسعود خلاف أغضب عثمان عليهما جميعا، فهم بهما، ثم كف عنهما واكتفى بعزل سعد.
وكان أصل هذا الخلاف غريبا حقا؛ فقد قيل: إن سعدا اقترض شيئا من بيت المال وأعطى به على نفسه صكا، فطلب إليه عبد الله بن مسعود أن يؤدي دينه، ولم يتيسر هذا المال لسعد، فطلب النظرة إلى ميسرة، وأبى ابن مسعود، واستعان كل من الرجلين على صاحبه بجماعة من أهل الكوفة: يريد ابن مسعود أن يستعين بأصحابه على سعد ليؤدي دينه، ويريد سعد أن يستعين بأصحابه على ابن مسعود لينظره إلى ميسرة، ثم يلتقي الرجلان ومع كل واحد منهما أصحابه، فيتلاحيان، ويهم سعد، فيما يقول الرواة، أن يدعو على ابن مسعود، فيجزع ابن مسعود من ذلك ويولي مسرعا؛ لعلمه بأن النبي كان قد دعا الله أن يستجيب لسعد كلما دعاه. قال الرواة: إن سعدا رفع يديه وقال: اللهم رب السموات والأرض. فقال له ابن مسعود: ويلك! قل خيرا. ثم ولى مسرعا. وارتفع الأمر إلى عثمان فغضب عليهما جميعا، وهم بهما، ثم كف، وعزل سعدا وأخذ منه ما كان عليه، وترك ابن مسعود على بيت المال، وأرسل إلى الكوفة واليا جديدا.
والرواة متفقون على هذه القصة، ولكني أقف منها موقف التحفظ الشديد، ففيها أمور تدعو إلى هذا التحفظ ؛ فقد تقدم عمر إلى الخليفة من بعده أن يولي سعدا وقال إنه لم يعزله عن خيانة. وأيسر ما تصور لنا هذه القصة أن سعدا قد اقترض من بيت المال ثم التوى بدينه أو ماطل في أدائه. وما هكذا يكون من اختاره عمر للشورى ورشحه للخلافة وتقدم إلى الخليفة من بعده إن صرفت الخلافة عن سعد أن يستعين به. ولم يعرف أحد عن عمر أنه أمر أو نهى ليؤثر أحدا بخير من دون الناس، وإنما أمر ونهى دائما ليؤثر عامة المسلمين بالخير. فهو حين تقدم إلى الخليفة في تولية سعد لم يكن يريد أن يرضي سعدا ولا أن يحابيه ولا أن يقدمه على غيره من أصحابه، وإنما نصح للخليفة وللمسلمين وأمرهم أن يستعينوا بكفاية سعد، وبكفايته في أمور الحرب خاصة. فلم تكن أمور بلاد الفرس على خير ما يحب المسلمون، قد أزيل سلطانها جملة، ولكن شوكتها لم تخضد بعد. فكسرى يزدجرد قد انهزم، ولكنه لم يقتل ولم يؤسر ولم يخرج من بلاده، وإنما هو مقيم فيها يتنقل بالفلول بين أقاليمها ومدنها ودساكرها. وفي هذه البلاد مدن كثيرة، بعضها لم يصل إليه المسلمون بعد، وبعضها قد صالح المسلمين ولكن على دخل، فهو ينتهز الفرصة وينتقض كلما وجد إلى الانتقاض سبيلا؛ فقد بدئ فتح بلاد الفرس وتقدم مسرعا إلى غايته، ولكنه لم يبلغ هذه الغاية بعد. وسعد بن أبي وقاص هو بطل القادسية، وهو قاصم دولة الأكاسرة؛ فليس غريبا أن يفكر فيه عمر ليتم من الفتح ما بدأ. وأكبر الظن أن عمر لو عاش لرد سعدا إلى الكوفة وأمره بالمضي إلى عدوه حتى يتم الله الفتح على يديه. وسعد صاحب السابقة المعروفة في الإسلام، حتى إنه كان يقول: والله لقد كنت أراني ثلث الإسلام. يريد أنه أسلم بعد أبي بكر فكان ثالث ثلاثة؛ أولهم النبي، وثانيهم أبو بكر، أو أنه أسلم بعد أبي بكر وزيد بن حارثة، فكان ثالث ثلاثة سبقوا بالاستجابة إلى دعوة رسول الله. وسعد، فيما اتفق عليه الرواة والمحدثون، أول من رمى بسهم في سبيل الله حين خرج في سرية عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب إلى بطن رابغ.
وسعد هو الذي فداه رسول الله بأبيه وأمه يوم أحد، ولم يجمع لأحد بين أبويه غيره، وذلك حين ثبت بين الذين ثبتوا مع رسول الله وجعل ينضح عنه بسهامه، وكان أرمى الناس بسهم، فكان النبي يقول له: «ارم سعد، فداك أبي وأمي.» فمن أتيح له أن يكون ثالث ثلاثة في الإسلام، وأول رام بسهم في سبيل الله، وأن يفديه رسول الله بأبيه وأمه، وأن يرضى عنه رسول الله ويجعله في العشرة الذين ضمن لهم الجنة، وأن يقصم دولة الفرس وينتصر يوم القادسية، وأن يحضره عمر الشورى ويرشحه للخلافة، ويتقدم في توليته إن صرفت الخلافة عنه - من أتيح له هذا الفضل كله لا يمكن أن يلتوي على بيت المال بدين قل أو كثر، ولا أن يشك فيه ابن مسعود هذا الشك، ولا أن يغضب عليه عثمان فيهم به ثم يعفو عنه بعد أن يأخذ منه ما كان عليه. وأكبر الظن أن عمر لم يتقدم إلى الخليفة من بعده في تولية سعد ولاية ما، وإنما تقدم إليه في تولية سعد الكوفة خاصة؛ لأنها كانت المصر الذي كان يجب أن يستقر فيه سعد، وأن يتجه منه إلى إتمام الفتح في ذلك الوجه من وجوه الحرب. وإنه لغريب حقا أن يسوء ظن ابن مسعود بسعد وهو يعلم سابقته ومكانه من النبي ومن صاحبيه ورأي النبي فيه. فقد كان ابن مسعود من ألزم الناس للنبي، وأرواهم عنه للسنة، وأحفظهم عنه للقرآن، وأعلمهم برأيه في أصحابه. وأغرب من ذلك أن يشك فيه ويلح عليه في أداء دينه، حتى إذا هم سعد بالدعاء عليه أخذه الإشفاق والجزع، فترضاه وولى مسرعا. إنما لزم سعد موقف الحياد حين كانت الفتنة، وأبى أن يقاتل مع أولئك أو هؤلاء من المختصمين، حتى يأتوه بسيف مبصر عاقل ناطق ينبئه بأن هذا مسلم وهذا كافر، فكان موقفه هذا مصدرا لهذه القصة الغريبة. ولو قد انحاز سعد لأنصار علي لدافعت عنه الشيعة، ولو قد انحاز لأنصار عثمان لدافعت عنه العثمانية، ولكنه وقف من المختصمين موقف المعتزل، فوقف المختصمون منه هذا الموقف نفسه.
وأكاد أعتقد أن وجه الحق في عزل سعد، أن بني أمية وآل أبي معيط كانوا يتعجلون الولاية ويحتالون في الوصول إليها، ويلحون على عثمان في أن يمهد لهم إليها الطريق. وآية ذلك - فيما أظن - أن عثمان حين عزل سعدا لم يول على الكوفة أحدا من كبار أصحاب النبي، لا من المهاجرين ولا من الأنصار، لم يرسل إليها طلحة ولا الزبير ولا عبد الرحمن ولا محمد بن مسلمة ولا أبا طلحة، وإنما أرسل إليها الوليد بن عقبة بن أبي معيط. ولم يكن المسلمون يطمئنون إلى الوليد بن عقبة؛ لأنه غش النبي وكذب عليه، وكفر بعد إسلام، وأنزل الله فيه قرآنا فقال:
يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين . كان ذلك حين أرسله النبي مصدقا في بني المصطلق، فعاد إلى النبي يزعم أنهم منعوه الصدقة، فخرج النبي إليهم غازيا، ثم تبين كيد الوليد وأنبأه الله بجلية الأمر. وقد عاد الوليد إلى إسلامه حين لم يكن بد من العودة إلى الإسلام، وأصلح من سيرته ما استطاع. وقيل: إن عمر قد استعمله على صدقة بني تغلب في الجزيرة. والفرق بين أن يرسله عمر أو وال من ولاة عمر إلى صدقة حي من نصارى العرب البادين في الجزيرة، وبين أن يوليه عثمان مصرا من أعظم أمصار المسلمين وأكثرها ثغورا، وأن يوليه مكان سعد بن أبي وقاص؛ هذا الفرق عظيم جدا.
فالذين أنكروا تولية الوليد على الكوفة مكان سعد لم يبعدوا؛ فليس من شك في أن هذه التولية كانت أمرا عظيما.
وهناك سبب آخر يدعو إلى الشك في هذه القصة التي حملت عثمان على عزل سعد وتولية الوليد، وهو أن عثمان نفسه قد سار في بيت المال بالمدينة سيرة أعظم خطرا مما نسب إلى سعد؛ فهو قد أعطى رجلا من ذوي قرابته مقدارا ضخما من بيت المال، واستكثر عامله على بيت المال هذا المقدار فلم يخرجه، فألح عثمان فأبى الخازن، فلامه عثمان وقال له في قصة سنعرض لها في إبانها: «ما أنت! إنما أنت خازن لنا.» قال صاحب بيت المال: «ما كنت أرى أني خازن لك، وإنما خازنك أحد مواليك، لقد كنت أراني خازنا للمسلمين»، ثم أقبل بمفاتيح بيت المال فعلقها على منبر النبي وجلس في داره. فإذا سار عثمان في بيت المال هذه السيرة، فغريب أن ينكر على سعد ما يقال من أنه اقترض من بيت المال شيئا وطلب النظرة في أداء ما كان عليه من دين. وكما أن عمر لم يعزل سعدا عن خيانة، فقد نرى أن عثمان لم يعزل سعدا عن خيانة ولا عن شيء يتصل بالخيانة من قريب أو بعيد، وإنما أنفذ وصية عمر، ثم عزل سعدا ليجعل مكانه رجلا من آل أبي معيط. ويجب أن نقرر أن الوليد قد سار أثناء ولايته على الكوفة سيرة فيها كثير جدا من الغناء وحسن البلاء. فهو لم يقصر في سد الثغور والإمعان في الفتح، وإنما بلغ من ذلك غاية عرفت له وتحدث بها الناس في حياته وبعد موته. وهو قد ساس أهل الكوفة سياسة حزم وعزم ومضاء، فأقر الأمن، وضرب على أيدي المفسدين من الأحداث والذين لا يرعون للنظام حرمة ولا يرجون للدين وقارا. عدا نفر من الشباب على فتى من أهل الكوفة فقتلوه، فأخذهم الوليد وأقام عليهم الحد، فقتلهم على باب قصر الإمارة. ويقول بعض الرواة إن هذا أحفظ عليه آباء هؤلاء القاتلين المقتولين، فأخذوا يتلمسون أغلاطه ويتكلفون اتهامه ويشككون فيه الناس، ثم ما زالوا به، حتى دخل عليه منهم داخل فسمر عنده وتأخر، فلم ينصرف حتى نام الوليد، فقام فاستل خاتمه من أصبعه وذهب مع صاحب له بالخاتم إلى عثمان فشهدا عنده على الوليد بشرب الخمر.
والتكلف في هذه القصة أظهر من أن نحتاج إلى تبينه وإطالة القول فيه. فما أمير ينام وعنده سماره ، ثم يمعن في النوم حتى يستل خاتمه من أصبعه دون أن يحس ذلك أو يحسه أحد من خدامه وحجابه وشرطه! وإذا كان الأمر من التهاون والاستخفاف بحيث يستل منه خاتمه الذي يمضي به الأمر والنهي ويمضي به كتبه إلى الخليفة وإلى قواده في الثغور، فما هو من الحزم والعزم والفطنة في شيء. وإنما الأشبه ما قاله خصوم الوليد من أنه كان يعاقر الخمر مع صديقه وشاعره أبي زبيد، ذلك الذي عرفه في تغلب حين كان مصدقا فيهم، فأنصفه من أخواله بني تغلب وآثره بمودته. وكان أبو زبيد طائي الأب تغلبي الأم، وكان نصرانيا. فلما ولي الوليد أمر الكوفة كان هو يفد عليه، فيقيم عنده ويأخذ جوائزه. وما زال به الوليد حتى أسلم فقرب ما بينهما. وما أرى إلا أن إسلام أبي زبيد كان رقيقا كإسلام الوليد. ويدل على صحة هذا المذهب في هذه القصة أن عثمان أقام الحد على الوليد، والحدود تدرأ بالشبهات. فلو قد رأى عثمان في شهادة هذين الشاهدين شبهة قوية أو ضعيفة لتحرج من إقامة الحد عليه. وليس البأس على عثمان في أن يدرأ الحد بالشبهة، وإنما البأس كل البأس في أن يقيم الحد والشبهة قائمة مهما يكن حظها من الضعف.
والناس يختلفون فيمن أنفذ أمر عثمان بإقامة الحد على الوليد، فقوم يرون أن عليا هو الذي ضرب الوليد إنفاذا لأمر عثمان حين نكل كثير من الناس عن ضربه. فإن صحت هذه الرواية - وما نراها تصح - فعلي أعلم بالدين وأحفظ للسنن وأشد إيثارا لرضا الله وإنفاذ أمره من أن يقيم الحد والشبهة قائمة. وزعم أكثر الرواة أن الذي ضربه هو سعيد بن العاص الأموي. وسعيد قريب القرابة من عثمان ومن الوليد، وهو صاحب عصبية واعتداد بمكان الخليفة ورهطه الأدنين والأبعدين. فلو قد رأى شبهة لكان خليقا أن يراجع عثمان في قضائه، ولكن خليقا إذ لم يفلح أن يعتذر من ضرب الوليد. ولكنه ضربه، وأورث هذا الضرب عداوة متصلة في أعقاب الرجلين.
وقد زعم خصوم الوليد - وما نحسبهم إلا متزيدين - أن الوليد أصبح ذات يوم سكران، فصلى الصبح بالناس ثلاثا أو أربعا، ثم التفت إليهم وقال: إن شئتم زدناكم. فشتمه من شتمه وحصبه من حصبه من الناس، واستعفوا عثمان منه فأعفاهم. وشاعت فيه هذه القالة حتى تندر به المتندرون، وقال فيها الشعراء، فقال الحطيئة فيما زعموا:
شهد الحطيئة يوم يلقى ربه
أن الوليد أحق بالعذر
نادى وقد نفدت صلاتهم:
أأزيدكم؟ ثملا ولا يدري
ليزيدهم خيرا ولو قبلوا
منه لزادهم على عشر
فأبوا أبا وهب ولو فعلوا
لقرنت بين الشفع والوتر
حبسوا عنانك إذ جريت ولو
خلوا عنانك لم تزل تجري
وهذه القصة مخترعة من أصلها فيما أعتقد. فلو قد زاد الوليد في الصلاة لما تبعته جماعة من المسلمين من أهل الكوفة، وفيهم نفر من أصحاب النبي، وفيهم القراء والصالحون، ولما رضي المسلمون من عثمان بما أقام عليه من حد الخمر؛ فإن الزيادة في الصلاة والعبث بها أعظم خطرا عند الله وعند المسلمين من شرب الخمر.
وهذا الشعر لم يقله الحطيئة، وإنما قال الحطيئة شعرا آخر يمدح به الوليد مدح محب له حريص على رضاه، وهو:
شهد الحطيئة حين يلقى ربه
أن الوليد أحق بالعذر
خلعوا عنانك إذ جريت ولو
تركوا عنانك لم تزل تجري
ورأوا شمائل ماجد متبرع
يعطي على الميسور والعسر
فنزعت مكذوبا عليك ولم
تردد إلى عوز ولا فقر
وقد عارض بعض الشيعة بهذا الشعر؛ شعر الحطيئة في مدح الوليد.
وليس من شك في أن الحطيئة لم يقل أيضا هذه الأبيات الأخرى:
تكلم في الصلاة وزاد فيها
علانية وجاهر بالنفاق
ومج الخمر عن سنن المصلي
ونادى والجميع إلى افتراق
أزيدكم على أن تحمدوني
فما لكم وما لي من خلاق
فهذا الشعر ليس إلا تزيدا من خصوم الوليد. وللحطيئة بعد ذلك شعر جيد يمدح به الوليد أثناء إمارته، وقبل أن يفكر أحد في الائتمار به والتشنيع عليه، وهو:
عفا توءم من أهله فجلاجله
وردت على الحي الجميع جمائله
وعالين عقلا فوق رقم كأنه
دم الجوف يجري في المذارع واشله
كأن النعاج الغر وسط بيوتهم
إذا اجتمعت وسط البيوت مطافله
أبى لابن أروى خلتان اصطفاهما
قتال إذا يلقى العدو ونائله
فتى يملأ الشيزى ويروى بكفه
سنان الرديني الأصم وعامله
يؤم العدو حيث كان بجحفل
يصم العدو جرسه وصواهله
ترى عافيات الطير قد وثقت لها
بشبع من السخل العتاق منازله
إذا حال منه منزل الليل أوقدت
لأخراه في أعلى اليفاع أوائله
يظل الرداء العصب فوق جبينه
يقي حاجبيه ما تثير قنابله
نفيت الجعاد الغر عن عقر دارهم
فلم يبق إلا حية أنت قاتله
وكم من حصان ذات بعل تركتها
إذا الليل أدجى لم تجد من تباعله
وإني لأرجوه وإن كان نائيا
رجاء الربيع أنبت البقل وابله
لزغب كأولاد القطا راث خلقها
على عاجزات النهض حمر حواصله
وربما كان من التكلف ما روي من أن الوليد أتى بساحر، فاستفتى فيه ابن مسعود، فلما تحقق ابن مسعود إيمانه بالسحر أمر بقتله، وتعجل رجل من أهل الكوفة فقتله عن غير أمر الوليد، ثم ذهب أهل الكوفة يشكون الوليد إلى عثمان فردهم وقال: تقتلون الناس بالظن!
وما أستبعد أن يكون الوليد قد أتى بهذا الساحر فنظر إلى لعبه، وغضب لذلك المتزمتون من أهل الكوفة، فعدوا على ذلك المشعوذ المسكين فقتلوه. وغضب لذلك الوليد وغضب لذلك عثمان؛ فما ينبغي للناس أن يريقوا الدماء عن غير أمر السلطان ولا أن يريقوها بالظنة.
وجملة القول أن الوليد إنما كان رجلا من قريش أسلم إسلاما ظاهرا واحتفظ بجاهليته كلها. فليس هو أول من شرب الخمر في هذا العصر من أمثاله الذين أسلمت ألسنتهم ولم تؤمن قلوبهم إيمانا خالصا، وإنما ترددت بين الكفر والإيمان. وليس هو بدعا من حب الدعابة والعبث والمجون يستتر به ولا يظهره. وما أستبعد أن يكون قد لها بلعب هذا الساحر، وأن تكون القصة التي زعمت تدخل ابن مسعود في أمره قد اخترعت تكلفا للدفاع عن الوليد. على أني أعتقد أن شرب الخمر إن كان هو السبب المباشر لعزل الوليد؛ فإن لعزله أسبابا أخرى لعلها أن تكون أعمق أثرا وأبعد مدى من شرب الخمر ومن اللهو بلعب الساحر، وهي تتصل بسياسته العامة لأهل الكوفة وسيرته فيهم. فقد كان معظم أهل الكوفة من اليمانية ولم تكن المضرية فيهم إلا قلة. وكان الوليد رجلا قرشيا معتدا بقرشيته وبمكانه من عثمان، وقد كان أخاه لأمه. فما أستبعد أن هذه الكثرة اليمانية قد ضاقت بهذا الأمير القرشي المضري الذي لم يكن يخفي اعتداده بنفسه واستعلاءه على غيره، فتنكروا له قليلا قليلا. وأحس هو منهم هذا التنكر فلم يحتمله إلا كارها، ولعل الوليد قد نافس هذه الأرستقراطية فيما كانت ترى أنه مصدر عز وفخر لهم. فقد روي أن جماعة من أشرافهم كانوا ينادون: ألا إن من نزل الكوفة وليس له بها منزل فمنزله عند بني فلان. كانوا يتنافسون في ذلك فيما يظهر، يحيون به سنة عربية متوارثة؛ هي التنافس في استقبال الضيف والاستباق إلى إيوائهم وقراهم. فأنشأ الوليد عن أمر عثمان أو من تلقاء نفسه دار الضيافة، وأغلق على هؤلاء الأشراف بابا من أبواب التنافس والتفاخر والعصبية.
1
وكان أبو زبيد يقبل فينزل دار الأضياف هذه، ثم يتصل بالوليد ويكثر الاختلاف إليه. ومن يدري؟! لعل هذا الشاعر عاد مرة أو غير مرة إلى مثواه وقد أخذت منه الخمر، فلم يحسن أن يمسك لسانه، فنبههم ذلك إلى التجسس على الوليد.
ثم كان الوليد - وقد أحس تنكر الناس له وتنمرهم عليه - يستأنف سياسة ظاهرها الرفق وإشاعة الخير والمعروف، وباطنها التحبب إلى العامة والتقوي بالدهماء؛ ففرض للرقيق أعطيات يتوسعون بها: ثلاثة دراهم لكل واحد منهم كل شهر، دون أن ينقص ذلك من أعطيات سادتهم ومواليهم، إنما كان يؤدى إليهم ذلك من فضول الأموال. فقد كان للأموال إذن فضول يمكن أن ترد على أصحاب الأعطيات من الذين قاتلوا على هذا المال وأفاء الله على أيديهم هذا الفيء، ولم يكن الوليد يرد هذه الفضول على هؤلاء الناس، وإنما كان يوسع بها على العبيد والإماء؛ فكان إذن يرد بعض الفيء على بعضه، فلم يكن العبيد والإماء إلا شيئا من هذا الفيء، فهم أسارى قد قسموا بين الفاتحين كما قسم بينهم الذهب والفضة وغير الذهب والفضة من الغنائم. والذي يعرف النفس العربية التي احتملت الكثير من جاهليتها ولم يخالطها الإسلام إلا مخالطة ظاهرة، لا يرى من العجب أن يضيق هؤلاء اليمانية بهذا القرشي الذي يأخذ من فيئهم ليرده على فيئهم، ويأخذ فضول الأموال ليوسع بها على العبيد والإماء فيتقرب إليهم بذلك ويستأثر بحبهم له وانحيازهم إليه، ويوشك أن ينشئ منهم لنفسه قوة تعينه على سادتهم، أو تعين السلطان على هؤلاء السادة، إن احتاج السلطان إلى بعض المعونة. ويتحدث الرواة بأن الإماء والعبيد قد اتخذوا الحداد حين عزل الوليد، وكانت الولائد تنشج فيما روى الطبري بهذا الرجز:
يا ويلتا قد عزل الوليد
وجاءنا مجوعا سعيد
ينقص في الصاع ولا يزيد
فجوع الإماء والعبيد
وما أظن إلا أن هذا الرجز منحول متكلف، اخترعه القصاص من أنصار الوليد، فلم يكن الإماء والعبيد من أسرى الفرس في الكوفة قد بلغوا من حذق العربية وإتقانها أن يرجزوا بالوليد وسعيد، كما كان العرب أنفسهم خليقين أن يفعلوا. ولكن هذا الرجز يدل على أن الرقيق والأحرار من الفرس كانوا يؤثرون الوليد ويحبونه؛ لأنه يؤثرهم ويستهويهم. ولذلك قال الرواة إن أهل الكوفة كانوا فريقين في الوليد: كانت العامة معه، وكانت الخاصة عليه.
وليس لهذا معنى إلا أن الوليد قد خفض جناحه للعامة، ووطئ الخاصة وطئا شديدا. ولو قد سار الوليد في ذلك سيرة عمر لما أنكر عليه منه شيء. فقد كان عمر يرفق بالعامة ويغلظ على الخاصة؛ يقاوم في هذه الخاصة نزعتها إلى الأثرة واحتفاظها بالعصبية الجاهلية وطموحها إلى الاستعلاء. وما أرى الوليد ذهب إلى شيء من ذلك، وإنما طاولته الأرستقراطية فطاولها، وقاومته فقاومها، ودخل بينها وبين رقيقها من العبيد والإماء.
ومهما يكن من شيء فقد عزل الوليد وذوو الرأي في الكوفة ضيقون به ساخطون عليه، يبغضه السادة لما قدمنا من تنكره لهم ومقاومته إياهم ومحاولته أن يفسد عليهم رقيقهم. وينكره القراء وأصحاب الصلاح والفقه لسيرته تلك الجاهلية التي لم تخل من عبث ومجون وتعد لحدود الله.
الفصل الثامن
وقد وفق عثمان حين عزل الوليد ولم يتشدد في استبقائه، وحين أقام عليه الحد ولم يحمه، ولكنه كان خليقا أن يرد أمر الكوفة إلى رجل من أصحاب النبي وأهل الكفاية من المهاجرين والأنصار، ولو قد فعل ذلك لاستصلح هذا المصر ولم يدفع أهله عامة في الفرقة والخلاف. ولكنه عزل عن أهل الكوفة رجلا من آل أبي معيط، وأرسل إليهم رجلا من بني أمية، وقد حذره عمر من أن يحمل أولئك وهؤلاء على رقاب الناس. وما من شك في أن أهل الكوفة كانوا يعلمون بما تقدم فيه عمر إلى عثمان من ذلك. وهم بعد قد عرفوا من أصحاب النبي نفرا صالحين رضوا عن سيرتهم وأحبوا حكمهم. وقد تبين لعثمان أنهم ضاقوا بالوليد بن عقبة بعد سعد بن أبي وقاص، وقد كان خليقا أن يرسل إليهم رجالا في منزلة سعد لا في منزلة الوليد.
وكان سعيد بن العاص فتى من فتيان بني أمية، معتدلا مستقيم الخلق، أبلى فأحسن البلاء في فتح الشام، كما أبلى بنو أبيه فأحسنوا البلاء أيضا. وقد كان عثمان يربيه ويرعاه قبل أن يستخلف. وسأل عنه عمر حين كان يتفقد قريشا فأنبئ بأنه عند معاوية، وبأنه مريض مشرف على الموت، فأرسل إلى معاوية في أن يحمله إليه في رفق وعناية. ولم يكد الفتى يبلغ المدينة حتى استرد قوة وصحة وعافية. وقد تلقاه عمر لقاء حسنا، فرق له وعطف عليه، وما زال به حتى زوجه وجعله في مرتبة نظرائه من شباب قريش وأشرافها. ولكنه على ذلك كان قريشيا أمويا قريب المكان من عثمان. كان رجل صدق ما في ذلك شك، ولكنه كان يعتد بقريش عامة، وببني أمية خاصة. وقد ذهب إلى الكوفة مصمما على أن يصلح ما أفسد الوليد، حتى قيلت في ذلك الأقاويل؛ فزعم بعض القصاص أنه غسل المنبر تحرجا من آثام الوليد، وآذى بذلك بعض القرشيين.
والشيء المحقق هو أن أهل الكوفة قد أحسنوا استقباله ، وأحسن هو سياستهم أول الأمر، فدرس شئون المصر من قريب، واختار سماره وذوي خاصته من بين السادة والقراء الذين أغضبهم الوليد؛ ولكنه لم يقم في الكوفة إلا قليلا حتى بصر بحقيقة الأمر وأنبأ بها عثمان، وكان فيما بعث إلى عثمان من ذلك تصوير دقيق لا لحال الكوفة وحدها، بل لحال غيرها من الأمصار كذلك؛ فهو قد رأى أن الكوفة إنما تتعرض للفتنة لسببين: أحدهما تضاؤل أصحاب السابقة وضعف أمرهم بمرور الزمن، وأصحاب السابقة هؤلاء هم السادة الذين سبقوا إلى الفتح واستقروا في المصر حين مصر، وفيهم الشريف الذي كانت له الرياسة في قومه، وفيهم القارئ الذي كانت له المكانة الدينية لاتصاله بالنبي أو بأصحابه. وقد أخذ الموت ينتقص منهم في الحرب والسلم جميعا.
والآخر تزايد الطارئين والناشئين جميعا؛ فما أكثر الذين كانوا يطرءون على المصر من هؤلاء الأعراب الذين يقبلون من تلقاء أنفسهم أو يرسلهم الخليفة مادة للجند! وما أكثر الطارئين من هؤلاء الأسرى الذين كان الفاتحون يأخذونهم في المواقع ويقسمون بينهم مع الغنيمة ويعودون معهم إلى المصر ليقيموا فيه! وما أكثر هذا الجيل الجديد الذي كان يولد في المصر من الحرائر وأمهات الأولاد، ثم الذين كانوا يولدون من أبناء الأحرار غير العرب ومن أبناء العبيد! وكل هذه الناشئة قد أخذت تنمو ويظهر أمرها ويكون لها أثرها في حياة المصر.
فالطارئون من الأعراب والطارئون من الأعاجم والناشئون من أولئك وهؤلاء قد كثروا في المصر حتى زحموا أهل السابقة، وكادوا يستأثرون من دونهم بالأمر. وكلهم حظه من الجهل أكثر من حظه من العلم، ونصيبه من الغلظة والجفوة أعظم من نصيبه من الرقة واللين. والأعراب يقبلون بما حفظوا من غلظهم وجفوتهم وعصبيتهم وجهلهم. والأسرى يقبلون بما ورثوا من حضارتهم، وبما تستتبعه الحضارة في أعقاب أمرها من الضعف والفساد، وبما تستتبعه الهزيمة والرق من انكسار النفوس وذلتها، وحسرتها على ما مضى، وبأسها مما يقبل، وبغضها لسيدها وخوفها منه ومكرها به وكيدها له. والناشئون بين أولئك وهؤلاء يأخذون بحظوظهم من أخلاق أولئك وهؤلاء ، فتختلط الأمور عليهم، ويكونون مصدرا لاختلاط الأمور على غيرهم من الناس. وبهذا كله تتعقد أمور السياسة تعقدا شديدا، ويجد الأمراء والولاة أنفسهم أمام مشكلات كلما حلوا منها طرفا نجم طرف آخر.
بشيء من هذا كتب سعيد إلى عثمان لينبئه بحقيقة الأمر في مصره، فتقدم إليه عثمان في أن يؤثر الخير والعافية ما استطاع، وفي أن يجنب نفسه والناس الفتنة ما وجد إلى ذلك سبيلا، وفي أن يقدم أصحاب السابقة وما يتصل بأسبابهم على غيرهم، ثم ينزل الناس بعد ذلك منازلهم بالحق، لا يؤثر ولا يظلم ولا يجور.
ولكن عثمان شعر منذ ذلك الوقت بأن أمور الناس قد تغيرت، وبأن الفتنة قد أخذت تظهر، وبأن الاحتياط من هذه الفتنة قد أصبح شيئا ليس منه بد. وقد خطب عثمان الناس في المدينة، فأنبأهم من ذلك بما علم، وحذرهم الفتنة وخوفهم منها، واستشارهم فيما تقدم فيه إلى سعيد من السيرة السياسية فأقروه عليه. لكنه اقترح أمرا خطيرا فرح الناس من أهل المدينة به حين سمعوه، وابتهجوا له ابتهاجا عظيما، وظن هو أنه سيصلح بعض ما فسد. ويجمع بعض ما انتشر، لكنه أدى إلى النتائج العكسية لما أراد عثمان. وهذا الأمر الذي اقترحه هو أن ينقل إلى الناس فيئهم حيث أقاموا من بلاد العرب؛ فلا يقيم في الأمصار إلا من كان له في الإقامة فيها أرب، ما عدا الجند بالطبع. فليس من إقامتهم في الأمصار بد.
وقد دهش أهل المدينة حين سمعوا هذا الاقتراح من عثمان، فقالوا له: كيف تنقل إلينا ما أفاء الله علينا من الأرض؟ قال عثمان - وهذا هو لب الاقتراح: نبيعها ممن شاء بما كان له بالحجاز. ففرحوا وفتح الله عليهم به أمرا لم يكن في حسابهم، فافترقوا وقد فرجها الله عنهم به.
1
معنى ذلك أن عثمان عرض على أهل الحجاز أولا ثم عمم ذلك في بلاد العرب كلها فيما بعد، أن يستبدلوا بما كان لهم في العراق وفي الأقاليم من الأرض أرضا في الحجاز أو في غيرها من بلاد العرب . فإذا فعلوا ذلك أقاموا في بلادهم لم ينتقلوا عنها، وأقام معهم أهلهم وذوو أسبابهم، فخف الضغط على الأقاليم، وقلت هجرة الأعراب إليها. وسيحتاج هؤلاء، الذين يشترون أرض الحجاز وبلاد العرب مكان أرض الأقاليم، إلى كثير من الأيدي العاملة لاستصلاحها واستثمارها والقيام عليها، فيكثر اجتلاب الرقيق والموالي إلى بلاد العرب، ويخفف الضغط على الأقاليم من هؤلاء الأسارى الذين كانوا يطرءون على الأمصار في غير انقطاع.
وليس من الغريب أن يفرح الناس بذلك ويبتهجوا له؛ فأرض الحجاز أحب إلى أهل الحجاز من أرض العراق، وأرض اليمن أحب إلى أهل اليمن من أرض الشام ومصر، هي منهم قريب، فهم يستطيعون أن يقوموا عليها في غير مشقة ولا كلفة ولا احتياج إلى السفر القصير أو الطويل، ولا إلى الهجرة من أرض الآباء والأجداد.
وقد كتب عثمان بذلك في الآفاق، ففتح على الناس بابا عظيما كان له أبعد الأثر في حياتهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعقلية جميعا.
ولنضرب لذلك بعض الأمثال: ففريق من كبار الصحابة كانوا يملكون كثيرا من المال السائل والجامد في الحجاز، فما أسرع ما أنفقوا مالهم هذا سائله وجامده في شراء الأرض في الأقاليم؛ لأنهم كانوا يعلمون أن أرض الأقاليم أخصب تربة وأكثر ثمرة وأيسر استغلالا من أرض الحجاز؛ فطلحة بن عبيد الله كان قد جد واجتهد ودأب حتى اشترى عامة أسهم خيبر من الذين شهدوا فتحها مع النبي أو من ورثتهم، فلما فتح عثمان هذا الباب باع طلحة كل ما كان يملك من أسهم خيبر لأهل الحجاز ممن شهد فتح العراق بما كانوا يملكون هناك. ثم كان له مال آخر كثير، فاشترى به من بعض أهل الحجاز أرضهم في العراق، وباع هو نفسه أرضا كان يملكها في العراق بأرض كان هو يملكها في الحجاز. وفعل الناس فعله، فكل من كره الهجرة من الحجاز ليقيم بأرضه في الأقاليم باع أرضه تلك واشترى مكانها أرضا فيما يليه. ونشأ عن ذلك أولا أن ظهرت الملكيات الضخمة في العراق وغيره من الأقاليم. فالذين استطاعوا أن ينتفعوا بهذا الاقتراح إنما هم أصحاب الأموال الضخمة الذين كانوا يستطيعون أن يشتروا من أصحاب الملكيات الصغيرة ما يملكون؛ فاشترى طلحة، واشترى الزبير، واشترى مروان بن الحكم. وكثر النشاط المالي في ذلك العام من بيع وشراء واقتراض واستبدال ومضاربة. ثم لم يقتصر ذلك على الحجاز والعراق، وإنما شمل بلاد العرب كلها من جهة، والأقاليم المفتوحة كلها من جهة أخرى. وجدت الإقطاعات الكبيرة الضخمة، والضياع الواسعة العريضة من جهة، وقام فيها العاملون من الرقيق والموالي والأحرار من جهة أخرى، فظهرت في الإسلام طبقة جديدة من الناس: هي طبقة البلوتقراطية التي تمتاز إلى أرستقراطيتها التي تأتيها من المولد بكثرة المال وضخامة الثراء وكثرة الأتباع أيضا.
ونشأ عن ذلك ثانيا أن الذين اشتروا الأرض في بلاد العرب عامة وفي الحجاز خاصة قد أرادوا أن يستغلوا أرضهم، فاجتلبوا الرقيق وأكثروا من اجتلابه. ولم يمض وقت طويل حتى استحال الحجاز إلى جنة من أجمل جنات الأرض وأخصبها وأحسنها ثمرا وأعودها على أهلها بالغنى وما يستتبع الغنى من الترف والفراغ. وما هي إلا أن تنشأ في الحجاز نفسه، في مكة والمدينة والطائف، طبقة من هذه الأرستقراطية الفارغة التي لا تعمل شيئا، وإنما يعمل لها ما جلبت من الرقيق، والتي تنفق وقتها في فنون اللهو والعبث والمجون.
ونشأ عن هذا بعد ذلك أن جلبت الحضارة جلبا إلى الحجاز وغيره من بلاد العرب؛ فكان الترف والتبطل، وكانت الفنون التي تنشأ عن الترف والتبطل، فكان الغناء والإيقاع والرقص والشعر الذي لا يصور جدا ولا نشاطا، وإنما يصور بطالة وفراغا وتهالكا من أجل ذلك على اللذة أو عكوفا من أجل ذلك على النفس وتعمقا لما ينتابها من الهمم. وإلى جانب هذه الطبقة الأرستقراطية الفارغة عاش الرقيق الذين كانوا يملكون سادتهم ويدبرون حياتهم. وما يكون في هذه الحياة من النشاط الباطل وما يكون فيها من العواطف والأهواء. ثم إلى جانب السادة الأرقاء، والأرقاء السادة، عاشت طبقة أخرى من العرب البادين المحرومين لم تملك قط أرضا في الحجاز لتبيعها بأرض في العراق، ولم تملك قط أرضا في العراق لتشتري بها أرضا في الحجاز.
ولم يخطر لعثمان رحمه الله حين فكر في هذا الاقتراح أو فكر له فيه خاصته ومشيروه، شيء من هذه النتائج البعيدة، وإنما رأى شرا فأراد حسمه، أراد أن يخفف الهجرة على الأمصار، ويمسك الأعراب في بلادهم، ويجلب الأسرى والرقيق إلى بلاد العرب، ويستخلص لأهل الحجاز من أصحاب الملكيات الصغيرة في الأقاليم ما لهم ليشتروا به الأرض التي تليهم ويقوموا عليها من قريب. ولكنه لم يبلغ من ذلك ما أراد، وإنما أضاف شرا إلى شر وفسادا إلى فساد. فلست أدري أوفق لصرف الأعراب عن الهجرة إلى الأمصار أو لوقف هذه الهجرة وقتا ما، أم لم يوفق؛ فالتاريخ لا يحدثنا بشيء من ذلك. بل أنا أشك في أن التاريخ قد فطن لما أراد عثمان ومشيروه بهذا الانقلاب الخطير في الحياة الاقتصادية للمسلمين. وما أشك في أنه لم يوفق في تخفيف الضغط على الأمصار من هؤلاء الرقيق والأسارى الذين كان عددهم يزداد من حين إلى حين؛ لأن الفتوح لم تقف أيام عثمان، وإنما مضت في طريقها عازمة حازمة غير مترددة كما سنرى، ولأن أربعة أخماس الغنائم كانت تقسم بين الفاتحين، وهؤلاء الفاتحون مستقرون في أمصارهم لا يخرج أحدهم إلى الثغر الذي يليه إلا مرة كل أربعة أعوام، ولا يقيم في الثغر إلا ستة أشهر أو أقل منها قليلا أو أكثر منها قليلا؛ فهذه الغنائم إذن وفيها الرقيق كانت تثوب مع أصحابها إلى الأمصار، فكان عدد الرقيق في ازدياد متصل. ولم يكن بد من ذلك إلا أن يوقف الفتح وتعيش الدولة في ظل سلم متصل، وهذا ما لم يتح لها أيام عثمان؛ فقد كان التنافس شديدا بين ولاة الأمصار أيهم يكون أبعد من أصحابه أثرا في الفتح.
وكان التنافس شديدا بين قواد الثغور أيهم يسبق صاحبه إلى لقاء العدو في هذا الميدان أو ذاك، وإلى احتلال هذه المدينة أو تلك، وإلى احتياز الغنائم التي تملأ يديه فتسر جنده من جهة، وتسر أميره على المصر من جهة أخرى، وتسر الخليفة ومن حوله من أصحاب النبي في المدينة من جهة ثالثة. لم يستطع عثمان إذن أن يخفف ضغط المستعربين والمغلوبين على الأمصار عامة وعلى المصرين العراقيين خاصة، ولم يتح للذين باعوا أرضهم في الأمصار واشتروا بها أرضا في الحجاز، أن ينظموا أمورهم ويجلبوا ما يحتاجون إليه من الأيدي العاملة، فيقل عدد الرقيق في الأمصار. فقد أحدث عثمان هذا الانقلاب الاقتصادي سنة ثلاثين وقتل سنة خمس وثلاثين، واضطربت الأمور بين هاتين السنتين فلم يؤت الانقلاب ثمرته التي كانت ترجى منه في هذا الوقت القصير، وإنما آتى ثمره البغيض الخطير في أقصر وقت ممكن؛ لأن رءوس الأموال كانت تنتظره في الحجاز متشوفة إليه متهالكة عليه. ولم يكن عمر حين احتبس قريشا في المدينة قد احتبس أشخاصها فحسب، وإنما كان قد احتبس مع هؤلاء الأشخاص رءوس أموالهم أيضا إلى حد بعيد. فهم كانوا يتجرون بين الحجاز والأقاليم تجارات عظيمة واسعة تغل عليهم مالا كثيرا سائلا، ولكنهم لم يكونوا يستطيعون أن يستغلوا هذا المال السائل الذي لم يكن سيله ينقطع، لم يكن من اليسير عليهم أن يوظفوه في الأعمال الكبرى، كما يقول المحدثون. وإنما كان المال يجتمع إلى المال والنقد يضاف إلى النقد، وكان الفقراء وأوساط الناس يرون ذلك فيعجبون له ويعجبون به، وقد تنطلق فيه الألسنة فيضطر الأغنياء إلى أن يكفروا عن ثرائهم بالصدقات والعطاء، يبتغي الأخيار منهم بهذا رضا الله ورضا الناس، ويتقي غيرهم بهذا ما يكون من الحسد والحقد في بعض النفوس.
لم يمنع عمر إذن قريشا من أن تكسب المال؛ فلم يكن له إلى ذلك سبيل، ولكنه استيقن أن الأغنياء يكسبون من المال أكثر مما ينبغي لهم أن يكسبوا؛ ولذلك قال في آخر حياته: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت لأخذت من الأغنياء فضول أموالهم فرددتها على الفقراء.» وقد روي أن أهل المدينة أصبحوا ذات يوم فسمعوا رجة عظيمة، فسألت عائشة عن هذه الرجة، فقيل لها: إنما هي عير لعبد الرحمن بن عوف قد أقبلت وعليها تجارة له. قالت عائشة: أما إني سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يقول: «كأني بعبد الرحمن بن عوف على الصراط يميل به مرة ويستقيم أخرى حتى يفلت ولم يكد.» فبلغ ذلك عبد الرحمن بن عوف، فقال: هي وما عليها صدقة. قال الرواة: وكان ما عليها أفضل منها. وكانت العير خمسمائة راحلة.
2
وتحدث ابن سعد عن سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي عن خالد بن يزيد بن أبي مالك عن أبيه عن عطاء بن أبي رباح عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أنه قال: «يابن عوف، إنك من الأغنياء، ولن تدخل الجنة إلا زحفا، فأقرض الله يطلق لك قدميك. قال ابن عوف: وما الذي أقرض الله يا رسول الله؟ قال: تبدأ بما أمسيت فيه. قال: أمن كله أجمع يا رسول الله؟ قال: نعم. قال: فخرج ابن عوف وهو يهم بذلك، فأرسل إليه رسول الله
صلى الله عليه وسلم . فقال: إن جبريل قال: مر ابن عوف فليضف الضيف، وليطعم المسكين، وليعط السائل ويبدأ بمن يعول؛ فإنه إذا فعل ذلك كان تزكية ما هو فيه.»
3
هذه كانت ثروة عبد الرحمن أيام النبي، وقد زادت أضعافا مضاعفة بعد النبي بالتثمير والتوسع فيه من جهة، وبما أفاء الله على المسلمين من جهة أخرى. وقيل: إنه أوصى في سبيل الله بخمسين ألف دينار ذهبا، وترك ميراثا عظيما، فكان له ألف بعير وثلاثة آلاف شاة، وكان يزرع في الجرف على عشرين ناضحا. وترك أربع زوجات، فكان نصيب كل واحدة منهن من الثمن يقوم بما بين الثمانين ألفا إلى مائة ألف. قال الرواة: وترك عبد الرحمن ذهبا قطع بالفئوس حتى مجلت أيدي الرجال منه. ولم يكن عبد الرحمن فذا في ذلك، وإنما كان أمره فيه كأمر غيره من كبار الصحابة وسادة قريش. فلما أحدث عثمان هذا الانقلاب الاقتصادي أتاح لهؤلاء الأغنياء أن يوظفوا أموالهم، فأصبحوا رجال مال وأعمال معا. وما هي إلا أن تنشأ الملكيات الضخمة كما قلنا ، ويحدث في أول صدر الإسلام ما حدث في آخر الجمهورية الرومانية من هذه «اللاتيفونديا» التي أضاعت الجمهورية. فاللاتيفونديا التي أضاعت الجمهورية الرومانية هي بعينها التي أضاعت الخلافة الإسلامية؛ ملكت قلة قليلة من الرومانيين أرض إيطاليا، فانقطع الناس إليها وأصبحوا أحزابا وشيعا؛ وملكت قلة قليلة من المسلمين أرض الأقاليم، فانقطع الناس إليها وانقسموا بينها شيعا وأحزابا. ونتيجة هذا كله أن هذا النظام الذي استحدثه عثمان عن رأيه هو، أو عن رأي مشيريه، لم تكن له نتائجه السياسية وحدها، من نشأة هذه الطبقة الغنية المسرفة في الغنى، التي استهوت الناس وفرقتهم أحزابا وتنازعت السلطان فيما بينها بفضل هذه التفرقة. وإنما كانت له نتائجه الاجتماعية أيضا؛ فقد بلغ نظام الطبقات غايته بحكم هذا الانقلاب، فوجدت طبقة الأرستقراطية العليا ذات المولد والثراء الضخم والسلطان الواسع، ووجدت طبقة البائسين الذين يعملون في الأرض ويقومون على مرافق هؤلاء السادة، ووجدت بين هاتين الطبقتين المتباعدتين طبقة متوسطة هي طبقة العامة من العرب، الذين كانوا يقيمون في الأمصار ويغيرون على العدو، ويحمون الثغور، ويذودون عمن وراءهم من الناس وعما وراءهم من الثراء. وهذه الطبقة المتوسطة هي التي تنازعها الأغنياء ففرقوها شيعا وأحزابا. والذي يتتبع تاريخ المسلمين يلاحظ أن الصراع الأول إنما كان بين الأغنياء ثم بين هذه الطبقة الوسطى وهؤلاء الأغنياء. فأما الطبقة الثالثة؛ طبقة العاملين في الأرض والقائمين على المرافق المختلفة، فلم يظهر أمرها إلا بعد ذلك، ولها قصة أخرى.
فالفتنة إذن إنما كانت عربية، نشأت من تزاحم الأغنياء على الغنى والسلطان، ومن حسد العامة العربية لهؤلاء الأغنياء. ولم يكد نظام عثمان هذا يذاع ويسرع الأغنياء إلى الانتفاع به؛ حتى ظهر الشر، وظهر في الكوفة قبل أن يظهر في أي مصر آخر، وظهر في مجلس سعيد بن العاص نفسه. وقد كان ذلك سنة ثلاث وثلاثين. فقد كان سعيد، كما قدمنا، تخير وجوه الناس وقراءهم وذوي الصلاح منهم ليدخلوا عليه إذا لم يجلس للعامة، وليسمروا عنده إذا كان الليل. فقال ذات يوم أو ذات ليلة: إنما السواد - سواد الكوفة - بستان لقريش. فتغاضب القوم، وكانت كثرتهم من اليمانية، وردوا عليه في ذلك ردا غليظا، وقالوا له: إنما السواد فيء أفاءه الله علينا، وما نصيب قريش منه إلا كنصيب غيرها من المسلمين. وغضب صاحب شرطة سعيد؛ لأن القوم ردوا على الأمير ردا غليظا، فزجرهم، فقاموا إليه فضربوه حتى أغمي عليه. فقطع سعيد سمره واحتجب عن هؤلاء الناس، فلزموا مجالسهم وأنديتهم، وأطلقوا ألسنتهم في سعيد وفي عثمان وفي قريش، وتسامع الناس بهم واجتمع بعض الناس إليهم. فكتب سعيد إلى عثمان ينبئه بأمرهم، ويذكر أنه يخافهم أن يفتنوا الناس. فأجابه عثمان أن يسيرهم إلى الشام، وكتب إلى معاوية يأمره بلقائهم واستصلاحهم. وزعم رواة آخرون أن سعيدا جلس للناس وحضر مجلسه هؤلاء النفر من الوجوه والقراء، فتحدث الناس في جود طلحة بن عبيد الله، فقال سعيد: من كان له ثراء طلحة ومثل ما يملك من الأرض خليق أن يكون جرادا، ولو كان لي مثل ما لطلحة لأعشتكم في رغد. فقال غلام مضري من بني أسد: وددت لو كانت للأمير أرض كذا على الفرات - وكانت هذه الأرض ملكا للدولة، فكانت إذن من فيء المسلمين - فغضب هؤلاء النفر وزجروا الغلام وتقاول الناس، فقام هؤلاء النفر إلى الغلام فضربوه وضربوا أباه حتى أغمي عليهما، فغضبت لذلك بنو أسد، وحاول سعيد أن يرد الأمر إلى العافية فلم يفلح. وألح عليه أهل الكوفة في أن يخرج هؤلاء الناس، فأخرجهم بأمر عثمان إلى الشام.
والشيء المهم هو أن سعيدا قد نفى هؤلاء الناس عن أرضهم. ولست أدري إلى أي حد يجوز للأمير أن ينفي المسلمين من أرضهم سواء كان هذا النفي من عند نفسه أو بأمر من الخليفة. فإخراج المسلمين عن أرضهم إنما يجوز إذا قامت البينة عليهم بأنهم حاربوا الله ورسوله وسعوا في الأرض فسادا، فهنالك يجوز للإمام أن يقتلهم أو يصلبهم أو يقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفيهم من الأرض.
ولم تقم بينة على أن هؤلاء الناس من القراء والصالحين وأصحاب البلاء في الفتح، قد حاربوا الله ورسوله أو سعوا في الأرض فسادا؛ فهم لم يخلعوا يدا من طاعة، ولم ينكروا سلطان عثمان ولا سلطان واليه عليهم، وإنما كانوا يشهدون الصلاة مع هذا الأمير ويؤدون ما عليهم من الحق. وكل ما يمكن أن يأخذوا به هو أنهم نقدوا سيرة الأمير أو بعض قوله، وتجاوزوا حدهم، فضربوا ذاك الغلام أو ضربوا صاحب شرطة الأمير. فأما نقدهم أعمال الأمير وأقواله فحق لهم لا ينازعهم فيه منازع، وكان الشيخان يطلبانه إلى الناس قبل عثمان، فما ينبغي أن يعاقبوا عليه. وأما ضربهم الغلام أو صاحب الشرطة فاعتداء يمكن أن يعاقبوا عليه بأيسر التعزير، باللوم أو بالسجن أو بإقصاص الرجلين منهم، فأما نفيهم من الأرض فأمر عظيم. وقد قال قائلون في العصر القديم: إن عمر قد نفى من المدينة نصر بن حجاج حين خاف منه الفتنة على النساء، فجائز لعثمان أو لعامله أن ينفي هؤلاء النفر من الكوفة حين خاف منهم الفتنة على المسلمين. ولكن نفي نصر بن حجاج لم يكن نفيا بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة، لم يكن عقوبة. فنصر بن حجاج لم يقترف إثما، ولم يمنح قده ما منحه الله من الاعتدال، ولم يسبغ على وجهه ما أسبغ الله من جمال، ولم يغر النساء بأن يتبعنه ويفتن به. وما أرى إلا أن عمر حبب إليه الخروج من المدينة ودعاه إليه وأعانه عليه بالمال، وتقدم إليه في ذلك بلهجته الحازمة التي تشبه العنف وليست عنفا، وليس كل الناس قد رضي عن إزعاج عمر لهذا الفتى عن أرضه. وأعود فأقول إن عمر لم ينف هذا الفتى ولم يعاقبه، وإنما أغراه بالخروج وأعانه عليه.
فأما سعيد فإنه لم يغر هؤلاء القوم بالخروج من الكوفة ولم يعنهم على ذلك، وإنما أخرجهم من أرضهم بقوة السلطان، وأرسلهم إلى دار غربة لا يطمئنون إليها، ولا يسكنون إلى أهلها، وأسلمهم هو أو أسلمهم عثمان إلى معاوية ليمسك عليهم حريتهم، وليستصلحهم كما يرى استصلاحهم. فهو قد أخرجهم من مصرهم وأزعجهم عن أهلهم ونقلهم من ديوانهم وسلبهم حريتهم، وليس له في ذلك حق قليل أو كثير. وقد يقال: إنه لم ينفهم من الأرض بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة، فهو قد أخرجهم من دار إسلام إلى دار إسلام، والأرض الإسلامية كلها دار للمسلمين كلهم.
ولكن الذين عاصروا عثمان من أصحاب النبي ومن التابعين أنكروا هذا التسيير على كل حال، ورأوه نفيا لا يجوز. ومهما يقل القائلون فإن للإمام أن يعاقب، ولكن ليس له أن يتجاوز بعقوبته حدود العرف المألوف. وسنرى أن ولاة عثمان أسرفوا على أنفسهم وعلى إمامهم وعلى الناس بالنفي والتسيير.
وقد تلقى معاوية هؤلاء النفر فأنزلهم في كنيسة، وأجرى عليهم ما يقيم أودهم، وجعل يسعى إليهم مرة ويدخلهم عليه مرة أخرى؛ يناظرهم ويؤامرهم ويعظهم فلا يبلغ منهم شيئا. ناظرهم في فضل قريش على العرب، فلم يعرفوا لقريش على العرب فضلا. والإسلام لا يعرف لقريش فضلا على العرب ولا على غيرهم من الناس، إلا أن يكون هذا الفضل هو أن النبي قد بعث منهم. ولكن انبعاث النبي من قريش لا يبيح لها أن تتحكم في رقاب الناس، ولا أن تمتاز من سائر المسلمين، كما جعلت تمتاز في أيام عثمان، وهو على كل حال لا يبيح لأمير قرشي أن يقول: إنما السواد بستان لقريش. وناظرهم في الطاعة للإمام وولاته فلم يبلغ منهم شيئا؛ لأنهم لم ينكروا الطاعة للإمام ما أقام العدل وأمضى الحق وأحيا السنة وأمات البدعة، وإنما أنكروا طاعة الإمام وولاته إن جاروا عن القصد وانحرفوا عن الطريق. وناظرهم في نفسه فلم يبلغ منهم شيئا، أنكروا عليه أن يعظهم وأن يسير فيهم سيرة الأمير، وطلبوا إليه أن يعتزل الإمارة ليليها من هو أقدم منه بالإسلام عهدا، وأكرم منه أبا، وأجدر منه أن يقيم حدود الإسلام.
ويظهر أن معاوية لم يستيئس من إصلاح هؤلاء النفر فحسب، وإنما خافهم أيضا على أهل الشام. وكان معاوية كثير الخوف على أهل الشام، فكتب إلى عثمان يستعفيه من إقامتهم عنده، فأعفاه، وتقدم إليه في أن يردهم إلى مصرهم، فلم يكادوا يعودون إلى الكوفة حتى أطلقوا ألسنتهم في سعيد وفي معاوية وفي عثمان، وحتى انتشرت دعوتهم شيئا ما. فأعاد سعيد الكتابة إلى عثمان يستعفيه من إقامة هؤلاء الناس في مصرهم، فأعفاه عثمان وأمره أن ينفيهم مرة أخرى إلى الجزيرة عند عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، وكان أميرا لمعاوية على حمص والجزيرة. فأرسلوا إلى عبد الرحمن، وتلقاهم أشد لقاء وأعنفه، وجعل يسومهم الخسف، ويعظم لهم أمر نفسه وأمر أبيه وأمر قريش، لا بالمناظرة والحجاج، بل بالقول الغليظ، والسيرة التي هي أغلظ من القول. وجعل لا يركب إلا أمشاهم حول ركابه، يؤنبهم ويزجرهم ويذلهم ويجعلهم للناس نكالا؛ فلما شق عليهم ذلك أظهروا الطاعة وأعلنوا التوبة واستقالوه، فأقال عثرتهم، وأرسل الأشتر واحدا منهم بتوبتهم وطاعتهم إلى عثمان، وأقبل الأشتر على عثمان فقال له وسمع منه. وأذن له عثمان في أن ينزل من الأرض حيث يشاء، فآثر الرجوع إلى أصحابه والإقامة عند عبد الرحمن. ولكن هذه الإقامة لم تطل؛ فقدم سعيد على عثمان واستخلف على الكوفة، فوثب أصحاب المنفيين أو المسيرين وأجمعوا أمرهم أن يحولوا بين سعيد وبين الرجوع إليهم، وكتبوا إلى أصحابهم يستقدمونهم فأقبلوا مسرعين حتى بلغوا الكوفة، وأقسموا لا يدخلها عليهم سعيد ما حملوا سيوفهم، ثم خرجوا في جمع منهم يقودهم الأشتر حتى بلغوا الجرعة، فانتظروا سعيدا حتى ردوه، وأكرهوا عثمان على أن يعزله عنهم ويولي عليهم غيره، واختاروا أبا موسى الأشعري، فلم يجد عثمان بدا من توليته عليهم. وكذلك أكره على أن يعزل عامله على الكوفة مرتين: عزل الوليد لأنه لها وعبث واستعلى وشرب الخمر، وعزل سعيدا لأنه اشتد وقسا وأسرف في تمييز قريش. ولم يقترح عليه أهل الكوفة أحدا حين عزل الوليد، فولى عليهم سعيدا، فلما أكرهوه على عزل سعيد لم يتركوا له اختيار الأمير، وإنما اختاروه هم، واختاروا رجلا من أصحاب النبي وهو إلى ذلك يمان، فولى أمرهم أبو موسى الأشعري، وثابوا إلى شيء من الاستقرار، ولكنه استقرار لم يدم إلا قليلا.
الفصل التاسع
وكان أبو موسى الأشعري عامل عمر على البصرة، فأقره عليها عثمان أعواما، يقول بعض الرواة إنها ثلاثة، ويقول أكثرهم إنها ستة. والكثرة من أهل البصرة مضرية، وفيهم ربعيون كثيرون، وفيهم قلة يمانية. ولأمر ما أحب عمر أن يولي رجلا من اليمن على البصرة وكثرة أهلها مضرية، وأن يولي ثقفيا هو المغيرة بن شعبة على الكوفة وكثرة أهلها يمانية، وأن يولي قرشيين مضريين على الشام ومصر، وكثرة العرب فيهما يمانية أيضا؛ يريد بذلك في أكبر الظن أن يقاوم العصبية حتى يزيلها، فيخالف بين عصبية الولاة وعصبية الرعية. وقد استقامت أمور البصرة في عهد أبي موسى أيام عثمان أعواما، لم ينكر أهلها شيئا من أميرهم ولم ينكر الأمير شيئا من رعيته. وكان أبو موسى رجلا من أصحاب النبي مقدما فيهم، كريم السيرة جميل الهدي ممعنا في الفتح. ولكن العصبية ظهرت أيام عثمان، وجعل كل حي من أحياء العرب ينظر إلى نفسه وإلى حظه. نظرت قريش وقرابة عثمان خاصة، فإذا ثلاث من الولايات الأربع الكبرى يليها أمراء من قريش: الوليد بن عقبة في الكوفة وبعده سعيد، ومعاوية بن أبي سفيان في الشام، وعمرو بن العاص في مصر وبعده عبد الله بن سعد بن أبي سرح.
فلم يبق إلا مصر واحد من هذه الأمصار الكبرى لم يل أمره أموي ولا قرشي ولا مضري، وإنما وليه رجل من أهل اليمن. فكان مركز أبي موسى بين هؤلاء الولاة غريبا شاذا، هو اليمني الوحيد الذي يلي مصرا ذا خطر، ومصرا كثرة أهله مضرية. وما من شك في أن قريشا تنبهت لذلك، وتنبهت له قرابة عثمان، وتنبهت له المضرية نفسها في البصرة. فيقول بعض الرواة: إن رجلا مضريا من بني ضبة، هو غيلان بن خرشة الضبي، خرج إلى عثمان بن عفان فقال: أما لكم صغير فتستشبوه فتولوه البصرة؟ حتى متى يلي هذا الشيخ البصرة؟ يعني أبا موسى، كان وليها بعد موت عمر ست سنين، فعزله عثمان. ويقول آخرون: إن بعض الكور المفتوحة انتقضت على أبي موسى، فخطب الناس فرغبهم في الجهاد وحبب إليهم أن يسعوا إلى عدوهم راجلين . فقبل بعضهم، وتلبث بعضهم حتى يرى ما يصنع الأمير. فلما خرج أبو موسى نظر الناس فإذا هو راكب وقد حمل أثقاله على أربعين من البغال، فأقبلوا عليه فقالوا له: احملنا على هذا الفضول؛ فزجر الناس حتى ارتدوا عنه، ولكنهم أرسلوا وفدا إلى عثمان يستعفيه من أبي موسى. فلما سألهم عمن يحبون لم يقترحوا أحدا، وإنما قالوا: من شئت فوله؛ فإن في أي الناس اخترته عوضا منه. وقالوا: ما كل ما نعلم نحب أن نقول! واتهموا أبا موسى بأنه يأكل أرضهم ويطعم رهطه من الأشعريين، فعزله عثمان، واختار لولاية البصرة ابن خاله عبد الله بن عامر بن كريز، فدخل البصرة واليا عليها وهو ابن خمس وعشرين سنة.
وبلغ أبا موسى تولية هذا الفتى فلم يحرج صدره لذلك، وإنما قال للناس: «يأتيكم غلام خراج ولاج كريم الجدات والخالات والعمات يجمع له الجندان.»
1
ولم يخطئ الشيخ؛ فقد كان عبد الله بن عامر فتى من فتيان قريش خراجا ولاجا، ذا حزم وعزم وقوة وبأس ونفوذ من المشكلات. شغل نفسه وشغل الناس معه بالفتح، ونافس فيه سعيد بن العاص فسبقه، وسار في الناس سيرة جد وكرم ومضاء، فلم يلق من أهل البصرة ما لقي الوليد وسعيد من أهل الكوفة، وما لقي عبد الله بن سعد بن أبي سرح من أهل مصر. ومصدر ذلك في أكبر الظن سيرته وحزمه وبعد رأيه من جهة، وأن الكثرة الكثيرة من رعيته كانت مضرية يلي أمرها مضري، فلم ينكروا ولم يشكوا. ومع ذلك لم يسلم مصر عبد الله بن عامر من بعض الشر. وآية ذلك أن فريقا من أهل البصرة شاركوا في الخروج على عثمان وكانوا أقل من غيرهم. ولكن هذا يدل على أن المصر لم يكن كله راضيا لا عن عثمان ولا عن واليه. ولم تخل البصرة من بعض ما شكت منه الكوفة؛ فقد سير بعض أهلها إلى الشام كما سير إلى الشام بعض أهل الكوفة. ولكن تسيير من سير من أهل البصرة كان ظلما صارخا أخذ فيه بالظنة ، ولم يلبث معاوية أن تبين ما فيه من جور. فقد سعى ساع إلى عبد الله بن عامر بأن عامر بن عبد القيس يخالف المسلمين في أمور أحلها الله لهم؛ فهو لا يأكل اللحم، ولا يرى الزواج، ولا يشهد الجمعة. وكتب فيه عبد الله بن عامر إلى عثمان، فقد قال بعض الرواة: إن عثمان استقدمه إلى المدينة، فلما تبين أنه مكذوب عليه رده إلى مصره موفورا. وقال آخرون: إن عثمان كتب إلى عامله على البصرة أن يسيره إلى معاوية، فلما أدخل على معاوية وجد عنده طعاما فشارك فيه حين دعي إليه، ورآه معاوية يأكل اللحم فتبين الكذب عليه، وامتحنه فيما اتهم به، فقال: إنه أمسك عن أكل اللحم من ذبائح القصابين منذ رأى قصابا يعنف بشاة في ذبحها، وأنه يشهد الجمعة في مؤخر المسجد ويخرج في أول الناس، وأنه أخرج من البصرة حين كان يخطب عليه لتزويجه، فأراد معاوية أن يرده إلى مصره، ولكنه أبى أن يعود إلى بلد يستحل أهله الوشاية والسعاية والنفي، فأقام بالشام، ومضى في زهده ونسكه. وأحبه معاوية، فكان لا يراه إلا سأله عن حاجته، فيجيب: لا حاجة لي. فلما أكثر عليه معاوية، قال له عامر: اردد علي بعض حر البصرة؛ فإن الصوم يخف علي في بلدكم. وما أرى أن عثمان قد أتيح له وال استطاع أن يكفيه من قبله من الناس إلا عبد الله بن عامر في البصرة ومعاوية في الشام.
فلندع العراق بعد أن رأينا من أمر مصريه ما رأينا، ولننتقل إلى الشام بعد أن نلاحظ أن الناس لم ينقموا من عبد الله بن عامر إلا قرابته من عثمان وحداثة سنه، وأنه جاء بعد أبي موسى، وأنه سار في الناس سيرة قرشية لعلها لم تكن تلائم هدي أصحاب النبي، ولكنها لاءمت عصبية المضريين وطموحهم إلى الفتح وشرههم إلى الغنيمة.
وكأن عبد الله بن عامر قد كان يعرف ما ينقم الناس من أمر توليته، فحرص على أن يبين للناقمين أنه كان للولاية أهلا بها وجديرا. ولعله أسرف بعض الإسراف في أمور الدين، فقد قيل: إنه أمعن في الفتح وبلغ منه ما أراده مرة. فقيل له: لم يبلغ أحد من الفتح ما بلغت. فقال: لا جرم، لأجعلن شكري لله على ذلك أن أحرم بالعمرة من حيث انتهيت. ولامه عثمان على أن أحرم من أعماق فارس على حين أن للإحرام أماكن معلومة لا يحرم قبلها إلا مسرف على نفسه. وهذه القصة نفسها تدل على مقدار ما كان عبد الله بن عامر يبذل من الجهد ليحمد الناس سيرته في الدين والدنيا جميعا.
الفصل العاشر
وكان معاوية أعظم الولاة حظا من كل شيء أيام عثمان، وكان واليا لعمر على دمشق، فلما مات أخوه يزيد بن أبي سفيان وكان والي عمر على الأردن، ضم عمر إلى معاوية عمل أخيه، وشكر ذلك له أبو سفيان: ولكن عمر لم يحاب معاوية ولم يرد أن يعزي أبا سفيان عن موت ابنه بضم عمله إلى أخيه، وإنما رضي عن معاوية ورأى فيه كفاية وعزما وحزما، فاستكفاه الأردن فكفاه، وقد مات عمر ومعاوية على هذين الجندين، فأقره عثمان عليهما، كما أقر عمال عمر جميعا عامه الأول. ولكن عبد الرحمن بن علقمة الكناني عامل عمر على فلسطين يموت، فيضم عثمان فلسطين إلى معاوية، ثم يمرض عمير بن سعد الأنصاري عامل عمر على حمص ويستعفي عثمان من عمله، فيعفيه ويضم حمص إلى معاوية، فتخلص له أرض الشام كلها، ويصبح أعظم العمال خطرا وأعلاهم قدرا أيام عثمان، فهو قد اجتمعت له الأجناد الأربعة، وأصبح بحكم مركزه الجغرافي قويا إلى حد غير مألوف. وقد وقعت ولايته بين الحجاز وفيه أمير المؤمنين ومركز الخلافة، ومصر، وهي والولاية التي تكاد تداني ولايته قوة وبأسا وإن زادت عليها خصبا وثراء. وهو على ساحل بحر الروم وعلى حدود الروم أيضا يستطيع إن شاء أن يستمد الخليفة، ويستطيع إن شاء أن يمد الخليفة، ويستطيع كذلك أن يستمد مصر ويمدها. ثم أمامه بابان عظيمان من أبواب الجهاد: البحر من جهة، وثغور الروم في البر من جهة أخرى . فهو يستطيع أن يرفع شأن الدولة ويرفع شأن نفسه، وأن يعلي كلمة الإسلام، ويبني لنفسه مجدا لا يستطيع أحد من العمال أن يطاوله.
وقد طال عهد معاوية بالشام، فعرفه أثناء خلافة عمر كلها وأيام خلافة عثمان كلها، وقد أحب أهل الشام وأحبه أهل الشام ورضي عنه الخليفتان جميعا، وأصبح لطول ولايته وحسن مدخله إلى نفوس رعيته أشبه بالملك منه بالوالي. فليس تاريخ الخلافة يعرف واليا أتيح له من طول الولاية واتصالها واستقرارها وتدرجها في الاتساع مثل ما أتيح لمعاوية. وليس غريبا أن يرضى معاوية عن نفسه وحظه حين يرى العمال من حوله يعزلون بين حين وحين أثناء خلافة عمر وعثمان، ويرى نفسه مستقرا لا يريم، والولايات تضم إليه واحدة في إثر الأخرى. ولو قد كان معاوية مقصرا في عمله أو جائرا على رعيته لما أقره عمر ولا أعفاه من العزل، بل من العقوبة إن اقتضى الأمر أن يعاقب. وأكبر الظن أنه لم يغير سيرته في أهل الشام بعد وفاة عمر واستخلاف عثمان. رضي عن سيرته حين كان الخليفة متشددا متحرجا، فلم ير بالإقامة عليها بأسا حين أصبح الخليفة هينا لينا سمحا. ولهذا لم يشارك أهل الشام فيما شارك فيه أهل الأمصار الأخرى من اتهام عمالهم والتشهير بهم والخلاف على عثمان. فالذين حاصروا عثمان وفدوا من الكوفة والبصرة ومصر ولم يكن بينهم شامي واحد. ولهذا أيضا كان عثمان إذا أراد أن يسير أحدا من المخالفين عليه والمنكرين على عماله نفاه إلى الشام؛ لا يستثني من ذلك أهل المدينة أنفسهم. فسترى أنه حين ضاق بأبي ذر أمره أن يلحق بديوانه في الشام، وكان أبو ذر قد خرج إلى الشام غازيا فكتب اسمه في الديوان هناك، فرده عثمان إلى الشام خوفا على أهل المدينة من لسانه أو من عودته. فقد كان حزم معاوية إذن هو الملجأ الذي كان عثمان يلجأ إليه إذا أراد تأديب الذين يسرفون عليه وعلى عماله في المعارضة. ويجب أن نعترف بأن معاوية كان حازما حتى على عثمان نفسه ، فهو قد كان يتلقى المنفيين الذين يرسلهم إليه ويحاول إصلاحهم، فإذا أعياه ذلك طلب إلى عثمان أن يعفيه من نزولهم عليه، ولم يكن عثمان يرد له طلبا.
ولم يقصر معاوية في انتهاز ما أتيح له من حظ؛ فهو لم يقم في الشام وادعا مطمئنا يدبر أمر ولايته ولا يزيد على ذلك، وإنما كانت نفسه تنازعه إلى الفتوح نزاعا شديدا، وكان في أيام عمر أشبه شيء بالفرس الذي يعض شكيمته تحرقا إلى العدو، ولكن عمر كان يمسكه ويأبى عليه. وكان البحر يدعو معاوية دعاء ملحا، وكان معاوية يتوسل إلى عمر في أن يغزيه البحر، فيشتد عمر في رفض ما كان يطلب إليه، حتى حذره مرة من أن يعود إليه بحديث البحر، فلما استخلف عثمان طلب إليه معاوية ما كان يطلب إلى عمر، فأذن له على ألا يختار هو الغزاة ولا يقرع بين الجند بل يخير الناس، فمن اختار منهم غزو البحر قبله وأعانه، ومن لم يختر أقام من أمره على عافية. وما هي إلا أن يتخذ معاوية أسطولا ويغزو في البحر خمسين غزاة أو أكثر، فيثير ذلك غيرة الوالي على مصر عبد الله بن سعد بن أبي سرح، فيصنع صنيع معاوية؛ حتى يقول المؤرخون: إن معاوية غزا قبرص من الشام وغزاها ابن أبي سرح من مصر، فالتقى الجيشان في الجزيرة.
وكانت إلى معاوية حماية الثغور البرية مما يلي بلاد الروم، فكان يغير على العدو في الشتاء والصيف. وكان هذا كله يتيح له من الغنائم والفيء ما يسر الجيش ويسر بيت المال.
وليس من شك في أن عثمان هو الذي مهد لمعاوية ما أتيح له من نقل الخلافة ذات يوم إلى آل أبي سفيان وتثبيتها في بني أمية. فعثمان هو الذي وسع على معاوية في الولاية، فضم إليه فلسطين وحمص، وأنشأ له وحدة شامية بعيدة الأرجاء، وجمع له قيادة الأجناد الأربعة، فكانت جيوشه أقوى جيوش المسلمين. ثم مد له في الولاية أثناء خلافته كلها كما فعل عمر، وأطلق يده في أمور الشام أكثر مما أطلقها عمر. فلما كانت الفتنة نظر معاوية فإذا هو أبعد الأمراء بالولاية عهدا وأقواهم جندا وأملكهم لقلب رعيته.
وقد كان عثمان يستطيع، لو أراد أن يحتفظ بسيرة عمر، أن يقر معاوية على دمشق والأردن، ويحتفظ بحمص وفلسطين ولايتين تتبعان المدينة مباشرة. ولو قد فعل ذلك لاحتفظ بسيرة عمر أولا، ولأتاح للنابهين من شيوخ الصحابة وشباب العرب أعمالا تحول بينهم وبين الفراغ وتحول بينهم وبين السخط، وتحول بينهم وبين الغضب والثورة أو التحريض على الثورة. ولو قد فعل ذلك لحال بين معاوية وبين ما أقدم عليه من الاستئثار حين أضرمت نار الفتنة، ولأتاح المسلمين أن يحتفظوا بالأمر شورى بينهم؛ ولكن هذا الملك الضخم الواسع المتصل مكن لمعاوية في الأرض، ويسر له أن يرسل إلى مصر من يقطعها عن عاصمة الخلافة، وأن يرسل إلى الحجاز ثم إلى بلاد العرب من يحتازها من دون علي، وأن ينظر علي ذات يوم فإذا معاوية قد استأثر من دونه بخير ما في الدولة من الأمصار والأقاليم. وليس لذلك مصدر إلا مهارة معاوية أولا، وضخامة ولايته ثانيا.
الفصل الحادي عشر
فإذا تركنا الشام ومضينا نحو الغرب انتهينا إلى مصر. وكان عمر قد ترك عمرو بن العاص واليا عليها، فأقره عثمان كما أقر غيره من عمال عمر وقتا ما. ولكن العام الأول من ولاية عثمان لم يكد ينقضي حتى جعلت قرابة عثمان تنظر إلى مصر نظرة لا تخلو من طمع فيها وطموح إليها. والناس يختلفون في عزل عمرو عن مصر وتولية عبد الله بن سعد بن أبي سرح عليها: فقوم يزعمون أن المصريين شكوا عمرا إلى عثمان فعزله عنهم، وآخرون يزعمون أن عمرا لم يعزل لسخط المصريين عليه أو ضيقهم به، وإنما هو الكيد عزل أميرا وولى مكانه أميرا آخر. والشيء البين من أحاديث الرواة هو أن عثمان كان يرشح عبد الله بن سعد بن أبي سرح أخاه من الرضاعة لأمر عظيم. فهم يقولون: إن عمرا كان قد أغار على إفريقية فأصاب شيئا من غنيمة ثم رجع . فكان من الطبيعي أن يخلي عثمان بين واليه على مصر وبين ما قبله من الثغور يغير عليها إغارة استطلاع ثم إغارة فتح، كما كان الشأن بالقياس إلى غيره من العمال في الكوفة والبصرة والشام. ولكن عثمان كف عمرا عن هذا الغزو، وأرسل إلى إفريقية جيشا لا يذعن لسلطان الوالي في مصر، وإنما يتصل مباشرة بالمدينة متخطيا عمرا على غير المألوف، وأمر عثمان على هذا الجيش عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وقال له: إن فتحت عليك إفريقية فلك خمس الخمس من الغنيمة.
وطبيعي أن يغضب لذلك عمرو بن العاص؛ لأن عثمان خس به عن نظرائه من العمال. فلم يكن عثمان يرسل الجيوش من قبله مباشرة إلى الثغور، وإنما كان ذلك إلى العمال، يغزو معاوية الروم ويغزو عامل البصرة والكوفة بلاد الفرس، يؤامرون الخليفة في ذلك، ولكن لهم الرياسة والإشراف، لا يتخطون ولا يفتات عليهم.
وقد احتفل عثمان لفتح إفريقية، فرمى عبد الله بن سعد بن أبي سرح بالرجال وسرح معه نفرا من أصحاب النبي وجماعة من شباب قريش وعددا غير قليل من الأنصار، وأمره إذا فرغ من إفريقية أن يرسل فريقا من جيشه لغزو الأندلس من قبل البحر. وقد أتيح لابن أبي سرح فتح إفريقية، وأتيحت له غنائم كثيرة قسمها بين الناس، وأخذ لنفسه خمس الخمس وأرسل سائره إلى عثمان. وقيل: إن مروان بن الحكم اشترى خمس الخمس بمائة ألف دينار أو مائتي ألف، وأدى بعض الثمن ووهب له عثمان سائره. قال الرواة: فسخط الجيش لما آثر عثمان به عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وأرسلوا إلى عثمان وفدا يراجعه في ذلك. فقال لهم عثمان: أنا نفلته ما أخذ، فإن أقررتموه فذاك، وإن سخطتم فهو رد. قال القوم: قد سخطنا. قال عثمان: فهو رد إذن. قال القوم: فاعزله عنا، فلن تحسن الصلة بينه وبيننا بعد الذي كان. فأجابهم عثمان إلى ما أرادوا، وكتب إلى عبد الله يأمره برد ما أخذ ويعزله عن إفريقية. وعاد عبد الله بعد ذلك إلى مصر وفي نفسه شيء من الحسرة وخيبة الأمل، فقد فتح الله على يديه إقليما ذا خطر، ثم رد هو عن هذا الإقليم الذي فتحه، ولم يتح له حتى أن يحتفظ بالنفل الذي نفله عثمان إياه. وما من شك في أن قرابة عثمان غضبت لعبد الله بن سعد، وأبت إلا أن تعوضه مما فقد خيرا منه، فما زالت بعثمان حتى ولاه خراج مصر، وترك لعمرو صلاتها وحربها. ولم يكن بد من أن يكون الخلاف بين هذين العاملين. فجائز أن يكون عمرو قد أغرى بعبد الله وحرض عليه حتى استرد الخليفة منه ما قد نفله وعزله عن إفريقية. ومهما يكن من شيء، فقد ثار الخلاف بين الرجلين، فكتب عبد الله إلى عثمان أن عمرا قد كسر علي الخراج. وكتب عمرو إلى عثمان أن عبد الله قد أفسد علي حيلة الحرب. وكان عثمان خليقا أن يدعو عبد الله إلى المدينة ويترك لعمرو ولاية مصر؛ فقد مات عمر وهو راض عن ولايته. فإذا لم يكن بد من التغيير فقد كان عثمان خليقا أن يعزل الرجلين جميعا ويجعل أمور مصر إلى غيرهما من قريش أو من غير قريش. كان ذلك أحرى أن يخفف من حفيظة عمرو، وأن يؤجل انقسام قريش. ولكن عثمان عزل عمرا وجمع لعبد الله صلاة مصر وحربها إلى ما كان يلي من الخراج، فاتخذ لنفسه من عمرو عدوا.
ثم لم يقف أمر عثمان مع عمرو عند هذا الحد؛ فقد اتهمه في أمانته معرضا مرة ومصرحا مرة أخرى. دخل عليه عمرو ذات يوم وعليه جبة محشوة، فقال له عثمان: ما حشو جبتك؟ قال: حشوها عمرو. قال عثمان: ما عن هذا سألتك فقد علمت أنك فيها، إنما سألتك أحشوها قطن أم غيره؟
وأرسل عبد الله بن سعد بن أبي سرح إلى عثمان من مصر مالا كثيرا، فدخل عمرو على عثمان حين وافى هذا المال، فقال له عثمان: هل تعلم أن تلك اللقاح قد درت بعدك يا عمرو؟ قال عمرو: وقد هلكت فصالها . أراد عثمان أن عمرا كان يحتجن المال من دونه. وأراد عمرو أن عامل عثمان يكلف أهل مصر فوق ما يطيقون.
ولم يكن عبد الله بن سعد بن أبي سرح رجل صدق، ولم يكن المسلمون يرضون عنه؛ فهو كان من الذين اشتدوا على النبي وأسرفوا في السخر منه، وقد نزل القرآن بكفره وذمه. فقد كان عبد الله يقول ساخرا من القرآن: سأنزل مثل ما أنزل الله.
وقد أهدر النبي دم عبد الله بن سعد بن أبي سرح يوم الفتح، ولكن عثمان جاء به مسلما إلى النبي، فلم يجد النبي عليه سبيلا. وما من شك في أن سيرة عبد الله في مصر لم تكن رضا لأهلها؛ فهو كان يكلفهم فوق ما يطيقون، كما عرض بذلك عمرو بن العاص. وهو كان في أكبر الظن يظهر من الغطرسة والكبرياء على غير قريش من عرب مصر ما أحفظهم وأضجرهم، حتى شكوه إلى عثمان، وحتى كتب إليه عثمان ينذره ويأمره أن ينزع عما تكره الرعية، فلم يحفل بذلك، وإنما عاقب الذين شكوه وضرب منهم رجلا حتى قتله
1
هنالك لم يغضب المصريون وحدهم، وإنما غضب معهم أصحاب النبي، واشتدوا على عثمان في ذلك حتى عزله، وكتب بعهد مصر لمحمد بن أبي بكر، وأرسل معه جماعة من المهاجرين والأنصار ليحققوا ما بين عبد الله بن سعد وبين المصريين. فقد كان علي طلب إليه أن يعزله أولا، وأن يحقق ما اتهم به من القتل ثانيا، فإن ثبتت عليه التهمة أقاد منه. وكانت تولية عثمان لهذا الرجل مصر شؤما على جماعة المسلمين، فمن مصر خرج الثائرون الأولون على عثمان واجتمع إليهم بعد ذلك غيرهم من أهل المصريين الآخرين في العراق. ومع ذلك فقد كان عبد الله بن سعد شجاعا جريئا مقداما موفقا في الفتح؛ فهو قد أخرج الروم من إفريقية، وشارك في غزو قبرص، وهزم أسطول الروم في ذات الصواري، ولكنه كان صاحب دنيا ولم يكن صاحب دين.
الفصل الثاني عشر
ولن يتم الحديث عن سياسة عثمان وعامله لمصر حتى نذكر فتيين من فتيان قريش كان لهما فيما انتهت إليه هذه السياسة من الثورة أثر أي أثر، وهما: محمد بن أبي حذيفة ومحمد بن أبي بكر؛ فأما محمد بن أبي حذيفة فقد كان فتى شريفا لأب شريف كريم النسب في قريش عظيم المكانة بين زعمائها؛ فأبوه عتبة بن ربيعة أبو هند زوج أبي سفيان وأم معاوية. وقد كان أبو حذيفة من السابقين إلى الإسلام، أسلم قبل أن يدخل النبي دار الأرقم ويدعو فيها، وهاجر بامرأته سهلة بنت سهيل بن عمرو إلى بلاد الحبشة، ثم هاجر إلى المدينة مع غيره من المهاجرين. وهو إلى سابقته وهجرته إلى الحبشة ثم إلى المدينة أحد الذين أبلوا في الدين أحسن البلاء وأكمله؛ فقد شهد بدرا، وشهدها في حماسة ويقين وإيمان، حتى دعا أباه في الموقعة إلى المبارزة. ثم هو قد شهد المشاهد كلها مع النبي، ثم هو بعد ذلك قد مات شهيدا في موقعة اليمامة أيام أبي بكر. وقد ولد له ابنه محمد في الحبشة؛ فكان إذن حديث السن حين مات عنه أبوه، ولم يكن قد بلغ الرابعة عشرة أو الخامسة عشرة بعد.
وقد كفله عثمان بعد موت أبيه فكان ربيبه، ثم تعهده أثناء شبابه، فلما استخلف عثمان ظن الفتى أن سيصيبه شيء من الولاية كما أصاب غيره من فتيان قريش، ومن ذوي قرابة عثمان بنوع خاص. ولكن الفتى، فيما يقول الرواة، لم يكن شديد الاستمساك بدينه؛ فقد يقال إنه شرب الخمر، وإن عثمان أقام عليه الحد. قد يثبت هذا وقد لا يثبت، ولكن المهم أن الفتى طلب ذات يوم إلى عثمان أن يوليه عملا، فأبى عليه عثمان ذلك، وقال له: لو عرفت فيك كفاية لوليتك، ولكنك لست هناك. قال الفتى: فأعني إذن على الخروج والاضطراب في الأرض. فأعانه عثمان وأعطاه مالا، وأذن له أن يذهب إلى حيث شاء كغيره من الناس، فذهب الفتى إلى مصر. وما من شك في أنه خرج من عند عثمان مغاضبا له، إما لأنه أقام عليه الحد إن كان قد فعل، وإما لأنه أبى عليه الولاية التي لم يبخل بها على الوليد وسعيد وعبد الله بن عامر. ولم يكد يصل إلى مصر حتى أظهر المعارضة لسياسة عثمان والشغب على عبد الله بن سعد بن أبي سرح.
وأما محمد بن أبي بكر فحسبه شرفا أن يكون ابن الصديق وأخا عائشة أم المؤمنين. وهو بعد هذا كله فتى قرشي يعتز بما كانت قريش تعتز به، ويعتد بمكانته من أبيه الذي كان آثر الرجال عند النبي، ومن أخته التي كانت آثر النساء عند النبي أيضا. وما من شك في أنه كان يطمع في أن يعرف له عثمان هذه المكانة ويرعى حرمة أبيه وأخته، ويكرمه ببعض الولايات التي كان يكرم بها قوما من ذوي قرابته لم يكونوا أعز منه نفرا ولا أسبق منه سابقة، ولكن عثمان لم يلتفت إليه ولم يحفل به. وما كان عثمان يستطيع أن يولي شباب قريش جميعا، ولا كان يستطيع أن يولي الكثرة من شباب قريش؛ فالأعمال محدودة وطلابها كثيرون. ولكن عثمان أثار في نفوس هؤلاء الشباب من قريش ضروبا من الموجدة والغيرة والحسد حين آثر فريقا منهم دون فريق. فخرج محمد بن أبي بكر إلى مصر كما خرج إليها محمد بن أبي حذيفة، والتقيا فيها أو في طريقهما إليها. ولم يكادا ينزلان مصر حتى أحس عبد الله بن سعد أنهما لم يقبلا لخير، فأنذرهما وحذرهما، ولكنهما لم يحفلا بنذير ولا بتحذير. وكان محمد بن أبي حذيفة أكثرهما صراحة في النقد، وأشدهما معارضة للخليفة وواليه، بل كان لا يتردد في أن يواجه الوالي بما يكره، ويواجهه بذلك على ملأ من الناس، فقد قال الرواة: إنه كان يجهر بالتكبير بعد أن يفرغ الأمير من صلاته؛ ليلفت الناس إليه من جهة، وليتحدى الأمير من جهة أخرى. ويقال: إن عبد الله بن سعد دعاه فنهاه عن ذلك فلم ينته، فحمقه وأنذره بأن يقارب بين خطوه، فلم يظهر الفتى عناية به أو التفاتا إليه. وخرج عبد الله للقاء الروم في ذات الصواري، فخرج معه المحمدان. ولكنه أشفق منهما على الجيش، فاضطرهما إلى أن يبحرا في سفينة ليس فيها أحد من المسلمين غيرهما، وإنما فيها معهما الأقباط. ويقال: إن محمد بن أبي بكر مرض فأقام بمصر ولم يخرج وخرج محمد بن أبي حذيفة. وأكبر الظن أن أحدهما أقام ليفسد الأمر من وراء عبد الله، وأن الآخر خرج لينشر دعوته في الجيش.
وقد كتب النصر في هذه الموقعة للمسلمين، وعاد عبد الله ظافرا بقهر أسطول الروم. ولكنه عاد وقد أفسد عليه ابن أبي حذيفة جيشه بما أظهر من النكير عليه وعلى خليفته، وبما كان يقول للمحاربين من أنهم يسعون إلى الجهاد، والجهاد وراءهم في المدينة حيث يقيم عثمان فيسوس الأمة على غير كتاب الله وسنة رسوله وسياسة صاحبيه، ويعزل أصحاب النبي عن العمل ويولي أمور المسلمين جماعة من الفساق وأصحاب المجون. وانظروا إلى واليكم وقائدكم إلى الجهاد؛ إنه رجل نزل القرآن بكفره، وأهدر النبي دمه، ولكن عثمان يوليه أمركم على ذلك لأنه أخوه في الرضاعة. وانظروا إلى سيرته فيكم، أترونه يهتدي فيها بهدي النبي وصاحبيه؟ أترونه لا يغير ولا يبدل ولا يكلفكم من أموالكم وأعمالكم ما لا تطيقون؟ كان ابن أبي حذيفة يذيع هذا في الجيش، وكان ابن أبي بكر يذيع هذا في المصر. وقد أخذ المصريون بعد عودة الجيش يجتمعون إليهما ويسمعون منهما، فأشفق منهما عبد الله بن سعد، وشكاهما إلى عثمان واستأذنه في البطش بهما. ويقال إن عثمان أرسل عمار بن ياسر إلى مصر ليعلم له علم هذين الفتيين، ولينصح لهما ويردهما إلى الهدوء، وليعلم له علم عبد الله بن سعد نفسه. فلم يكد عمار يصل إلى مصر حتى انضم إلى هذين الفتيين فيما يقول الرواة، وجعل يحرض معهما على عثمان، حتى ضج من ذلك عبد الله بن سعد، وكتب إلى الخليفة يلح عليه في البطش بثلاثتهم. فكتب إليه عثمان ينذره ويلومه ويأمره بأن يرفق بعمار ويرده إلى المدينة مكرما موفورا، وبأن يترك محمد بن أبي بكر لأبيه الصديق وأخته أم المؤمنين، وبأن يترك محمد بن أبي حذيفة فهو ابنه وربيبه وفرخ قريش.
وأكاد أقطع بأن عمارا لم يرسل إلى مصر ولم يشارك هذين الفتيين فيما كانا بسبيله من التحريض، وإنما هي قصة اخترعها العاذرون لعثمان فيما كان بينه وبين عمار قبل ذلك أو بعده، مما سنراه بعد حين. ولكن الشيء المحقق هو أن المحمدين نزلا مصر وحرضا فيها على عثمان وعامله، وهم عثمان أن يترضاهما بالرفق. فيقال: إنه أرسل إلى محمد بن أبي حذيفة مالا وكسوة، فعرض الفتى ذلك في المسجد وقال: انظروا يا معشر المسلمين إلى عثمان؛ يريد أن يخدعني عن ديني بالرشوة.
وما زال المحمدان بالمصريين يذيعان فيهم دعوة المعارضة، حتى استجاب لهما خلق كثير، وحتى كان المصريون أشد الناس خلافا لعثمان وانتقاضا عليه. وليس لسخط هذين الفتيين مصدر فيما نعلم إلا ما أثار عثمان في نفوس كثير من الشباب القرشيين وغير القرشيين من الغيظ والموجدة حين آثر فريقا من الشبان دون فريق، وحين قصر بذوي المكانة والكفاية وحسن البلاء عن المناصب والأعمال، واختص بالمناصب والأعمال قوما آخرين؛ مهما تكن مكانتهم وكفايتهم فهم ليسوا من أصحاب السابقة ولا من ذوي المكانة الممتازة والسيرة الحميدة دائما. ويكفي أن تقرأ هذا الكتاب الذي أرسله الأشتر إلى عثمان حين ردت الكوفة سعيد بن العاص وكتب عثمان إلى أهلها يعظهم ويبصرهم ويسألهم عما يريدون - يكفي أن تقرأ هذا الكتاب لترى مبلغ سخط الناس والشباب منهم خاصة على عثمان؛ لأنه آثر بالأمور العامة فريقا من ذوي قرابته لا يمتازون من غيرهم بقليل أو كثير.
كتب الأشتر إلى عثمان يقول: «من مالك بن الحارث إلى الخليفة المبتلى الخاطئ الحائد عن سنة نبيه النابذ لحكم القرآن وراء ظهره.
أما بعد، فقد قرأنا كتابك؛ فانه نفسك وعمالك عن الظلم والعدوان وتسيير الصالحين، نسمح لك بطاعتنا. وزعمت أنا قد ظلمنا أنفسنا، وذلك ظنك الذي أرداك فأراك الجور عدلا والباطل حقا. وأما محبتنا فأن تنزغ وتتوب وتستغفر الله من تجنيك على خيارنا، وتسييرك صلحاءنا، وإخراجك إيانا من ديارنا، وتوليتك الأحداث علينا ، وأن تولي مصرنا عبد الله بن قيس أبا موسى الأشعري وحذيفة، فقد رضيناهما. واحبس عنا وليدك وسعيدك ومن يدعوك إليه الهوى من أهل بيتك إن شاء الله. والسلام.»
1
فأنت ترى أن الأشتر لم يخلع طاعة عثمان ولم ينكر إمامته، وإنما اتهمه بالجور والانحراف عن السنة ونبذ القرآن وراء ظهره، وتولية الأحداث، ونفى من نفى من المسلمين. وطلب إليه أن يكف عن هذا كله، وأن يولي على صلاة الكوفة وحربها أبا موسى الأشعري وعلى خراجها حذيفة بن اليمان، فإن فعل فله طاعة أهل الكوفة.
وانظر إلى قوله: «واحبس عنا سعيدك ووليدك ومن يدعوك إليه الهوى من أهل بيتك إن شاء الله»؛ فإنه يصور ما أحفظ أهل الكوفة وغاظهم من إيثار عثمان لأهل بيته، وتنحيته ذوي المكانة من أمثال أبي موسى وحذيفة. قال الرواة: فلما قرأ عثمان هذا الكتاب، قال: اللهم إني تائب. وكتب إلى أبي موسى وحذيفة: أنتما لأهل الكوفة رضا ولنا ثقة، فتوليا أمرهم وقوما به بالحق، غفر الله لنا ولكما. ووصل إلى عثمان قول عتبة بن الوغل:
تصدق علينا يا ابن عفان واحتسب
وأمر علينا الأشعري لياليا
فقال: نعم! وأشهرا إن بقيت.
2
الفصل الثالث عشر
وهناك قصة أكبر الرواة المتأخرون من شأنها وأسرفوا فيها، حتى جعلها كثير من القدماء والمحدثين مصدرا لما كان من الاختلاف على عثمان، ولما أورث هذا الاختلاف من فرقة بين المسلمين لم تمح آثارها بعد: وهي قصة عبد الله بن سبأ الذي يعرف بابن السوداء. قال الرواة: كان عبد الله بن سبأ يهوديا من أهل صنعاء حبشي الأم، فأسلم في أيام عثمان، ثم جعل يتنقل في الأمصار يكيد للخليفة ويغري به ويحرض عليه، ويذيع في الناس آراء محدثة أفسدت عليهم رأيهم في الدين والسياسة جميعا. قالوا إنه ذهب إلى البصرة، فلم يكد يستقر فيها حتى رفع أمره إلى عبد الله بن عامر فأخرجه عنها. فذهب إلى الشام، وهناك لقي أبا ذر، فلام عنده معاوية في قوله عن مال المسلمين: إنه مال الله. وتأثر أبو ذر بحديث ابن السوداء، فكلم معاوية. ثم لقي عبادة بن الصامت، وأراد أن يتحدث إليه بمثل ما تحدث به إلى أبي ذر، فتعلق به عبادة وقاده إلى معاوية وخوفه شره على الشام، فأخرجه معاوية من الشام. فذهب إلى مصر وفي مصر وجد أرضا خصبة لكيده ومكره وبدعه؛ فكان يتحدث إلى الناس بأن النبي محمدا أحق بالرجعة من عيسى بن مريم، ويذكر قوله عز وجل:
إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد .
وكان يتحدث إليهم بأن لكل نبي وصيا، وبأن وصي النبي محمد هو علي، وبأن عليا خاتم الأوصياء كما أن محمدا خاتم الأنبياء. وإلى ابن السوداء يضيف كثير من الناس كل ما ظهر من الفساد والاختلاف في البلاد الإسلامية أيام عثمان. ويذهب بعضهم إلى أنه أحكم كيده إحكاما، فنظم في الأمصار جماعات خفية تستتر بالكيد وتتداعى فيما بينها إلى الفتنة، حتى إذا تهيأت لها الأمور وثبت على الخليفة، فكان ما كان من الخروج والحصار وقتل الإمام.
ويخيل إلي أن الذين يكبرون من أمر ابن سبأ إلى هذا الحد يسرفون على أنفسهم وعلى التاريخ إسرافا شديدا. وأول ما نلاحظه أنا لا نجد لابن سبأ ذكرا في المصادر المهمة التي قصت أمر الخلاف على عثمان؛ فلم يذكره ابن سعد حين قص ما كان من خلافة عثمان وانتقاض الناس عليه، ولم يذكره البلاذري في أنساب الأشراف، وهو فيما أرى أهم المصادر لهذه القصة وأكثرها تفصيلا. وذكره الطبري عن سيف بن عمر، وعنه أخذ المؤرخون الذين جاءوا بعده فيما يظهر.
ولست أدري أكان لابن سبأ خطر أيام عثمان أم لم يكن. ولكني أقطع بأن خطره، إن كان له خطر، ليس ذا شأن. وما كان المسلمون في عصر عثمان ليعبث بعقولهم وآرائهم وسلطانهم طارئ من أهل الكتاب أسلم أيام عثمان، ولم يكد يسلم حتى انتدب لنشر الفتنة وإذاعة الكيد في جميع الأقطار. ولو قد أخذ عبد الله بن عامر أو معاوية هذا الطارئ الذي كان يهوديا فلم يسلم إلا كائدا للمسلمين، لكتب أحدهما أو كلاهما فيه إلى عثمان، ولبطش به أحدهما أو كلاهما. ولو قد أخذه عبد الله بن سعد بن أبي سرح لما أعفاه من العقوبة التي كاد ينزلها بالمحمدين لولا خوفه من عثمان. والذي يكتب إلى عثمان يستأذنه في البطش بابن أبي بكر وابن أبي حذيفة وعمار بن ياسر في بعض الروايات؛ خليق ألا يعفي من عقوبته رجلا من أهل الكتاب قد اتخذ الإسلام وسيلة لإثارة الفرقة بين المسلمين، وتشكيكهم في إمامهم بل في دينهم كله. ولم يكن أيسر من أن يتتبع الولاة هذا الطارئ ومن أن يأخذوه ويعاقبوه وهم كانوا مهرة في تتبع المعارضين وإخراجهم من ديارهم وإرسالهم إلى معاوية أو إلى عبد الرحمن بن خالد بن الوليد.
ومن أغرب ما يروى من أمر عبد الله بن سبأ هذا أنه هو الذي لقن أبا ذر نقد معاوية فيما كان يقول من أن المال هو مال الله، وعلمه أن الصواب أن يقول: إنه مال المسلمين. ومن هذا التلقين، إلى أن يقال إنه هو الذي لقن أبا ذر مذهبه كله في نقد الأمراء والأغنياء وتبشير الكانزين للذهب والفضة بمكاو من نار تكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم. لا يوجد أمد بعيد، وما أعرف إسرافا يشبه هذا الإسراف. فما كان أبو ذر في حاجة إلى طارئ محدث في الإسلام ليعلمه أن للفقراء على الأغنياء حقوقا، وأن الله يبشر الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله بعذاب أليم، وأن المال الذي يكسبه المسلمون حين يظهرون على العدو، أو الذي يؤديه المسلمون إلى بيت المال زكاة أو خراجا، أو الذي يؤديه الذميون إلى بيت المال جزية أو خراجا؛ هو مال المسلمين يجب أن يضاف إليهم في القول وأن يرد عليهم بالفعل. لم يكن أبو ذر بحاجة إلى هذا الطارئ ليعلمه هذه الحقائق الأولية من حقائق الإسلام، وأبو ذر سبق الأنصار جميعا وسبق كثيرا جدا من المهاجرين إلى الإسلام، وهو قد صحب النبي فأطال صحبته، وحفظ القرآن فأحسن حفظه، وروى السنة فأتقن روايتها، وشهد سيرة النبي وسيرة صاحبيه في الأموال والحقوق، وعرف من الحلال والحرام ما عرف غيره من أصحاب النبي الذين لزموه فأحسنوا لزومه.
فالذين يزعمون أن ابن سبأ قد اتصل بأبي ذر فألقى إليه بعض مقاله، يظلمون أنفسهم ويظلمون أبا ذر، ويرقون بابن السوداء هذا إلى مكانة ما كان يطمع في أن يرقى إليها.
والرواة يقولون: إن أبا ذر قال ذات يوم لعثمان بعد رجوعه من الشام إلى المدينة: لا ينبغي لمن أدى الزكاة أن يكتفي بذلك حتى يعطي السائل ويطعم الجائع وينفق من ماله في سبيل الله. وكان كعب الأحبار حاضرا هذا الحديث فقال: من أدى الفريضة فحسبه. فغضب أبو ذر وقال لكعب: يا ابن اليهودية! ما أنت وهذا؟ أتعلمنا ديننا؟! ثم وجأه بمحجنه. فأبو ذر ينكر على كعب الأحبار أن يعلمه دينه، بل أن يدخل في أمور المسلمين حتى بإبداء الرأي، مع أن كعب الأحبار مسلم أبعد عهدا بالإسلام من ابن سبأ، وكان مجاورا في المدينة يصبح ويمسي بين أصحاب النبي، وكان معاشرا لعمر وعثمان، ثم لا يتحرج من أن يتلقى من عبد الله بن سبأ أصلا من أصول الإسلام وحكما من أحكام القرآن! فاعجب لرجل من أصحاب النبي ينكر على كعب أن يجادل في الدين، ثم يتلقى الدين نفسه عن عبد الله بن سبأ!
وأكبر الظن أن عبد الله بن سبأ هذا - إن كان كل ما يروى عنه صحيحا - إنما قال ما قال ودعا ما دعا إليه بعد أن كانت الفتنة وعظم الخلاف، فهو قد استغل الفتنة ولم يثرها. وأكبر الظن كذلك أن خصوم الشيعة أيام الأمويين والعباسيين قد بالغوا في أمر عبد الله بن سبأ هذا؛ ليشككوا في بعض ما نسب من الأحداث إلى عثمان وولاته من ناحية، وليشنعوا على علي وشيعته من ناحية أخرى؛ فيردوا بعض أمور الشيعة إلى يهودي أسلم كيدا للمسلمين. وما أكثر ما شنع خصوم الشيعة على الشيعة! وما أكثر ما شنع الشيعة على خصومهم في أمر عثمان وفي غير أمر عثمان!
فلنقف من هذا كله موقف التحفظ والتحرج والاحتياط، ولنكبر المسلمين في صدر الإسلام عن أن يعبث بدينهم وسياستهم وعقولهم ودولتهم رجل أقبل من صنعاء وكان أبوه يهوديا وكانت أمه سوداء، وكان هو يهوديا ثم أسلم لا رغبا ولا رهبا ولكن مكرا وكيدا وخداعا. ثم أتيح له من النجح ما كان يبتغي، فحرض المسلمين على خليفتهم حتى قتلوه، وفرقهم بعد ذلك أو قبل ذلك شيعا وأحزابا.
هذه كلها أمور لا تستقيم للعقل، ولا تثبت للنقد، ولا ينبغي أن تقام عليها أمور التاريخ.
وإنما الشيء الواضح الذي ليس فيه شك هو أن ظروف الحياة الإسلامية في ذلك الوقت كانت بطبعها تدفع إلى اختلاف الرأي وافتراق الأهواء ونشأة المذاهب السياسية المتباينة. فالمستمسكون بنصوص القرآن وسنة النبي وسيرة صاحبه كانوا يرون أمورا تطرأ ينكرونها ولا يعرفونها، ويريدون أن تواجه، كما كان عمر يواجهها، في حزم وشدة وضبط للنفس وضبط للرعية. والشباب الناشئون في قريش وغير قريش من أحياء العرب كانوا يستقبلون هذه الأمور الجديدة، فيها الطمع وفيها الطموح، وفيها الأثرة وفيها الأمل البعيد، وفيها الهم الذي لا يعرف حدا يقف عنده، وفيها من أجل هذا كله التنافس والتزاحم لا على المناصب وحدها بل عليها وعلى كل شيء من حولها. وهذه الأمور الجديدة نفسها كانت خليقة أن تدفع الشيوخ والشباب إلى ما دفعوا إليه. فهذه أقطار واسعة من الأرض تفتح عليهم، وهذه أموال لا تحصى تجبى لهم من هذه الأقطار، فأي غرابة في أن يتنافسوا في إدارة هذه الأقطار المفتوحة والانتفاع بهذه الأموال المجموعة؟ وهذه بلاد أخرى لم تفتح، وكل شيء يدعوهم إلى أن يفتحوها كما فتحوا غيرها، فما لهم لا يسبقون إلى الفتح؟ وما لهم لا يتنافسون فيما يكسبه الفاتحون من المجد والغنيمة إن كانوا من طلاب الدنيا، ومن الأجر والمثوبة إن كانوا من طلاب الآخرة؟ ثم ما لهم جميعا لا يختلفون في سياسة هذا الملك الضخم وهذا الثراء العريض؟ وأي غرابة في أن يندفع الطامعون الطامحون من شباب قريش إلى هذه الأبواب التي فتحت لهم ليلجوا منها إلى المجد والسلطان والثراء؟ وأي غرابة في أن يهم بمنافستهم في ذلك شباب الأنصار وشباب الأحياء الأخرى من العرب، وفي أن تمتلئ قلوبهم موجدة وحفيظة وغيظا إذا رأوا الخليفة يحول بينهم وبين هذه المنافسة، ويؤثر قريشا بعظائم الأمور ويؤثر بني أمية بأعظم هذه العظائم من الأمور خطرا وأجلها شأنا؟
والشيء الذي ليس فيه شك هو أن عثمان قد ولى الوليد وسعيدا على الكوفة بعد أن عزل سعدا، وولى عبد الله بن عامر على البصرة بعد أن عزل أبا موسى، وجمع الشام كلها لمعاوية وبسط سلطانه عليها إلى أبعد حد ممكن بعد أن كانت الشام ولايات تشارك في إدارتها قريش غيرها من أحياء العرب، وولى عبد الله بن أبي سرح مصر بعد أن عزل عنها عمرو بن العاص. وكل هؤلاء الولاة من ذوي قرابة عثمان؛ منهم أخوه لأمه، ومنهم أخوه في الرضاعة، ومنهم من يجتمع معه في نسبه الأدنى إلى أمية بن عبد شمس.
كل هذه حقائق لا سبيل إلى إنكارها. وما نعلم أن ابن سبأ قد أغرى عثمان بتولية من ولى وعزل من عزل. وقد أنكر الناس في جميع العصور على الملوك والقياصرة والولاة والأمراء إيثار ذوي قرابتهم بشئون الحكم. وليس المسلمون الذين كانوا رعية لعثمان بدعا من الناس؛ فهم قد أنكروا وعرفوا ما ينكر الناس ويعرفون في جميع العصور.
والشيء الذي ليس فيه شك آخر الأمر هو أن عصر عثمان شهد لونا من المعارضة لم يشهده عصر عمر. وكانت هذه المعارضة تكون في الأمصار البعيدة، وهي التي صورناها لك إلى الآن، وكانت هذه المعارضة تكون في المدينة نفسها قريبا من عثمان، وهي التي لم نصورها لك بعد، ونريد أن نصورها فيما سنستقبل من الحديث بعد أن طوفنا معك في الأمصار ذات الخطر، وعلمنا معك علمها وعلم أهلها وجملة ما حدث فيها من الأحداث. والسؤال الذي ينبغي أن يلقى وأن نجتهد في الإجابة عنه هو: أين نشأت المعارضة لسياسة عثمان؛ أنشأت في المدينة مستقر الخلافة، أم نشأت في الأمصار؟ وبعبارة أدق : أنشأت المعارضة بين أصحاب النبي من المهاجرين والأنصار ثم انتقلت عنهم إلى الجند المرابطين في الأمصار، أم نشأت في الجند ثم انتقلت منهم إلى أصحاب النبي في المدينة؟
وواضح جدا أن للإجابة عن هذا السؤال خطرا أي خطر؛ فإن نشأة المعارضة في المدينة معناها أن أصحاب النبي قد كانوا أول من أنكر على عثمان بعض سياسته فتبعهم الناس، منهم من اقتصد ومنهم من أسرف في هذا الاتباع. ونشأة المعارضة في الأمصار معناها أن الجند هم الذين سبقوا إلى الخلاف، ثم أقحموا فيه وفي نتائجه أصحاب النبي، منهم من رضي عن هذا الإقحام، ومنهم من سخط عليه. وسترى أنا نقف في الإجابة عن هذا السؤال موقفا وسطا، وأن نرى المعارضة لم تنشأ في المدينة وحدها، وإنما نشأت فيها وفي الأقاليم، بل لعلها نشأت في المدينة ثم في أطراف الأقاليم حيث الثغور التي يواجه فيها المسلمون عدوهم. وإذا صح ما نذهب إليه - وما نراه إلا صحيحا - فقد يكون هذا دليلا على أن هذه المعارضة - سواء أنشأت في المدينة أم في الأمصار - إنما كانت ظاهرة طبيعية محتومة دعت إليها ظروف الحياة الاجتماعية أولا، وظروف الحياة السياسية ثانيا، وظروف الملاءمة بين أصول الدين وحقائقه وبين طبيعة الحضارة التي اضطر المسلمون إلى لقائها وممارستها آخر الأمر. وما كان لعثمان أن يقاوم طبيعة الحياة ولا أن يقهر هذه الظروف. فليس من سبيل إلى أن يوجد سلطان ضخم كهذا السلطان الذي أتيح للمسلمين، ثم لا يكون فيه حكم ومعارضة لهذا الحكم، ثم لا يكون فيه صراع بين ذلك الحكم وهذه المعارضة، ثم لا يكون فيه آخر الأمر ما كان من الاصطدام الذي انتهى بالمسلمين إلى أن يسلكوا الطريق التي سلكتها الأمم من قبلهم ومن بعدهم؛ لأن تطور النظم السياسية والاجتماعية لم يكن قد بلغ أجله بعد، وهو لم يبلغ أجله إلى الآن، ولأن العقل لم يكن قد بلغ حظه الأوفى من الرقي، وهو لم يبلغه إلى الآن. والذين يرون ما يحدث الآن من الصراع بين النظم الاجتماعية والسياسية خليقون ألا ينكروا ما كان من الصراع حول النظم السياسية والاجتماعية أيام عثمان في القرن الأول للهجرة وفي القرن السابع للمسيح.
فلنعد إلى المدينة بعد هذه السياحة الطويلة في الأمصار، ولنقم بين عثمان وأصحابه وقتا ما، لنرى كيف كانت سيرته فيهم، وماذا كان رأيهم فيه.
الفصل الرابع عشر
وأول ما نلاحظ من ذلك ما كان من الصلة بين عثمان وبين هؤلاء النفر الخمسة الذين اختاروه للخلافة وكانوا أول من بايعه بها، وهم الذين شاركوه في مجلس الشورى بعهد عمر. وكلهم سبق إلى الإسلام فكان من السابقين الأولين، وكلهم أبلى في سبيل الله فأحسن البلاء، وكلهم رضي عنه النبي حياته كلها ومات وهو عنه راض، وكلهم كان من العشرة الذين شهد النبي لهم بالجنة. ثم هم يختلفون بعد ذلك في منازلهم من قريش وقرابتهم من النبي ومكانتهم بين الناس وحظوظهم من الدنيا ونظرهم إليها. وأولهم في رأي عمر وفي رأي عامة الناس وفي رأيهم هم أنفسهم: عبد الرحمن بن عوف، وكان قريب المكانة من النبي من قبل أمه آمنة بنت وهب؛ فهو مثلها من بني زهرة. وكان يسمى في الجاهلية عبد عمرو أو عبد الكعبة، فسماه النبي عبد الرحمن. وكان في الجاهلية صاحب تجارة بارعا فيها، وظل بعد إسلامه صاحب تجارة بارعا فيها، حسن التدبير للمال، ماهرا أي مهارة في التماسه والظفر به، ثم في استثماره والإنفاق منه في وجوه الخير.
ولما هاجر إلى المدينة نزل على سعد بن الربيع الأنصاري، فقال له سعد: أنا أكثر أهل المدينة مالا، فانظر إلى شطر مالي فخذه، ولي زوجتان فانظر إلى أيهما أعجب إليك فأطلقها لك. قال عبد الرحمن: بارك الله لك! ولكن إذا أصبحت فدلوني على سوقكم. فلما أصبح غدا على السوق، فباع واشترى وربح وعاد مع المساء ومعه سمن وأقط. وأقام في المدينة وقتا ما، ثم أقبل ذات يوم على النبي وعليه ثياب مزعفرة، فلما سأله النبي عن ذلك قال: تزوجت. قال النبي: «فما أصدقت؟» قال: «وزن نواة من ذهب » قال النبي: «فأولم ولو بشاة.» وكان عبد الرحمن يقول: «لقد رأيتني وما أرفع حجرا إلا ظننت أني سأجد تحته ذهبا أو فضة.» ومعنى ذلك أنه كان موفقا في السعي إلى المال مسددا في التماسه. ثم لم تتصل إقامته في المدينة حتى أصبح من الأغنياء. وقد قدمنا ما روي من قول النبي له: «إنك غني، وما أراك تدخل الجنة إلا زحفا، فأقرض الله قرضا حسنا يطلق لك قدميك.» وقدمنا كذلك ما روي من حديث عائشة حين أنبئت بمقدم عير عبد الرحمن وما كان من تصدقه بالعير كلها وما حملت. وقدمنا كذلك ما روي من أن عبد الرحمن قد ترك ميراثا ضخما كان منه ألف بعير وثلاثة آلاف شاة ومائة فرس وأرض كانت تزرع على عشرين ناضحا، ومن أن إحدى نسائه الأربع أخرجت من نصيبها وهو ربع الثمن، بمال بين الثمانين ألفا ومائة الألف. فكل هذا إن صور شيئا فإنما يصور ثروة ضخمة نامية لم تنقصها الصدقة الدائمة والبر المتصل دائما لأزواج النبي، ثم لذوي قرابته من بني زهرة، ثم لغيرهم من عامة المسلمين.
ولم يكن عبد الرحمن على هذا كله مفرطا في المال، وإنما كان يدبره ويثمره ويحرص عليه كأحسن ما يكون التدبير والتثمير والحرص. وقد روى ابن سعد بإسناده في ترجمة عمر أن عمر احتاج إلى شيء من المال، فأرسل إلى عبد الرحمن يستقرضه منه. فقال للرسول: قل له يقترض من بيت المال. ولقيه عمر بعد ذلك فلامه في دعابة قاسية، وقال: أردت أن أقترض من بيت المال، فإذا أدركني الموت ولم أرد ما اقترضت جعلتم تقولون: دعوه لعمر وآل عمر.
وكان عبد الرحمن رفيقا بنفسه آخذا بحظه مما أباح الله للمسلمين من طيبات الحياة، يؤدي للدين حقه كأحسن ما يكون أداء الحق. ولكنه بعد ذلك رجل من قريش يعيش كما كانت قريش تحب أن تعيش، لا يشتد على نفسه في الزهد، ولا يأخذها بالحياة الخشنة. وقد استأذن النبي في لبس الحرير لحكة كان يشكوها، فأذن له النبي في ذلك . وهم أن يستبيح الحرير لنفسه ولبنيه، ولكن عمر كفه عن ذلك، وشق ثوبا من حرير كان عبد الرحمن قد ألبسه لأحد بنيه كما قدمنا. ثم كان عبد الرحمن كغيره من معاصريه كثير الزواج كثير الولد. وقد أحصى له ابن سعد بضع عشرة امرأة غير أمهات الأولاد، وكلهن ولدن له البنين والبنات، ومات وعنده أربع نسوة أو ثلاث نسوة، على اختلاف في ذلك بين الرواة.
ولكن عبد الرحمن لم يكن يتزوج في حي بعينه أو حيين أو ثلاثة من أحياء العرب، وإنما كان يصهر إلى كثير من القبائل؛ فهو قد أصهر إلى غير حي من أحياء قريش، وأصهر إلى غير حي من أحياء اليمن، وأصهر إلى ربيعة في غير حي من أحيائها، فكان له من البنين والبنات من يعد أخواله في قريش، ومن يعد أخواله في الأنصار، ومن يعد أخواله في اليمانية المقيمة باليمن، ومن يعد أخواله في اليمانية المقيمة بين الشام والعراق، ومن يعد أخواله في تميم من مضر أو في بكر وتغلب من ربيعة.
ونظرة يسيرة إلى أنساب النساء اللاتي تزوجن عبد الرحمن بن عوف، كما رواها ابن سعد، تكفي لإثبات أن عبد الرحمن قد أصهر إلى أكثر أحياء العرب قوة وأشدها بأسا. فكان خليقا لو نهض بالأمر بعد عمر أن يجمع حوله عصبيات كثيرة، وأن يلائم بين هذه العصبيات ملاءمة حسنة، ولعله أن يقرب منها بين ما كان متباعدا أشد التباعد. وكان خليقا كذلك لو نهض بالأمر بعد عمر أن يقوم على الأموال العامة، كما كان يقوم على أمواله الخاصة، فيدبرها ويثمرها ولا يعطي منها إلا بالحق. وقد وضعه عمر في الشورى، وميزه من سائر أصحابه حين قال: «إن كان ثلاثة وثلاثة فاختاروا صف عبد الرحمن بن عوف.» ويوشك عمر أن يكون قد جعل عبد الرحمن رئيسا لمجلس الشورى ما دام قد جعل رأيه مرجحا عند تساوي الأصوات. وكان بين أصحاب النبي من كان يرشحه للخلافة، ويرى في استخلافه اتقاء لكثير من الشر، وتجافيا للفرقة التي كانت تنتظر أن ينهض بالأمر علي أو عثمان. ويظهر أن بين أعضاء الشورى أنفسهم من لم يكن يرى باستخلافه بأسا، ولو خير لآثره على عثمان لمكان عثمان من بني أمية.
ولو خير عثمان لآثره على علي لمكان علي من بني هاشم. وكان بين عبد الرحمن وعثمان صهر؛ فهو تزوج أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط أخت الوليد بن عقبة، ثم كان بين عبد الرحمن وبين العبشميين صهر؛ فهو قد أصهر إلى عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، فكانت عنده إذن خالة معاوية. ثم أصهر إلى شيبة بن ربيعة بن عبد شمس. وهو قد أصهر كذلك إلى الأنصار. وأمه من بني أمية، وهو من بني زهرة، فكان خليقا أن يجمع عصبية قريش والأنصار جميعا إلى عصبيات القبائل الأخرى التي أصهر إليها. ولكنه على ذلك لم يرشح نفسه للخلافة، ولم يسمع لمن ألح عليه في هذا الترشيح، وإنما أسرع فأخرج نفسه من الأمر إخراجا، وأراد أن يكون حكما بين المتنافسين. وقد قبل المتنافسون حكمه بعد أن أخذ عليه علي موثقا من الله ليلزمن الحق غير محاب لصهر أو قرابة. فأعطى هذا الموثق عن رضا، واستقبل الأمر على النحو الذي وصفنا فيما مضى. وكان يقول: «لأن توضع حربة على حلقي حتى تنفذ من الجانب الآخر أحب إلي من أن ألي هذا الأمر.»
فهو إذن قد رفع نفسه عن الحكم وما يحيط به من الظنة والشبهات، وأعفى نفسه من التبعات، وآثر أن يكون رجلا من الناس، يفرغ لدينه، ويفرغ لدنياه، على أن تكون دنياه سبيله إلى دينه. وكان من الطبيعي بعد أن أصدر حكمه ورشح عثمان وأخذ له البيعة من أعضاء الشورى، وحمل الناس على مبايعته أن يكون رقيبا عليه من قريب.
ولم يكن عبد الرحمن في أول خلافة عثمان معارضا له، وإنما كان يؤيده ويرقبه، حتى تكلم الناس فسمع لهم وتشدد في مراقبته. ونظر الناس ذات يوم فإذا هو أحد المعارضين لعثمان في أمور الدين والسياسة جميعا. ثم نظروا ذات يوم فإذا هو لا يقف عند المعارضة، وإنما يقاطع عثمان فلا يزوره ولا يكلمه. وقد يغلو بعض الرواة فيزعم أنه ندم على توليته، وأنه قال لعلي ذات يوم: إن شئت فخذ سيفك وآخذ سيفي حتى نجاهده. وأنه قال لبعض من حضره قبيل موته: عاجلوه قبل أن يسرف عليكم وعلى نفسه. ولكن هذه الأخبار خليقة ألا تخلو من التكلف، والشيء الذي ليس فيه شك هو أنه عارض عثمان في أمور الدين حين أتم الصلاة حيث كان النبي وصاحباه يقصرونها، وعارضه فيما أعطى لقرابته من الأموال.
الفصل الخامس عشر
وكان سعد بن أبي وقاص زهريا كعبد الرحمن، وقال النبي عنه ذات يوم وقد رآه مقبلا: «هذا خالي.» وقد قدمنا أن سعدا سبق إلى الإسلام فيمن سبق، حتى كان يقول: «لقد رأيتني وإني لثلث الإسلام.» وحتى كان يقول: «لقد أسلمت وما فرض الله الصلوات.» وقد أبلى فأحسن البلاء كغيره من أصحابه، وكان أول من رمى بسهم في سبيل الله. وفداه النبي بأبويه جميعا يوم أحد. وكان يتحدث بقصة أخيه عمير بن أبي وقاص الذي هاجر إلى المدينة غلاما حدثا، فلما استعرض النبي الخارجين معه إلى بدر رأى سعد أخاه عميرا يستخفي، فسأله عن ذلك فقال: أخشى أن يراني رسول الله فيستصغرني فيردني، وأنا أحب الخروج لعلي أن أستشهد. وقد رآه النبي فاستصغره فرده، وبكى الغلام فأذن له النبي في الخروج، وكان سعد يعقد له خمائل سيفه لصغره، وقد رزق الشهادة التي طلبها، فقتل فيمن قتل من المسلمين يوم بدر.
وكان سعد أثيرا عند رسول الله؛ مرض بمكة بعد الفتح فعاده النبي ودعا الله أن يشفيه حتى لا يموت في الأرض التي هاجر منها، وتحدث إليه في مرضه ذاك بحديث الوصية الذي يأمر بألا يوصي الإنسان بأكثر من ثلث ماله. وتركه في مكة وخلف عليه رجلا من أصحابه وقال له: إن مات سعد بعدي فادفنه ها هنا، وأشار إلى طريق المدينة. وقال لسعد: «إني لأرجو أن يرفعك الله فينفع بك قوما ويضر آخرين.» ويقال إن النبي تمنى على الله أن يستجيب لسعد إذا دعا. وقد استجاب الله دعاء النبي، فبرئ سعد من مرضه ذاك، وعاش حتى نكأ الله به قوما ونفع آخرين، فهو بطل القادسية، وهازم جند كسرى.
وقد جعله عمر بين الستة الذين جعل إليهم الشورى في أمر الخلافة؛ فكان مرشحا للخلافة إذن، ولكن عبد الرحمن خلعه منها كما خلع نفسه.
وقد كانت لسعد زوجات كثيرات، ولكنهن كن متفرقات في قبائل العرب. ولم يتزوج من قريش إلا امرأة واحدة زهرية مثله. وكأن قوما كانوا يشكون في نسبه ويؤذونه بذلك، حتى أقبل ذات يوم على النبي فقال: يا رسول الله، من أنا؟ فقال له النبي: «أنت سعد بن وهيب بن عبد مناف بن زهرة، من قال غير ذلك فعليه لعنة الله.» وهذا فيما أرجح هو الذي قلل إصهاره إلى قريش. ويزعم بعض الرواة أن سعدا كان هواه مع علي أثناء الشورى، وأنه تحدث في ذلك إلى عبد الرحمن. ولكن هذا قد يصح وقد لا يصح، وقد أوصى عمر الخليفة من بعده إن صرفت الخلافة عن سعد أن يوليه؛ فإنه لم يعزله عن خيانة. وقد أنفذ عثمان هذه الوصية، فولى سعدا الكوفة عاما وبعض عام، ثم عزله وولى الوليد. وقد قدمنا رأينا فيما يروى من القصة التي دعت إلى عزل سعد. ونضيف إلى ما قدمنا أن الخلاف بين سعد وابن مسعود، على ما كان سعد قد اقترض من بيت المال، يروى أنه وقع بين الوليد بن عقبة وبين عبد الله بن مسعود. فأكبر الظن أن الذين أضافوا هذه القصة إلى سعد قد خلطوا بين الرجلين عن عمد أو عن خطأ. ومهما يكن من شيء فقد كان سعد وفيا ببيعته لعثمان. وسواء أغضب لعزله إياه أم لم يغضب فلم يكن عنيفا في معارضته، بل لم يكد يشارك في هذه المعارضة إلا حين كانت رفيقة لا تتجاوز النصح والأمر بالمعروف. فلما خرجت المعارضة عن طورها وقاربت أن تكون ثورة، كف سعد ولزم الحياد، ولم يشارك في الفتنة ولا في أعقابها. وكان إذا كلم في ذلك وسئل: لم لا تقاتل؟ قال: حتى تأتوني بسيف ينطق فيقول: هذا مؤمن وهذا كافر. وكأن سعدا تحرج من أن يظهر النكير على عثمان، فيتهم بأنه إنما يفعل ذلك لأنه ينقم من عثمان عزله عن الكوفة.
ومهما يكن من شيء، فقد لزم سعد السيرة التي سارها أيام النبي، فجاهد ما عرف الجهاد مع النبي وأيام عمر، فلما أشكل الأمر عليه اعتزل وترك الناس وما هم فيه. ولما مات سنة خمسين أو سنة خمس وخمسين، طلب أزواج النبي أن تمر جنازته عليهن، فمر به في المسجد وصلين عليه. ولم يترك سعد ثروة ضخمة حين مات بالقياس إلى أصحابه، وإنما ترك بين مائتي الألف وثلاثمائة الألف. وليس هذا بالشيء ذي الخطر كما رأيت وكما سترى.
الفصل السادس عشر
كانت قرابة الزبير بين العوام قريبة من النبي. فهو ابن عمته صفية بنت عبد المطلب، ومن خديجة أم المؤمنين. فهو الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي؛ فخديجة عمته، فكان هو ابن عمة رسول الله، وكانت فاطمة بنت عمته. وقرابة الزبير من أبي بكر قريبة أيضا؛ فهو قد أصهر إليه، فتزوج ابنته أسماء ذات النطاقين، فزاد ذلك من قرابته من النبي، أصبح سلفه؛ فعائشة أم المؤمنين وأسماء بنت أبي بكر أختان. وبذلك كان الزبير يوشك أن يكون من آل بيت النبي، وكان من الغريب أن يقول له عثمان، وقد اختصما ذات يوم فقال الزبير: أنا ابن صفية. فقال عثمان: هي أدنتك من الظل، ولولاها لكنت ضاحيا. فهي أدنته من الظل ما في ذلك شك، ولكنه لولاها لم يكن ضاحيا.
وقد عرف الزبير منذ طفولته بالقوة والبأس والإقدام، ثم كان من السابقين إلى الإسلام، وشهد بدرا ثاني فارسين اثنين شهدا هذه الموقعة، ثم هو شهد المشاهد كلها مع النبي. وكان النبي يدعوه حواريه، فدعاه المسلمون منذ ذلك الوقت حواري رسول الله.
ولسنا نعرف كيف بدأت ثروة الزبير، ولكنا نعلم أنها لم تكن محدثة. فقد رأيت أنه كان أحد فارسين اثنين في غزوة بدر، وقد لزم المدينة بعد وفاة النبي، فلم يخرج منها أيام أبي بكر وعمر إلا بإذن من عمر أو للحج. وقد وضعه عمر في الشورى فكان مرشحا للخلافة، ولم يظهر ميلا إلى أحد المتنافسين علي وعثمان، وإنما أسلم الأمر إلى عبد الرحمن في غير جهد. وقد كان عثمان يؤثره بعد أن استخلف. ويروي ابن سعد أنه أعطاه ستمائة ألف، فجعل يسأل عن أحسن المال، فقيل له الأرض، فاشترى أرضا في العراق في المصرين جميعا، واشترى أرضا بمصر. ويقول ابن سعد: إنه لم يكن يحب أن يودع الناس عنده الودائع، وإنما كان إذا أراد أحد أن يودعه مالا قال: إنما هو قرض. كان يخاف على الوديعة أن تضيع من جهة، ويستبيح لنفسه بذلك استثمار هذه القروض من جهة أخرى. ولذلك عظمت ثروته حتى أصبحت مضربا للأمثال، وعظم دينه كذلك. وأوصى ابنه عبد الله يوم الجمل أن يؤدي عنه دينه من ماله؛ فإذا فرغ من ذلك أخذ ثلث الميراث لولده، ثم قسم سائره بين الورثة، وتقدم إليه إن تعسر عليه أداء شيء من الدين أن يستعين الله. فكان عبد الله بن الزبير يستعين الله مولى الزبير كلما وجد شيئا من مشقة في أداء دين أبيه.
وهم كثير من الدائنين أن يتركوا دينهم للورثة، ولكن عبد الله أبى وأدى الدين كله إلى أصحابه، وكان يبلغ مليونين ونصف مليون من الدراهم. والناس يختلفون في مقدار ما قسم على الورثة من تركة الزبير بعد أن لبث عبد الله أربعة أعوام ينادي في الناس بالموسم من كان له عند الزبير دين فليرفعه إلينا: فالمقللون يقولون إن الورثة اقتسموا فيما بينهم خمسة وثلاثين مليونا، والمكثرون يقولون إنهم اقتسموا اثنين وخمسين مليونا، والمعتدلون يقولون إنهم اقتسموا أربعين مليونا. ولا غرابة في ذلك؛ فقد كانت للزبير خطط في الفسطاط وخطط في الإسكندرية وخطط في البصرة وخطط في الكوفة، وإحدى عشرة دارا في المدينة، وكانت له بعد ذلك غلات وعروض أخرى.
وواضح أن الزبير لم يشتد في معارضة عثمان أول الأمر، فقد كان عثمان يؤثره ويعطيه على خصومة كانت بينهما وقتا ما. وكان عثمان يحب عبد الله بن الزبير ويؤثره، وقد أمره على الدار حين كان محاصرا، وأعطاه وصيته ليؤديها إلى أبيه، وكان عثمان قد أوصى إلى الزبير. وإنما شارك الزبير أصحاب النبي فيما كانوا يوجهون إلى عثمان من نقد ويسوقون إليه من نصح، ولا نعرف أنه اشتد عليه إلا أن يكون في ذلك شريكا لغيره من أصحاب النبي.
الفصل السابع عشر
وكان طلحة بن عبيد الله تيميا من رهط أبي بكر، وكان في جاهليته تاجرا، وكان صديقا لعثمان، وكانا قد خرجا معا في التجارة إلى الشام في العام الذي أسلما فيه. وقد كان طلحة من السابقين الأولين كأصحابه، ولم يصرفه الإسلام عن تجارته، وإنما كان يخرج إلى الشام بها. وقد لقي النبي في طريقه إلى المدينة مهاجرا ومعه أبو بكر، وكان هو عائدا من الشام، فأهدى إليهما، وأنبأهما بأن المسلمين في المدينة يستبطئون النبي. فأغذ رسول الله السير ليخفف عليهم من هذا الانتظار. ومضى طلحة إلى مكة، فأصلح أمره فيها، ثم لحق برسول الله في المدينة، فأقام معه بين أصحابه المهاجرين.
وقد شهد بدرا وأحدا والمشاهد كلها مع النبي، وأبلى فأحسن البلاء، ودافع في أحد عن النبي دفاعا حسنا، وتلقى عنه سهما بيده فأصاب إصبعا من أصابعه فشلت، وأصابته في أحد جراحات في جسمه كله، حتى كان النبي يقول: «من سره أن يرى رجلا يمشي على الأرض بعد أن قضى نحبه، فلينظر إلى طلحة بن عبيد الله.» يريد أن طلحة أشرف على الموت يوم أحد فكان حكمه حكم الشهداء. ويشير في أكبر الظن إلى الآية الكريمة:
من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا . فكأن النبي أراد أن يلحق طلحة بمن استشهد من المسلمين يوم أحد ومنهم حمزة ومصعب بن عمير.
وقد مضى طلحة في تجارته، لم يصرفه عنها إلا ما كان يكون من شهوده الغزو مع النبي. وأقام في المدينة أيام أبي بكر وعمر كما أقام فيها غيره من أعلام المهاجرين. ووضعه عمر في الشورى ولكنه لم يشهدها، كان في بعض ماله غائبا عن المدينة حين مات عمر. وقد أرسل أصحابه إليه يتعجلون مقدمه، فأقبل مسرعا، ولكنه بلغ المدينة وقد تمت البيعة لعثمان. وقد أغضبه أن يتم أصحاب الشورى أمرهم من دونه، فجلس في داره وقال: مثلي لا يفتات عليه. ويقال إن عبد الرحمن بن عوف سعى إليه فطالبه بالبيعة لعثمان وحذره عاقبة الخلاف. ويقال إن عثمان نفسه سعى إليه وقال له: إن شئت أن أرد الأمر رددته. قال طلحة: أوتفعل؟ قال عثمان: نعم! قال طلحة: فإني لا أرد الأمر، فإن شئت بايعتك في مجلسك هذا، وإن شئت بايعتك في المسجد.
وكان بنو أمية يشفقون أن يتلكأ طلحة ببيعته، فلما بايع اطمأنوا، وكان عثمان يصل طلحة فيحسن صلته. قالوا: إن طلحة كان اقترض من عثمان خمسين ألفا، فقال له ذات يوم: قد حضر مالك، فأرسل من يقبضه، قال عثمان: هو لك معونة على مروءتك. ويقال: إن عثمان وصل طلحة بمائتي ألف. وكانت بين طلحة وعثمان مبايعات: يبيع طلحة ويشتري عثمان في الحجاز، ويبيع عثمان ويشتري طلحة في العراق. وكان طلحة كثير الصدقة، لا يحب أن يجتمع في داره المال السائل، فكان إذا اجتمع في داره منه شيء كثير، لم يسترح حتى يتخفف منه بتقسيمه في ذوي قرابته من تيم، وفي ذوي مودته من قريش والأنصار. وكان أسرع الناس معونة لمن يحتاج إلى المعونة، وأداء عمن يثقل عليه الدين. وكان أعطى الناس للمال والكسوة، وأسخاهم بالطعام. وكانت ثروته بعد هذه النفقات الضخمة واسعة جدا، حتى كان الحديث عن ثرائه وعطائه مصدر اختلاف على سعيد بن العاص في الكوفة كما قدمنا.
وطلحة فيما يقول الرواة أول من استنبت القمح في أرض الحجاز. ولما مات كانت تركته ثلاثين مليونا من الدراهم، كان النقد منها مليونين ومائتي ألف درهم ومائتي ألف دينار، وكان سائرها عروضا وعقارا.
1
وكان طلحة - كما رأيت - معارضا لعثمان منذ اليوم الأول لخلافته؛ لأن البيعة تمت وهو غائب، ولكن عثمان ترضاه فاستقامت الأمور بينهما، ثم وصله فازدادت الأمور استقامة، فلما ظهر الخلاف على عثمان كان طلحة من المسرعين إليه، فيما يقول الرواة. ولما اشتد الخلاف كان طلحة من المؤلبين، ولما حوصر عثمان كان طلحة من المشاركين في الحصار، ولما قتل عثمان كان طلحة من الذين عجبوا لحزن علي على مقتل عثمان. ولما بويع علي كان طلحة من المبايعين مع الزبير، ثم خرج مع الزبير مطالبا بدم عثمان، ناقضا بيعته لعلي وقد قتل في يوم الجمل، قتله فيما يقول الرواة، مروان بن الحكم، رماه بسهم فأصابه، فقال مروان: والله لا طالبت بعده بدم عثمان أبدا. كان مروان يرى أن طلحة أشد المحرضين على قتل عثمان. ولما أصيب طلحة وجعل دمه ينزف قال: هذا سهم أرسله الله! اللهم خذ لعثمان مني حتى ترضى. فكان طلحة إذن يمثل نوعا خاصا من المعارضة، رضي ما أتاح الرضا له الثراء والمكانة، فلما طمع في أكثر من ذلك عارض حتى أهلك وهلك.
الفصل الثامن عشر
وقرابة علي بن أبي طالب من النبي أظهر من أن نبينها، ومكانته عنده ممتازة ما في ذلك شك؛ فعطف أبي طالب على النبي معروف، وقيامه دونه يحميه ويحمي دينه من قريش مستفيض. وكان أبو طالب قد كفل النبي في صباه، وكان النبي قد كفل عليا في صباه حين كثر الولد على أبي طالب وضاقت ذات يده. وبعث النبي وعلي عنده صبي، فأسلم علي وهو ابن تسع سنين أو ابن إحدى عشرة سنة. وظل بعد إسلامه في حجر النبي يعيش بينه وبين خديجة أم المؤمنين. وهو لم يعقل الأوثان قط، دخل في الإسلام قبل أن يعقلها، فامتاز بين السابقين الأولين بأنه نشأ نشأة إسلامية خالصة، وامتاز كذلك بأنه نشأ في منزل الوحي بأدق معاني هذه الكلمة وأضيقها. ثم استخلفه النبي حين هاجر إلى المدينة على ما كان عنده من الودائع ليردها إلى أصحابها، فأقام في مكة ثلاثة أيام، ثم لحق بالنبي فأدركه قبل أن يتحول عن قباء.
ويقول رواة السيرة: إنه نام في فراش النبي ليلة ائتمرت قريش به لتقتله. ولما هاجر إلى المدينة وآخى النبي بين المهاجرين ثم بينهم وبين الأنصار، آخى بين علي وبين نفسه، ثم آخى بين علي وبين سهل بن حنيف.
فعلي إذن هو ابن عم النبي في النسب وربيبه، ثم هو بعد ذلك أخوه في الهجرة. وقد زوجه النبي ابنته فاطمة، فكان منهما عقبه إلى الآن. وكان علي صاحب لواء النبي في مشاهده كلها أثناء القتال. وكان شجاعا مقداما جريئا قويا قوة غير معهودة في الرجال. ولما خرج النبي لغزوة تبوك استخلفه في أهله، فكره علي ذلك أو خاض فيه الناس، فقال النبي لعلي: «أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى! إلا أنه لا نبي بعدي.» ومات النبي ولم يبين عن أمر الخلافة بشيء من نص صريح، وإنما قال أثناء مرضه: «مروا أبا بكر فليصل بالناس.» فقال الذين اختاروا أبا بكر للخلافة: رضيه رسول الله لديننا أفلا نرضاه نحن لدنيانا! وما أريد أن أدخل فيما أثير من الخلاف بين الشيعة وخصومهم حول بيعة أبي بكر وعمر، وإنما أسجل أن عليا بايع هذين الخليفتين مخلصا، ونصح لهما صادقا، وأشار عليهما كلما احتاجا إلى مشورته. ولو قد قال المسلمون بعد وفاة النبي: إن عليا كان أقرب الناس إليه، وكان ربيبه وكان خليفته على ودائعه، وكان أخاه بحكم تلك المؤاخاة، وكان ختنه وأبا عقبه، وكان صاحب لوائه، وكان خليفته في أهله، وكانت منزلته منه بمنزلة هارون من موسى بنص الحديث عن النبي نفسه - لو قد قال المسلمون هذا كله واختاروا عليا بحكم هذا كله للخلافة لما أبعدوا ولا انحرفوا. ويقال: إن العباس بن عبد المطلب هم أن يبايع عليا،فأبى علي وكره الفرقة. ومضت الأمور على هذا النحو أثناء خلافة الراشدين أبي بكر وعمر. ثم وضعه عمر في الشورى ولم يعهد إليه خاصة، مع أنه قال: «لو ولوه لحملهم على الجادة.»
ولم يعهد عمر إلى علي لخصلتين: إحداهما أنه لم يرد أن يتحمل أمر المسلمين حيا وميتا كما قال، والأخرى أن الكثرة من قريش كانت تصرف هذا الأمر عن بني هاشم مخالفة أن يبقى فيهم وراثة، فلا يصيب حيا من أحيائهم إلى آخر الدهر. فكان بنو هاشم قد أبعدوا عن هذا الأمر عمدا، أبعدتهم عنه مخافة قريش أن تظل لبني هاشم رعية، وألا تكون الخلافة في حي آخر من أحيائها.
لم يعهد عمر إلى عثمان لخصلتين أيضا: إحداهما الإشفاق من أن يحمل أمر المسلمين حيا وميتا، والأخرى خوفه أن يستأثر بنو أمية بالخلافة دون غيرهم من أحياء قريش. وقيل: إن العباس أشار على علي ألا يدخل في الشورى، وضمن له إن فعل ألا يختلف عليه الناس. ولكن عليا لم يقبل هذه المشورة، وقبل عهد عمر كما قبله غيره من المسلمين، فوفى ببيعته لعمر حيا وميتا. وكان كل شيء يرشح عليا للخلافة بعد موت عمر: قرابته من النبي، وسابقته في الإسلام، ومكانته بين المسلمين، وحسن بلائه في سبيل الله، وسيرته التي لم تعرف العوج قط، وشدته في الدين، وفقهه بالكتاب والسنة، واستقامة رأيه في كل ما عرض من المشكلات.
ولئن تحرج المسلمون من تقديمه على أبي بكر؛ لأنه كان رفيع المكانة عند النبي وثاني اثنين في الغار، ولأنه خلف النبي على الصلاة بالناس، ولئن تحرج المسلمون من تقديمه على عمر لمكانة عمر أولا ولعهد أبي بكر بالخلافة إليه ثانيا؛ لقد كان المسلمون يستطيعون أن يختاروا عليا للخلافة لا يجدون بذلك بأسا ولا يلقون فيه حرجا. فعمر قد رشحه، ومكانته ترشحه. ثم هو كان بعد ذلك من قوة العصبية في العرب عامة وفي قريش خاصة بالمنزلة التي كان فيها عبد الرحمن بن عوف؛ فهو قد أصهر إلى قريش، وأصهر إلى ربيعة، وأصهر إلى اليمانية، وكان له بنون من نسائه على اختلاف قبائلهن. فلو قد ولى الخلافة قبل أن يفترق الناس لكان خليقا أن يقارب بين العصبيات المتباعدة، وأن يجمع الناس على طاعته، وأن يحملهم على الجادة، كما قال عمر.
ولكن المسلمين لم يختاروه لأمرين: أحدهما خوف قريش أن تستقر الخلافة في بني هاشم إن صارت إلى أحد منهم. وقد بينت الحوادث أن عليا لم يكن لينقل الخلافة بالوراثة؛ فهو قد سار سيرة النبي وسيرة عمر، فلم يعهد لأحد من بعده.
والآخر أن عليا لم يقبل ما عرضه عليه عبد الرحمن من أن يبايع على كتاب الله وسنة رسوله وفعل أبي بكر وعمر لا يحيد عن شيء من ذلك، تحرج علي من أن يعطي هذا العهد مخافة أن تضطره الظروف إلى أن يقصر عن الوفاء به كاملا، فعرض أن يبايع على أن يلزم كتاب الله وسنة رسوله وسيرة الشيخين بقدر جهده وطاقته. وكان تحرجه هذا خليقا أن يعطف الناس عليه ويرغبهم فيه ويدفعهم إلى حسن الظن به وجميل الثقة بإخلاصه؛ لأنه لم يرد أن يلتزم إلا ما أطاق. ولكن عبد الرحمن كان كغيره من المسلمين دقيق الحس في كل ما يتصل بشئون الخلافة، فكأنه أشفق أن يكون تحفظ علي مظهرا لشيء من الأثرة. فلما أعطاه عثمان العهد على التزام كتاب الله وسنة رسوله وفعل الشيخين لا يحيد عن شيء من ذلك، بايعه مطمئنا. وقد أظهرت الحوادث فيما بعد أن عثمان لم يطق ما أطاق الشيخان، ولم يستطع أن يلزم سيرتهما. كما أظهرت الحوادث أيضا أن عليا قد أطاق أثناء خلافته القصيرة ما أطاق الشيخان وأشد مما أطاق الشيخان. فهو قد سار سيرة عمر مع رعية أشد وأعسر وأرغب في الدنيا من رعية عمر. وهو قد سار سيرة عمر مع افتراق الشمل واختلاف الرأي وانشقاق العصا وكثرة الفتن وما استتبعت من الحروب.
وقد عاش علي قبل الفتوح كما عاش بعد الفتوح، عيشة هي إلى الخشونة والشظف أقرب منها إلى الرقة واللين. فلم يتجر ولم يتسع، وإنما اقتصر على عطائه يعيش منه ويرزق أهله، ويستثمر فضوله في مال اشتراه بينبع، ثم لم يزد عليه. ولما مات لم تحص تركته بالألوف فضلا عن عشراتها أو مئاتها أو الملايين ، وإنما كانت تركته كما قال الحسن ابنه في خطبة له: سبعمائة درهم، كان يريد أن يشتري بها خادما.
وكان علي أثناء خلافته القصيرة يلبس خشن الثياب والمرقع منها، ويحمل الدرة ويمشي في الأسواق، فيعظ أهلها ويؤدبهم كما كان يفعل عمر. فكان هذا دليلا على أن عمر كان صادق الفراسة حين قال: «لو ولوا الأجلح لحملهم على الجادة.»
وواضح أن عليا كان بطبيعة مركزه معارضا في جعل الخلافة إلى غير بني هاشم، ولكنه كان ديمقراطيا بأدق المعنى الحديث لهذه الكلمة. فالخلافة لم تكن عنده شيئا يورث، وإنما كانت تكليفا يتلقاه الخليفة من أولي الحل والعقد بين المسلمين عن تراض بينهم وبينه. فلما لم يقدم أولو الحل والعقد إليه الخلافة وقدموها إلى أبي بكر ثم إلى عمر، نزل عند رأيهم وبايع الشيخين ووفى لهما ومحضهما النصح وأخلص لهما في المشورة. وهم أن يلفت الناس إلى نفسه بعد موت عمر حين كان أصحاب الشورى يأتمرون، ولكنه فعل ذلك على استحياء شديد، ثم لم يلبث أن كف وجعل نفسه كغيره من الناس، فأخذ موثق عبد الرحمن على النصح للمسلمين وأعطى موثقه على السمع والطاعة. ويقول المتكلفون من الرواة إنه تلكأ في بيعة عثمان حتى حذره عبد الرحمن وأنذره. ولكن رواة آخرين يقولون ما هو أشبه بسيرة علي وأشد ملاءمة لخلقه. يقولون: إنه حين أبى أن يعطي عبد الرحمن العهد الذي طلبه وحين أعطى عثمان هذا العهد، قال لعبد الرحمن: قد أعطاك أبو عبد الله الرضا فبايعه. ولو قد تلكأ علي بالبيعة ولم يعطها إلا كارها لكان خليقا أن يلزم داره وأن يقاطع عثمان وأهل الشورى وقتا يقصر أو يطول. ولكنه لم يلزم داره، وإنما شهد مجلس عثمان في أمر بيعته، وأشار عليه في قصة عبيد الله بن عمر بأن يقتص منه لمقتل الهرمزان.
كان علي معارضا للخلفاء الثلاثة، ولكن الشيخين لم يأتيا ما يدعو إلى النقد الرفيق فضلا عن النقد الشديد، فلم تظهر معارضة علي لهما، وإنما كان ينصح مع الناصحين ويشير مع المشيرين ، ويسمع بعد ذلك ويطيع، كما كان يفعل غيره من المهاجرين والأنصار. فلما استخلف عثمان اشتدت معارضة علي شيئا ما أثناء الشورى ثم ثاب إلى سيرته مع الشيخين، فنصح وأشار وسمع وأطاع. ولكن سياسة عثمان دفعته إلى شيء من الشدة في المعارضة؛ فهو لم ير ما رآه عثمان من العفو عن عبيد الله بن عمر. ثم لم تلبث الحوادث أن دفعته إلى معارضة جعلت شدتها تزداد شيئا فشيئا، ولكنها على كل حال لم تخرج قط عن طور المعارضة الرشيدة التي تلين وتعنف، ولكنها تلزم حدود النصح والمشورة والتخويف من عقاب الله. وما زالت الأحداث تشتد وتتفاقم حتى اضطر علي ذات يوم أن يواجه عثمان بشيء من المقاومة على ملأ من الناس. كان ذلك حين أعلن عثمان في غير تحفظ أنه سيأخذ من هذا المال حاجته وإن رغمت أنوف الكارهين لذلك.
فقال له علي: إذن تمنع من ذلك. وعلى كل حال لم يخرج علي قط في سيرته مع عثمان عن النصح والمشورة والنقد الشديد أحيانا. وهو كان يتوسط بين عثمان وبين الناقمين منه والخارجين عليه، يبصر عثمان بالحق، ويرد الناس عن الفتنة. حتى إذا استيأس من مقاومة عثمان لأهل بيته، لزم داره ولم يتوسط بينه وبين الناس. ثم هو مع ذلك ظل بارا بعثمان أثناء الحصار، فأنفذ إليه الماء وأرسل ابنيه لمقاومة المحاصرين. وما ينكر أحد أن التنافس بين علي وعثمان قد اتصل أثناء خلافة عثمان كلها. ولكن الشيء الذي لا شك فيه هو أن قرابة عثمان ما زالت به حتى أخافته من علي إلى أبعد حد ممكن. ولو قد سار عثمان سيرة عمر، ولو لم تدخل قرابة عثمان بينه وبين الناس؛ لكان من غير المشكوك فيه أن يسير معه على سيرته مع الشيخين من قبل. ولكن لو سار عثمان سيرة عمر ولو لم تدخل قرابته بينه وبين الناس؛ لما كانت الفتنة، ولما احتجنا إلى إملاء هذا الكتاب.
والدليل على أن قرابة عثمان هي التي أفسدت الأمر بينه وبين علي حتى هم ذات يوم أن يبطش به، ما رواه البلاذري في «أنساب الأشراف» بإسناده من أن العباس توسط بينهما، فقال لعثمان: أذكرك الله في أمر ابن عمك وابن خالك وصهرك وصاحبك مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم ؛ فقد بلغني أنك تريد أن تقوم به وبأصحابه. فقال: «أول ما أجيبك به أني قد شفعتك. إن عليا لو شاء لم يكن أحد عندي إلا دونه، ولكنه أبى إلا رأيه.» ثم قال لعلي مثل قوله لعثمان، فقال علي: «لو أمرني عثمان أن أخرج من داري لخرجت.»
1
ولكن هذه الوساطة لم تغن شيئا؛ فقد مضى عثمان في سياسته، ومضى علي في معارضته، ومضت قرابة عثمان في إفساد الأمر بينهما، حتى اشتد الحرج. فروى البلاذري بإسناده أيضا عن عبد الله بن عباس: «أن عثمان شكا عليا إلى العباس، فقال له: يا خال، إن عليا قطع رحمي وألب الناس ابنك. والله لئن كنتم يا بني عبد المطلب أقررتم هذا الأمر في أيدي بني تميم وعدى، فبنو عبد مناف أحق ألا تنازعوهم فيه ولا تحسدوهم عليه. قال عبد الله بن العباس: فأطرق أبي طويلا، ثم قال: يا ابن أخت، لئن كنت لا تحمد عليا فما يحمدك له، وإن حقك في القرابة والإمامة للحق الذي لا يدفع ولا يجحد. فلو رقيت فيما تطأطأ أو تطأطأت فيما رقي تقاربتما، وكان ذلك أوصل وأجمل. قال: قد صيرت الأمر في ذلك إليك، فقرب الأمر بيننا. قال: فلما خرجنا من عنده دخل عليه مروان فأزاله عن رأيه. فما لبثنا أن جاء رسول عثمان بالرجوع إليه، فلما رجع قال: يا خال أحب أن تؤخر النظر في الأمر الذي ألقيت إليك حتى أرى من رأيي. فخرج أبي من عنده ثم التفت إلي فقال: يا بني ليس إلى هذا الرجل من أمره شيء، ثم قال: اللهم اسبق بي الفتن ولا تبقني إلى ما لا خير لي في البقاء إليه. فما كانت جمعة حتى هلك.»
2
فقد سفر العباس إذن سفارة الخير بين الرجلين فوفق للنجح. وهم عثمان أن يسفره للمرة الثانية، وكان خليقا أن يصيب من النجح ما أصاب في المرة الأولى، ولكن مروان صرفه عن هذا الرأي، فجعلت الأمور تمضي من فساد إلى فساد حتى كانت الفتنة التي توقعها العباس.
وقد رأيت في هذه الفصول الخمسة الأخيرة أطرافا من سيرة أصحاب الشورى ومن موقفهم بإزاء عثمان بعد استخلافه. ولعل خير ما نختم به هذه الفصول ما يروى من رأي عمر في هؤلاء النفر. وسواء أصحت بذلك الرواية عن عمر أم لم تصح؛ فإن هذا الرأي يصور ما استقر في نفوس الناس وفي نفوس الرواة والمؤرخين وأصحاب الحديث خاصة من صورهم.
روى البلاذري بإسناده عن ابن عباس قال: «قال عمر: لا أدري ما أصنع بأمة محمد، وذلك قبل أن يطعن. فقلت: ولم تهتم وأنت تجد من تستخلفه عليهم؟ قال: أصاحبكم؟ - يعني عليا - قلت: نعم، هو أهل لها في قرابته برسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وصهره وسابقته وبلائه. فقال عمر: إن فيه بطالة وفكاهة. فقلت: فأين أنت عن طلحة؟ قال: فأين الزهو والنخوة؟ قلت: عبد الرحمن بن عوف؟ قال: هو رجل صالح على ضعف. قلت: فسعد؟ قال: ذاك صاحب مقنب وقتال، لا يقوم بقرية لو حمل أمرها. قلت: فالزبير؟ قال: لقيس مؤمن الرضا، كافر الغضب شحيح. إن هذا الأمر لا يصح إلا لقوي في غير عنف، رفيق في غير ضعف، جواد في غير سرف. قلت: فأين أنت عن عثمان؟ قال: لو وليها لحمل بني أبي معيط على رقاب الناس، ولو فعلها لقتلوه.»
3
الفصل التاسع عشر
على أن معارضة هؤلاء النفر من أصحاب الشورى لعثمان لم تكن إلا أيسر المعارضة؛ فقد كان له معارضون آخرون من أصحاب النبي، بل من أعلام الصحابة، وكانت بينه وبينهم خطوب حفظها التاريخ، وتكلم فيها الناس فأكثروا الكلام، واختلفوا فأكثروا الاختلاف. من هؤلاء المعارضين عبد الله بن مسعود الهذلي حليف بني زهرة. وكان عبد الله حين لقي النبي لأول مرة غلاما يرعى غنما لعقبة بن أبي معيط، فأتاه النبي وأبو بكر ذات يوم فاستسقياه . قال الغلام: لا أسقيكما، فإني مؤتمن. قال النبي: فهل عندك شاة لم ينز عليها الفحل؟ فدفع الغلام إليه شاة، فمسح النبي على ضرعها فاحتفل، وجاءه أبو بكر بصخرة متقعرة، فاحتلب منه وشرب وشرب أبو بكر. ثم قال النبي للضرع: اقلص، فعاد كما كان. ومنذ ذلك الوقت أسلم ابن مسعود ولزم النبي. وكان أحفظ أصحابه للقرآن وأرواهم له وأشدهم له إظهارا بمكة. وهاجر ابن مسعود إلى بلاد الحبشة ثم إلى المدينة، فآخى النبي بينه وبين الزبير بن العوام من المهاجرين، وآخى بينه وبين معاذ بن جبل من الأنصار. وشهد ابن مسعود بدرا وأحدا والمشاهد كلها مع النبي. وهو الذي احتز رأسه أبي جهل بعد أن صرع يوم بدر. ولزم ابن مسعود النبي لزوما متصلا في سفره وإقامته، حتى كاد يعد من أهل بيته. فكان أثناء إقامة النبي صاحب إذنه، وكان إذا قام النبي ليخرج ألبسه نعليه ومشى بين يديه بالعصا، فإذا بلغ مجلسه خلع نعليه فوضعهما في كمه ودفع إليه العصا وقام على إذنه.
وكان في السفر صاحب فراش النبي وصاحب وضوئه. وكان النبي يحبه حبا شديدا ويوصي بحبه. ورآه أصحاب النبي يرقى شجرة ذات يوم، فضحكوا من دقة ساقيه. فقال النبي: «إنهما لأثقل في الميزان يوم القيامة من جبل أحد.» ولما توفي النبي ودفع المسلمون إلى الفتح خرج ابن مسعود غازيا إلى الشام ورابط في حمص، فنقله عمر إلى الكوفة، وأوصى أهل الكوفة أن يأخذوا عنه، وقال: «إني آثرتكم به على نفسي.»
وقد شهد ابن مسعود مقتل عمر والبيعة لعثمان، ثم أسرع إلى الكوفة. فلما بلغها خطب الناس فقال: إنا اخترنا خير من بقي ولم نأل، ثم حثهم على البيعة لعثمان.
وتولى ابن مسعود بيت المال في الكوفة حين كان سعد بن أبي وقاص واليا عليها. فلما عزل سعد عن الكوفة ظل ابن مسعود على بيت المال صدرا من أيام الوليد بن عقبة. ثم استقرض الوليد شيئا من بيت المال فأقرضه ابن مسعود، وكان هذا شيئا مألوفا. فلما حل الأجل طلب ابن مسعود إليه الأداء، فالتوى، فألح عليه. فكتب الوليد إلى عثمان يشكو ابن مسعود. وكتب عثمان إلى ابن مسعود: «إنما أنت خازن لنا، فلا تعرض للوليد فيما أخذ من بيت المال.» فغضب ابن مسعود وألقى مفاتيح بيت المال، وأقام في داره يعظ الناس ويعلمهم. ومنذ ذلك الوقت بدأت معارضة ابن مسعود لعثمان في أمور السياسة وفي أمور المال، ثم ازدادت معارضته تعقدا حين وحد عثمان المصحف وجعل كتابته إلى نفر من المسلمين عليهم زيد بن ثابت، وتقدم في إحراق غيره من المصاحف. فأنكر ابن مسعود وأنكر معه كثير من الناس ما كان من تحريق المصاحف. واشتد نقد ابن مسعود لعثمان، وكان يخطب الناس يوم الخميس من كل أسبوع، وكان يقول فيما يقول: «إن أصدق القول كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد
صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.» فكتب الوليد بذلك إلى عثمان وقال: إنه يعيبك ويطعن عليك. فكتب إليه عثمان يأمره بإشخاصه إلى المدينة. فأشخص إليها، وخرج معه أهل الكوفة مشيعين ومودعين أحسن التشييع وأحر التوديع. وبلغ ابن مسعود المدينة، فدخل المسجد وعثمان يخطب على منبر النبي. فلما رأى مدخله قال: ألا إنه قد قدمت عليكم دويبة سوء من يمشي على طعامه يقيء ويسلح. فقال ابن مسعود: لست كذلك، ولكني صاحب رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يوم بدر ويوم بيعة الرضوان. ونادت عائشة: أي عثمان، أتقول هذا لصاحب رسول الله
صلى الله عليه وسلم ! ثم أمر عثمان به فأخرج من المسجد إخراجا عنيفا، وضربت به الأرض فدقت ضلعه. وقام علي فلام عثمان في ذلك وقال: تفعل هذا بصاحب رسول الله
صلى الله عليه وسلم
عن قول الوليد! فقال عثمان: ما عن قول الوليد فعلت هذا، ولكن أرسلت زبيد بن كثير فسمعه يحل دمي. قال علي: زبيد غير ثقة، ثم قام على أمر ابن مسعود حتى حمل إلى منزله.
ولم يقف عثمان عند هذا الحد، ولكنه قطع عطاء ابن مسعود وحظر عليه الخروج من المدينة. وأحب ابن مسعود أن يخرج غازيا في أهل الشام، فأبى عليه عثمان ذلك استجابة لقول مروان: إنه أفسد عليك الكوفة، فلا تدعه يفسد عليك الشام.
وكذلك انتقل ابن مسعود بمعارضته من الكوفة إلى المدينة، وأقام فيها مذيعا لمعارضته هذه عامين أو ثلاثة أعوام، ثم حضرته الوفاة. ويقول الرواة: إن عثمان عاده، ثم يختلفون بعد ذلك؛ فيقول بعضهم: إن عثمان اعتذر لابن مسعود، ولم يفترق الرجلان حتى تراضيا واستغفر كل منهما لصاحبه، ومات ابن مسعود فصلى عليه عثمان. ويقول آخرون: إن ابن مسعود لم يحسن لقاء عثمان حين عاده، وسأله عثمان ما تشكو؟ قال: ذنوبي. قال عثمان: فما تشتهي؟ قال ابن مسعود: رحمة ربي. قال عثمان: أألتمس لك طبيبا؟ قال ابن مسعود: الطبيب أمرضني. قال عثمان: أرد عليك عطاءك. قال ابن مسعود: حبسته عني حين احتجت إليه، وترده إلي حين لا حاجة لي به! قال عثمان: يكون لأهلك. قال ابن مسعود: رزقهم على الله. قال عثمان: فاستغفر لي يا أبا عبد الرحمن. قال ابن مسعود: أسأل الله أن يأخذ لي منك بحقي. قالوا: وخرج عثمان، فأوصى ابن مسعود ألا يصلي عليه. ومات فلم يؤذن أحد عثمان بموته، وإنما صلى عليه عمار بن ياسر ثم دفن. ومر عثمان من الغد بقبر جديد، فسأل عنه فقيل: إنه قبر ابن مسعود، فغضب عثمان وقال: سبقتموني به. قال عمار: فإنه أوصى ألا تصلي عليه. فأسرها عثمان في نفسه، وكانت من أسباب غضبه على عمار.
وظاهر أن هذا الحديث متكلف مصنوع، والأشبه بسيرة ابن مسعود أنه عفا واستغفر لعثمان. وقد كان الذين يألفون ابن مسعود من أصحاب النبي يقولون إنه كان أشبه الناس هديا ودلا وسمتا برسول الله. وابن مسعود كان من أقرأ الناس للقرآن وأعملهم به، وهو من غير شك قد قرأ قول الله عز وجل:
ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور . وهو أحرى أن يكون صبر وغفر وآثر عزم الأمور.
الفصل العشرون
وكان أبو ذر رجلا غفاريا من كنانة، وكان في جاهليته منقطعا عن الناس معتزلا لهم، كأنه كان يتصعلك. وأقبل على مكة ذات يوم وسمع فيها حديث النبي، فألم به وسمع منه وأسلم. ثم لم يطل الإقامة بمكة، وإنما لحق بالنبي في المدينة بعد أن هاجر إليها. فهو من الذين سبقوا إلى الإسلام، ومن الذين أحبهم النبي وأثنى عليهم أحسن الثناء، فكان يقول: «ما أقلت الغبراء ولا أظلت الخضراء رجلا أصدق لهجة من أبي ذر.» وكان يقول: «يبعث أبو ذر أمة وحده.» وكان أبو ذر يروي أن النبي أمره أن يترك المدينة إذا بلغ البناء سلعا. فأقام في المدينة أيام أبي بكر وعمر وصدرا من خلافة عثمان، ثم رأى البناء يبلغ سلعا فاستأذن عثمان في أن يهاجر إلى الشام غازيا. ويقال إنه خرج إلى الشام أيام عمر، فكان في الديوان هناك، فكان أبو ذر يقدم حاجا، ويلم بالمدينة، ويستأذن عثمان في أن يجاور قبر النبي وقتا فيأذن له. ونظر ذات يوم فإذا عثمان يعطي مروان بن الحكم مالا كثيرا، ويعطي أخاه الحارث بن الحكم ثلثمائة ألف درهم، ويعطي زيد بن ثابت الأنصاري مائة ألف درهم. فينكر ذلك ويستكثره، ويقول: بشر الكانزين بالنار، ويتلو قول الله عز وجل:
والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم .
وقد شكا مروان بن الحكم إلى عثمان مقالة أبي ذر هذه، فأرسل عثمان إليه مولى له ينهاه. فقال أبو ذر: أينهاني عثمان عن قراءة كتاب الله وعيب من ترك أمر الله! لأن أرضي الله بسخط عثمان أحب إلي من أن أرضي عثمان بسخط الله. وقد صبر عليه عثمان، ولكن أبا ذر ألح في نقده وعيبه، ودعوته إلى القصد والقناعة. وتبغيضه جمع المال، حتى كان يوما عند عثمان وكعب الأحبار حاضر. فيقول بعض الرواة: إن عثمان سأل: أيحل للإمام أن يقترض من بيت المال، فإذا أيسر رد ما اقترض؟ فقال كعب: لا أرى بذلك بأسا. فغضب أبو ذر وقال لكعب: يابن اليهوديين أتعلمنا ديننا! وغضب عثمان لذلك، فأمر أبا ذر أن يلحق بالشام. ويقول آخرون: إن أبا ذر كان يقول لعثمان: لا ينبغي لمن أدى الزكاة أن يقنع حتى يطعم الجائع ويعطي السائل ويبر الجيران. فقال كعب: من أدى الفريضة فحسبه. فغضب أبو ذر وآذى كعبا بلسانه ويده، فأمره عثمان أن يلحق بمكتبه في الشام.
ومهما يكن من ذلك فقد ذهب أبو ذر إلى الشام، ولكن إقامته هناك لم تطل. جعل يقول في الشام ما كان يقول في المدينة، وأنكر على معاوية أشياء: أنكر عليه أن يقول مال الله، وقال: إنما هو مال المسلمين. وأنكر عليه بناء الخضراء، وقال: إن كنت إنما بنيتها من مال المسلمين فهي الخيانة، وإن كنت إنما بنيتها من مالك فإنما هو السرف. وكان يقول: ويل للأغنياء من الفقراء! وكان الناس يجتمعون إليه ويسمعون منه ويؤمنون له، حتى خاف معاوية على أهل الشام من دعوة أبي ذر هذه، فكتب يشكو منه إلى عثمان. وكتب عثمان إليه أن أشخص إلي جندبا على أغلظ مركب وأوعره. فأرسله معاوية إلى المدينة غير حفي به. فلما بلغ المدينة مضى في دعوته، وجعل يقول: بشر الأغنياء بمكاو من نار تكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم. وجعل يطعن على عثمان! لأنه أطلق يده في مال المسلمين، واستعمل الأحداث، وولى أبناء الطلقاء، حتى ضاق به عثمان.
ويختلف الرواة بعد ذلك، فيقول بعضهم: إن عثمان أمره أن يخرج من المدينة فيقيم حيث شاء، ولكنه منعه من الذهاب إلى الشام أو إلى أحد المصرين في العراق أو إلى مكة. فاختار أبو ذر أن يذهب إلى الربذة، فأذن له عثمان، فذهب إليها وأقام فيها حتى مات. ويقول آخرون: إن أبا ذر لم يختر، وإنما سيره عثمان إلى الربذة منفيا، فأقام فيها حتى مات غريبا، وحتى عجزت امرأته عن دفنه. فدفنه قوم من أهل العراق أقبلوا حاجين أو معتمرين. وبلغ عثمان موته فاستغفر له، وضم أهله إلى عياله. وأظهر عمار بن ياسر رقة لأبي ذر وعطفا عليه، فظن عثمان أنه إنما يلومه على نفيه أبا ذر، فغضب عليه وأمره أن يذهب هو أيضا إلى الربذة منفيا. فلما تهيأ عمار للخروج غضبت بنو مخزوم وكان عمار لهم حليفا، وغضب علي وأقبل على عثمان فلامه في نفي أبي ذر، وطلب إليه أن يكف عن عمار. وتلاحى الرجلان، حتى قال عثمان لعلي: ما أنت بأفضل من عمار، وما أنت أقل استحقاقا للنفي منه. قال علي متحديا: رم ذلك إن شئت. وقام المهاجرون إلى عثمان فلاموه وقالوا: كلما غضبت على رجل نفيته؛ فإن هذا أمر لا يسوغ. فكف عثمان عن عمار وعن علي أيضا.
فكانت معارضة أبي ذر كما رأيت تتصل قبل كل شيء بالنظام الاجتماعي. كان يكره أن يغنى الغني حتى يكنز الذهب والفضة، وأن يحتاج الفقير حتى لا يجد ما ينفق. ثم كان يكره أن يعطي الإمام مال المسلمين للأغنياء بغير حقه، فيزيدهم غنى ويزيد الفقراء فقرا، ويؤثر المال قوما لا حاجة بهم إليه، ويصرف هذا المال عن المصالح العامة. ثم كان لا يرى للخليفة الحق في أن يكفه عن النقد أو يعاقبه على المعارضة. وكان يرى أن رضا الله بإسخاط السلطان أحب إليه من رضا السلطان بإسخاط الله. ثم تعقدت معارضته فأصبحت سياسية؛ فلم يكتف بلوم الخليفة والولاة في إنفاقهم أموال المسلمين في غير وجهها، وإنما جعل ينكر على عثمان سياسته في التولية والعزل وإيثار الأحداث وأبناء الطلقاء. وهو على كل هذه المعارضة لم يكن ثائرا ولا نازعا يدا من طاعة، ولا ممتنعا على الخليفة إن عاقبه أو أراد به المكروه. إنما كانت معارضته سلبية تكتفي بالنقد اللاذع والنصح العنيف. وهو من أجل ذلك ذهب إلى الشام حين أمر أن يذهب إلى الشام، وسار إلى الربذة حين أمر أن يسير إلى الربذة، وقال: أمرت أن أطيع وإن أمر علي عبد مجدع. وقال للذين طلبوا إليه أن يقودهم إلى المقاومة الإيجابية: لو صلبنى عثمان على طول جذع من جذوع النخل لما عصيت.
كان إذن يرى أن من حقه أن يعارض ما وسعته المعارضة، ولكن في حدود الطاعة وتجنب الخروج على الإمام.
الفصل الحادي والعشرون
وكان عمار بن ياسر من المستضعفين في مكة. أبوه ياسر يمني حليف لبني مخزوم، وأمه سمية أمة من إمائهم. وقد دخل عمار مع صهيب على النبي فأسلم بعد نيف وثلاثين رجلا، ثم أسلم أبواه، فأولعت قريش بتعذيبهم جميعا. وعذب عمار بالقيظ في رمضاء مكة وحرق بالنار، وكانت قريش تعذبه ولا تعفيه من العذاب حتى ينال من النبي ويذكر آلهتها بخير. وشكا ذلك إلى النبي فقال له: «فإن عادوا فعد.» وأنزل الله في عمار غير آية من القرآن. وكان النبي يرق له ولأبويه، فيمر بهم وهم يعذبون فيرحمهم ويستغفر لهم ويبشرهم بالجنة، حتى قال يوما: «اللهم اغفر لآل ياسر وقد فعلت.» وهاجر عمار إلى أرض الحبشة ثم إلى المدينة. وكان أول ما اتخذ في بيته بمكة مسجدا يصلي فيه. وشارك في بناء مسجد النبي مشاركة حسنة، فكان المسلمون يحمل كل واحد منهم لبنة لبنة، وكان هو يحمل لبنتين لبنتين. وكان في أثناء ذلك يتغنى: «نحن المسلمون نبتني المساجدا»، وكان النبي يرجع عليه بعض غنائه فيقول: «المساجدا.» وشارك كذلك في حفر الخندق مشاركة حسنة، حتى كان النبي يمسح التراب عنه. وشهد بدرا وأحدا والمشاهد كلها مع النبي. وقاتل يوم اليمامة أروع قتال. ورآه بعض المسلمين على صخرة ذلك اليوم وهو يصيح: أيها المسلمون، أمن الجنة تفرون! وولاه عمر بن الخطاب أميرا على الكوفة، وجعل معه عبد الله بن مسعود على بيت المال وحذيفة بن اليمان على السواد، ورزقهم شاة في كل يوم لعمار نصفها، ولكل من عبد الله وحذيفة ربعها. ولما عزله عمر عن الكوفة سأله: أساءك عزلنا إياك؟ فقال: أما إذ قلت ذاك فقد ساءني حين استعملتني، وساءني حين عزلتني.
وقد بايع عمار عثمان مع غيره من المسلمين، ولكن الأحداث لم تكد تحدث حتى ظهرت معارضته لعثمان عنيفة حادة، فجعل يلهج به وينكر عليه، حتى تحدث الناس ذات يوم بأن عثمان أخذ من جوهر كان في بيت المال فحلى به بعض أهله ، فغضب الناس لذلك ولاموا عثمان فيه حتى أغضبوه، فخطب فقال: «لنأخذن حاجتنا من هذا الفيء وإن رغمت أنوف أقوام.» فقال له علي: إذن تمنع من ذلك ويحال بينك وبينه. وقال عمار بن ياسر: أشهد الله أن أنفي أول راغم من ذلك. فقال عثمان: أعلي يابن المتكاء تجترئ! خذوه. فأخذ، ودخل عثمان فدعا به فضربه حتى غشي عليه.
1
ثم أخرج محمولا حتى أتي به منزل أم سلمة زوج النبي، وظل مغشيا عليه سائر النهار ففاتته الظهر والعصر والمغرب. فلما أفاق توضأ وصلى، وقال: الحمد لله! ليست هذه أول مرة أوذينا فيها في الله. ويقال: إن أم سلمة أو عائشة أخرجت شيئا من شعر النبي وثوبا من ثيابه ونعلا من نعاله، وقالت: هذا شعر النبي وثوبه ونعله لم يبل وأنتم تعطلون سنته. وضج الناس، وخرج عثمان عن طوره حتى لا يدري ما يقول.
واشترك عمار مرة أخرى مع جماعة من أصحاب النبي في كتاب كتبوه إلى عثمان يلومونه ويعظونه، وأقبل عمار بالكتاب فدخل على عثمان وقرأ عليه صدرا منه، فشتمه عثمان وضربه برجليه وهما في الخف حتى أصابه الفتق وكان شيخا ضعيفا.
وقد قدمنا ما كان من موقف عمار في شأن ابن مسعود وفي شأن أبي ذر، وما قيل من أن عثمان هم بنفيه ثم كف عنه. ومهما يكن من شيء فقد كان عمار من أشد الناس معارضة لعثمان وأكثرهم تشهيرا به وطعنا عليه، يشارك في ذلك المعتدلين من أصحاب النبي، ويشارك فيه الغلاة من الطارئين على المدينة، ولقي في ذلك ما لقي من الأذى.
هؤلاء هم زعماء المعارضة في المدينة، وكلهم كما ترى من كبار الصحابة وأعلام المهاجرين. فأما الأنصار فلم يكونوا يتصدرون المعارضة لأنهم أبعدوا عن الحكم، ولكنهم كانوا يشاركون فيها كما تشارك الجماهير. وقد يقول القائل منهم كلمة هنا وهناك، كالذي روينا من شعر زياد البياضي في عبيد الله بن عمر. وكانت كثرة الأنصار منحرفة عن عثمان لا يكاد يواليه منهم إلا نفر قليل، في مقدمتهم زيد بن ثابت وكعب بن مالك وحسان بن ثابت. وكان كبار الأنصار ربما توسطوا بين عثمان ومعارضيه، كما سترى من توسط محمد بن مسلمة بين عثمان والمصريين. وقد نشأت في المدينة أيام عثمان معارضة شعبية خفية تجري بها الألسنة ولا يعرف صاحبها، كالذي كان حين وسع عثمان مسجد النبي، فقال الناس: يوسع مسجد النبي ويترك سنته. وكالذي كان حين كثر الحمام في المدينة وأقبل الشباب على الرمي، فتقدم عثمان إلى الناس في ذبح الحمام وولى رجلا يمنع الرمي بالبندق. فقال الناس: يأمر بذبح الحمام ويئوي طريدي رسول الله! يشيرون إلى إيواء عثمان للحكم بن أبي العاص وبنيه.
وأظن أني قد صورت لك تصويرا مقاربا حال الناس حين حدثت الأحداث أيام عثمان، وحال المعارضة في الأمصار وفي المدينة. وأصبح من اليسير الآن أن نستقبل هذه الأحداث نفسها، فنعرضها ونعرض رأي القدماء فيها، ونقول بعد ذلك فيها برأينا نحن، لا نتوخى إلا الحق والقصد والصواب ما وجدنا إلى ذلك سبيلا.
الفصل الثاني والعشرون
ونحب أن نلاحظ قبل كل شيء أن الذين عابوا عثمان ونقدوا سيرته من القدماء لم يعرضوا في عيبهم ونقدهم لسياسته في الفتح. فقد جرت هذه السياسة فيما يظهر على النهج الذي جرت عليه أيام عمر، والذي أخذ عثمان به قواده حين استخلف في الكتاب الذي رويناه من قبل. والذين يتتبعون تاريخ الفتح أيام عثمان يلاحظون أن عماله وقواده قد أبلوا في ذلك أحسن البلاء، وأغنوا فيه أجمل الغناء. فقد كانت بعض الكور والأقاليم التي فتحت أيام عمر تنتقض أو تحاول الانتقاض، فلا يلبث العمال والقواد أن يردوها إلى الطاعة بالحرب غالبا، وبإظهار القوة والبأس أحيانا.
ومات عمر ولم يتم افتتاح بلاد الفرس كلها، بل مات عمر وما زال كسرى يزدجرد حيا يتنقل بالهزيمة من كورة إلى كورة ومن مدينة إلى مدينة، يجتمع الناس إليه هنا ويتفرقون عنه هناك، ولكنه على ذلك قائم يعتز بما ورث من حقه في الملك والسلطان، وبما له في أعناق المغلوبين والمقاومين والذين لم تصل الحرب إلى أقطارهم بعد من وجوب الطاعة له والاعتراف بحقه. فما زال عمال عثمان وقواده في الثغور التي تلي الكوفة والبصرة يوغلون في الأرض، ويمضون في الفتح، ويتتبعون أنصاره ويفرقونهم عنه، ويقتطعون المدن والأقاليم التي كان له عليها سلطان فعلي أو وهمي، حتى ألجئوه إلى أن يمضي هاربا ليس له نصير ولا عون، وانتهى أمره إلى ان قتل. وانقرضت بذلك دولة الأكاسرة في أيام عثمان. ثم مضى قواده وعماله حتى بلغوا أرض الترك، وحتى كانت بينهم وبينهم خطوب. وفي أيام عثمان فتحت إرمينية، وفي أيامه كذلك امتد سلطان الدولة في المغرب، ففتحت إفريقية، وكانت الغارة على الأندلس. وفي أيامه أقدم معاوية وعبد الله بن سعد بن أبي سرح على ما لم يكن من الممكن أن يقدم عليه وال أو عامل في أيام عمر، فغزوا الروم من قبل البحر حتى أخذت منهم قبرس، وحتى بلغ أسطول المسلمين مضيق القسطنطينية، وحتى انتصر عبد الله بن سعد انتصارا حاسما على أسطول الروم في واقعة ذات الصواري.
فقد أتيح لعثمان من القوة العسكرية مثل ما أتيح لعمر، وأتيح له من التوسع في الفتح والقضاء على دولة الأكاسرة وإذلال الروم في البر والبحر ما لم يتح لعمر. ولكن هذا نفسه كان مصدرا من مصادر الفتنة والخلاف؛ فقد كان الفتح يتيح للمسلمين من الغنائم والفيء شيئا كثيرا، وكان تصرف عثمان في بعض تلك الغنائم وهذا الفيء ربما أحفظ الجند، كالذي كان من أمر عبد الله بن سعد ومروان بن الحكم في فتح إفريقية، وربما أحفظ المهاجرين والأنصار كالذي كان من تصرف عثمان في بعض ما كان في بيت المال من الجوهر والحلي، حتى لامه المسلمون وأغضبوه، فخطب خطبته تلك التي انتهت بضرب عمار بن ياسر. ولكن الشيء الذي ليس فيه شك هو أن سلطان الدولة لم يضعف من الناحية الخارجية، وإنما ازداد قوة إلى قوة وبأسا إلى بأس أيام عثمان.
ويجب أن نلاحظ بعد ذلك أن الناس وقفوا من الأحداث التي حدثت أيام عثمان ومن نصيب عثمان منها مواقف متباينة أشد التباين: فقوم أراحوا أنفسهم جملة، وقالوا إن أكثر هذه الأحداث مكذوب مصنوع لم يصح وقوعه، وإنما تكلفه المتكلفون، أراد بعضهم به الكيد للإسلام، ودفع بعضهم إليه بما كان من الخصومة العنيفة بين الأحزاب. وهم من أجل ذلك يرفضون أكثر الأحداث، ويرون فيما يقبلون منها أنها أمور ليست بذات خطر، ذهب فيها الإمام مذهب الاجتهاد، فإن أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر واحد، وهو على كل حال لم يرد إلا الخير، ولم يكن يريد ولا يمكن أن يريد إلا الخير. وهم يرون مثل هذا الرأي فيما يقبلون من الروايات التي تتحدث ببعض ما كان بين عثمان وأصحاب النبي من الخصومة. أكثر هذه الروايات عندهم مكذوب مصنوع، وقليل منها يقبل على ما مضى من التأول، أي على أنه كان نتيجة الاجتهاد؛ ومن اجتهد فأصاب فله أجران، ومن اجتهد فأخطأ فله أجر واحد.
وأكثر الذين يذهبون هذا المذهب إنما يدفعون إليه لأنهم يقدسون ذلك العصر من عصور الإسلام، ويكرهون أن يحملوا على أصحاب النبي ما يحمل عادة على الذين يستقبلون أمور الدنيا بما في نفوسهم من استعداد للمنافسة والاصطراع حول أعراض وأغراض لا تلائم قوما صحبوا رسول الله، وأبلوا في سبيل الله أحسن البلاء، وأسسوا الدولة بما أنفقوا في ذلك من دمائهم وأموالهم وجهودهم. فهم يخطئون ويصيبون، ولكنهم يجتهدون دائما، ويسرعون إلى الخير دائما. فلا يمكن أن يتورطوا في الكبائر ولا أن يحدثوا إلا هذه الصغائر التي يغفرها الله للمحسنين من عباده. وقليل من الذين يرون هذا الرأي ويذهبون هذا المذهب يدفعون إلى ذلك بحكم الكسل العقلي الذي يمنعهم من البحث والدرس والاستقصاء.
وقوم آخرون يريحون أنفسهم نوعا آخر من الإراحة، فيستبعدون أن تقع هذه الأحداث والفتن من أصحاب النبي، ويرون أنها مؤامرات دبرها الكائدون للإسلام، كعبد الله بن سبأ ومن لف لفه من أهل الكتاب وغير أهل الكتاب.
وواضح جدا أننا لا نستطيع أن نذهب هذا المذهب أو ذاك؛ فنحن لا نحب الكسل ولا نطمئن إلى الراحة، ولا نغلو في تقديس الناس إلى هذا الحد البعيد، ولا نرى في أصحاب النبي ما لم يكونوا يرون في أنفسهم؛ فهم كانوا يرون أنهم بشر يتعرضون لما يتعرض له غيرهم من الخطايا والآثام. وهم تقاذفوا التهم الخطيرة، وكان منهم فريق تراموا بالكفر والفسوق؛ فقد روي أن عمار بن ياسر كان يكفر عثمان ويستحل دمه ويسميه نعثلا. وروي أن ابن مسعود كان يستحل دم عثمان أيام كان في الكوفة، وهو كان يخطب الناس فيقول: «إن شر الأمور محدثاتها، وكل محدث بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.» يعرض في ذلك بعثمان وعامله الوليد.
وروي أن عبد الرحمن بن عوف قال لعلي: إن شئت أخذت سيفك وآخذ سيفي؛ فإنه خالف ما أعطاني. وروي كذلك أنه قال لبعض أصحابه في المرض الذي مات فيه: عاجلوه قبل أن يطغى ملكه.
والذين ناصروا عثمان من أصحاب النبي كانوا يرون أن خصومهم قد خرجوا على الدين وخالفوا عن أمره، وهم جميعا من أجل ذلك قد استحلوا أن يقاتل بعضهم بعضا، وقاتل بعضهم بعضا بالفعل يوم الجمل ويوم صفين، إلا ما كان من سعد وأصحابه القليلين الذين اعتزلوا فلم يشاركوا في الفتنة ولم يدفعوا إلى الحرب، والذين كان سعد يصور رأيهم أحسن تصوير حين كان يقول: لا أقاتل حتى تأتوني بسيف يقول: هذا مؤمن وهذا كافر. وإذا دفع أصحاب النبي أنفسهم إلى هذا الخلاف وتراموا بالكبائر وقاتل بعضهم بعضا في سبيل ذلك، فما ينبغي أن يكون رأينا فيهم أحسن من رأيهم هم في أنفسهم، وما ينبغي أن نذهب مذهب الذين يكذبون أكثر الأخبار التي نقلت إلينا ما كان بينهم من فتنة واختلاف. فنحن إن فعلنا ذلك لم نزد على أن نكذب التاريخ الإسلامي كله منذ بعث النبي؛ لأن الذين رووا أخبار هذه الفتن هم أنفسهم الذين رووا أخبار الفتح وأخبار المغازي وسيرة النبي والخلفاء. فما ينبغي أن نصدقهم حين يروون ما يروقنا، وأن نكذبهم حين يروون ما لا يعجبنا. وما ينبغي أن نصدق بعض التاريخ ونكذب بعضه الآخر ، لا لشيء إلا لأن بعضه يرضينا وبعضه يؤذينا. وما ينبغي كذلك أن نصدق كل ما يروى أو نكذب كل ما يروى، وإنما الرواة أنفسهم ناس من الناس؛ يجوز عليهم الخطأ والصواب، ويجوز عليهم الصدق والكذب. والقدماء أنفسهم قد عرفوا ذلك وتهيئوا له ووضعوا قواعد التعديل والتجريح والتصديق والتكذيب، وترجيح ما يمكن ترجيحه، وإسقاط ما يمكن إسقاطه، والشك فيما يجب الشك فيه. فليس علينا بأس من أن نسلك الطريق التي سلكوها، وأن نضيف إلى القواعد التي عرفوها ما عرف المحدثون من القواعد الجديدة التي يستعينون بها على تحقيق النصوص وتحليلها وفقهها.
والشيء الذي لا يمكن أن يتعرض للشك هو أن المسلمين قد اختلفوا على عثمان، وأن هذا الاختلاف قد انتهى إلى ثورة قتل فيها عثمان، وأن هذه الثورة قد فرقت المسلمين تفريقا لم يجتمعوا بعده إلى الآن.
فلا بد لهذا الاختلاف من أسباب، ولا بد لهذه الثورة من مقدمات. فعثمان لم يقتل نفسه ولم يقدم نفسه ضحية لقاتليه. والذين اختلفوا عليه وثاروا به وقتلوه لم يفعلوا ذلك عن غير علة أو سبب، وإنما كانت هناك أمور أنكروها مخطئين أو مصيبين، ثم دعاهم إنكارها إلى الاختلاف والثورة وإحداث هذا الحدث الذي لم يسبقوا إليه؛ وهو قتل الإمام عنوة واقتدارا.
ثم نلاحظ بعد هذا وذاك أن إمامة عثمان كانت صحيحة ما في ذلك شك؛ فالمسلمون جميعا قد بايعوه ورضوا إمامته وسمعوا له وأطاعوا. ومهما يقل القائلون في طريقة اختيار المسلمين لخلفائهم، فإن الاختيار نفسه كان صحيحا مجمعا عليه؛ فلم يخالف في إمامة أبي بكر وعمر إلا سعد بن عبادة ولم يلتفت إلى خلافه أحد، ولم يخالف في إمامة عثمان أحد ما. وقد بينا أن ما يروى من تلكؤ علي في البيعة لا يلائم سيرته ولا خلقه ولا مذهبه مع الشيخين، ولا العهد الذي أعطاه لعبد الرحمن ولا سيرته مع عثمان نفسه. وقدمنا أن طلحة غضب وجلس في داره؛ لأن البيعة تمت في غيبته، ولأن مثله لا يفتات عليه، ولكنه على ذلك لم يلبث أن بايع كما بايع الناس، وسمع وأطاع كما سمع الناس وأطاعوا؛ فكانت إمامة عثمان صحيحة مجمعا عليها كإمامة صاحبيه من قبله. فكل ما صدر عنه من أمر ونهي ومن قول وفعل إنما صدر عن إمام صحت بيعته ووجبت طاعته. ولكن البيعة كما قدمنا عقد بين الإمام والرعية؛ فهي لا تلزم الإمام وحده، وإنما تلزم الطرفين المتعاقدين. والعقد الذي كان بين عثمان وبين المسلمين هو أن يلزم عثمان كتاب الله وسنة رسوله وفعل أبي بكر وعمر لا يحيد عن شيء من ذلك، وأن يسمع المسلمون له ويطيعوا ما وفى بعهده وما لم يغير من الكتاب والسنة وسيرة الشيخين شيئا.
فالمسألة هي بالدقة ما يأتي: أخالف عثمان عن كتاب الله وسنة رسوله وسيرة الشيخين؟ أم لزم ذلك فلم يخالف عنه في قليل ولا في كثير؟ فإن تكن الأولى فليست له على المسلمين طاعة فيما خالف فيه عهده. وإن تكن الثانية فليس للمسلمين أن يعصوا أمرا ويقبلوا على ما نهاهم عنه أو ينكروا سيرته فضلا عن أن يختلفوا عليه ويثوروا به ويحصروه ويقتلوه.
هذه هي القضية كما ينبغي أن تصور وأن تعرض، وكما تصورها القدماء وعرضوها.
فلننظر كيف تصور القدماء هذه القضية، وكيف عرضوها جملة وتفصيلا.
الفصل الثالث والعشرون
وقد نظر القدماء إلى جميع الأحداث التي كان فيها عيب عثمان والاختلاف عليه نظرة دينية خالصة، كما نظر إليها الذين عاصروا عثمان سواء منهم من خاصمه ومن ناصره؛ لأنهم كانوا ينظرون هذه النظرة الدينية إلى كل شيء من أمور الدين والدنيا جميعا. وهم من أجل ذلك تكلموا في الكفر والإيمان أكثر مما تكلموا في الخطأ والصواب وفي المنفعة والمضرة. وما دمنا نصور آراءهم فلننظر إلى هذه الأحداث نظرتهم، ولكن في شيء من التمييز مع ذلك بين هذه الأحداث.
فقد كان من هذه الأحداث ما يمس الشئون الدينية الخالصة، ويتصل بنص من نصوص القرآن أو أثر من سنة النبي. وكان منها ما يتصل بشئون السياسة التي يمكن أن يجتهد فيها الإمام فيخطئ ويصيب، وليس عليه في دينه بأس إن أخطأ ما دام مجتهدا، وله الفضل كل الفضل إن أصاب.
وكان من هذه الأحداث أيضا أشياء تتصل بالنظام الاجتماعي، فهي كذلك موضوع الاجتهاد يخطئ الإمام فيها ويصيب، وله العذر إن أخطأ، والفضل إن أصاب، والمقياس فيما يتصل بالسياسة والنظام الاجتماعي إنما هو العدل من جهة، ورضا كثرة المسلمين من جهة أخرى.
فلنبدأ من هذه الأحداث بما يتصل بالشئون الدينية الخالصة. فقد أنكر خصوم عثمان عليه أنه لم يكد يبدأ خلافته حتى عطل حدا من حدود الله وخالف عن نصوص القرآن خلافا خطيرا، وذلك حين عفا عن عبيد الله بن عمر، ولم يقتص منه للهرمزان وجفينة وبنت أبي لؤلؤة، فيما ذكر بعض الرواة. فقد كان الهرمزان أميرا فارسيا مسلما، وكان الآخران ذميين، والله قد عصم دماء المسلمين ودماء الذميين، وبين الحدود التي يجب أن تقام حين يعتدي أحد على بعض أولئك أو هؤلاء؛ فقال في سورة البقرة:
يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم * ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون .
وقال في سورة النساء:
وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله وكان الله عليما حكيما * ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما . وقال في سورة المائدة:
من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون . وقال في سورة الإسراء:
ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا .
فالله قد بين في هذه الآيات كلها حدودا لا يجوز أن يتعداها المسلمون، وبعضها يتصل بالقتل عن عمد، وبعضها يتصل بالقتل عن خطأ. وليس من شك في أن عبيد الله لم يقتل الهرمزان وصاحبه أو صاحبيه خطأ، وإنما أراد ذلك وعمد إليه، ولو لم يؤخذ منه السيف لكان من الممكن أن يقتل قوما آخرين. فقال المعارضون لعثمان: إن إقامة الحد عليه واجبة بنص القرآن. وقال عثمان: قتل أبوه أمس وأقتله اليوم! ويقال إن المهاجرين أنفسهم قالوا ذلك لعثمان. والمهم هو أن عثمان عفا عن عبيد الله. وقد أجاب عثمان نفسه على اعتراض المعترضين يومئذ وفيهم علي بأن الهرمزان وصاحبه لا ولي لهما، وبأنه هو وليهما؛ لأن الإمام ولي من لا ولي له. والله قد أذن للولي في أن يعفو، وأثابه على هذا العفو. فقد عفا عثمان إذن عن إذن الله من جهة، وعن رعاية للمصلحة من جهة أخرى. وقد بينا فيما مضى أن عليا وغيره من المسلمين لم يقروا عثمان على هذا العفو، ولم يروا أنه يملكه.
وخاض المتكلمون بعد ذلك في هذه القضية: فأما أهل السنة والمعتزلة فرأوا رأي عثمان، وقالوا: ليس عليه بهذا العفو بأس؛ فهو ولي المقتولين، ومن حق الولي أن يعفو، ولا سيما حين يكون العفو سياسة ملائمة للمصلحة. والعفو هنا كان سياسة ملائمة للمصلحة الداخلية والخارجية جميعا، فأما المصلحة الداخلية فهي فيما قدمنا من رعاية المهاجرين وقريش عامة، إذا قالوا قتل أبوه أمس ونقتله اليوم! وأما المصلحة الخارجية فقد قال أهل السنة والمعتزلة: لو قتل عثمان عبيد الله لشمت عدو المسلمين، قالوا: قتلوا إمامهم أمس ثم قتلوا ابنه بعده. وأما الشيعة فيرون رأي علي وأصحابه ويقولون: ما كان ينبغي لعثمان أن يجتهد في شيء بينه القرآن بنصه تصريحا . وقالوا : ما كان ينبغي أن يلتفت إلى شماتة العدو؛ فالعدو خليق أن يشمت إذا عرف أن إمام المسلمين يعطل حدود الإسلام. وقالوا: إن عمر نفسه قد أوصى بإقامة الحد على ابنه إن ثبت أنه قتل من قتل ظلما؛ فما كان ينبغي لعثمان أن ينقض أمرا أبرمه الإمام قبله وهو يملك إبرامه.
ولكنا نلاحظ أن الله قد بين الحد الذي ينبغي أن يقام على القاتل عمدا بالنص، ولكنه رغب في العفو ودعا إليه بالنص أيضا، فعثمان لم يتعد القرآن حين عفا، وإنما التزمه والتزم ما رغب الله فيه ودعا إليه من العفو. ولا يستقيم قول من قال إن عمر كان قد أبرم الحكم فلم يكن لعثمان أن ينقضه؛ لأن عمر لم يزد - إن صحت الرواية - على أن أوصى بقتل ابنه إذا ثبت أنه قتل ظلما فهو إذن لم يصدر حكما، وإنما أمر بإنفاذ كتاب الله، وبأن تنظر هذه القضية بالحق والعدل. ومن الحق والعدل أن يقضي الإمام بالقصاص، ثم يعفو إن رأى في العفو مصلحة. ولو قد أصدر عمر حكما مبرما ثم مات دون أن يتولى إنفاذه، لكان من حق الإمام الذي يأتي بعده أن يعفو؛ لأن العفو ليس نقضا للحكم وإنما هو إقرار له ثم نزول عن الحق في إنفاذه.
فلا ينبغي أن يقال إذن إن عثمان قد عطل الحد أو خالف عن أمر الله في هذه القضية، وإنما يمكن أن يقال إن عثمان قد أبعد في الحكم والعفو حين أدى الدية من ماله هو، ولم يعزر عبيد الله بالسجن الذي يقصر أو يطول، فهو لم يرزأه في ماله ولا في حريته. وقد روى بعض الرواة أن الإقامة في المدينة لم تستقم لعبيد الله، فأرسله عثمان إلى الكوفة وأقطعه فيها أرضا ودارا. فهذا كله - إن صح - غلو في العفو والحلم، وهو خليق أن يخيل إلى بعض الناس أن عثمان لم يحفل بدم هذين القتيلين، وأنه كافأ القاتل فأدى عنه الدية وحماه من الناس ولم يسجنه، وإنما أقطعه أرضا ودارا. وهذا أيضا خليق أن يخيل إلى الناس أن عثمان أراد أن يراعي السياسة ويترضى قريشا، فأسرف في الأمرين جميعا.
ثم عاب المسلمون المعاصرون لعثمان عليه بعد هذه القضية مخالفته للسنة المعروفة المستفيضة عن النبي وعن الشيخين وعن عثمان نفسه في صدر من خلافته، وذلك حين أتم الصلاة في منى وقد قصرها النبي والشيخان وقصرها عثمان أيضا أعواما. وقد ذعر المسلمون حقا حين أتم عثمان الصلاة في منى، فسعى بعضهم إلى بعض وقال بعضهم لبعض، ثم أقبل عبد الرحمن بن عوف على عثمان فقال له: ألم تصل هنا مع النبي ركعتين؟ قال عثمان: بلى. فقال عبد الرحمن: ألم تصل مع أبي بكر وعمر ركعتين؟ قال عثمان: بلى. قال عبد الرحمن: ألم تصل أنت بالناس هنا ركعتين؟ قال عثمان: بلى. قال عبد الرحمن: فما هذا الحدث الذي أحدثته؟ قال عثمان: فإني قد بلغني أن الأعراب والجفاة من أهل اليمن يقولون: إن صلاة المقيم اثنتان؛ لأني قد اتخذت بمكة أهلا، ولي بالطائف مال قد ألم به بعد الصدر، فخشيت أن يظن هؤلاء الناس أن صلاة المقيم ركعتان. قال عبد الرحمن: أما خوفك على الأعراب والجفاة والجهال، فقد صلى النبي ركعتين ولم يكن الإسلام قد فشا بعد، فالآن وقد ضرب الإسلام بجرانه ما ينبغي لك أن تخاف. وأما أنك اتخذت بمكة أهلا فإن زوجتك في المدينة تخرج بها إن شئت وتتركها إن شئت. وأما أن لك في الطائف مالا فإن بينك وبين الطائف ثلاث ليال. قال عثمان: هذا رأي رأيته. قال الرواة: وانصرف عبد الرحمن فلقي عبد الله بن مسعود، فقال له ابن مسعود: أرأيت إلى عثمان يصلي أربعا وقد صلى النبي وصلى صاحباه وعثمان نفسه في هذا المكان اثنتين؟ لقد علمت ذلك فصليت بأصحابي أربعا لأني أكره الفرقة. قال عبد الرحمن: فإني قد علمت ذلك فصليت بأصحابي ركعتين، فأما الآن فهو ما قلت.
ومعنى هذا أن الأعلام من أصحاب النبي أنكروا من عثمان إتمامه الصلاة في منى وناظروه في ذلك، فلما رأوا أنه لا يغير رأيه ساروا سيرته وذهبوا مذهبه مخافة الاختلاف.
وقد ينبغي أن نعلم أن مصدر هذا الذي أصاب أصحاب النبي حين رأوا عثمان يتم الصلاة بمنى؛ هو مخالفة السنة الموروثة أولا، وشيء آخر عظيم الخطر جدا في نفوس المهاجرين، وهو أن النبي بعد الهجرة قد اتخذ المدينة له ولأصحابه دار إقامة، واتخذ مكة وما حولها دار غربة، وكره لنفسه ولأصحابه أن يطيلوا الإقامة بمكة، حتى لا يظن أنهم يرجعون أو يهمون بالرجوع إليها بعد أن هاجروا منها، وكره أن يموت بعض أصحابه المهاجرين في مكة. أشفق عليهم من ذلك، وتمنى على الله ألا يتوفاهم في الأرض التي هاجروا منها، وأوصى من استخلفه على سعد بن أبي وقاص حين كان مريضا بمكة ألا يدفنه فيها إن مات، وأمره أن يدفنه في طريق المدينة. فلما صلى عثمان بمنى صلاة المقيم ذكر المهاجرون والأنصار هذا كله وأشفقوا أن يغير عثمان ما جرت به سنة النبي وأصحابه جميعا من اتخاذ مكة دار غربة لا دار مقام. ولكنهم على ذلك ساروا سيرة عثمان، فأتموا الصلاة بمنى ما أتمها مخافة أن يفترق الناس في صلاتهم وهي ركن خطير من أركان الدين.
وليس عندنا شك في أن عثمان قد اجتهد للمسلمين، وخاف على جهالهم وجفاتهم أن يفتنوا. وسواء أصاب في هذا الاجتهاد أم أخطأ فهو لم يرد إلا الخير. وليس أدل على ذلك من أنه لم يتحول من المدينة إلى مكة ولا إلى غيرها، ولم يقبل ما عرض عليه حين اشتدت الفتنة من الإقامة بمكة آمنا لا يجرؤ مسلم أن يصيبه فيها بما يكره؛ لأنه لم يرد أن يستبدل بجوار رسول الله شيئا. ولو شاء لعاذ بمكة حتى تأتيه الأمداد، ولم يكن عليه بذلك بأس. فالضرورة الملجئة كانت قائمة، ولو شاء لتحول إلى الشام كما عرض عليه معاوية ولكنه أبى. فهو إذن لم يحاول أن يجعل من مكة دار إقامة، وإنما نصح المسلمين وقبل المسلمون ذلك منه، فأتموا بإتمامه وإن لم يقتنعوا بما احتج به لهذا الإتمام.
وأنكر خصوم عثمان عليه شيئا آخر يتصل بركن آخر من أركان الدين، فقالوا إنه أخذ الزكاة على الخيل، وكان النبي قد أعفى من زكاة الخيل والرقيق، وسار الشيخان سيرته، فلما استخلف عثمان أخذ الزكاة في الخيل.
ونلاحظ أولا أن الرواية بذلك لم تتواتر ولم يكد يجتمع عليها الرواة، ونلاحظ بعد ذلك أن عثمان لم ينقص من الزكاة وإنما زاد فيها. وأكبر الظن أن النبي وصاحبيه إنما أعفوا من زكاة الخيل حين كانت قليلة وحين كانت جيوش المسلمين في حاجة إلى الفرسان، وحين كان المسلمون إنما يعدون ما استطاعوا من قوة ومن رباط الخيل ليرهبوا به عدو الله وعدوهم. فلما كان الفتح وأقبلت الدنيا وكثر المال، جعل المسلمون يتخذون الخيل في بلاد العرب على الأقل تجارة ومالا، فأنفذ فيها عثمان ما أمر الله من الزكاة في كل مال يتخذ للربح والثراء.
وعاب المسلمون على عثمان أنه حمى الحمى، والله ورسوله قد أباحا الهواء والماء والكلأ للناس جميعا. والرواة بعد ذلك يختلفون، فيقول بعضهم إنه حمى الحمى لإبل الصدقة ولإبله وخيله وإبل بني أمية وخيلها. ويقول بعضهم الآخر ويقول عثمان نفسه: إنه لم يحم الحمى لإبل الصدقة. ثم يقال إن المسلمين لاموه في أنه حمى الحمى لإبل الصدقة، فكانت حجته أنه إنما أراد ألا يكون هناك اختلاف بين الأفراد والدولة فيما يتصل بالمراعي؛ فهو قد أراد العافية، ما في ذلك شك. على أنه حين رأى تحرج المسلمين من ذلك وضيقهم به لم يتشدد فيه وإنما تركه واستغفر الله. فليس عليه بذلك بأس أيضا.
وما دمنا بسبيل الزكاة وإبل الصدقة، فلنذكر اعتراضا آخر وجهه خصوم عثمان إليه، وهو أنه أخذ من أموال الصدقة فأنفق منها في الحرب وفي غير الحرب من المرافق العامة. قال المعترضون: إن لأموال الصدقة مصارف معينة بينها الله في قوله:
إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم . والله قد بين هذه المصارف بهذا القصر الذي نصه في أول الآية، وبقوله:
فريضة من الله . فلا يجوز للإمام أن ينفق من أموال الصدقة إلا في المصارف التي بينها الله عز وجل في هذه الآية.
وأجاب المتكلمون من أهل السنة والمعتزلة على هذا الاعتراض بأن عثمان لم يفعل ذلك إلا حين رأى في أموال الصدقة سعة، وحين رأى حاجة الحرب إلى مزيد من نفقة، فاقترض من أموال الصدقة لينفق على الحرب، مزمعا أن يرد ذلك إذا اتسع بيت المال لرده. ومن حق الإمام أن يقترض من مصرف لمصرف، لا يخالف بذلك الدين ولا يغير بذلك سنة موروثة ما دام مصمما على أن يرد على أموال الصدقة ما أخذ منها. ونقول نحن: إن جواب المتكلمين ليس به بأس من ناحية الدين، ولكن البأس هو أن يأخذ الإمام من مصرف لينفق على مصرف آخر؛ فإن ذلك أحرى أن يدل على شيء من سوء التدبير المالي، وعلى إسراف في أموال الحرب والمرافق الأخرى بإنفاقها في غير احتياط ولا تحفظ، وبإعطائها على سبيل الهبة لمن لا يستحقها. وسنعود إلى هذا الحديث في موضع آخر قريب.
وعاب خصوم عثمان عليه أنه حمل الناس على مصحف واحد، ثم لم يحظر غير ما جاء في هذا المصحف من القراءة فحسب، ولكنه حسم الأمر حسما، فحرق ما عدا هذا المصحف من الصحف التي كتب فيها القرآن. قال المعترضون على عثمان: إن النبي قال: «نزل القرآن على سبعة أحرف كلها كاف شاف.» فعثمان حين حظر ما حظر من القراءة وحرق ما حرق من الصحف إنما حظر نصوصا أنزلها الله، وحرق صحفا كانت تشتمل على قرآن أخذه المسلمون عن رسول الله. وما ينبغي للإمام أن يلغي من القرآن حرفا أو يحرق من نصوصه نصا. وقصة جمع الناس على مصحف واحد ليست يسيرة إلى هذا الحد الذي تصوره خصوم عثمان وأنصاره. فقد روي عن النبي روايات متظاهرة أنه قال: «نزل القرآن على سبعة أحرف.» ولكن المسلمين ما زالوا مختلفين في تأويل هذا الحديث إلى الآن: فقوم يرون أن هذه الأحرف هي المعاني التي تناولها القرآن من الوعد والوعيد والأمر والنهي والوعظ والقصص، وقوم يذهبون بهذه الأحرف مذهب التصوف، وقوم يرون أن هذه الأحرف هي ألفاظ تختلف فيما بينها باختلاف اللغات التي كانت العرب تتكلمها. ولم يتفق المسلمون اتفاقا قاطعا على معنى دقيق لهذا الحديث؛ فلا يصح الاحتجاج به على عثمان حتى يتفق المختصمون والأنصار على معناه. وقد تظاهرت الروايات أيضا بأن المسلمين اختلفوا في قراءة القرآن أيام النبي نفسه، ولم يكن اختلافهم في اللهجات، وإنما كان اختلافهم في الألفاظ دون أن تختلف معاني هذه الألفاظ. وقد اختصم المختلفون إلى النبي نفسه فأجاز قراءتهم جميعا؛ لأنها لم تكن تختلف في معناها، وإنما كانت تختلف في ألفاظها. وقد جمع القرآن أيام أبي بكر وعمر، وجاءت الشكوى إلى عثمان بأن المسلمين في الأمصار والثغور يختلفون في قراءة القرآن، ثم يختصمون حول هذا الاختلاف، فيفضل بعضهم قرآنه على قرآن غيره، حتى أوشكوا أن يفترقوا، وحتى قال حذيفة بن اليمان لعثمان: أدرك أمة محمد قبل أن تتفرق حول القرآن.
فليس من شك في أن ما أقدم عليه عثمان من توحيد المصحف وحسم هذا الاختلاف وحمل المسلمين على حرف واحد أو لغة واحدة يقرءون بها القرآن، عمل فيه كثير من الجراءة، ولكن فيه من النصح للمسلمين أكثر مما فيه من الجراءة. فلو قد ترك عثمان الناس يقرءون القرآن قراءات مختلفة بلغات متباينة في ألفاظها، لكان هذا مصدر فرقة لا شك فيها، ولكان من المحقق أن هذه الفرقة حول الألفاظ ستؤدي إلى فرقة شر منها حول المعاني بعد أن كان الفتح، وبعد أن استعرب الأعاجم، وبعد أن أخذ الأعراب يقرءون القرآن.
ولهذا لم يتردد أهل السنة والمعتزلة في إقرار ما عمل عثمان، وفي الاعتراف له بهذا الفضل العظيم؛ لأنه حال بين المسلمين وبين الفرقة، وجمعهم على الشيء الوحيد الذي لا ينبغي أن يختلفوا فيه. ولا نعلم أن عليا أنكر ذلك على عثمان، ولا أن أحدا من أصحاب الشورى أنكره، بل روي أن عليا قال في خلافته : «لو كنت مكان عثمان لحملت الناس في أمر القرآن على ما حملهم عليه.» فليس على عثمان بأس في دينه من هذه الناحية. وقد يمكن أن يعترض عليه في أنه كلف كتابة المصحف نفرا قليلا من أصحاب النبي، وترك جماعة من القراء الذين سمعوا من النبي وحفظوا عنه وعلموا الناس في الأمصار، وكان خليقا أن يجمع هؤلاء القراء جميعا ويجعل إليهم كتابة المصحف. ومن هنا نفهم غضب ابن مسعود؛ فقد كان ابن مسعود من أحفظ الناس للقرآن. وهو، فيما كان يقول، قد أخذ من فم النبي نفسه سبعين سورة من القرآن، ولم يكن زيد بن ثابت قد بلغ الحلم بعد. فإيثار عثمان لزيد بن ثابت وأصحابه وتركه لابن مسعود وغيره من الذين سبقوا إلى استماع القرآن من النبي وحفظه عنه، قد أثار عليه بعض الاعتراض. وهذا شيء يفهم من غير مشقة ولا عسر.
وربما تحرج بعض المسلمين من تحريق ما حرق عثمان من المصحف، ولم يقبلوا اعتذاره بحسم الفتنة وقطع الخلاف. ولو قد كانت الحضارة تقدمت بالمسلمين شيئا لكان من الممكن أن يحتفظ عثمان بهذه الصحف التي حرقها على أنها نصوص محفوظة لا تتاح للعامة، بل تكاد تتاح للخاصة، وإنما هي صحف تحفظ ضنا بها على الضياع. ولكن المسلمين لم يكونوا قد بلغوا في ذلك العصر من الحضارة ما يتيح لهم تنظيم المكتبات وحفظ المحفوظات. وإذا لم يكن على عثمان جناح فيما فعل لا من جهة الدين ولا من جهة السياسة، فقد يكون لنا أن نأسى لتحريق تلك الصحف؛ لأنه إن لم يكن قد أضاع على المسلمين شيئا من دينهم، فقد أضاع على العلماء والباحثين كثيرا من العلم بلغات العرب ولهجاتها، على أن الأمر أعظم خطرا وأرفع شأنا من علم العلماء وبحث الباحثين عن اللغات واللهجات.
وأنكر المنكرون على عثمان خصلة أخرى ما نعرف أن العذر يمكن أن يقوم له فيها. ذلك أنه رد عمه الحكم بن أبي العاص وأهله إلى المدينة، وكان النبي قد أخرجهم منها إخراجا عنيفا. وكان بيت الحكم بن أبي العاص في الجاهلية مجاورا لبيت النبي، فكان الحكم يؤذي جاره الكريم أشد الأذى وأقبحه. والحكم بن أبي العاص هو الذي أخذ عثمان حين أسلم، فشد وثاقه وأقسم لا يخليه حتى يعود إلى دين آبائه، ثم لم يطلقه إلا حين استيأس منه. وقد أقبل الحكم بعد فتح مكة إلى المدينة مسلما، ولكن إسلامه لم يكن إلا جنة يتقي بها الموت. وآية ذلك أنه ظل يؤذي رسول الله بقوله وفعله، فكان يسعى وراءه ويغمزه ويقلد حركاته ساخرا منه. واطلع ذات يوم على النبي في حجرة من حجراته، فخرج النبي مغضبا، فلما عرفه قال: «من عذيري من هذا الوزغ!» ثم أخرجه من المدينة وقال: «لا يساكنني فيها أبدا.» وقد شفع عثمان عند النبي في إعادته فلم يعده، وطلب ذلك إلى أبي بكر فأبى عليه، وطلب ذلك إلى عمر فلم يكتف بالرفض، وإنما زجر عثمان وحرج عليه ألا يعاوده في أمر الحكم مرة أخرى. فلما استخلف عثمان أعاد الحكم إلى المدينة، فأنكر المسلمون ذلك، وسعى إليه أعلام الصحابة فلاموه فيه، ولكنه زعم لهم أنه كلم النبي في رد الحكم فأطمعه في ذلك، ثم توفي قبل أن يرده. ويقول المعتذرون لعثمان من أهل السنة والمعتزلة: إن عثمان قد كان يرى أن إخراج النبي الحكم وأهله من المدينة ليس ضربة لازب؛ فإن حال المنفي قد تصلح على مر الزمن، فيجوز أن يعفى عنه وأن يرد إلى الأرض التي نفي منها. ويقولون كذلك: إن عثمان علم أن النبي كان يريد رد الحكم، فلم يقبل منه ذلك أبو بكر وعمر؛ لأنه انفرد بهذا العلم فلم تستقم شهادته. فلما استخلف قضى بعلمه، ومن حق الإمام أن يقضي بعلمه.
ولكن خصوم عثمان يقولون إن سيرة الحكم في جاهليته مع النبي وسيرته بعد إسلامه المتكلف وقول النبي: «من عذيري من هذا الوزغ!» وقوله: «لا يساكنني فيها أبدا»؛ كل ذلك يحظر على عثمان أن يرده إلى المدينة، وليس للإمام أن يقضي بعلمه حين تكون هناك الشبهة التي توهم أن الإمام إنما قضى بما قضى إيثارا لقرابته. فقد كان الحكم عم عثمان، وكانت هذه الشبهة وحدها تكفي ليتجنب عثمان رده إلى المدينة. فإذا أضفنا إلى ذلك قول النبي: «لا يساكنني فيها أبدا»، فقد كان أيسر الرعاية لحرمة النبي يقتضي ألا يرده عثمان إلى المدينة ليساكن النبي فيها ميتا بعد أن أبى النبي أن يساكنه فيها حيا.
وقد دلت سيرة عثمان مع الحكم وبنيه بعد ذلك على أنه إنما ردهم إلى المدينة إيثارا لهم بالخير، وتكاثرا بهم على غيره من المسلمين، واستعانة بهم على أمور السياسة والإدارة والمال. فقد أعطى عثمان الحكم مالا كثيرا، ولما مات الحكم ضرب عثمان على قبره فسطاطا. وقد ولى عثمان الحارث بن الحكم سوق المدينة، فأسرف على الناس وعلى نفسه، وسار سيرة لا تلائم الأمانة ولا التورع، وإنما تلائم الجشع والطمع وحب الاستكثار من المال.
ثم لم يقف عثمان عند هذا الحد، وإنما أعطى الحارث مالا كثيرا كما سنرى، ثم اختص عثمان بمروان بن الحكم، فأعطاه وحباه واتخذه لنفسه وزيرا ومشيرا؛ فدل هذا كله على أن عثمان لم يدع الحكم وبنيه إلى المدينة رقة لهم وعطفا عليهم فحسب، وإنما دعاهم أيضا ليكونوا له عدة وأعوانا.
كل هذه أمور نقمها الناقمون من عثمان في أمر دينه. وقد رأيت أن لا بأس على عثمان من أكثرها، وأن قصة الحكم وبنيه وحدها هي التي يصعب الدفاع فيها عن عثمان. وهي على كل حال ليست من الأمور التي تقدح في دين عثمان؛ فهو قد خالف سنة من السنن، وتأول في ذلك مخطئا أو مصيبا، ولكنه على كل حال لم يغير أصلا من أصول الدين ولا هدم ركنا من أركانه، وهو بعد ذلك رجل يخطئ ويصيب. وليس كل الأئمة يستطيع أن يسير سيرة أبي بكر وعمر وإن عاهد الناس على أن يسير سيرة أبي بكر وعمر.
ويقيننا أن عثمان لو وقف بأحداثه عند هذا الحد لما زاد المسلمون على أن ينصحوا له ويشتدوا عليه في العتب، ثم لا يتجاوزون ذلك إلى غيره ، وإنما يحملونه تبعة سيرته ويخلون بعد ذلك بينه وبين الله يحاسبه على ما قدم حسابا يسيرا أو عسيرا.
ولكن عثمان لم يقف بأحداثه عند هذا الحد، وإنما تجاوزها هو وعماله إلى أشياء أخرى تمس حقوق الناس ومصالحهم وحرياتهم؛ فكان هذا مصدرا لشر عظيم.
الفصل الرابع والعشرون
وقد نقم المسلمون من عثمان سياسته في الإدارة وسيرته في التولية والعزل، فقالوا: إنه ولى أمور المسلمين جماعة من الأحداث لا يصلحون لها ولا يقدرون عليها، ولا ينصحون للدين ولا يخلصون لله ورسوله، وعزل أصحاب النبي عن الأمصار، ولم يسمع لوصية عمر، فحمل بني أبي معيط وبني أمية على رقاب الناس. وقد عوتب في ذلك فلم يعتب حتى ظهر فسق عماله وانحرافهم عن الجادة فلم يعزل أحدا منهم إلا مضطرا.
فهو ولى الوليد على الكوفة مكان سعد بن أبي وقاص، وولى عبد الله بن عامر مكان أبي موسى الأشعري، وولى عبد الله بن سعد بن أبي سرح مكان عمرو بن العاص، وآثر معاوية بالشام كله.
وقد قدمنا في هذا كله ما كان لنا من رأي فيه. ونلاحظ مع ذلك أن أنصار عثمان من أهل السنة والمعتزلة يتكلفون في الدفاع عنه، كما أن خصومهم يسرفون في النعي عليه. فظاهر أن قول المدافعين عن عثمان إن عذره قائم في تولية من ولى من عماله؛ لأن أحوالهم كانت مستورة، ولأن ظاهر أمرهم كان حسنا، فليس من توليتهم بأس - ظاهر أن هذا القول لا يستقيم. فقد كانت حال الوليد بن عقبة معروفة ظاهرة، وكان عثمان يعلم أن الله أنزل فيه قرآنا وسماه فاسقا، وأن عمر ظن أن أمره قد صلح فولاه صدقات تغلب، ثم لم يلبث أن عزله حين استبان أنه ما زال على جاهليته. وكان الوليد نفسه يعلم ذلك حق العلم؛ فقد روي أنه حين دخل الكوفة واليا عليها مكان سعد، قال له سعد: أزائرا يا أبا وهب أم أميرا؟ قال الوليد: بل أميرا يا أبا إسحاق. قال سعد: والله ما أدري أحمقت بعدك أم كست بعدي . قال الوليد: ما حمقت بعدي ولا كست بعدك، وإنما ولي القوم الأمر فاستأثروا. قال سعد: ما أراك إلا صادقا، فقد كان الوليد يعلم أنه لم يول الكوفة لأن أمره حسن بعد قبح وصلح بعد فساد، وإنما ولي لأن القوم ملكوا فاستأثروا.
وكان عثمان يعلم حق العلم أن عبد الله بن عامر شاب حدث لم تتجاوز سنه الخامسة والعشرين بعد، وأن في المهاجرين والأنصار وغيرهم من العرب من هم أكبر منه سنا، وأكثر منه تجربة، وأقدم منه سابقة في الدين. وكان عثمان يعلم أن الله قد أنزل قرآنا في عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وأن النبي كان قد أهدر دمه يوم الفتح. فلم تكن حال هؤلاء الناس مستورة، وإنما كانت أظهر من أن تخفى على مثل عثمان. وظاهر كذلك أن قول أهل السنة والمعتزلة أن عثمان عزل من عماله من ظهر له فسقه أو فساد أمره لا يستقيم؛ فعثمان لم يعزل الوليد إلا حين لم تكن له مندوحة عن عزله. ولسنا نزعم أن عثمان تلكأ في إقامة الحد على الوليد، ولكنا نقطع بأنه لم يعزله إلا حين ظهر منه الفساد ظهورا فاضحا، وشهد الشهود عليه بشرب الخمر، وضج منه أهل الكوفة، وألح في عزله المهاجرون والأنصار. وعثمان لم يعزل سعيد بن العاص بعد الوليد عن رضا، وإنما أكره على عزله إكراها حين سار أهل الكوفة فردوا سعيدا وحالوا بينه وبين دخول مصر، وخيروا عثمان بين الثورة وبين أن يولي عليهم أبا موسى الأشعري. وعثمان لم يعزل عبد الله بن سعد بن أبي سرح عن رضا، وإنما أنذره المصريون بالثورة، وألح المهاجرون والأنصار في عزله، وطالب علي بأن يحقق ما اتهم به من القتل؛ هنالك عزل عثمان عبد الله بن سعد، وكتب بعهده على مصر لمحمد بن أبي بكر. كل ذلك شيء لا شبهة فيه، وإنما تأتي الشبهة فيما كان بعد ذلك من أمر الكتاب الذي أرسل بقتل المصريين.
فليس صحيحا إذن أن حال هؤلاء العمال كانت مستورة، وليس صحيحا كذلك أن عثمان عزلهم حين استبان له اعوجاج سيرتهم.
وظاهر بعد هذا كله أن خصوم عثمان يسرفون حين يقولون إن عماله لم يكونوا أصحاب كفاية وقدرة على النهوض بأمور الحكم؛ فقد كان هؤلاء العمال أولي كفاية وغناء ما في ذلك شك، يشهد بذلك أنهم جميعا أبلوا في الفتح أحسن البلاء، ولكنهم كانوا أولي كفاية بالقياس إلى حكومة يقوم أمرها على القوة والبأس، وعلى الجبرية والكبرياء، لا على ما فرض الإسلام من العدل والإنصاف والمساواة والاستمساك بالعهد الذي أعطاه عثمان على نفسه، ليلتزمن كتاب الله وسنة رسوله وسيرة الشيخين لا يحيد عن شيء من ذلك.
فسياسة عثمان في العزل والتولية لم تكن ملائمة للعهد الذي أعطاه. وليس من شك في أن الذين ضاقوا بهؤلاء العمال وثاروا عليهم ونقموا من عثمان توليتهم، لم يكونوا مخطئين.
الفصل الخامس والعشرون
والسياسة المالية التي اصطنعها عثمان منذ نهض بالخلافة كلها موضوع للنقمة والإنكار من أكثر الذين عاصروا عثمان ومن أكثر الرواة والمؤرخين، وإن أصبحت فيما بعد موضوعا للجدل بين المتكلمين، يدافع عنها أهل السنة والمعتزلة، وينكرها الشيعة والخوارج جميعا. ويمكن أن نختصر سياسة عثمان المالية في أنه كان يرى أن للإمام الحق في أن يتصرف في الأموال العامة حسب ما يرى أنه المصلحة، وأنه ما دام قد انقطع بحكم الخلافة لتدبير أمور المسلمين، فله أن يأخذ من أموالهم ما يسعه ويسع أهله وذوي رحمه لا يرى بذلك بأسا ولا جناحا. والشيء الذي لم يوضحه المؤرخون توضيحا كافيا، هو أن عثمان قد كان قبل أن يلي الخلافة سخيا سمحا معطاء، وكان كثير المال ضخم التجارة كثير الاكتساب، فكان ماله يسعه ويسع أهله وذوي رحمه. فلما تولى الخلافة شغلته عن التجارة والاكتساب، ولم يكن له بد من أن ينفق على نفسه وأهله وذوي قرابته بعد الخلافة كما كان ينفق قبلها، فكان يرى فيما يظهر أن الخلافة يجب ألا تغير من سيرته في المال شيئا، فإذا لم يسعفه ماله الخاص وجب أن تسعفه الأموال العامة؛ لأن ماله الخاص لم يقصر به إلا لأنه صرف عن تدبيره واستثماره بتفرغه لتدبير هذه الأموال العامة.
ولم يكن لأبي بكر وعمر قبل خلافتهما من الثراء ما كان لعثمان. فلسنا نعلم أن أحدا منهما اشترى بئر رومة أو اشترى الأرض التي زيدت في المسجد، أو جهز الجيش لغزوة تبوك؛ لا لأنهما بخلا بالمال، بل لأنهما لم يكونا من ذوي المال الكثير. وهما كذلك لم يكونا يتوسعان في الإنفاق على أنفسهما وأهلهما وذوي رحمهما كما كان عثمان يتوسع؛ لأن ثروتهما لم تكن تتيح لهما ذلك. فهما إذن لم يغيرا بعد الخلافة من سيرتهما قبل الخلافة، إلا أن يكونا قد تشددا على أنفسهما تحرجا وتأثما. فأما عثمان فقد مضى بعد الخلافة على سيرته الأولى، فلم يلبث ماله في أكبر الظن أن قصر به فاستباح أن يأخذ من أموال المسلمين ما يقارب الربح الذي كان ماله خليقا أن يدر عليه لو أنفق وقته وجهده في تدبيره وتثميره. كذلك كانت حاله أول الأمر، ثم لم يلبث أن اتسع في ذلك، وأزلقه السلطان إلى مزيد من الجود وفضل من السخاء.
وأخرى يجب أن نلاحظها في تفسير السياسة المالية لعثمان، وهي أنه لم يكن يرى فيما يظن أن للمسلمين الحق في أن يراقبوه فضلا عن أن يعاقبوه. فهو قد أعطى العهد الذي أعطاه، وهو مسئول عن هذا العهد أمام الله لا أمام الناس. يدل على ذلك اقتناعه بأن الذين طلبوا إليه أن يخلع نفسه قد طلبوا إليه شيئا عظيما، وقوله لهؤلاء ولغيرهم: «ما كنت لأخلع قميصا قمصنيه الله عز وجل»، وقوله لهؤلاء ولغيرهم: «لأن أقدم فتضرب عنقي أحب إلي من أن أنزع سربالا سربلنيه الله عز وجل.»
فلم تكن الخلافة عنده إذن تكليفا تلقاه من المسلمين، ويستطيع أن يرده عليهم إن شاء هو أو شاءوا هم، وإنما كانت الخلافة عنده ثوبا أسبغه الله عليه، وليس له أن ينزعه عن نفسه، وليس لأحد غيره أن ينزعه عنه، وإنما الله وحده هو الذي يملك تجريده من هذا الثوب يوم يجرده من ثوب الحياة. وعذر عثمان في ذلك أنه رأى صاحبيه من قبله قد نهضا بالخلافة، فلم تنزع عن أحدهما ما أقام على الحياة. فهو إذن مثلهما قد نهض بالخلافة، ويجب أن يستمسك بها ما امتدت له أسباب الحياة. وإذا كان هذا رأيه في الخلافة وفيما تتيح له من سلطان، فليس غريبا أن يضيق بالذين يجادلونه في سلطانه، ويحاولون أن يكفوه عن بعض تصرفه في الإدارة أو السياسة أو المال، فهو ليس مسئولا أمام الناس، وإنما هو مسئول أمام الله كما قدمنا. ولم يكن عثمان يتكلف هذا الرأي تكلفا ولا يصطنعه دريئة يتقي بها لوم اللائمين ونقمة الناقمين، وإنما كان يراه عن نية صادقة وعن بصيرة خالصة. ولعل كثيرا من المسلمين الذين عاصروه كانوا يرون في الخلافة مثل رأيه، ويذهبون في السلطان مثل مذهبه. وهذا هو الذي يفسر لنا أن بعض الصحابة كانوا لا يستبيحون لأنفسهم الخلاف عن أمره حتى حين ينحرف عن القصد أو يجور عن الطريق. كانوا يأخذون الآية على ظاهر نصها، ويكرهون أن يتأولوا في قول الله عز وجل:
يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم . وكانوا يؤثرون إن أصابهم من الإمام ظلم أن يحتملوا هذا الظلم في الدنيا ليثابوا عليه في الآخرة، يفضلون ذلك على أن يقاوموا فيتعرضوا لما قد يكون فيه بعض الإثم، ولا عليهم أن يصيبهم الظلم في الدنيا، وينالهم الثواب في الآخرة، وأن يحتمل الإمام تبعة أعماله ويؤدي حسابه عنها إلى الله.
هذا المذهب هو الذي ذهب إليه أبو ذر حين سمع وأطاع على إنكاره لظلم عثمان إياه. وهو الذي ذهب إليه عبد الله بن مسعود في أمر نفسه، وما أصابه من بطش عثمان، وفي أمر الدين حين أتم الصلاة لأن عثمان أتمها مع أنه لم يوافق عثمان على إتمامه للصلاة.
وكذلك مضى عثمان في إدارته وسياسته للحرب والمال؛ يرى أن من حقه الاجتهاد، وأنه مؤد حسابه عن هذا الاجتهاد إلى الله، وأن من الحق على المسلمين أن يسمعوا له ويطيعوا ، وأن من الحق لهم أن ينصحوا له ويشيروا عليه؛ فإن شاء سمع لهم وقد فعل في بعض الأحداث، وإن شاء أبى عليهم وقد فعل في بعضها الآخر. وهذا النوع من تصور السلطان جديد محدث؛ فلم يخطر لأبي بكر ولا لعمر أنه يستطيع أن يستأثر بالسلطان من دون المسلمين. وربما اشتد عمر في ذلك حتى ثقل على المسلمين أنفسهم، كالذي روي من أن ملكة الروم أهدت إلى زوجه أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب عقدا من جوهر، وكانت أم كلثوم قد أهدت إليها من طرائف بلاد العرب، فوقع العقد في يد عمر حين أقبل به البريد، فلم يشأ أن يؤديه إلى امرأته حتى أمر فنودي في الناس: الصلاة جامعة. فلما اجتمع إليه المسلمون استشارهم في هذا العقد. فكلهم أشار عليه بأن يؤديه إلى أم كلثوم لأنه ملكها، ولكنه تحرج من ذلك لأنه حمل إليها في بريد المسلمين، فأمره برده إلى بيت المال، وأدى إلى امرأته ما أنفقت في هديتها لملكة الروم. ونحن نعلم أن هذه السيرة الشديدة التي كان عمر يسيرها في نفسه وفي أهله قد ثقلت على الناس، وزهدت الفتيات والنساء في التزوج من عمر، وحملت بعضهن على رد خطبته، ثم نقيس هذه السيرة إلى سيرة عثمان حين حلى بعض أهله بجوهر كان في بيت المال، فلما كلم في ذلك قال: «لنأخذن حاجتنا من هذا الفيء وإن رغمت أنوف أقوام.»
وقد يشق علينا أن نلاحظ أن هذا المذهب الذي ذهبه عثمان في الخلافة هو نفس المذهب الذي عرضه زياد في خطبته المشهورة حين قال: «أيها الناس! إنا قد أصبحنا لكم ساسة وعنكم ذادة، نسوسكم بسلطان الله الذي أعطانا، ونذود عنكم بفيء الله الذي خولنا.» ومن هنا لا نرى غرابة فيما روي عن عثمان من قوله: «إن أبا بكر وعمر كانا يظلمان أنفسهما وقرابتهما تقربا إلى الله، وأنا أصل رحمي تقربا إلى الله.» اجتهد أبو بكر وعمر فظلما أنفسهما وقرابتهما، واجتهد عثمان فوصل رحمه وقرابته ولم يظلم نفسه. ولسنا بعد ذلك في حاجة إلى أن نناقش في صحة ما جاءت به الرواية من أنه أعطى مروان بن الحكم خمس الغنيمة التي غنمها المسلمون في أفريقية أو خمس الخمس، أو وهب له ما بقي عليه من ثمن الخمس، ومن أنه أعطى الحكم عمه، وأعطى ابنه الحارث ثلثمائة ألف، وأعطى عبد الله بن خالد بن أسيد الأموي ثلثمائة ألف، وأعطى كل واحد من الذين وفدوا مع عبد الله بن خالد مائة ألف مائة ألف، حتى أبى عبد الله بن الأرقم صاحب بيت المال أن ينفذ الأمر واستقال من عمله، وأعطى عبد الله بن الأرقم هذا بعد استقالته ستمائة ألف، فلم يقبلها تورعا وزهدا، وأعطى الزبير بن العوام ستمائة ألف، وأعطى طلحة بن عبيد الله مائة ألف، وأعطى سعيد بن العاص مائة ألف، وزوج ثلاثا أو أربعا من بناته لنفر من قريش فأعطى كل واحد منهم مائة ألف دينار.
فقد كان عثمان يرى لنفسه الحق في هذا العطاء، ولم يكن يبيح لصاحب بيت المال أن يعصي أمره أو يجادل فيه. وإذا استباح عثمان لنفسه هذا السخاء فأولى أن يستبيح لنفسه أن يقترض من بيت المال، حتى إذا أيسر قضى. وواضح أن عمال عثمان قد ساروا في المال سيرة إمامهم، فأعطوا واقترضوا والتوى بعضهم بالدين، فاستقال عبد الله بن مسعود في الكوفة، كما استقال عبد الله بن الأرقم في المدينة. وإذا أطلق الإمام يده وأطلق العمال أيديهم في الأموال العامة على هذا النحو، لم يكن غريبا أن يحتاج الجند إلى المال فلا يجدوه، وأن يضطر الإمام أن ينفق على الحرب من أموال الصدقة، فيعرض نفسه لما تعرض له من الإنكار الذي أشرنا إليه آنفا، والذي إن دل على شيء فإنما يدل على أن سياسة المال أيام عثمان لم تكن دقيقة ولا محكمة.
وإذا أطلق الإمام يده في الأموال العامة وأطلق العمال أيديهم فيها على هذا النحو، لم يكن غريبا أن تمتد هذه الأيدي إلى أموال الصدقة، لا للإنفاق على الحرب بل للعطاء وصلة الرحم ، كما روي أن عثمان أرسل الحارث بن الحكم مصدقا على قضاعة، فلما جاء بصدقاتهم وهبها له. بل إذا امتدت الأيدي إلى الأموال العامة على هذا النحو، لم يكن غريبا أن يحتاج بيت المال إلى ما يواجه به نفقات الحرب والسلم وسخاء الإمام والعمال، فيدعو ذلك إلى التشدد على الرعية والعنف بها في جباية الخراج والجزية والزكاة. وهذا يفسر لنا ما روي من أن المصريين شكوا من ظلم عبد الله بن سعد، ومن قول عمرو بن العاص لعثمان: «وهلكت فصالها.» كما يفسر لنا ما روي من أن عمال الصدقة كانوا يظلمون أهل البادية، وينسب ظلمهم إلى عثمان ويبلغه ذلك فلا يغير منه. على أن عطاء عثمان لم يقتصر على السائل من المال، وإنما تجاوزه إلى الجامد أيضا؛ فقد نقم الناس من عثمان أنه كان يقطع القطائع الكثيرة في الأمصار لبني أمية. وقد دافع أهل السنة والمعتزلة عن هذا الإقطاع بأن عثمان إنما أقدم عليه استصلاحا لهذه الأرض فنصح بذلك للمسلمين، ورد الشيعة عليهم بأن عثمان نفسه لم يدافع عن نفسه هذا الدفاع، وكان من الممكن أن يرد الشيعة أيضا بأن بني أمية لم يكونوا إخصائيين من دون قريش في استصلاح الأرض، وبأن قريشا لم تكن إخصائية من دون العرب في استثمار الضياع، وبأن العرب لم يكونوا إخصائيين من دون سائر المسلمين في إحياء الأرض بعد موتها. وإنما جرت الأمور على ما قدمنا من تصور عثمان لحق الإمام وسلطانه، وتصرفه طبقا لهذه الأصول التي اقتنع بها، واقتنع بها عماله أيضا.
وقد قدمنا الحديث عن ذلك الانقلاب الاقتصادي الذي أحدثه عثمان حين أذن لمن أراد من أهل بلاد العرب أن يبيعوا فيئهم في الأمصار ويشتروا مكانه أرضا في جزيرة العرب، وبينا أن هذا الانقلاب قد أنشأ الملكية العقارية الضخمة في الإسلام. فإذا أضفنا إلى ذلك سخاء الإمام وعماله بالأموال العامة لبني أمية ولقريش كلها، وأن هذا السخاء قد أتاح لكثير من القرشيين أن يشتروا الأرض في الأمصار؛ دل هذا كله على أن السياسة المالية لعثمان كانت تنتهي إلى نتيجتين كلتاهما شر: الأولى إنفاق الأموال العامة في غير حقها، وما يترتب على ذلك من الاضطراب المالي ومن ظلم الرعية، والأخرى إنشاء هذه الطبقة الغنية المسرفة في الغنى التي تستجيب لطمع لا حد له، فتتوسع في ملك الأرض واستغلال الطبقة العاملة، ثم ترى لنفسها من الامتياز ما ليس لها، ثم تتنافس في التسلط، ثم ترقى إلى التنافس في الإمارة وفي الخلافة نفسها، ثم ينتهي بها الأمر إلى ما انتهى بها إليه من هذه الفتن والخطوب التي أفسدت الأمر على المسلمين منذ قتل عثمان إلى أن أديل من بني أمية إلى بني العباس. وطبيعي أن بيت المال لم يكن يستطيع أن يسع الناس جميعا بهذا السخاء. وطبيعي أن الذين لم يأخذوا حقدوا على الذين أخذوا، ثم حقدوا على الذين أعطوهم، فساءت الصلة بينهم وبين الإمام والولاة، ثم فكروا في هذا كله، واستحضروا سيرة النبي وصاحبيه، فلم يلبثوا أن تبينوا أن في سيرة عثمان مخالفة للسنة الموروثة من جهة، وظلما لهم من جهة أخرى؛ ولذلك طلب أهل الأمصار إلى عثمان، حين ثاروا به وقبل أن يحصروه، أن يستأنف النظر في مصارف الفيء، وطالبوه بألا يعطي من هذا الفيء إلا الذين قاتلوا عليه هؤلاء الشيوخ من أصحاب النبي. ومعنى ذلك أنهم رأوا عثمان قد أسرف في إنفاق الأموال العامة، فطالبوه لا بالكف عن هذا الإسراف فحسب، بل كذلك بوضع سياسة جديدة تغير سياسة عمر نفسها، فقد كان عمر يسير في الفيء سيرة معلومة: ينفذ أمر الله فيأخذ خمس الغنائم، وينفذ أمر الله فيقسم الأخماس الأربعة الأخرى بين الذين غنموها، ثم كان يجمع إلى هذا الخمس ما يجبى إليه من الخراج والجزية، وينفق من هذا كله على المرافق العامة، ثم يفرض العطاء بعد ذلك للمسلمين؛ للرجال والنساء والأطفال. وكان الجند كغيرهم من المسلمين، يأخذون عطاءهم إلى ما يصيب الغازين منهم من الغنائم حين تتاح لهم الغنائم. فلما رأى أهل الأمصار إسراف الإمام وعماله فيما يجتمع في بيت المال ، طالبوا بألا يفرض العطاء في الأموال العامة إلا لمن قاتلوا على الفيء من الجند سواء غزوا أو لم يغزو، يكون عطاء الغزاة منهم أجرا لهم، وعطاء الذين عجزوا عن الغزو شيئا يشبه ما نسميه في عصرنا الحديث «المعاش». وإلا لهؤلاء الشيوخ من أصحاب النبي؛ لأنهم قاتلوا مع النبي وغزا كثير منهم في الفتوح، فأصبح لهم الحق في أن يرزقوا من هذا الفيء كغيرهم من الجند الذين قاتلوا، ثم أعجزتهم الجراحات أو السن فاستحقوا المعاش. فأما من عداهم من المسلمين الذين لم يقاتلوا على الفيء، فليس لهم أن يأخذوا منه شيئا.
وكذلك دفعت سياسة عثمان المالية هؤلاء الثائرين إلى أن يلحوا على عثمان في تغيير سياسة عمر نفسها. وما دام عثمان قد ذهب إلى سياسة تنحرف عن سياسة عمر حتى أبعد وأنشأ طبقة «الرأسماليين» الذين أسرفوا على أنفسهم في الملك والتوسع فيه، فليس هناك ما يمنع الثائرين من أن يكفوا يد عثمان وعماله عن هذه السياسة وإن اقتضى ذلك الانحراف عن سيرة عمر. وإذا لم يكن بد من السياسة التي تقوم على الأثرة لا على الإيثار، وتنحرف عن هذه الاشتراكية المعتدلة التي مضت عليهما أمور المسلمين، فلا أقل من أن يتحقق شيء من العدل في هذه الأثرة، ومن أن يكون رأس المال موقوفا على الذين اكتسبوه بأيديهم وبذلوا في سبيله جهودهم ودماءهم. والمهم هو أن الثائرين أرادوا أن تكون «الرأسمالية» التي أحدثتها سياسة عثمان شاملة عادلة بمقدار ما يمكن أن تبلغ من الشمول والعدل. ثم هم رأوا أن كثيرا من شباب قريش وأهل المدينة يعيشون عيشة بطالة يعتمدون على أعطياتهم، وقد لا يحتاجون إلى هذه الأعطيات، فقالوا: من كان منهم غنيا فلا حق له في بيت المال، ومن كان منهم فقيرا فليعمل وليكتسب، ولا معنى لأن تنفق الأموال العامة على الفارغين والمتبطلين. وقد أجابهم عثمان إلى ما طلبوا، وخطب الناس فقال لهم: من كان له زرع فليلحق بزرعه، ومن كان له عمل فليكتسب من عمله؛ فليس لأحد عندنا عطاء إلا أن يكون من الذين قاتلوا على هذا الفيء أو من هؤلاء الشيوخ من أصحاب رسول الله.
ولكن عثمان لم ينفذ هذه السياسة، أعجلته الفتنة عن إنفاذها. ولو قد سار عثمان في الأموال العامة سيرة عمر فلم ينفق المال إلا بحقه؛ لجنب نفسه وجنب المسلمين شرا عظيما، ولكان من الممكن أن ينشئ الإسلام للإنسانية نظاما سياسيا واجتماعيا صالحا يجنبها كثيرا من الاضطراب الذي اضطرت إليه، والفساد الذي تورطت فيه. ولكن ظروف الحياة كانت أقوى من عثمان، ومن يدري! لعلها كانت تكون أقوى من عمر نفسه لو لم يعجله الموت.
الفصل السادس والعشرون
وأنكر المسلمون على عثمان موقفه من ناقديه ومعارضيه؛ فهو قد انحرف عن سيرة عمر في ذلك انحرافا عظيما؛ فعمر لم ينه عماله عن شيء كما نهاهم عن أن يستعبدوا الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا، ولم يحذرهم من شيء كما حذرهم من العنف بالرعية والاعتداء على أبشارها وأشعارها. فلم يكن عمر إذن يبيح ضرب الناس إلا في الحدود، ولم يكن يعفي عماله من القصاص إن تعدوا على الرعية بالضرب في غير حد أو في غير حق من الحقوق. فأما عثمان فمهما يكن اعتذار أهل السنة والمعتزلة عنه، فإنه قد أسرف وترك عماله يسرفون في العنف بالرعية ضربا ونفيا وحبسا. وهو نفسه قد ضرب أو أمر بضرب رجلين من أعلام أصحاب النبي: ضرب عمار بن ياسر حتى أصابه الفتق، وأمر من أخرج عبد الله بن مسعود من مسجد النبي إخراجا عنيفا حتى كسر بعض أضلاعه. ومهما يكن من أمر هذين الرجلين الجليلين ومن نقدهما له وتشهيرهما به وتشنيعهما عليه، فما نعلم أنه حاكمهما أو أقام عليهما الحجة أو أباح لأحد منهما الدفاع عن نفسه، وإنما سمع فيهما قول عماله أو قول خاصته، ثم عاقبهما دون أن يقيم عليهما البينة، وليس له من هذا كله شيء.
ويقول المدافعون عن عثمان من أهل السنة والمعتزلة: إن للإمام حق التعزير. وليس في ذلك شك، ولكن بشرط أن يأتي المسلم من الأمر ما يستحق عليه التعزير ، وأن يقال له ويسمع منه وتقوم عليه البينة. وما نعرف أن عثمان حاكم عمارا أو ابن مسعود. وهو نفسه قد شق على أبي ذر حتى نفاه أو اضطره إلى أن ينفي نفسه من الأرض؛ لا لشيء إلا لأنه أنكر سياسته في الأموال العامة، وأنكر النظام الاجتماعي الذي أنشأ طبقة الأغنياء، وأتاح لهم أن يكنزوا الذهب والفضة، ويستكثروا من المال إلى غير حد. ثم هو قد أذن لعماله أن يخرجوا الناس من ديارهم كلما آنسوا منهم بعض ما يكرهون، فجعل عماله يتقاذفون فريقا من أهل الكوفة، يرسلهم سعيد إلى معاوية، ثم يردهم معاوية إلى سعيد، ثم يرسلهم سعيد إلى عبد الرحمن بن خالد، دون أن يحاكموا أو تقوم عليهم البينة أو يسمع منهم دفاعهم عن أنفسهم. وأذن لعبد الله بن عامر في أن ينفي عامر بن عبد القيس إلى الشام، فلم يكد معاوية يراه ويسمع منه حتى تبين أنه مظلوم مكذوب عليه، وأراد أن يرده إلى البصرة فأبى. واجترأ عبد الله بن سعد بن أبي سرح على أن يضرب بعض الذين شكوه إلى الإمام حتى انتهى بأحدهم إلى الموت، واضطر المهاجرون والأنصار وأزواج النبي إلى أن يلحوا على عثمان في أن ينصف المصريين من عاملهم، فهم ثم لم يبلغ ما أراد.
فهذه السياسة العنيفة التي تسلط الخليفة وعماله على أبشار الناس وأشعارهم، وعلى أمنهم وحريتهم، ليست من سيرة النبي ولا من سيرة الشيخين في شيء. وقد اجترأ بعض الناس على نقد النبي نفسه، حتى قال له: اعدل يا محمد فإنك لم تعدل. مرة ومرة. فلما قالها الثالثة لم يزد النبي على أن قال: «ويحك! فمن ذا يعدل إذا لم أعدل؟!» وهم المسلمون أن يبطشوا بهذا الرجل، ولكن النبي كفهم عن ذلك. وقد يقال إن المسلمين أحدثوا في أيام عثمان أحداثا لم تكن، فسار فيهم سيرة تلائم هذه الأحداث. وهذا بالضبط شبه ما قال زياد لأهل العراق: «وقد أحدثتم أحداثا لم تكن، وقد أحدثنا لكل ذنب عقوبة.» وغريب أن تذكرنا سياسة عثمان وولاته سياسة زياد مرتين.
والآن وقد استعرضنا هذه الأحداث وآراء المتكلمين فيها، فقد نستطيع أن نستقبل الفتنة منذ حدثت، ونعرضها كما كانت إلى أن انتهت إلى المرحلة الأولى من مراحلها، وهو هذا الحدث العظيم الذي قتل فيه الإمام عنوة لا اغتيالا.
الفصل السابع والعشرون
والمؤرخون مجمعون على أن المسلمين استقبلوا خلافة عثمان راضين عنها مطمئنين إليها؛ لأنه وسع عليهم ما كان عمر يضيق، ويسر من أمرهم ما كان عمر يعسر. وهو كما رأيت قد زاد العطاء لمجرد نهوضه بالأمر، ثم هو قد ألان للناس من جانبه، وبسط لهم يده بالعطاء، وأحس الناس رخاء وسعة لم يكونوا يجدونهما أيام عمر، وأحست قريش بنوع خاص حرية لم تكن تجدها أيام عمر؛ فلم يقم لها عثمان عند شعب الحرة، ولم يأخذ بحلاقيمها مخافة أن تتهافت في النار، وإنما خلى بينها وبين الشعب تنفذ منه إلى حيث شاءت من الأقاليم والأمصار. ويكاد المؤرخون يجمعون على أن الأعوام الستة الأولى من خلافة عثمان مرت بسلام، فلما استقبل عثمان الشطر الثاني من خلافته ظهرت المصاعب وقامت المشكلات.
ويخيل إلي أن المسلمين رضوا بخلافة عثمان ست سنين، ثم احتملوها أربع سنين. فلما جاوز عثمان بخلافته الأعوام العشرة جعل المسلمون يضيقون به ويستطيلون خلافته؛ يظهرون ذلك في شيء من الرفق أول الأمر، ثم في شيء من الحدة بعد ذلك، ثم في عنف جعل يتزايد شيئا فشيئا حتى انتهى إلى غايته المنكرة وهي قتل الإمام.
وليس معنى ذلك أن عثمان لم يلق معارضة أثناء هذه الأعوام العشرة؛ فقد ظهرت المعارضة منذ اليوم الأول لخلافته بالقياس إلى قضية عبيد الله بن عمر، وإنما معناه أن المعارضة لم تبلغ طور الخطورة إلا في العامين الأخيرين من حياة عثمان. وأكاد أعتقد أن شيئا من التشاؤم قد شاع في نفوس الناس قليلا قليلا منذ أضاع عثمان خاتم النبي في بئر أريس؛ فقد توارث الشيخان هذا الخاتم عن النبي، وأمضيا به أمور الدولة كلها، وكانا يجدان في ذلك خيرا وبركة وتراثا له خطره، وكانا يمضيان بهذا الخاتم ما يمضيان على أنهما خليفتان لرسول الله ينفذان سنته وينهجان نهجه، ويمضيان بخاتمه الذي كان يمضي به الأمور قبل أن يفارق الدنيا. وتلقى عثمان هذا الخاتم عن عمر، كما تلقاه عمر عن أبي بكر، وكما تلقاه أبو بكر عن أهل بيت النبي حين استخلف. فلما سقط هذا الخاتم من يد عثمان في البئر وجعل المسلمون يلتمسونه ويجتهدون في التماسه دون أن يظفروا به على قلة ما كان في البئر من ماء، كرهوا ذلك وتطيروا به، واستاء لذلك عثمان استياء شديدا، وقد اتخذ خاتما جديدا على صورة الخاتم الأول ونقش عليه ما كان منقوشا على الخاتم الأول: «محمد رسول الله.» ولكن هذا الخاتم الجديد لم يمس أصبع النبي، ولم يمس أصبع الشيخين، وإنما هو خاتم مصنوع لم يورث ولم تمض به الأمور من قبل؛ فكأن عثمان قد استأنف منذ اتخذ هذا الخاتم عهدا جديدا. ويقول الرواة: إن عبد الرحمن بن عوف كان أول من اجترأ على عثمان، فألغى بعض أمره وأطمع الناس فيه. وذلك أن بعض السعاة أقبلوا بإبل للصدقة، فوهبها عثمان لبعض أهل الحكم. فلما بلغ ذلك عبد الرحمن دعا بعض أصحاب النبي وأرسلهم فاستردوا له هذه الإبل وقسمها في الناس، وعثمان في الدار لم ينكر ذلك ولم يغيره، بل لم يكلم فيه عبد الرحمن وأصحابه. فكان اجتراء عبد الرحمن وأصحابه خطرا في نفسه؛ لأنه تغيير لأمر السلطان، وكان سكوت عثمان على هذا الاجتراء أشد منه خطرا؛ لأنه اعتراف بالخطأ ونقص من هيبة السلطان.
وقد جعل الناس بعد ذلك يظهرون إنكارهم لما يكرهون من سياسة عثمان؛ يخطئون في ذلك ويصيبون، ولكنهم يعارضون على كل حال. ثم لم يتحرج بعضهم من أن يواجه عثمان بالمعارضة على ملأ من الناس، ولم يتحرج بعضهم الآخر من أن يعصي أمر عثمان إذا صدر إليه، كالذي كان من أبي ذر حين أرسل إليه عثمان ينهاه عما كان يلهج به من ذم الأغنياء وتلاوة الآية الكريمة:
والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم ، فلم يسمع له ولم يطع، وإنما قال: «لأن أرضي الله بسخط عثمان أحب إلي وخير لي من أن أسخط الله برضا عثمان.»
ولم تكن قصة الوليد بن عقبة خليقة أن تشعر قلوب الناس بهيبة لسلطان الخليفة. فليس مما يرفع من شأن السلطان في النفوس أن تقوم البينة على أن بعض عماله قد شرب الخمر، وأن يضطر الخليفة إلى عزل هذا العامل وإقامة الحد عليه، وأن يتحدث الناس بأنه أخطأ حين ولاه مكان سعد، وبأنه إنما ولاه لقرابته مع تظاهر الأدلة على أنه لم يكن أهلا للولاية.
ثم جعلت المعارضة تشتد في الأمصار وتصل أصداؤها إلى المدينة، حتى اضطر عثمان إلى اصطناع النفي الإداري. وجعلت المعارضة تشتد في المدينة نفسها، وتصل أصداؤها إلى الأمصار، فتزيد المعارضين في الأقاليم شدة واجتراء، حتى اضطر عثمان إلى أن يصطنع الشدة مع معارضيه أنفسهم، فيوعد وينذر، ولا يملك نفسه أحيانا من البطش ببعض المعارضين.
وقد روى المؤرخون أن الناس كثروا على عثمان ونالوا منه أشنع ما نيل من أحد، سنة أربع وثلاثين، وكان أصحاب النبي يرون ويسمعون ثم لا ينهون ولا يذبون، إلا جماعة ضئيلة: زيد بن ثابت، وأبو أسيد الساعدي، وكعب بن مالك، وحسان بن ثابت. بل كان أصحاب النبي الذين أقاموا بالمدينة يكتبون إلى أصحاب النبي الذين تفرقوا في الثغور يستقدمونهم إلى المدينة لتقويم ما اعوج من أمر الخلافة، يقولون لهم: إنكم خرجتم تطلبون الجهاد وراءكم، فارجعوا إلى المدينة لإقامة الدين وصيانته؛ فقد عرضه السلطان لشر عظيم. واجتمع الناس فتذاكروا الأحداث والخطوب، ولاموا عثمان فأكثروا لومه، ثم كلفوا عليا أن يدخل على عثمان فيكلمه. قال المؤرخون: فدخل علي على عثمان، فقال له: «الناس ورائي وقد كلموني فيك، والله ما أدري ما أقول لك، وما أعرف شيئا تجهله، ولا أدلك على أمر لا تعرفه. إنك لتعلم ما نعلم، ما سبقناك إلى شيء فنخبرك عنه، ولا خلونا بشيء فنبلغكه، وما خصصنا بأمر دونك. وقد رأيت وسمعت وصحبت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
ونلت صهره. وما ابن أبي قحافة بأولى بعمل الحق منك، ولا ابن الخطاب بأولى بشيء من الخير منك. وإنك أقرب إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
رحما، ولقد نلت من صهر رسول الله
صلى الله عليه وسلم
ما لم ينالا ولا سبقاك إلى شيء، فالله الله في نفسك؛ فإنك والله ما تبصر من عمى ولا تعلم من جهل، وإن الطريق لواضح بين، وإن أعلام الدين لقائمة. تعلم يا عثمان أن أفضل عباد الله عند الله إمام عادل هدي وهدى، فأقام سنة معلومة، وأمات بدعة متروكة. فوالله إن كلا لبين، وإن السنن لقائمة لها أعلام، وإن البدع لقائمة لها أعلام، وإن شر الناس عند الله إمام جائر ضل وضل به فأمات سنة معلومة وأحيا بدعة متروكة. وإني سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يقول: «يؤتى يوم القيامة بالإمام الجائر وليس معه نصير ولا عاذر، فيلقى في جهنم، فيدور في جهنم كما تدور الرحى، ثم يرتطم في غمرة جهنم.» وإني أحذرك الله وأحذرك سطوته ونقماته؛ فإن عذابه شديد أليم. وأحذرك أن تكون إمام هذه الأمة المقتول؛ فإنه يقال: «يقتل في هذه الأمة إمام فيفتح عليها القتل والقتال إلى يوم القيامة، ويلبس أمورها عليها، ويتركهم شيعا، فلا يبصرون الحق لعلو الباطل، يموجون فيها موجا ويمرجون فيها مرجا».»
1
ولست أدري أروي حديث علي إلى عثمان كما قاله أم روي في نص مقارب يؤدي معناه وإن لم يؤد ألفاظه. ولكن المهم هو أن المعارضة في المدينة قد خرجت عن طور النقد الفردي المتفرق الذي يقال هنا وهناك، ثم لا يتجاوز ذلك إلى ما بعده. خرجت عن هذا الطور إلى طور آخر من الاجتماع والتنظيم والاتجاه إلى الخليفة مباشرة، ترفع إليه نقدها لسيرته وإنكارها لسياسته، ثم تنتظر ما يكون منه بعد ذلك. فهي إذن قد خرجت من المعارضة السلبية إلى المعارضة الإيجابية، كما نقول نحن في هذه الأيام. وقد استمع عثمان لرسول المعارضين إليه، ثم رد عليه فقال: قد والله علمت ليقولن الذي قلت. أما والله لو كنت مكاني ما عنفتك ولا أسلمتك، ولا عبت عليك ولا جئت منكرا أن وصلت رحما، وسددت خلة، وآويت ضائعا، ووليت شبيها بمن كان عمر يولي! أنشدك الله يا علي! هل تعلم أن المغيرة بن شعبة ليس هناك؟ قال: نعم. قال: فتعلم أن عمر ولاه؟ قال: نعم. قال: فلم تلومني أن وليت ابن عامر في رحمه وقرابته؟ قال علي: سأخبرك، إن عمر بن الخطاب كان كل من ولى فإنما يطأ على صماخه، إن بلغه عنه حرف جلبه ثم بلغ به أقصى الغاية. وأنت لا تفعل، ضعفت ورفقت على أقربائك. قال عثمان: هم أقرباؤك أيضا. فقال علي: لعمري إن رحمهم مني لقريبة، ولكن الفضل في غيرهم. قال عثمان: هل تعلم أن عمر ولى معاوية خلافته كلها! فقد وليته. فقال علي: أنشدك الله، هل تعلم أن معاوية كان أخوف من عمر من يرفأ غلام عمر منه؟ قال: نعم. قال علي: فإن معاوية يقتطع الأمور دونك وأنت تعلمها، فيقول للناس: هذا أمر عثمان، فيبلغك ولا تغير على معاوية.
2
فهذا الحوار القصير يصور أدق تصوير ما كانت المعارضة في المدينة تنكر على عثمان، وما كان عثمان يرد به على هذا الإنكار. فقد أنكرت المعارضة عليه إيثار قرابته بالأموال والأعمال، وضعفه أمام العمال من أقربائه. ورد عثمان بأنه لم يزد على أن وصل رحما وسد خلة وآوى ضائعا، وأنه سار في اختيار العمال سيرة عمر، فقد ولى عمر المغيرة بن شعبة مع أنه ليس هناك، وولى معاوية خلافته كلها. ورد علي بأن عمر كان يراقب عماله أشد المراقبة ويبطش بهم إن انحرفوا، وبأن معاوية كان يخاف من عمر أشد مما كان يخاف منه غلامه يرفأ. وافترق الرجلان على غير اتفاق، إلا أن عثمان قد وجد على علي لأنه أسلمه ولامه وعاب عليه، وكان الحق عليه أن يرعى ما بينهما من القرابة. ثم لم يكتف عثمان بالاستماع لما سمع من علي وقول ما قال له، بل أراد أن يواجه المعارضة كلها مجتمعة ، وأن ينذر ويحذر.
فخرج حتى جلس على المنبر، ثم قال: «أما بعد فإن لكل شيء آفة، ولكل أمر عاهة، وإن آفة هذه الأمة وعاهة هذه النعمة عيابون طعانون يرونكم ما تحبون ويسرون ما تكرهون، يقولون لكم ويقولون، أمثال النعام يتبعون أول ناعق، أحب مواردها إليها البعيد، لا يشربون إلا نغصا، ولا يردون إلا عكرا، لا يقوم لهم رائد، وقد أعيتهم الأمور وتعذرت عليهم المكاسب! ألا فقد والله عبتم علي بما أقررتم لابن الخطاب بمثله، ولكنه وطئكم برجله وضربكم بيده وقمعكم بلسانه، فدنتم له على ما أحببتم أو كرهتم. ولنت لكم وأوطأت لكم كنفي وكففت يدي ولساني عنكم، فاجترأتم علي. أما والله لأنا أعز نفرا وأقرب ناصرا وأكثر عددا وأقمن إن قلت: هلم، أتي إلي. ولقد أعددت لكم أقرانكم وأفضلت عليكم فضولا، وكشرت لكم عن نابي، وأخرجتم مني خلقا لم أكن أحسنه ومنطقا لم أنطق به. فكفوا عليكم ألسنتكم وطعنكم وعيبكم على ولاتكم، فإني قد كففت عنكم من لو كان هو الذي يكلمكم لرضيتم منه بدون منطقي هذا. ألا فما تفقدون من حقكم؟ والله ما قصرت في بلوغ ما كان يبلغ من كان قبلي ومن لم تكونوا تختلفون عليه. فضل فضل من مال، فما لي لا أصنع في الفضل ما أريد؟ فلم كنت إماما؟» وهم مروان بن الحكم أن يتكلم، فزجره عثمان قائلا: «اسكت لا سكت! دعني وأصحابي. ما منطقك في هذا؟! ألم أتقدم إليك ألا تنطق؟»
3
وهذه الخطبة هي أعنف خطبة خطبها عثمان في خلافته كلها. وهو نفسه قد أحس ذلك واعتذر منه اعتذارا رفيقا يلائم خلقه وطبعه السمح، فقال: «وأخرجتم مني خلقا لم أكن أحسنه ومنطقا لم أنطق به.» على أنه لم يكد يتم خطبته حتى رجع في رفق عذب إلى المألوف من سيرته حين قال لمروان: «دعني وأصحابي.» فهو إذن يتحدث إلى أصحابه لا إلى خصومه، وهو يعنف بهم لأنهم عنفوا به حتى أخرجوه عن طوره. والحليم يغضب ثم لا يلبث أن يعود إلى ما ألف من الحلم .
وعثمان ينكر على أصحابه استماعهم لهؤلاء العيابين الطعانين الذين يظهرون لهم ما يحبون ويخفون عليهم ما يكرهون، ويضللونهم في إمامهم، ويطمعونهم في أشياء ليس إليها سبيل. وعثمان يشير إلى قوم بعينهم في هذا الحديث، يرى أنهم قوام المعارضة، وأنهم يغرون به ويؤلبون عليه لتحقيق آرابهم وبلوغ آمالهم التي طالما انتظروا بلوغها. وهؤلاء بالطبع هم الذين كان عثمان يظن أنهم ينفسون عليه الخلافة ويتمنونها لأنفسهم. ولعله يشير إلى من بقي من أهل الشورى، وإلى الذين كانوا يلهجون بنقده أمثال عمار بن ياسر وغيره من المهاجرين والأنصار.
ثم يقول عثمان لأصحابه إنهم ينكرون عليه أشياء قد أتاها عمر فلم ينكروها عليه؛ لأن عمر اشتد عليهم فخافوه، ولأنه هو لان لهم فطمعوا فيه. ثم ينذر أصحابه وينذر الذين يغرونهم ويؤلبونهم، فيذكر أنه أعز نفرا وأقرب ناصرا وأكثر عددا وأجدر إن دعا أن يستجاب له. وما من شك في أنه يعرض في هذا النذير بمنافسيه الذين لا يعدلونه قوة وبأسا. فبنو أمية كانوا من غير شك أعز نفرا وأكثر ناصرا من سائر أحياء قريش. ثم يعود إلى أصحابه فيسألهم ماذا ينكرون وماذا ينقمون؟ لقد أدى إليهم حقهم كاملا، ولم يقصر بهم عما كان يبلغه أبو بكر وعمر. ثم يعطف على تصرفه في الأموال العامة، فيقول: «فضل فضل من مال، فمالي لا أصنع في الفضل ما أريد، فلم كنت إماما؟» يريد أنه إذا أدى إلى المسلمين حقهم من بيت المال فله أن يتصرف في سائره كما يريد. ذلك شيء تبيحه له الإمامة، وليس لأحد أن يجادله فيه أو ينكره عليه. فقد كانت الجولة الأولى - كما يقول المحدثون - بين عثمان ومعارضيه متكافئة: أنكر المعارضون ثم نظموا إنكارهم ثم رفعوه إلى الخليفة، فرده عليهم، ثم خطبهم فأنذر وحذر واشتد ثم ثاب إلى شيء من لين، ولكنه استمسك بموقفه لم يحد عنه، واستمسكت المعارضة بموقفها لم تحد عنه أيضا. إلا أن الحوادث كانت أقوى منه ومن المعارضة؛ فقد مضت المعارضة في إنكارها، وجاءته الأنباء من الأقاليم بأن المعارضة فيها ليست أقل ولا أهون من المعارضة في المدينة. وكان عثمان قد احتفظ بسيرة عمر، فحج بالناس أثناء خلافته كلها إلا العام الأول لأنه كان مريضا، وإلا العام الأخير لأنه كان محصورا. وكان يلقى عماله في الموسم من كل عام، فيسمع منهم ويقول لهم. فلما لقيهم في الموسم سنة أربع وثلاثين جمعهم للمشورة. ويزعم الرواة أنه أحضرهم عمرو بن العاص. وأشك أنا في هذا؛ فلم يكن عمرو بن العاص عاملا لعثمان سنة أربع وثلاثين، ولم يكن عمرو بن العاص ناصحا لعثمان منذ عزله عن مصر، وإنما أقحم الرواة عمرا في هذه المشورة ليصوروا مكره ودهاءه وكيده لعثمان. وأكبر الظن أنه لم يحضر شوراه إلا هؤلاء العمال الأربعة الذين كانوا يتولون الأمصار ذات الخطر: وهم معاوية، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح، وعبد الله بن عامر، وسعيد بن العاص. فلما التأمت جماعتهم قال لهم عثمان: إن لكل إمام وزراء، وإنكم وزرائي. وقد رأيتم ما ظهر من تنمر الناس لي ومطالبتهم إياي بعزل عمالي، ومن هذه الفتنة التي أظهرت رأسها، فأشيروا علي.
فأما معاوية، فلم يزد على أن طلب إليه أن يرد العمال إلى أمصارهم، وأن يكلهم إلى كفايتهم، وأن يعتمد عليهم في أن يضبط كل واحد منهم مصره ويحزم أمره، ويكفي الإمام من قبله من الناس. وأما سعيد بن العاص، فأشار عليه بأن يقتل قادة المعارضة وزعماء الفتنة. وأما عبد الله بن سعد بن أبي سرح، فأشار عليه أن يترضى الناس ويعطيهم من بيت المال ويأخذهم من طريق أطماعهم. وأما عبد الله بن عامر، فأشار عليه بأن يرسل الناس إلى الجهاد، ويشغلهم بالحرب، ويطيل إقامتهم في الثغور. وبهذا الرأي أخذ عثمان؛ رد العمال إلى أمصارهم، وأمرهم أن يحسنوا السياسة ويتشددوا في حقوق الله، ويأخذوا الرعية بالحزم ويرسلوهم إلى الغزو، ويقطعوا العطاء عمن ظهر منه عوج أو انحراف. وعاد عثمان إلى المدينة، وصحبه معاوية في طريقه إلى الشام. وفي المدينة عقد عثمان مجلسا آخر للمشاورة، شهده معاوية وشهده نفر من كبار الصحابة فيهم علي وطلحة والزبير وسعد. وبدأ معاوية الحديث، فأوصى هؤلاء النفر بالإمام الشيخ، وحذرهم من الفتنة والفرقة، ولم يخل تحذيره من بعض النذير. فنهره علي، وكان بينهما حوار لم يخل من جفوة. ثم تكلم عثمان كلاما فيه كثير من لين ورفق، وأظهر أنه سائر إلى ما يشير القوم به عليه، فقيل له: إنك أعطيت فلانا وفلانا، فاسترد ما أعطيت. فوعد عثمان بذلك ورضي القوم، وتفرقوا على شيء من رضا. ولم يكن شك في أن المعارضة قد ربحت بعض الربح؛ فقد استشار عثمان زعماءها وأجابهم إلى بعض ما أرادوا.
وانصرف معاوية إلى المدينة بعد أن أوصى المهاجرين بالإمام الشيخ مرة أخرى، وبعد أن لمح لهم مرة أخرى كذلك بالتحذير والنذير. وكان يظن أن الناس سيستقبلون سنة خمس وثلاثين بشيء من دعة وهدوء. ولكن أهل الكوفة ثاروا وردوا واليهم سعيدا كما قدمنا، وطلبوا أن يولى عليهم أبو موسى. واضطر عثمان إلى أن يجيبهم إلى ما أرادوا؛ فكان هذا أول الفتنة: عرضت الكوفة لغيرها من الأمصار مثلا، فلم تلبث الأمصار أن اتبعته، وظهر للناس أن الثورة طريق موصلة إلى ما يريد الثائرون.
وما هي إلا أن يذهب المصريون مذهب أهل الكوفة، وإذا هم يرسلون في رجب من سنة خمس وثلاثين وفدا ضخما؛ خرجوا يظهرون أنهم يريدون العمرة، ولكنهم أقبلوا على المدينة وأظهروا أنهم يريدون أن يناظروا عثمان في سياسته وسياسة عماله. والرواة يختلفون؛ فيقول بعضهم: إنهم لقوا عثمان في قرية خارج المدينة، فناظروه وحكموا المصحف بينه وبينهم، فأقنعهم بأشياء حتى رضوا، وأقنعوه بأشياء حتى اعتذر ووعد بالنزول عنها. ويقول آخرون: إنه أرسل إليهم جماعة من المهاجرين والأنصار فيهم علي ومحمد بن مسلمة الأنصاري، وأعطى على نفسه عهدا ليبلغن بالناس ما يرضون. فخرج السفراء ولقوا القوم فوعظوهم وأعطوهم الرضا، ثم جاءوا بوفد منهم إلى عثمان فأكد لهم العهد، ثم خرج فخطب الناس وأثنى على الوفد المصريين وأعطى التوبة واستغفر الله وبكى وبكى الناس ورقت القلوب للإمام الشيخ، وانصرف المصريون راضين. قال الرواة : إن عثمان قال في آخر خطبته تلك: «إذا نزلت فليأتني خياركم، فلا ترفع إلي ظلامة إلا كشفتها، ولا تعرض علي حاجة إلا قضيتها.» ولكنه لم يكد يعود إلى داره حتى حوله مروان عما وعد به، وخرج فرد الناس عن الدار ردا عنيفا. والشيء المحقق هو أن عثمان استطاع بما أعطى من العهد وما بذل من الرضا وما أعلن من التوبة، أن يتألف الناس ويجمعهم على طاعته ومحبته وانتظار الخير منه. ولكن الأيام مضت وتبعتها الأيام، ولم يعزل عثمان عاملا ولم يغير مما وعد بتغييره شيئا.
وما كاد يقبل شوال من هذه السنة حتى يخرج المصريون خرجتهم الثانية في عدد يقول المقللون إنه كان ستمائة، ويقول المكثرون إنه كان ألفا، ويخرج في الوقت نفسه ناس من الكوفة والبصرة، وقد تواعد القوم حين استيأسوا من وفاء الخليفة لهم بما أعطى على نفسه من العهد. ويبلغ القوم ضواحي المدينة، ويعلم عثمان بمقدمهم، فيريد أن يرسل إليهم عليا ومحمد بن مسلمة، فيأبى علي، ويقول محمد بن مسلمة: لا أكذب الله في سنة مرتين. ولكن أهل المدينة على ذلك يأبون أن تدخل المدينة عليهم عنوة، وينهضون لرد هؤلاء الطارئين. وتقبل وفود من المصريين والكوفيين والبصريين، فإذا هم يرون عليا وطلحة والزبير قد عسكروا ومع كل واحد منهم أصحابه، يريدون أن يحموا دار الهجرة من أن تقتحم عليهم عنوة، فيرتدون ويظهرون العودة إلى أمصارهم ويزولون عن معسكراتهم في الضواحي. ويستيقن أهل المدينة أن قد زال الخطر، وأن القوم قد رجعوا أدراجهم، فيستأنفون حياتهم على ما ألفوا من أمن ودعة وهدوء. ثم لا يروعهم إلا التكبير قد ملأ المدينة من حولهم، وينظرون فإذا القوم قد كادوهم حين أظهروا الرجوع إلى أمصارهم، حتى إذا آنسوا منهم أمنا ودعة عادوا فدخلوا المدينة واحتلوها بغير قتال، ونادى مناديهم: من لزم داره فهو آمن، ومن كف عنا أذاه فهو آمن. ثم يضرب الحصار حول دار عثمان.
وهنا تأتي قصة الكتاب الذي يقول الرواة إن المصريين قد أخذوه أثناء عودتهم إلى مصر فكروا راجعين. فهذه القصة فيما أرى ملفقة من أصلها. وليس أدل على ذلك مما يقول الرواة أنفسهم من أن أصحاب النبي لم يكادوا يجادلون القوم في كتابهم هذا ويسألونهم كيف علم أهل الكوفة وأهل البصرة بأنكم قد أخذتم هذا الكتاب وقد ذهب كل فريق منكم إلى وجه؟ حتى عجزوا ولم يعرفوا كيف يجيبون، وقالوا: ضعوا هذا الأمر كيف شئتم، فلا حاجة لنا بهذا الرجل. وليس بمعقول ولا بمقبول أن يكيد عثمان للمسلمين هذا الكيد، فيعطي فريقا منهم الرضا ثم يرسل إلى عامله سرا من يبلغه الأمر أن يبطش بهم ويرهقهم من أمرهم عسرا. وليس بمعقول ولا مقبول أن يجترئ مروان على الخليفة فيكتب هذا الكتاب ويمضيه بخاتمه ويرسله مع غلامه على جمل من إبله. كل هذا أشبه بأن يكون ملهاة سخيفة منه بأن يكون شيئا قد وقع. والأمر أيسر من هذا. تلقى أهل الأمصار وعدا من إمامهم فاطمأنوا إليه، ثم تبينوا أن الخليفة لم يصدق وعده، فأقبلوا ثائرين يريدون أن يفرغوا من هذا الأمر وألا يعودوا حتى يفرغوا منه، فلما بلغوا المدينة وجدوا أصحاب رسول الله قد تهيئوا لقتالهم، فكرهوا هذا القتال وانصرفوا كائدين، حتى إذا عرفوا أن هؤلاء الشيوخ قد ألقوا سلاحهم وأمنوا في دورهم، كروا راجعين فاحتلوا المدينة بغير قتال.
وما كان هؤلاء الناس يريدون أن يقاتلوا أصحاب النبي ولا أن يقتلوهم، ولا أن يثيروا حول المدينة حربا تذكر بيوم أحد أو بيوم الأحزاب، إنما كانوا يريدون أن يحاصروا الإمام ويعاجلوه حتى يصلوا إلى خلعه أو إلى قتله. وقد بلغوا ما أرادوا، فدخلوا المدينة وحاصروا الإمام.
وأكاد أقطع بأن قد كان لهم من أهل المدينة أنفسهم أعوان وأنصار دعوهم وشجعوهم، ثم أعلموهم بما عزم عليه أصحاب النبي، ثم أعلموهم بعودة المدينة إلى الهدوء والدعة، ثم انضموا إليهم حين حاصروا عثمان. وقد كان الحصار في أول أمره يسيرا لا يكاد يتجاوز احتلال المدينة والإحاطة بدار عثمان، وكان الخليفة حرا يخرج من داره ويعود إليها ويصلي بالناس ويصلي خلفه الثائرون أنفسهم ، ويخطب الناس فيعظهم ويبصرهم، ويسعى السفراء في أثناء ذلك بينه وبين الثائرين، يريد الثائرون أن يخلع نفسه، ويأبى هو أن ينزع قميصا قد كساه الله عز وجل إياه. ولكن الأمور تتعقد فجاءة؛ فقد عرف الثائرون أن عثمان قد أرسل إلى العمال في الأمصار يأمرهم بأن يرسلوا إليه الجند لينصروه ويخرجوا من المدينة هؤلاء الطارئين. وما يكاد الثائرون يعرفون هذا النبأ حتى يتغير الحصار وتتغير معه سيرتهم مع عثمان.
الفصل الثامن والعشرون
فقد خرج عثمان ذات يوم كما كان يخرج من قبل، وصلى بالناس كما كان يصلي بهم من قبل، ثم جلس على المنبر فجعل يعظ الناس ويبصرهم كما تعود أن يعظهم ويبصرهم، وكان فيما قال: «يا هؤلاء العدى الله الله، فوالله إن أهل المدينة ليعلمون أنكم ملعونون على لسان محمد
صلى الله عليه وسلم . فامحوا الخطايا بالصواب؛ فإن الله عز وجل لا يمحو السيئ إلا بالحسن.» قال المؤرخون: فقام محمد بن مسلمة فقال: أنا أشهد بذلك. فقام إليه حكيم بن جبلة فأقعده. فقام زيد بن ثابت وقال: ابغني الكتاب. فثار إليه من ناحية أخرى محمد بن أبي قتيرة فأقعده. أراد محمد بن مسلمة أن يشهد بأن الله لا يذهب السيئ إلا بالحسن، وأراد زيد بن ثابت أن يثبت ذلك من المصحف، فيتلو على الناس قول الله عز وجل:
إن الحسنات يذهبن السيئات ، ولكن الناس أقعدوهما. وقام جبلة بن عمرو الساعدي (رجل من الأنصار) فقال: يا عثمان، انزل ندرعك عباءة ونحملك على شارف من الإبل إلى جبل الدخان كما سيرت خيار الناس. قال عثمان: قبحك الله وقبح ما جئت به! وكان جبلة هذا يعرض لعثمان وينذره بالقتل أو بأن يطرح في عنقه جامعة ويحمله على قلوص جرباء ويلقيه في جبل الدخان إن لم يترك بطانته، وكان يلومه في عماله وفي مروان وفي آل الحكم خاصة، وكان يقول إذا كلم في ذلك وحاول مكلموه أن يردوه إلى بعض الرفق: والله لا ألقى الله غدا فأقول إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيل .
ولم يكد عثمان يرد على جبلة هذا حتى قام جهجاه بن سعيد الغفاري (رجل من رهط أبي ذر ومن أصحاب النبي الذين شهدوا بيعة الرضوان)، فوثب إلى المنبر فأخذ من عثمان العصا التي كان يخطب عليها، وهي التي خطب عليها النبي وصاحباه من بعده، فكسرها على ركبته. قال الرواة: فأصابت ركبته إكلة منذ ذلك اليوم، وأمر عثمان فيما بعد بشد العصا. ثم ثار الناس فتحاصبوا وحصب عثمان حتى صرع واحتمل مغشيا عليه، فأدخل إلى داره فلم يخرج منها إلا مقتولا.
ومنذ ذلك اليوم سار الثائرون مع عثمان سيرة منكرة حقا، منعوه من الصلاة في مسجد النبي، وأقاموا منهم رجلا يصلي بالناس هو الغافقي زعيم المصريين. وكان طلحة بن عبيد الله ربما صلى بالناس، وكان علي ربما صلى بهم أيضا. ثم حال الثائرون بين عثمان وبين الماء، حتى اشتد الظمأ عليه وعلى أهله وعياله، وحتى أشرف عليهم ذات يوم فذكرهم بأنه اشترى بئر رومة بأمر النبي وجعلها سقاية للمسلمين، ووعده النبي بها الجنة، وهو الآن يحرم ماءها ويفطر على ماء آجن. وذكرهم بأنه اشترى بأمر النبي أرضا ضمها إلى المسجد حين ضاق بالناس ووعده النبي بها الجنة، وهو أول مسلم منع من الصلاة فيه. ثم أرسل إلى جماعة من أصحاب النبي وأمهات المؤمنين يطلب إليهم أن يرسلوا إليه شيئا من الماء العذب إن استطاعوا، فاحتال علي حتى أدخل إليه شيئا من ماء، وأقبل على الثائرين فزجرهم وقال: إن الذي تصنعون ليس صنيع المؤمنين ولا صنيع الكافرين، وإن الفرس والروم ليأسرون فيطعمون ويسقون. وأقبلت أم حبيبة بنت أبي سفيان زوج النبي تحمل شيئا من ماء، فضرب الثائرون وجه بغلتها وقطعوا حقبها، حتى كادت أم المؤمنين تسقط لولا أن تلقاها الرجال فأسندوها وردوها إلى دارها، مع أنها أنبأتهم بأنها إنما أقبلت تكلم عثمان في أيتام بني أمية، وكانت وصايا بني أمية عنده، فلم يصدقوها ولم يسمعوا منها. ولزم أكثر أصحاب النبي دورهم منذ اشتد الحصار، وأقام الناس في بيوتهم لا يخرج منهم أحد إلا ومعه سيفه. واشتد الكرب وشاع القتل وعظم البلاء، وجعل عثمان يشرف على الثائرين بين حين وحين فيعظهم ويحذرهم ويخوفهم الفتنة ويذكرهم بآيات الله وحديث النبي، فلا يسمعون له ولا يحفلون به، وربما ردوه ردا عنيفا.
وقد اجتمع القادرون على القتال من بني أمية، وانضم إليهم شباب من أبناء المهاجرين، فدخلوا الدار وقاموا يحمونها ويحمون عثمان من الثائرين، وكان فيهم عبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير والحسن والحسين ابنا علي ومحمد بن طلحة، وأمر عثمان عليهم عبد الله بن الزبير، وتقدم إليهم في ألا يقاتلوا، وعزم عليهم في ذلك أشد العزيمة. وتحرجت الأمور حتى منع الناس من الدخول على عثمان، ومنع أهل الدار من الخروج منها، وأقام الناس على ذلك أياما. ثم جاءت الأنباء بأن أمداد العراق قد دنت من المدينة، وبأن أمداد الشام قد انتهت إلى وادي القرى. فيختلف الرواة هنا أشد الاختلاف: فأما الذين هواهم مع عثمان فيقولون: أشفق الثائرون أن تصل الأمداد إلى المدينة فتحول بينهم وبين ما يريدون، فاحتالوا حتى أنفذوا نفرا منهم، عليهم محمد بن أبي بكر، فتسوروا الدار من خوخة بينها وبين دار عمرو بن حزم وانتهوا إلى عثمان فقتلوه. وأما الذين هواهم مع غير عثمان فيقولون: إن أهل الدار هم الذين بدءوا فناوشوا الثائرين. كان عثمان مشرفا عليهم، وقد دعاه رجل منهم يقال له نيار بن عياض الأسلمي، وكان شيخا كبيرا من أصحاب النبي، دعا عثمان وجعل يعظه وينصح له بأن يخلع نفسه، وإنه لفي ذلك إذ رمي بسهم من الدار أو ألقي عليه منها حجر فقتل. قال الثائرون لعثمان: ادفع إلينا قاتل صاحبنا فنقيد منه. فقال عثمان: ما أعرف له قاتلا فأدفعه إليكم، أو قال عثمان: ما أدفع إليكم رجلا ذب عني وأنتم تريدون قتلي، ثم حجزت بينهم ليلة منكرة. فلما أصبحوا هجم الثائرون على الدار يحرقون أبوابها، وخرج لهم أصحاب الدار يقاتلونهم، فاشتد القتال وجرح عبد الله بن الزبير جراحات كثيرة، وصرع مروان بن الحكم حتى ظن به الموت ، وقتل آخرون، واقتحمت الدار على أهلها. وفي أثناء ذلك فتح عمرو بن حزم بابه وأنفذ من الخوخة أولئك النفر الذين انتهوا إلى عثمان فقتلوه.
وأكبر الظن أن أنباء وصلت إلى المدينة بأن الأمداد قد كادت تبلغها، فأراد الثائرون أن يفرغوا من الأمر قبل أن تصل هذه الأمداد. ولم يستطع مروان بن الحكم أن يصبر وقد بلغه من أنباء الأمداد ما بلغ الثائرين، فتعجل الحرب وظن أنه يستطيع أن يزحزح المحاصرين عن الدار، وأن يقاتلهم حتى تأتي الأمداد، وكره أن يعتد عليه معاوية أو ابن عامر بأن جنودهما قد أدركتهم محصورين في الدار ففرجت عنهم الحصار وردت إليهم الحياة. فأراد أن تدركه الأمداد ومعه من في المدينة من بني أمية وهم يقاتلون ويبلون فيحسنون البلاء. وهو من أجل هذا خرج مرتجزا يطلب المبارزة، وخرج معه نفر من بني أمية يرتجزون، وعثمان يأمرهم بالصبر ويكفهم عن القتال فلا يسمعون له ولا يستجيبون لدعائه، حتى اضطر إلى أن يقسم على من رأى عليه له طاعة ليلقين سيفه، فألقى جماعة من أصحابه سيوفهم وأبى بنو أمية أن يفعلوا. وبينما القوم يقتتلون وقد اقتحمت الدار وجعل أهلها يتفرقون، خرج خارج فأذن في الناس: لقد قتلنا ابن عفان، ثم فتحت الأبواب ونهبت الدار ونهب بيت المال، ولم يتفرق الناس إلا وقد وقعت الواقعة وكانت الفتنة وصب على المسلمين بلاء عظيم.
ومع ذلك فقد يظهر أن عثمان مال في آخر أمره إلى شيء من العافية. فقد يتحدث الرواة بأن سعد بن أبي وقاص دخل على عثمان فسمع منه، ثم خرج مسترجعا يطلب عليا حتى لقيه في المسجد، فقال له: هلم أبا الحسن! لقد جئتك بخبر ما جاء به أحد أحدا، إن خليفتك قد أعطى الرضا فأقبل فانصره واسبق إلى الفضل في نصره. وإنهما ليتناجيان حتى جاء النبأ بقتل عثمان.
فأكاد أعتقد أن عثمان كان دعا سعدا وكلفه أن يسفر بينه وبين علي ليكف الناس عن القتل والقتال، على أن يرد الأمر إلى أصحاب الشورى وأهل الحل والعقد من المسلمين ليضعوه حيث يشاءون، ولكن هذه السفارة جاءت متأخرة، وكان أمر الله قدرا مقدورا.
الفصل التاسع والعشرون
وكان معاوية قد عرض على عثمان قبل أن يفارقه في أواخر سنة أربع وثلاثين خصلتين رفضهما عثمان رفضا حاسما: عرض عليه أن يسير معه إلى الشام فيكون فيها آمنا منصورا، فأبى عثمان أن يترك جوار النبي وأن يستبدل بدار الهجرة دارا أخرى. وأضمر عثمان في نفسه أشياء لم يقلها لمعاوية في أكبر الظن، وهي أنه لو ترك المدينة لنقل عاصمة الخلافة إلى بلد آخر غير البلد الذي ظهر الإسلام فيه على أعدائه، وإلى بلد آخر غير البلد الذي أقام النبي فيه أعلام الإسلام وأقام الشيخان فيه بعد ذلك مجد الإسلام ولم يكن أبغض إلى عثمان من أن يأتي هذه البدعة، ولم يكن أبغض إليه من أن يقول له أصحاب النبي وعامة المسلمين: نقلت أمر الإسلام من حيث أقره النبي وصاحباه إلى بلد أجنبي غريب، ثم لو فعل عثمان لكان أسيرا في يد معاوية. ولأن يكون أسيرا في يد أصحابه الذين هاجروا معه والذين آووا ونصروا والذين غزوا معه ومع النبي واستمعوا معه للنبي، أحب إليه من أن يكون أسيرا عند معاوية بن أبي سفيان، على ما بينه وبين معاوية من قرابة النسب، وعلى ما عند معاوية بن أبي سفيان من الأمن والعزة والغلب.
وعرض معاوية على عثمان أن يرسل إليه جندا من أهل الشام يقيمون معه في المدينة ليردوا عنه العاديات، فأبى عثمان وقال: لا أضيق على أصحاب رسول الله بجوار من يجاورهم من الجند. وأضمر عثمان في نفسه أشياء أخرى في أكبر الظن لم يقلها لمعاوية: لم يرد أن يخرج عن سيرة النبي وسيرة صاحبيه، فيفرض سلطانه بالقوة والغلب، ويخضع دار الهجرة لهذا الاحتلال الذي عرضه عليه معاوية، فيحدث في الإسلام هذا الحدث الأكبر وهو إخضاع المهاجرين والأنصار ومسجد النبي ومدينته لجند يرسلهم معاوية بن أبي سفيان من قوم لم يلقوا النبي، ولم يسمعوا منه ولم يروا سيرته وسيرة صاحبيه رأي العين . لم يرد عثمان أن يكون أول من يحول الخلافة إلى ملك، ويخرجها عما ألفت من هذه السماحة السمحة إلى القهر والقسر والبأس الشديد. ولو قد فعل عثمان لكان طاغية يحكم أصحاب النبي بقوة هذا الجيش الذي يحميه من أصحابه، ويحرس داره إن أقام فيها، ويحرسه هو إن خرج من داره، ويحيط به إذا قام خطيبا على منبر النبي، ويسعى بين يديه إذا مشى في طرقات المدينة. وأين هذا كله من سيرة النبي والشيخين ومن سيرة عثمان نفسه! فقد كان يمشي في المدينة غير محروس، ويقف على أندية القوم فيقول لهم ويسمع منهم، وكان ينام في المسجد وقد لف رداءه واتخذه وسادا. وكان يجلس على منبر النبي يوم الجمعة فيتحدث إلى الناس حديث الأب الرفيق، أو الأخ البار أو الصديق الحميم؛ يسألهم عن مرضاهم وعن شئونهم وعن حاجاتهم وعن أسعار السوق. فإذا أذن المؤذنون قام فخطبهم ما شاء الله أن يخطبهم، ثم جلس فاستأنف الحديث معهم يسألهم عن مرضاهم وعن شئونهم وعن حاجتهم وعن أسعار السوق، فإذا أذن المؤذنون الأذان الثاني قام فصلى بهم. فكيف به لو غير هذا كله فانتقل إلى الشام وترك دار الهجرة، فلم يخطب على منبر النبي، ولم يصل في مسجد النبي حيث صلى النبي وصاحباه؟ وكيف به لو أقام في المدينة يحف به جند من أهل الشام يحمونه من الذين شهدوا معه ومع النبي المشاهد كلها؟ لم يكن عثمان ليستجيب لما دعاه إليه معاوية، ولا ليقبل ما عرض عليه معاوية من إرسال ذلك الجيش. فلما قال له معاوية: إذن لتغزين أو لتغتالن، قال: حسبي الله ونعم الوكيل!
فقد استقبل عثمان خلافته إذن وهو يريد أن يسير سيرة صاحبيه لا يغير منها شيئا. وسار على الجملة سيرة صاحبيه، فلم يحتجب ولم يستعل ولم يتسلط، وإنما أدركه ما قد يدرك الناس من هذا الضعف الذي لا يأتي عن نية سوء ولا عن تعمد للبغي، وإنما يأتي عن خلق كريم وعن حب للخير ورغبة فيه.
وما ينبغي أن ننسى أن عثمان قد استقبل الخلافة وهو شيخ كبير قد بلغ السبعين من عمره، وكان جوادا معطاء، وكان وصولا للرحم، وكان شديد الحياء، وكان سمح الخلق رقيق القلب حسن الرأي في الناس. فإذا اجتمعت كل هذه الخصال في شخصه وأضيفت إليها خصال أخرى في عشيرته الأقربين: هي الطمع والجشع والطموح الذي لا حد له والاستعداد للتسلط والغلبة؛ كان هذا كله خليقا أن يعرض عثمان لما تعرض له من الشر. فإذا أضفت إلى خصاله وخصال عشيرته الأقربين أن جماعة من كبار أصحاب النبي قد نازعتهم نفوسهم إلى الدنيا فاندفعوا إليها ورغبوا فيها، وجمعوا منها حظوظا ضخمة، وألقى هذا في روعهم أنهم ليسوا أقل من عثمان استحقاقا للخلافة، وأنهم قد يكونون أقدر منه على النهوض بأعبائها وضبط أمورها لأنهم لم يبلغوا من الشيخوخة ما بلغ؛ كان هذا كله خليقا أن يجعل الأمر على عثمان عسيرا أشد العسر، وأن يجعل السياسة بالقياس إليه مشكلات معضلات يتبع بعضها بعضا، لا يخرج من بعضها إلا ليدخل فيما هو أشد منها عسرا وأعظم تعقيدا.
ثم إذا أضفت إلى هذا كله أن هؤلاء الشيوخ من المهاجرين والأنصار، قد عاشوا عيشة إلا تكن بدوية خالصة فهي إلى البداوة أقرب منها إلى الحضارة، ثم نظروا ذات يوم فإذا هم أمام دولة ضخمة بعيدة الأرجاء مترامية الأطراف معقدة الشئون تحتاج إلى أن تساس سياسة الحضارة المتأصلة ذات السنن الموروثة والتقاليد المقررة لا الحضارة الطارئة - إذا جمعت هذه الخصال كلها بعضها إلى بعض، عرفت أن ظروف الحياة التي أطالت بعثمان كانت أقوى منه ومن أصحابه. ولا تقل إن عمر قد واجه هذه الظروف وظهر عليها؛ فقد كان عمر من هؤلاء الأفذاذ الذين لا تظفر الإنسانية بهم إلا في القليل النادر، والذين يتعبون من بعدهم ويرهقونهم من أمرهم عسرا. ولولا شيء من التحفظ والاحتياط لقلت: إن المسئول الأول والأخير عما تعرض له عثمان وأصحابه من الخطوب، إنما هي هذه العبقرية الفذة التي أتيحت لعمر ولم تتح لأحد من أصحابه وفيهم عثمان.
ومهما يكن من شيء؛ فهذه الأحداث التي حدثت، وهذه الفتنة التي بلغت المرحلة الأولى من مراحلها بقتل عثمان، قد تركت المسلمين وأمامهم طريقان كلتاهما مستقيمة واضحة الأعلام ليس فيها عوج ولا التواء: إحداهما هي الطريق التي سلكتها الأمم من قبلهم، وهي طريق الملك الذي يقيم أمره على الحزم والعزم وعلى القوة والبأس، ويحل مشكلات الدنيا بوسائل الدنيا، فيرقى ويقوى ويزدهر، ثم يصيبه الضعف والانحلال والذواء لينتقل من طور إلى طور، ومن دولة إلى دولة، ومن شعب إلى شعب. والأخرى هي هذه الطريق الجديدة التي مهدها النبي ورفع أعلامها صاحباه، وهي التي لا تقيم السلطان على القوة، وإنما تقيمه على المحبة والعدل، وتجعل القوة أداة من أدواته ووسيلة من وسائله، ولا تعرف أثرة ولا تحكما ولا جبرية، ولا تحل مشكلات الدنيا بوسائل الدنيا، وإنما تحلها بوسائل الدين هذه التي تقوم على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى الرغبة في الخير والنفور من الشر، وعلى الإيثار على النفس والتبرؤ من الأثرة، وتعتمد قبل كل شيء على صفاء النفوس ونقاء الضمائر وطهارة القلوب، وتتخذ الدنيا كلها، لا أقول وسيلة إلى الآخرة ليس غير، ولكن أقول وسيلة إلى الآخرة من جهة، ووسيلة إلى دنيا جديدة تزداد رقيا ونقاء وصفاء وطهرا كلما تقدمت بها الأيام من جهة أخرى.
نظر المسلمون بعد مقتل عثمان، فإذا هم على رأس هاتين الطريقتين. فأما أكثرهم فسلكوا الطريق الأولى، وامتحنوا فيها وما يزالون يمتحنون بما امتحنت به الأمم والشعوب، وأما أقلهم فحاولوا أن يسلكوا الطريق الثانية، ولكنهم كانوا ناسا من الناس، فلم يكادوا يتقدمون في طريقهم تلك حتى امتحنوا في أنفسهم ودمائهم، وحتى غلبهم الأكثرون عددا على أمرهم.
وينظر المسلمون الآن فإذا الطريق الأولى ما زالت مزدحمة بهم جميعا يتهافتون فيها كما يتهافت الفراش في النار، وإذا الطريق الثانية ما زالت قائمة واضحة بينة الأعلام، ولكنها خالية لا يقدر على سلوكها إلا أولو العزم من الناس. وأين أولو العزم من الناس؟!
الفصل الثلاثون
وهناك مع ذلك سؤال لم يجب عنه القدماء إجابة مرضية، بل لم يحاول أكثرهم أن يجيب عنه، ولا بد مع ذلك من أن نظفر له بجواب: كيف ولماذا أبطأ عمال عثمان عن نصره حتى أتيح للثائرين أن يحاصروه فيطيلوا حصاره وأن يقتلوه بعد ذلك؟ فقد قيل: إن الحصار اتصل أربعين يوما. ونحن نعلم أن المواصلات لم تكن يسيرة ولا قريبة، ولكنا نعلم من جهة أخرى أن الأخبار كانت تنتقل في سرعة مدهشة إلى الأمصار، فعبد الله بن سعد بن أبي سرح كان يعلم أن المصريين قد خرجوا منكرين على عثمان، وهو أنبأ معاوية بذلك من غير شك، كما أنه كتب به إلى عثمان. وأبو موسى الأشعري قد رأى مخرج أهل الكوفة من الكوفة، وعلم من أمرهم مثل ما علم ابن أبي سرح من أمر المصريين. وقل مثل ذلك بالقياس إلى عبد الله بن عامر مع الذين خرجوا من أهل البصرة. فما بال هؤلاء العمال لم يسرعوا إلى نصر الإمام لمجرد علمهم بخروج من خرج من أهل أمصارهم؟ بل ما بالهم لم يسرعوا إلى نصر عثمان حين جاءتهم كتبه تطلب إليهم النجدة؟ ولماذا تلبثوا وتباطئوا حتى كان الشر وقتل الإمام قبل أن يدركوه؟ وأكثر من هذا أن عثمان قد عود عماله أن يوافوه في الموسم من كل عام، فما بالهم أقاموا في أمصارهم هذا العام ولم يشهدوا الحج حتى اضطر عثمان - وقد كان محصورا - أن يأمر ابن عباس ليحج بالناس؟
وأشد من هذا كله غرابة أن ابن عباس حمل فيما يقول المؤرخون كتابا من عثمان إلى عامة المسلمين الذين شهدوا موسم الحج يعرض عليهم قضيته فيه ويدافع عن نفسه. ويقول المؤرخون: إن ابن عباس قرأ هذا الكتاب في الموسم، فكيف استمع الناس لهذا الكتاب الذي رواه الطبري كاملا، ثم تفرقوا بعد ذلك كأن لم يكن شيء، لم ينهض أحد منهم لنصر الخليفة، ولم تذهب جماعتهم إلى المدينة ليشهدوا بعض ما كان يقع فيها من الأحداث؟ بل كيف قام عامل عثمان على مكة هادئا ساكنا مطمئنا لم يستنفر الناس لنصر الإمام ؟ ولو قد استنفر أهل مكة وجمع من أهل البادية جيشا لاستطاع أن يشغل هؤلاء الثائرين حتى تقبل هذه الأمداد النظامية من الأمصار. فما بال شيء من هذا لم يكن؟ وما بال أحد من هؤلاء العمال لم يتحرك؟ وما بال الحجيج لم يفزعوا لنصر إمامهم؟ أيمكن أن تكون الأمة كلها قد أسلمت هذا الإمام: فترت الرعية، وأضمر العمال في نفوسهم أشياء فتباطئوا وتثاقلوا، وشغل كل واحد منهم بنفسه، وتركوا الإمام لأهل المدينة يصنعون به ما يشاءون أو يصنع هو بهم ما يشاء؟ وقد رأيت أن أهل المدينة أنفسهم قد كانت كثرتهم مع الثائرين، وكانت قلتهم من أصحاب النبي خاذلة لعثمان تنكر بألسنتها ولا تصنع شيئا. ولو قد استقبل أصحاب النبي هؤلاء الثائرين منكرين عليهم وحثوا في وجوههم التراب لانصرفوا مخذولين كما قال بعض القدماء. وإذن فقد صدق عثمان حين قال إن الناس قد طال عليهم عمره فملوه. وأكبر الظن أن الناس لم يطل عليهم عمر عثمان فحسب، وإنما طال عليهم أيضا عمر هذه السياسة التي لم تكن سياسة خلافة كالتي عرفوها أيام عمر، ولا سياسة ملك كالتي عرفوها من قيصر وكسرى، وإنما كانت شيئا بين بين.
الفصل الحادي والثلاثون
أصبح عثمان غداة الليلة التي أرسل فيها سهم أو ألقي فيها حجر من داره فقتل نيار بن عياض الأسلمي - أصبح عثمان غداة تلك الليلة صائما، وتحدث إلى أصحابه بأنه مقتول من ذلك اليوم. فلما قال له أصحابه: يكفيك الله عدوك يا أمير المؤمنين، قال: لولا أن تقولوا تمنى عثمان لحدثتكم حديثا عجيبا. قالوا: فإنا لا نقول ذلك. قال: إني رأيت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
ومعه أبو بكر وعمر، فقال لي: «أفطر عندنا الليلة يا عثمان.»
ومضى عثمان بعد ذلك في حديثه مع أصحابه فقال لهم فيما قال: لم يقتلونني؟ وقد سمعت رسول الله،
صلى الله عليه وسلم ، يقول: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا في إحدى ثلاث: رجل كفر بعد إيمانه، أو زنا بعد إحصانه، أو قتل نفسا بغير نفس .» فوالله ما زنيت في جاهلية ولا في إسلام قط، ولا تمنيت أن لي بديني بدلا منذ هداني الله، ولا قتلت نفسا، ففيم يقتلونني؟
1
ثم مضى في الحديث مع أصحابه فقال: لئن قتلوني لم يصلوا بعدي جميعا أبدا، ولم يقاتلوا عدوا جميعا أبدا. ثم مضى بعد ذلك في حديثه مع أصحابه ينهاهم عن القتل والقتال وهو يلحون عليه في قتالهم، فقال: إن رسول الله،
صلى الله عليه وسلم ، قد عهد إلي عهدا فأنا صابر على العهد الذي عهده إلي حتى أصرع في المصرع الذي كتب علي أن أصرع فيه. وظل كذلك يتنقل مع أصحابه بين هذه الأحاديث حتى أقبلوا عليه فقتلوه.
والناس يختلفون فيه وفي قاتليه أشد الاختلاف وأعظمه. ولكن الشيء الذي لا يقبل شكا ولا نزاعا، أن الله لم يحل دم عثمان لقاتليه. فقد يكون مخطئا في سياسته وقد يكون مصيبا، وقد يكون أصحابه قد جاروا عن علم أو عن غير علم. فأقصى ما يباح للمنكرين عليه والمخاصمين له، أن يثوروا به ويحملوا الأمة على هذه الثورة؛ فإن ظفروا باجتماع الكلمة على خصومته اختاروا من المسلمين ممثلين للأمصار والأقاليم، وكان على هؤلاء الممثلين أن يحاوروا عثمان ويناظروه، وأن يقولوا له ويسمعوا منه؛ فإن رأوا إقراره أقروه، وإن رأوا خلعه خلعوه ثم اختاروا للمسلمين إماما مكانه، ثم تركوا للإمام محاسبة عثمان على ما يمكن أن يكون لهم قبله من الأموال والدماء. فأما أن ينتدب الثائرون ولم يوكلهم المسلمون عنهم فيخلعوا الإمام، فلم يكن ذلك لهم. فكيف وهم لم يخلعوه، وإنما سفكوا دمه، وكان دمه حراما كدم المؤمنين جميعا، وكانت لدمه بعد ذلك حرمة أخرى هي حرمة الخلافة؟
والناس يعتذرون عن هؤلاء الثائرين معاذير كثيرة، يقولون: إنهم لم يكونوا يستطيعون خلعه خوفا من عماله في مصر والشام والعراق، ولم يكونوا يستطيعون الانتظار به خوفا من هؤلاء العمال، ولو لم يقتلوه لقتلهم هو أو لقتلهم عماله. ولكن كل هذه المعاذير لا تبيح لهم أن يسفكوا دما حرمه الله، وأن يستبيحوا سلطان الخلافة على هذا النحو.
ولعل العذر الوحيد الذي ينهض لهم كما ينهض لعثمان وينهض للذين اختصموا بعدهم في هذه القضية فسفكوا دماءهم بأيديهم وأباحوا من النفوس والأموال ما حرم الله، هو أن ظروف الحياة كانت أقوى منهم جميعا. وأن الله قد كتب عليهم أن يفتنهم في دينهم ودنياهم هذه الفتنة الكبرى التي فسرها علي لأهل الكوفة أحسن تفسير حين قال: «استأثر عثمان فأساء الأثرة، وجزعتم فأسأتم الجزع.»
تحدث ابن سعد قال: «أخبرنا الفضل بن دكين، قال: أخبرنا أبان بن عبد الله البجلي، قال: حدثني نعيم بن أبي هند، قال: حدثني ربعي بن حراش، قال: إني لعند علي جالس إذ جاء ابن طلحة فسلم على علي فرحب به علي، فقال: ترحب بي يا أمير المؤمنين وقد قتلت والدي وأخذت مالي؟ قال: أما مالك فهو معزول في بيت المال، فاغد إلى مالك فخذه. وأما قولك قتلت أبي، فإني أرجو أن أكون أنا وأبوك من الذين قال الله فيهم:
ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين . فقال رجل من همدان أعور: الله أعدل من ذلك. فصاح علي صيحة تداعى لها القصر، قال: فمن ذاك إذا لم نكن نحن أولئك؟!»
2
ميروس، يوليو-أغسطس سنة 1947
ملحقات
كتاب عثمان إلى الأمصار مستنجدا
بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد، فإن الله عز وجل بعث محمدا بالحق بشيرا ونذيرا، فبلغ عن الله ما أمر به، ثم مضى وقد قضى الذي عليه، وخلف فينا كتابه فيه حلاله وحرامه وبيان الأمور التي قدر فأمضاها على ما أحب العباد وكرهوا. فكان الخليفة أبو بكر رضي الله عنه، وعمر رضي الله عنه. ثم أدخلت في الشورى عن غير علم ولا مسألة عن ملأ من الأمة. ثم أجمع أهل الشورى عن ملأ منهم ومن الناس على غير طلب مني ولا محبة. فعملت فيهم ما يعرفون ولا ينكرون، تابعا غير مستتبع، متبعا غير مبتدع، مقتديا غير متكلف. فلما انتهت الأمور وانتكث الشر بأهله؛ بدت ضغائن وأهواء على غير إجرام ولا ترة فيما مضى ، إلا إمضاء الكتاب، فطلبوا أمرا وأعلنوا غيره بغير حجة ولا عذر، فعابوا علي أشياء مما كانوا يرضون، وأشياء عن ملأ من أهل المدينة لا يصلح غيرها، فصبرت لهم نفسي، وكففتها عنهم منذ سنين، وأنا أرى وأسمع، فازدادوا على الله عز وجل جرأة حتى أغاروا علينا في جوار رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وحرمه وأرض الهجرة، وثابت إليهم الأعراب؛ فهم كالأحزاب أيام الأحزاب أو من غزانا بأحد إلا ما يظهرون. فمن قدر على اللحاق بنا فليلحق.
كتاب عثمان إلى أهل الموسم
بسم الله الرحمن الرحيم. من عبد الله عثمان أمير المؤمنين إلى المؤمنين والمسلمين. سلام عليكم. فإني أحمد الله إليكم الذي لا إله إلا هو.
أما بعد، فإني أذكركم بالله جل وعز الذي أنعم عليكم وعلمكم الإسلام. وهداكم من الضلالة، وأنقذكم من الكفر، وأراكم البينات، وأوسع عليكم من الرزق، ونصركم على العدو، وأسبغ عليكم نعمته؛ فإن الله عز وجل يقول وقوله الحق:
وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار . وقال عز وجل:
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون * واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون * ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون * ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم . وقال وقوله الحق:
واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا . وقال وقوله الحق:
يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين * واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون * فضلا من الله ونعمة والله عليم حكيم .
وقال عز وجل:
إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم . وقال وقوله الحق:
فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا وأنفقوا خيرا لأنفسكم ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون . وقال وقوله الحق:
وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون * ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا تتخذون أيمانكم دخلا بينكم أن تكون أمة هي أربى من أمة إنما يبلوكم الله به وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون * ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن يضل من يشاء ويهدي من يشاء ولتسألن عما كنتم تعملون * لا تتخذوا أيمانكم دخلا بينكم فتزل قدم بعد ثبوتها وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله ولكم عذاب عظيم * ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا إنما عند الله هو خير لكم إن كنتم تعلمون * ما عندكم ينفد وما عند الله باق ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون . وقال وقوله الحق:
يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا . وقال وقوله الحق:
وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون . وقال وقوله الحق:
إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما .
أما بعد، فإن الله جل وعز رضي لكم السمع والطاعة والجماعة، وحذركم المعصية والفرقة والاختلاف، ونبأكم ما قد فعله الذين من قبلكم، وتقدم إليكم فيه ليكون له الحجة عليكم إن عصيتموه. فاقبلوا نصيحة الله جل وعز واحذروا عذابه؛ فإنكم لن تجدوا أمة هلكت إلا من بعد أن تختلف ولا يكون لها رأس يجمعها. ومتى ما تفعلوا ذلك لم تقيموا الصلاة جميعا، وسلط عليكم عدوكم، ويستحل بعضكم حرم بعض. ومتى يفعل ذلك لا يقم لله سبحانه دين، وتكونوا شيعا. وقد قال الله جل وعز لرسوله
صلى الله عليه وسلم :
إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون . وإني أوصيكم بما أوصاكم الله، وأحذركم عذابه؛ فإن شعيبا
صلى الله عليه وسلم
قال لقومه:
ويا قوم لا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح وما قوم لوط منكم ببعيد * واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربي رحيم ودود .
أما بعد. فإن أقواما ممن كان يقول في هذا الحديث أظهروا للناس أنهم إنما يدعون إلى كتاب الله عز وجل والحق، ولا يريدون الدنيا ولا منازعة فيها. فلما عرض عليهم الحق إذا الناس في ذلك شتى؛ منهم آخذ للحق ونازع عنه حين يعطاه، ومنهم تارك للحق رغبة في الأمر يريد أن يبتزه بغير الحق. طال عليهم عمري وراث عليهم أملهم في الإمرة، فاستعجلوا القدر. وقد كتبوا إليكم أنهم قد رجعوا بالذي أعطيتهم. ولا أعلم أني تركت من الذي عاهدتهم عليه شيئا. كانوا زعموا أنهم يطلبون الحدود، فقلت: أقيموها على من علمتم تعداها في إحدى.
1
أقيموها على من ظلمكم من قريب أو بعيد. قالوا: كتاب الله يتلى، فقلت: فليتله من تلاه غير غال فيه بغير ما أنزل الله في الكتاب. وقالوا: المحروم يرزق والمال يوفى ليستن فيه السنة الحسنة، ولا يعتدى في الخمس ولا في الصدقة، ويؤمر ذو القوة والأمانة، وترد مظالم الناس إلى أهلها؛ فرضيت بذلك واصطبرت له، وجئت نسوة النبي
صلى الله عليه وسلم
حتى كلمتهن. فقلت: ما تأمرنني؟ فقلن: تؤمر عمرو بن العاص
2
وعبد الله بن قيس، وتدع معاوية فإنما أمره أمير قبلك، فإنه مصلح لأرضه راض به جنده، واردد عمرا فإن جنده راضون به، وأمره فليصلح أرضه. فكل ذلك فعلت، وإنه اعتدى علي بعد ذلك وعدا على الحق.
كتبت إليكم وأصحابي الذين زعموا في الأمر استعجلوا القدر، ومنعوا من الصلاة، وحالوا بيني وبين المسجد، وابتزوا ما قدروا عليه بالمدينة. كتبت إليكم كتابي هذا وهم يخيرونني إحدى ثلاث: إما يقيدونني بكل رجل أصبته خطأ أو صوابا غير متروك منه شيء، وإما أعتزل الأمر فيؤمرون آخر غيري، وإما يرسلون إلى من أطاعهم من الأجناد وأهل المدينة فيتبرءون من الذي جعل الله سبحانه لي عليهم من السمع والطاعة. فقلت لهم: أما إقادتي من نفسي، فقد كان من قبلي خلفاء تخطئ وتصيب فلم يستقد من أحد منهم. وقد علمت أنما يريدون نفسي. وأما أن أتبرأ من الإمارة فإن يكلبوني أحب إلي من أن أتبرأ من عمل الله عز وجل وخلافته. وأما قولكم يرسلون إلى الأجناد وأهل المدينة فيتبرءون من طاعتي فلست عليكم بوكيل. ولم أكن استكرهتهم من قبل على السمع والطاعة، ولكن أتوها طائعين يبتغون مرضاة الله عز وجل له وإصلاح ذات البين. ومن يكن منكم إنما يبتغى الدنيا فليس بنائل منها إلا ما كتب الله عز وجل له. ومن يكن إنما يريد وجه الله والدار الآخرة وصلاح الأمة وابتغاء مرضاة الله عز وجل والسنة الحسنة التي استن بها رسول الله
صلى الله عليه وسلم
والخليفتان من بعده رضي الله عنهما، فإنما يجزي بذلكم الله، وليس بيدي جزاؤكم، ولو أعطيتكم الدنيا كلها لم يكن في ذلك ثمن لدينكم ولم يغن عنكم شيئا. فاتقوا الله واحتسبوا ما عنده، فمن يرض بالنكث منكم فإني لا أرضاه له، ولا يرضى الله سبحانه أن تنكثوا عهده. وأما الذي يخيرونني فإنما كله النزع والتأمير. فملكت نفسي ومن معي ونظرت حكم الله وتغيير النعمة من الله سبحانه، وكرهت سنة السوء وشقاق الأمة وسفك الدماء. فإني أنشدكم بالله والإسلام ألا تأخذوا إلا الحق وتعطوه مني وترك البغي على أهله، وخذوا بيننا بالعدل كما أمركم الله عز وجل؛ فإني أنشدكم الله سبحانه الذي جعل عليكم العهد والمؤازرة في أمر الله؛ فإن الله سبحانه قال وقوله الحق:
وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا . فإن هذه معذرة إلى الله، ولعلكم تذكرون.
أما بعد، فإني لا أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم. وإن عاقبت أقواما فما أبتغي بذلك إلا الخير. وإني أتوب إلى الله عز وجل من كل عمل عملته، وأستغفره إنه لا يغفر الذنوب إلا هو. إن رحمة ربي وسعت كل شيء. إنه لا يقنط من رحمة الله إلا القوم الضالون. وإنه يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما يفعلون. وأنا أسأل الله عز وجل أن يغفر لي ولكم، وأن يؤلف قلوب هذه الأمة على الخير ويكره إليها الفسق. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته أيها المؤمنون والمسلمون.
أمور مرجأة
لم نفصل في هذا الجزء حديث عبد الله بن سبأ المعروف بابن السوداء؛ لأنه طويل معقد، ولأن نشاطه الخطير إنما يظهر في رأينا أثناء خلافة علي. فقد أرجأنا حديثه إذن إلى الجزء الثاني من أحداث الفتنة.
ولم نذكر معارضة عائشة وعمرو بن العاص لعثمان؛ لأن نشاطهما السياسي الخطير إنما يظهر في خلافة علي أيضا، فأرجأنا قضيتيهما إلى الجزء الثاني من هذا الكتاب.
بعض المراجع
ليس في هذا الكتاب خبر من أخبار التاريخ أو رأي من آراء المتكلمين القدماء إلا ومرجعه كتاب من هذه الكتب:
سيرة ابن هشام.
طبقات ابن سعد.
أنساب الأشراف، للبلاذري.
تاريخ البخاري.
كتب السنة وشروحها على اختلافها.
تاريخ الأمم والملوك، للطبري.
تفسير الطبري.
الكامل لابن الأثير.
البداية والنهاية، لابن كثير.
تاريخ ابن خلدون.
تاريخ دمشق، لابن عساكر.
تاريخ بغداد، للخطيب البغدادي.
تاريخ عقد الجمان، للعيني.
نهاية الأرب، للنويري.
مسالك الأبصار في الممالك والأمصار، للعمري.
الخطط، للمقريزي.
النزاع والتخاصم، للمقريزي.
ولاة مصر وقضاتها، للكندي.
متفرقات من رسائل الجاحظ.
الفصل، في الملل والأهواء والنحل، لابن حزم.
كتاب الفرق بين الفرق، لعبد القاهر بن طاهر البغدادي .
التبصير في الدين، لأبي المظفر الإسفراييني.
الملل والنحل، للشهرستاني.
منهاج السنة، لابن تيمية.
أما المعاصرون، فلم نقرأ مما كتبوا حول هذا الموضوع إلا:
أشهر مشاهير الإسلام، لرفيق بك العظم.
والإسلام وأصول الحكم، للأستاذ علي عبد الرازق.
وكتاب عثمان بن عفان، للأستاذ الشيخ صادق إبراهيم عرجون.
ولم ننظر من آثار المستشرقين إلا في كتاب أنالي دي الإسلام، لكيتاني، وفي فصول متفرقة في دائرة المعارف الإسلامية.
অজানা পৃষ্ঠা